المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني عشرالأفكار وديناميكا المجتمع - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالإجابتان عن الفراغ الكوني

- ‌الفصل الثانيالطفل والأفكار

- ‌الفصل الثالثالمجتمع والأفكار

- ‌الفصل الرّابعالحضارة والأفكار

- ‌الفصل الخامسالطاقة الحيوية والأفكار

- ‌الفصل السّادسعالم الأفكار

- ‌الفصل السّابعالأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة

- ‌الفصل الثامنجدليّة العالم الثقافي

- ‌أ - فعلى الصعيد النفسي والأخلاقي

- ‌ب - وعلى الصعيد الاجتماعي

- ‌جـ - على الصعيد الفكري

- ‌د - على الصعيد السياسي

- ‌ على الصعيد الأخلاقي:

- ‌ على الصعيد السياسي:

- ‌الفصل التاسعجدليّة الفكرة والشيء

- ‌الفصل العاشرصراع الفكرة- الوثن

- ‌الفصل الحادي عشرأصالة الأفكار وفعاليتها

- ‌الفصل الثاني عشرالأفكار وديناميكا المجتمع

- ‌الفصل الثالث عشرالأفكار والاطِّراد الثوري

- ‌الفصل الرابع عشرالأفكار والسياسة

- ‌الفصل الخامس عشرالأفكار وازدواجية اللغة

- ‌الفصل السادس عشرالأفكار الميِّتة والأفكار الْمُمِيتة

- ‌الفصل السابع عشرانتقام الأفكار المخذولة

- ‌الخاتمة

- ‌المسارد

الفصل: ‌الفصل الثاني عشرالأفكار وديناميكا المجتمع

‌الفصل الثاني عشر

الأفكار وديناميكا المجتمع

(1)

• في عصر التلقين الحديث الفكرة تكون صحيحةٌ إذا ضمنت النجاح.

• المجتع الإسلامي في مواجهة العصر مدعوٌّ لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حس الفعالية.

• المسألة مسألة مناهج وأفكار. مثال: فشل أندونيسيا رغم توفر الوسائل والخبرة الغربية، نجاح ألمانيا بعد الحرب، والصين الشعبية رغم فقر الوسائل والظروف.

• الْمُفَجِّرُ الذي يطلق قوى العالم الإسلامي لا يأتي من النظريات الغربيَّة.

ــ

في عصر الإنتاجية: لا يكفي أن نقول الصدق لنكون على حق، وليس من الحكمة اليوم أن نقول: اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، ثم نموت جوعاً، وإلى جوارنا شخص آخر يقول: إنها لا تساوي سوى ثلاثة، ومع ذلك يضمن لنفسه لقمة العيش.

إن روح التلقين التي تطبع هذا العصر تؤدّي إلى تأكيد خطأ الأول، وصحة الثاني. ففي منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي: فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح.

(1) الأفكار الأساسية في هذا الفصل مقتبسة من مقال للمؤلف بعنوان، (شروط الديناميكا الاجتماعية).

ص: 111

يقول ماوتسي تونغ: ((إن أفضل دليلٍ على سلامة أفكار نا هو نجاحها في الإطار الاقتصادي)). فليست المسألة في أن يقبل المجتمع الإسلامي أو يرفض الأسلوب العملي (1) هذا أو ذاك، بل عليه أن يدافع عن عالمه الثقافي ضدَّ روح التلقين في هذا العصر.

ولا يكفي أن نعلن عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزوِّدها بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر. وليس المقصود أن نقدم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدَّس، ولكن أن نحرر هذا الأخير من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه.

بكلمةٍ واحدة، ينبغي العودة ببساطةٍ إلى روح الإسلام نفسها، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم فرصةً واحدةً تمرّ دون أن يحذرنا من مثل هذا التمسك والاكتفاء الذي نعرف اليوم آثاره المعوّقة للنمو الاقتصادي في المجتمع الإسلامي الحالي.

فبعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من إحدى الغزوات وسط شهر رمضان وكانت مشقة الصوم كبيرةً على الصائمين، نراه يعزو الفضل في الانتصار إلى الذين أفطروا في ذلك اليوم (2)، فالشريعة أباحت لهم الإفطار لمواجهة وإعداد ما تحتاج إليه القافلة في السفر.

