الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّابع
الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة
• عالم الأفكار في مجتمع ما أسطوانة ذات طابع خاص.
• عالم الأفكار موسيقى فريدة لها أنغام أساسية (الأفكار المطبوعة) وتوافقات خاصة (الأفكار الموضوعة).
• العلاقة بين الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة: مثال المجتمع الإسلامي.
ــ
إن عالم الأفكار أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته. وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع إلى آخر ببعض النغمات الأساسية.
ومن المثير للدهشة أن الموسيقى الهندوسية لا تشبه أية موسيقى أخرى، وقد أحببتها دائماً دون أن أدري لماذا؟ كل ما أعرفه هو أنها تخاطب أرواحنا بطريقة مختلفة، لأنها طبعت في ذاتية الهند بطريقة مختلفة.
إن أسطوانة كلّ مجتمع مطبوعة بطريقة تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر، وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلّمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة بهم.
فعالم الأفكار أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية، وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضاً توافقاتها الخاصة بالأفراد والأجيال: وهي الأفكار الموضوعة.
لقد تقولبت العبقرية اليونانية (في أفكار ها المطبوعة) في قالب النغمات الأساسية (لهوميروس Homers)(1) ، و (إقليدس Euclide)(2) و (فيثاغورس Pythagore)(3) و (سقراط Socrate)(4) و (امبدوكلوس Empedoele)(5) ، وفي
(1)(هوهيروس): أشهر كتاب اليونان القدامى، وشاعر ملحمي ملهم وإليه تنسب كل من (الإلياذة) و (الأوذيسة) اللتين تتحدثان عن مآثر الأمة اليونانية وآلهتها وأبطالها الانطو ر يين.
(2)
(إقليدس): عالم ر ياضيات يوناني (القرن الثالث الميلادي)، أسس مدرسة الإسكندر ية الرياضية، وقد أثر بشكل بالغ في الفكر الرياضي حتى القرن التاسع عشر بفضل كتابه (العناصر Elements) وتنص فرضية إقليدس على أنه:((انطلاقاً من نقطة من المسَطَّح لا يمكن أن نقيم سوى خط واحد مواز لخط مستقيم)). وهي برأي العلماء أول دليل تاريخي على موقف رياضي سليم.
(3)
(فيثاغورس pythagore) : فيلسوف يوناني من القرن السادس الميلادي، وقد أسس مدرسة تعرف باسمه. وهو يعتبر أن جوهر الأشياء العدد. ويقسم أتباعه العدد إلى فئتين: العدد الفردي والعدد الزوجي. الأول هو: المحدود، والثاني: يمثّل اللامحدود. ثم ربطوا هذه الفرضيات بالمذهب الأخلاقي فقالوا: إن المحدود هو الخير، بينما اللامحدود هو الشّر، مما قادهم إلى افتراص طبيعة ثنائية للوجود، وقالوا: بأن النار هي أصل الكون، وأن النفس الإنسانية عبارة عن انسجام عددي، وكانوا يعتقدون بتناسخ الأرواح.
(4)
(سقراط): رائد الفلسفة اليونانية، ويلقب بالمعلم الأول (470 - 399 ق. م) قضى شطراً مهماً من حياته مربياً يثقف الناشئة في الشارع وفي الأندية والولائم، وحكم عليه بأن يشرب السم بتهمة الكفر وإفساد عقول الشباب. ويعود إلى أحد تلاميذه، أفلاطون الفضل في التعريف بأفكار هـ. سقراط: هو إذن أبو الفلاسفة، وسيّد منهجية التفكير الذي سعى بأسلوبه الساخر المقنع لإيقاظ الفكر وتحرير العقل الذي يوصل الإنسان إلى معرفة نفسه وإلى السعادة. ومن حكمه المعروفة:((اعرف نفسك بنفسك))، ((ليس من خبيث طوعاً)).
(5)
(أمبدوكلس)(490 - 435 ق. م): فيلسوف يوناني، من أعماله المعروفة:((في طبيعة الكون))، ((تطهيرات)) ولم يصلنا منها سوى 400 بيت من الشعر، تطلعنا على فلسفة انتقائية. تأخد من الأيونية نظرية العناصر الأربعة المادية، ومن المدرسة (الأيلية L'Eliate) فكرة اندماج هذه العناصر في وحدة الكل، ومن (هيراقليطس) فكرة (السيرورة) التي يتعاب فيها الحب الذي يوحِّد والكراهية التي تفرِّق. ويتميز نتاجه بقوته الشاعرية الخلاّقة.
