الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس عشر
الأفكار وازدواجية اللغة
• المؤثرات الغربية في البلاد الإسلامية: مستوى اللغة.
• الانشقاق عن الأصل.
• ازدواجية اللغة وانقسام المجتمع.
ــ
لقد غرس العصر الاستعماري فيما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل: الاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، في البلاد المستعمرة ظاهرةً خاصة: هي (ازدواجية اللغة) التي تتعلق ببُناه الثقافية والعقلية، وبأفكاره.
وحتى البلاد الإسلامية التي لم تعرف الحضور الفعلي- الإداري والعسكري- للغرب لم تَسْلَمَ بقليلٍ أو كثير من الحدة مؤثرات ثقافته.
هذه المؤثرات كانت بارزةً في تلك البلاد حتى في المستوى اللغوي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، وبطرائق تختلف من بلدٍ إلى آخر. وإذا كان يمكن القول بأن درجة التأثير هي شبه معدومة في اليمن مثلاً؛ إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن تأثيراً من هذا النوع دلف إليها من بلاد إسلامية أخرى أكثر تعرضاً لتلك المؤثرات.
ففي مصر حيث اللغة الأجنبية المنافسة: هي الإنكليزية، تؤثر هذه اللغة على زاوية معينةٍ من العمل الفكري؛ يمكن أن نضعها في جانبٍ؛ نموذجاً لبلدٍ
لديه مشكلة ازدواج لغوي جامعي، وفي الجانب المقابل يمكننا أن نعرض الجزائر نموذجاً آخر، اللغةُ المنافسة فيه الفرنسية، وهي تستوعب ليس فحسب حاجات العمل الفكري، بل الاتجاهات العادية للحياة اليومية، وإذن فلدينا هنا مشكلة ازدواجية لغوية شعبية.
إن النتائج الاجتماعية ليست أبداً واحدة. ففي حالةٍ تصبح ازدواجية اللغة مفَجِّراً يعيد الحركة للعالم الثقافي.
فمع المفاهيم المرسلة من ثقافةٍ أخرى، والمترجمة بقليلٍ أو كثير من الأمانة، فالأفكار المطبوعة التي لم يعد لها أي صدًى، ولا حوار مع الحياة، ولا تأثير على مجراها: تستعيد كلمتها وتعود لإنتاج أفكار موضوعة يكتنف مقاصدها شيء من الغموض يعود لأصلها المزدوج؛ لكنها تظل تنتسب لأفكارها الأصيلة ولا تفقد اتصالها بها.
فعندما كان الشيخ (محمد عبده) يكتب بحثه في العقيدة؛ كان يستلهم دون شك تلك الكلاسيكية المزيفة؛ التي كانت عليها الثقافة الأزهرية في عصره. لكنه بالشكل الجديد والطريقة الجديدة التي عبّر بها؛ قد افتتح (برسالة التوحيد) كلاسيكية جديدة.
لقد كان مجدداً في إطار نوع من الكلاسيكية. وأحياناً يهتز هذا الإطار قليلاً. إذ يلاحظ مع (علي عبد الرازق) أن هذا الأزهري القديم الذي أصبح تلميذ أكسفورد؛ لا يصل إلى حد التحرر من الكلاسيكية المزيفة لما بعد الموحدين فحسب بل إن تحرره تجاوز ذلك إلى التخلص من منهج الأصل الإسلامي؛ حين يجعل موضع التساؤل: قِيَمَه وأفكاره الأساسية؛ وذلك عندما ناقش مثلاً فكرة الخلافة (1).
(1) انظر مختارات من الأدب العربي المعاصر. لأنور عبد الملك. سوي، 1965، ص 81 - 86.
وهكذا فإن الانشقاق الذي أدخلته ازدواجية اللغة في العالم الثقافي للبلد الإسلامي؛ ليس فقط ذا طابع جمالي بل هو ذو طابع أخلاقي وفلسفي.
ومع ذلك فإن هذا الانشقاق يمكن له أن يتعمق أكثر من ذلك في بلادٍ إسلاميةٍ أخرى؛ حيث ازدواج اللغة لا يُستعمل لمجرد تفجير يطلق حركة العالم الثقافي الذي كان قد توقف فيه نبض الحياة الفكرية.
ففي الجزائر- مثلاً- وحتى الجزائر المستقلة؛ فازدواجية اللغة ليست فقط مجرد مفجِّر، بل هي أكثر من ذلك ديناميت قذف في العالم الثقافي، وإذا كان لم ينسف كل شيء فإن انفجاره أحدث أغرب الانشقاقات.
بادئ ذي بدء وفي أعلى المراتب ظهرت طائفتان من النخبة:
النخبة التي تتكلم العربية وتحاول مع (ابن باديس) أن تسترد الأصول الإسلامية، وهي الفكرة التقليدية التي أفلتت منها نهائياً مع سقوط الإصلاح، وفرار أتباعها إلى الوظائف العامة بعد الثورة.
وطائفة تتكلم الفرنسية وتتنكر بكل الأقنعة: كالكمالِيّة، والمصالية، والحركة المضادة للمصاليّة، والبربرية، والتقدمية، والوجوديّة المزيفة، والماركسية المزيّفة؛ كي تخدم تحت كل سمة من تلك السمات آلهة اليوم وتمائم الساعة، وفي الحقيقة لتخدم نفسها تحت أي قناع من هذه الأقنعة.
لقد تتابع الفاصل الزمني طوال نصف قرنٍ في عالم ثقافي خليط غير متجانس، حيث لا تستطيع فكرةٌ أن تنبثق مؤمنة بنفسها لتقود الشعب الجزائري إلى مصيره.