ونحن اليوم أكثر من أي يوم مضى بحاجة للتذكير بهذا الهدي النبوي الذي يعطي في حالة معينة الأولوية لفضيلة الفعالية على فضيلة الأصالة. ومن المناسب أن نشير إلى هذا الجانب من الفعالية الإسلامية في الوقت الذي تقارن التقاليد الإسلامية بخبث بالقيم العملية للبلاد الصناعية لإثبات عدم صلاحية الإسلام في القرن العشرين.

(1) كلمة: عملي ( pragmatique) نسبةٌ إلى كلمة ( pragmatisme) : التي تعني المذهب الذي يرى أن معيار صدق الأفكار والآراء هو في قيمة عواقبها العملية.

(2)

إثارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون بالأجر» ، في غزوة تبوك.

ص: 112

فالمجتمع الإسلامي مدعو لأن يستعيد تقاليده العليا ومعها حِسُّ الفعالية. ومن أجل أن يثبت العالم الإسلامي بمنطق العصر بأن أفكار هـ صحيحة لا توجد غير طريقة واحدة هي إثبات قدرته على تأمين الخبز اليومي لكل فرد.

والقضية هي الشاغل اليومي في البلاد الإسلامية. على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. لذا فثمة مسافة من الزمن كافية لنقوِّم خلالها فعالية الوسائل المستعملة ولكي نضع في الضوء أسباب التأخر أو الركود في هذه المسيرة.

إن الرؤية الاقتصادية الحالية للعالم تقدم صورة أكثر دقة عن وضع البلاد الإسلامية حينما نقارن تطورها بتطور بلاد أخرى منذ ربع قرن.

ومن المؤكد أن بعضاً منها كأندونيسيا قد انطلقت غداة الحرب العالمية الثانية بأفضل شروط السباق لما توفر لديها من موارد طبيعية هائلة. لكنها اليوم مختلفة جداً إذا قسناها ببلادٍ كاليابان وألمانيا انطلقت في سباقها بالأسوأ من الشروط.

وبمعنى آخر- ولن نمل التكرار- فالمسألة ليست مسألة وسائل وإنما مسألة مناهج وأفكار.

ومما يزيدنا غبطةً من ناحية أخرى أن هذه الظاهرة غير مجهولة في العالم الإسلامي. فبعض المثقفين قد نوَّه بها بدقة المراقب البارع.

فعشية لقاء عقد في الجزائر عام 1967 ضمَّ نُخبةً من المثقفين المهتمين بالوضع الاقتصادي في البلاد العربية من بينهم شاب مغربي مختص بالاقتصاد هو السيد محمد ريفي الذي أعطى لمحة ذكية جداً حول شروط الدينامية الاقتصادية في بلاده فكتب يقول:

((بالنسبة إلى الخطة الخمسية (1960 - 1964) فإن ما يسمى الخطة الثلاثية

ص: 113

التي غطت الفترة ما بين 1965 - 1967 تمثل تراجعاً محضاً سواء في تصورها العام أو في الظروف المتوقعة لتنفيذها)).

إننا في صميم المشكلة إذ التخطيط في بلد مسلم يمكن له أن يتخلى عن موقع بدلاً من أن يكتسب موقعاً. علينا أن نعمم هذه النتيجة المؤلمة في العالم الإسلامي.

فحينما يتزايد الشذوذ بسبب الموارد المتوفرة وكفاءة المخططين غير العادية فإن هذا الشذوذ يستلفت انتباهنا بصورة أكبر.

فأندونيسيا توفر لها هذان الجانبان: موارد أرضها ومساعدة الدكتور Dr. Schacht (1) لتحقيق الشروط الفضلى لإقلاعها، إنما لم تصب رياح الإقلاع.

حتى فكرة التخطيط التي أثبتت نجاحها بصورة مدوّية في العديد من البلاد الأخرى كالاتحاد السوفيتي والصين الشعبية تفقد كل معناها في أندونيسيا رغم أفكار وخبرة المخطط ووفرة الموارد.