أفكار ها الموضوعة في التوافقات الموسيقية (لأفلاطون Platon)(1) ، و (أرسطو Aristote) ، وقد زادت غنًى على يد الأجيال في أثينا، كل ذلك كي تتحف العالم بذلك اللحن الذي نعثر على أثرٍ منه في الحضارة المعاصرة.
يقول علم الطبيعة (الفيزياء): إن العلاقة بين التذبذب الأساسي وتوافقه الموسيقي تكمن في أن هذا الأخير يختفي فور توقف الأول عن التذبذب.
والأمر نفسه في العلاقة بين الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة. فعندما تبدأ الأفكار المطبوعة تنمحي عن أسطوانة حضارة يخرج منها في البداية نشاز النغم! صفير، وحشرجة، ثم الصمت أخيراً.
لقد تلقى المجتمع الإسلامي رسالته المطبوعة منذ أربعة عشر قرناً على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء الذي أسمع السمفونية البطولية (لدين الرجال) كما يدعو (نيتشه) الإسلام.
(1)(أفلاطون)(428 - 348 ق م): فيلسوف يوناني عظيم، صاحب (الجهور ية)، وتلميذ كراتيل وسقراط؛ الذي عاشره وتتلمذ على يديه (408 - 399 ق م)، أسَّس الأكاديمية التي ث تعاليمه من خلالها، تم كتب محاوراته ونشرها، وتقع في 28 حواراً أصيلاً، تطرق فيها إلى سائر المشكلات الفلسفية والغيبيّة، وهو يجمع في أسلوبه بين الحديث العقلاني واللغة الشعرية، ويعتبر أفلاطون أحد كبار رواة الأساطير ومبتكريها. وهو في محاوراته الأولى التي يبدو فيها تأثير سقراط أكثر الشيء. يسعى أفلاطون إلى تحديد المفاهيم، لكن المنهج الجدلي سرعان ما يغدو الوسيلة التي تمر بها النفس تدريحياً من المظاهر المتنوعة والمتقلبة إلى الحقائق والأفكار الأصليةَ التي يُعتبر الوجود الحسي مجرد صورة مزيّفة عنها (أيون، بروتاغوراس- كراتيل
…
) فكل معرفة هي تبعاً لذلك: مجرد تذكّر لتلك الحقائق الجوهرية، ولعل المعرفة العليا السامية في نظر أفلاطون هي بمثابة رؤيا أو حدس عقلاني لهذه الأفكار الأصلية وأهمها فكرة الخير وهي مبدؤها الأول (الوليمة، مندرا، الجمهوية
…
). ونجده في محاوراته الأخيرة يعالج مشكلات أكثر واقعية: سياسية وأخلاقية (تيمه، كريتياس. قوانين،
…
).
فالأفكار المطبوعة على تلك الأسطوانة قد أثارت العواصف في التاريخ الإنساني منذ أربعة عشر قرناً.
فهي في البداية قلبت رأساً على عقبٍ وسطاً بدائياً فوضعت طاقته الحيوية في حدود حضارة، وجعلتها تستجيب لقواعدها وأصولها، لنظامها الصارم.
لقد كنت لحظة (أرخميدس) التي عاشتها الجزيرة العربية عندما تلقت الرسالة لحظة لا مثيل لها في العظمة.
ـ[ففي الإطار المادي]ـ: رسمت الرسالة آثاراً جديدة، نتائج اجتماعية جديدة، إنما بالوسائل الحاضرة نفسها، لأن عالم الأشياء لم يكن بعد قد استطاع تغيير وسائله. وهكذا بدت تلك اللحظة فيما فعل المهاجرون والأنصار؛ إذ وضعوا مواردهم على سواء يينهم ليواجهوا المرحلة الجديدة.
ـ[وفي الإطار الفكري]ـ: لقد أوجدت تلك اللحظة عديداً من المقاييس، جديداً في أسلوب التفكير ليلائم أوامر تنظيم جديدٍ وتوجيهٍ لنشاطات مجتمع وليد.