وفي عام 1955، كان في استطاعة مؤتمر باندونغ (2) ان يعد نظاماً اقتصادياً صالحا لإفريقية وآسيا لو أنه أخذ في اعتباره الفشل والنتائج السلبية لهذه التجارب حيث كان يمكن على الأقل أن يستخرج فائدة من دلالتهما المعبرة.

كان ينبغي على المؤتمر أن يدخل شيئاً من ترتيب الأفكار ك كيما يستفيد من تجارب الماضي ومن الأفكار الجديدة في تحديد وجهة جديدة للاقتصاد الإفريقي الآسيوي كانت تنقصه على وجه للتحديد.

(1) الدكتور (شاخت Horace Schacht) : اقتصاديٌّ، ورجل سياسةٍ ألماني (1877 - 1970م). شغل العديد من المناصب في ألمانيا (رئيس البنك المركزي، وزير الاقتصاد)، ثم عمل مستشاراً اقتصادياً لدى حكومات دولٍ عدة، منها: سورية، وأندونيسيا، وإيران، ومصر.

(2)

عُقد مؤتمر باندونغ في أندونيسيا من (18) إلى (24) نيسان/ إبريل (1955)، وجمع ممثلي (29) دولة من دول العالم الثالث: في آسيا، وإفريقيا. كان يهدف إلى الاتفاق على سياسةٍ مشتركةٍ للتعاون: الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وإلى تحديد موقفٍ مناهض للاستعمار.

ص: 114

لقد أدرك تبيورماندح Tibor Was de أكثر من أي اختصاصي محدود الفكر بحدود مهنته النقص الجوهري الذي يمنع البلاد الإفريقية الآسيوية من توليد ديناميكا اجتماعية.

فعندما قال بأن مشكلة هذه البلاد تكمن في أنها من اختصاص عالم (البيولوجيا الاجماعية) أكثر من (المهندس الاجتماعي) فقد وضع المشكلة في مستواها الحقيقي حين تبدأ الانطلاق من الصفر.

ليس هذا بالتأكيد الحل الجاهز، إنما من أجل بلدٍ هو في نقطة الصفر فإن هذه الملاحظة الصادرة عن عالم في الاجتماع أكثر تعبيراً في دلالتها من خطة مختصٍ في الاقتصاد ضاعت من رؤيته حقيقةٌ إنسانية؛ تدخل معادلتها الذاتية بالطبيعة في تنفيذ هذه الخطة.

إن مشروع الدكتور (شاخت) من أجل أندونيسيا قد فشل؛ لأنه لم يأخذ باعتباره هذه المعادلة.

بعد ذلك يأتي اختيار الأساس المنهجي للخطة. خطة متقنة لا تشقق فيها، ولا تحتوي على خليط من رأسمالية واشتراكية.

فالمشروع الذي يعد طبقاً لأفكار البعض ونقوم بتنفيذه طبقاً لوسائل البعض الآخر لا يفضي إلى شيء.

إن هدف التخطيط واضحٌ: إنه خلق الشروط الدينامية الاجتماعية، وبعد ذلك نحدد الوسائل التي ستتولى تسيير تلك الدينامية الاجتماعية.

فنحن لا نستثمر ما نريد بل ما نستطيع. ولا نستثمر بوسائل الغير، إنما بالوسائل التي تقع بالفعل تحت أيدينا.

فما هي الوسائل المتوفرة حقيقةً في بلدٍ عند نقطة الصفر من انطلاقه؟

ص: 115

لقد بدأت ألمانيا في التحرك عام (1948) بخمسة وأربعين ماركاً وهذا مبلغ تافه في الاستثمار.

أما الاستثمار الحقيقي، فقد كان في رأسمال الأفكار؛ التي هي في رأس كل ألماني، في تصميم الشعب الألماني، وفي الأرض الألمانية، التي كانت فقيرةً ومحتلةً من الآخرين، لكنها كانت السند اللازم لكل نشاط.

وفي الفترة نفسها عام (1948) أقلعت الصين الشعبية في شروط أشد قساوةً، وبدمارٍ أكبر خلفته الحرب.

وبغض النظر عن خيار الصين الإيديولوجي فقد أنشأت رأسمالها من الأفكار الأولية.

وإن تجربتها في بيئةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ كبيرة الشبه بغالبية البلاد الإسلامية تلقي كثيراً من الضوء على الوسائل البدائية للإقلاع.

وبصفةٍ عامةٍ فإن إمكانيات بلدٍ في هذا المستوى هي:

أ - زراعته وهي في حالة بدائية إلى حد ما.

ب - ما يتوفر لديه من مواد أولية في السوق وفي باطن الأرض.

جـ - طاقة العمل (عدد الأيدي العاملة) التي يمكن تحويلها إلى ساعات عملٍ فعلية.

هذه الميزانية التحليلية تمثل الطاقة الاقتصادية الكامنة في أي مجتمع نامٍ،! لمجتمع الإسلامي.

وهي تمثل هذه الطاقة في مرحلتين من الإقلاع:

أ - مرحلة اقتصاد الكفاف.

ب - مرحلة اقتصاد التطور؛ أي الإقلاع بمعنى الكلمة.

ص: 116

لكن هذه القدرة في حالتها البدائية. تمثل الشروط المسبقة الضرورية، غير أنها غير كافية لتوليد الدينامية الاجتماعية. ولأجل تحريك جميع القوى الإنتاجية فإن الأمر يتطلب أكثر من ذلك.

لا بد أيضاً من مفجِّر يستطيع إطلاق عجلة هذه القوى. هذا هو دور الخطة، وهو دورها الأساسي، وهو الفرصة الوحيدة التي على المخطط أن يمسك بها؛ حتى لا تفشل الخطة كما فشلت خطة الدكتور (شاخت) في (أندونيسيا) حين لم يأخذ بالاعتبار الطبيعية الخاصة لمفجِّر الطاقة الضروري في خطته، فاختلط عليه الأمر، إذ ساوى حالة أندونيسيا وحالة بلاده ألمانيا.

ولاشك أنه من المؤسف لرجل العلم أن يضع كالفرس على جانبي عينيه كمامة ثقافته الأصلية. لكن هذا ليس حكراً فقط على اقتصاديّ أوروبي يتناول دراسة مشاكل العالم الثالث. بل إن النخبة الإفريقية الآسيوية هي أيضاً- وخصوصاً في البلاد الإسلامية- تضع بأسفٍ أكبر على جانبي عينيها كمامة معلميهم الغربيين حين يدرسون المشاكل نفسها.

فمشكلة الفجر الملائم للبلاد الإسلامية يجب أن تجد حلها بعيداً عن النظريات المشتقة من (آدم سميث)(1) و (ماركس)(2).

(1)(آدم سميث Adam Smith) : فيلسوفٌ واقتصاديٌ اسكوتلندي، (1723 - 1790م). أحد أوّل من نظَّر للرأسماليَّة الليبرالية. له العديد من النظريات: في العمل، وتطوير الصناعة، والإنتاج. والسياسة الاقتصادية.

(2)

كارل ماركس Karl Max) : (1818 - 1883 م) فيلسوفٌ، وعالم اقتصاد ألماني. له بالغ الأثر في الفكر الحديث والسياسة المعاصرة. كان على رأس تيار فكري يدعى باسمه " الماركسية "(التي تعود إلى غيره؛ مثل فريدرك إنجلز وغيره)، وهو عقيدة فلسفيةٌ واجتماعية، تقوم على المادية الجدلية والمادية التاريخية.

ص: 117

والمجتمع الإسلامي يستطيع أن يستعيد فعاليّته بأن يضع دفعةً واحدةً في أساس تخطيطه مُسَلَّمَةً مزدوجة.

أ - كل الأفواه يجب أن تجد قوتها.

ب - جميع الأيدي يجب أن تعمل.

عندئذ سوف لا تكون أفكار هـ مثقلة بعدم الفعالية؛ لأن الأيدي سادرة في تحريك عجلة ديناميّتها الاجتماعية.

والمدافعون عنه سيأخذون باعتبارهم: أنه ليس المطلوب الدفاع عن أصالة الإسلام، بل مجرد إعادة فعاليَّته إليه بتحريكهم قواه الإنتاجية.

ص: 118