وأخيراً ففي الإطار النفسي والأخلاقي أنشأت للطاقة الحيوية مراكز استقطابٍ جديد.
ولقد رأينا حول هذه المراكز لحظاتٍ من العظمة لا تُضاهى. كما حصل مثلاً عندما قام المسلمون- بناءً على نصيحة سلمان- بحفر الخندق الذي صدّ آخر موجة جاهلية ضد أسوار المدينة، فقد كان النقص في عالم الأشياء لا يسمح إلا باستخدام أدواتٍ بدائيةٍ في مواجهة عملٍ شاقٍ وفي غاية الصعوبة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إدراكاً منه لمعاناتهم يساندهم وهو يردد أمنية ووعداً موزوناً مقفىً:
«اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» .
بينما كان الصحابة يرددون من ورائه نشيداً تناقلته الأجيال من بعدهم:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الإسلام ما بقينا أبدا
[أخرجه البخاري عن أنس]
لقد كانت مراكز استقطاب الطاقة الحيوية تتركز حول مفاهيم جديدةٍ، أفكار جديدة، نماذج مثاليةٍ لعالمٍ ثقافيٍ جديد، كانت تتركز حتى درجة الانفجار، وكانت تنفجر في مواقف مأساوية من نوع جديد.
رجل يقبل امرأة، تلك لحظة تتجاوز فيها الطاقة الحيوية حدودها الجديدة، وعلى الفور تنطلق قوى التذكير بالعالم الثقافي الجديد، وتنفجر المأساة في ضمير الرجل الذي ما يلبث أن يفضي بمكنونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛والجواب الذي ينهي المأساة قد جاء في هذه الآية:{أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 11/ 114].
ويسأل الرجل النبي: يا رسول الله إلي هذا (يعني هذه الآية) فيجيب الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنها لجميع أمتي» . [أخرجه البخاري عن ابن مسعود].
وفي مرةٍ أخرى تأتي امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتعترف له بأنها اقترفت خطيئة الزنى. ولم تكن لفظة (الزنى) آنذاك مجرد كلمةٍ بسيطة على الشفاه، كما كانت من قبل. بل كان يتركز فيها كل ما يؤرق الضمير من فظاعة وقباحة. وكانت الشريعة قد وضعت لمن يرتكب الزنى أقسى العقوبات: عقوبة الرجم.
كانت تلك المرأة تدرك إذن ما تُعَرِّض نفسها له باعترافها ذاك. لكن فعل العقوبة في جسدها بدا لها اخف وطأةً من فعل الخطيئة في ضميرها، فتتجه إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم ساعيةً ثلاث مرات، ويؤجّل الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم ثلاث مرات كذلك.
أجَّله في المرة الأولى ليعطي المرأة فرصة التفكير، وفي المرة الثانية لكي تضع مولودها، وفي المرة الثالثة حتى تنتهي من إرضاع طفلها. وأخيراً طبق العقوبة التي مافتئت تطالب بها منذ أن ارتكبت خطيئتها.
إن الأحداث المأساوية التي كانت تدور حول مراكز الاستقطاب الجديدة، وحول النماذج المثالية للعالم الثقافي الجديد لم تكن تعني أصحاب تلك الأحداث فحسب، بل كانت تشمل في توترها جميع أفراد المجتمع.
تلك هي حال المتخلفين، أولئك الذين لم يلحقوا بالمسلمين في غزوة تبوك، كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. وكان كعب هو الذي روى تفاصيل المأساة (1).
ويبرز القرآن مقدار التوتر المتفجر في ضمير أولئك الذين عاشوا هذا الحادث ثم يورد لنا الخاتمة في الآية التالية:
لم يكن ذلك اليوم يوم بشرٍ للرجال المتخلفين الثلاثة فحسب، بل كان يوم بشرٍ للأمة بأسرها.
وفي هذا الجو المتوتر كانت الأفكار المطبوعة تضع بصماتها المقدسة في جميع الأفكار الموضوعة، وفي جميع المواقف، وفي جميع الأمكنة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» [أخرجه البخاري وأصحاب
(1) عن البخاري، مع تحديد معنى (المتخلفين): أولئك الذين تحفَّظ الرسول في الحكم بشأنهم.
السن إلا أبا داود] فلم يعد هناك شيء دنيوي. فالقداسة أضحت في كل شيء. وأضفت القداسة مسحتها على العالم كله.
لذا يمكن لنا أن نفهم في هذا العالم المقدس ثقل الذنب مهما صغر. فقد كانت الأخطاء الصغيرة تأكل من أسطوانة عالم الثقافة. وكان كل فرد ينتصب لكل تحريف في اللحن ينبعث من المكان المتآكل، ففي تلك اللحظات المباركة هنالك في كل فرد حساسية الأذن الموسيقية عند موقع النشاز في الأسطوانة.
وعندما تخبو تلك الحساسية الأخلاقية والجمالية؛ فإن مقدار فنائها يدل على مقدار عدم تماسك عالم الأفكار وعلى انحطاط اجتماعي بصفة عامة.
ويستمر هذا الانحطاط إلى اللحظة التي يقف فيها لحن الأفكار، وتتلف الأسطوانة وتَمَّحي في نفس كل فرد، ويصبح الصمت تاماً، وتزول ردَّات الفعل الحماسية للألحان السامية وردات الفعل الرافضة للأصوات النشاز.
وعندما تنمحي النماذج المثالية: حينئذ لا تسمع أبداً لهجة الروح في تناغم اللحن. فالأفكار الموضوعة، حين لا يعود لها جذور في الغلاف الثقافي الأساسي، تصمت هي بدورها: إذ لم تعد لديها ما تعبر عنه، ثم لأنها لم تعد تستطيع أن تعبر عن شيء. والمجتمع الذي يصل إلى هذه الدرجة يتفتت لأنه لم تعد لديه دوافع مشتركة؛ كما هو الشأن في الجرائر بعد الثورة؛ وكما هو الشأن في أوربة الآن حيث الفرد ينتحر أو ينطوي على ذاته.
إنها لحظة الأفكار الميتة وبعد أن عاش المجتمع الإسلامي اللحظة المجيدة عند ولادة حضارته؛ لحظة (أرخميدس) لأفكار هـ المطبوعة في عصر الرسول، أو الخلفاء الراشدين، وأفكار هـ الموضوعة في الفترات المضيئة لدمشق وبغداد، فإن المجتمع الإسلامي يعيش فترة الصمت، إنه صمت الأفكار الميتة.
فالحاج الذي ينزل ميناء جدة يُسَرُّ حينما يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد الأبواب مكتوبٌ عليه: هيئة الأمر بالمعروف، ثم عندما يتقدم خطوة في البلد، يبدأ في اكتشاف حقيقةٍ يبدو إزاءها الإعلان مجرد سخرية: إنه فكرة ميتة.
لكن الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار ٍ قاتلةٍ مستوردةٍ من حضارةٍ أخرى.
فهذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها؛ تصبح أكثر فتكاً حينما نستأصلها من ذلك المحيط؛ لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقاً يتأقلم به ضررها في وسطها الأصلي.
وفي شروط كهذه يقتبس المجتمع الإسلامي المعاصر أفكار هـ الحديثة (التقدمية) من الحضارة الغربية.
هذه هي النتيجة الطبيعية لاطراد تَحَدَّدَ في لب المجتمع الإسلامي بجدلية الأشياء والأشخاص والأفكار التي صنعت تاريخه. غير أن الذي لم يكن طبيعياً هو جمود المجتمع الإسلامي وخموله في هذه المرحلة من التطور، وكأنه يريد أن يبقى فيها أبد الدهر. في حين أن مجتمعاتٍ أخرى؛ كاليابان، والصين، بدأت من النقطة نفسها، لكنها نزعت عنها ثوب الجمود وهي تفرض على نفسها ظروفاً ديناميكية جديدة، ونظرية جدليةً تاريخيةً جديدة.
فالمجتمع الإسلامي يدفع اليوم ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية. فالأفكار - حتى تلك التي نستوردها- ترتد على من يخونها وتنتقم منه.
إنها اللحظة المؤلمة حيث المسلم منشطرٌ إلى شخصين: المسلم الذي يتمم واجباته الدينية ويصلي في المسجد، ثم المسلم العملي الذي يخرج من المسجد ليغرق في عالمٍ آخر.