فالطائفة الأولى لم تنجح في إرساء اتصالٍ بين الروح الجزائرية والتقاليد الأصليّة للسلف الصالح؛ لعدم وجود اتصالٍ حقيقي لديها بنماذجها المثالية.
والطائفة الثانية لم تستطع إرساء اتصالٍ مع حضارةٍ؛ لعدم فهمها لروحها العمليّة.
فافتقاد الأفكار الأصلية من ناحية، وافتقاد الأفكار الفعّالة من ناحية أخرى، جعل الشعب الجزائري يراوح ولا يتقدم.
لكن النماذج الأصلية المخذولة من هذا الجانب كما في الجانب الآخر قد انتقمت لنفسها بتلك المراوحة التي دامت نصف قرن.
والشعب الجزائري هو الذي قطع أخيراً جمود هذا الفاصل الزمني، فتخلى بالفعل عام (1954) عن جميع قادته الروحيّين؛ لكي ينطلق وحده في طريق الثورة.
وفي الحال تحوَّل هؤلاء الأخوة الأعداء إلى (أصدقاء) حتى لا يقصيهم الشعب الذي ينوون استعادة سيطرتهم عليه. وهكذا تحالفوا ظاهرياً مع الثورة؛ لكن تحالفهم كان في الواقع مع الزعماء الذين كانوا يوزعون عليهم المنح والمكافآت في تونس والقاهرة.
وينبغي أن نلاحظ من أجل التاريخ أنه لمجرد أن انقضت في أوراس الإدارة الأولى للثورة التي سيت (بالنظام)(1) فإن الثورة لم يعد لها إدارة، وإنما أصبح لها معتمديَّة، توفر لها حاجاتها إلى البذخ والأبهة، أكثر مما تلبي حاجات المقاتلين.
ومهما يكن من أمر، فعندما يرفع الستار من جديد عن المسرح الجزائري؛ يمكن رؤية آثار ازدواجية اللغة من الموقع الأكثر وضوحاً، وهو الموقع الذي سوف يزايله الحضور الاستعماري؛ الذي لا يزال يلقي بظله عليه. حينئذ يتبدّد
(1) اتخذت السلطة الثورية هذا الاسم في الفترة البطولية للسنتين الأوليين منها.
الغموض الذي أحاطه به ذلك الحضور، وتتبدد معه تلك اللعبة البارعة التي جرت في سني الثورة.
حينئذ يمكننا أن نرى الانشقاق الذي أحدثته ازدواجية اللغة أكثر عمقاً، إذ أنه يتناول القمة والقاعدة.
فالبلاد لم تعد تحتوي نخبتين؛ وإنما مجتمعين متراكبين: أحدهما يمثل البلاد في وجهها التقليدي والتاريخي، والثاني يريد صنع تاريخها ابتداءً من الصفر.
فالأفكار المطبوعة للأولين والأفكار الموضوعة للآخرين؛ لا تستطيع التعايش في عالمٍ ثقافيٍ واحد.
فالمجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين.
فما كان يقال عبر الراديو والصحافة وحق في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الأفكار الموضوعة لأحد المجتمعين فإنه ليس لها أي معنى بالنسبة للأفكار المطبوعة عند المجتمع الآخر.
إننا لا ندرس أسباب الظاهرة، فأسبابها تتصل من قريبٍ أو بعيد بحقل الصراع الفكري (1)، إنما نحن هنا نهتم فقط بنتائجها.
ففي جزائر ما قبل الثورة التي لم تكن تجهل هذه الظاهرة (إذ كان صوت الإصلاح يفضحها)؛ فقد كانت هذه النتائج مع ذلك مقنعة بعض الشيء بظل الاستعمار، وبالوحدة المقدسة للبلد الذي كان يبدي ردة فعل جماعية حول هذه النقطة كما حول سواها.
لكنه ما إن مرت السنوات الأولى للثورة حتى تجلت الظاهرة في وجه
(1) أفراد المؤلف دراسة خاصة بعنوان "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".
جديد. في الواقع ومنذ عام (1956) فقد بدأت نتائجها تظهر في أسلوب الثورة الجديد، واعتباراً من عام (1958) أخذت تتضح في نقاش يتعلق باصطلاحات الثورة نفسها، وأخذ النقاش يدور حول بعض العبارات لاستبدالها بسواها.
وهكذا تحدث الناس بالتدرج عن (الجندي) الذي كان فيما مضى (المجاهد) واجتاز النقاش بعد ذلك الألفاظ إلى البُنَى فاختفى (النظام) وحلت محلّه التراكيب الجاهزة؛ والتي عُني بمباركتها في مؤتمر الصمام؛ فظهرت بهذه الطريقة (اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني للثورة الجزائرية).
كان المجاهد في البداية يطيع أمر المرشد الذي يدعوه (الشيخ) فاستبدل ذلك بأن أصبح للثورة ضبّاطها برتبة (كولونيل) ومنذ ذلك الوقت ظهرت مجموعةٌ من المصطلحات الجديدة أخذت تسوق أفكاراً غريبة عن العالم الثقافي الجزائري؛ ذلك العالم الذي رأت النور في داخله فكرة الثورة ذاتها ودوافعها.
ومنذ الاستقلال: فهناك فريقان في القمة متعارضان بكل معنى الكلمة، ومجتمعان متراكبان في القاعدة التي تمثل الحقيقة الجزائرية.
وفي هذا المستوى إذن، أي في مستوى القاعدة ينبغي أن نأخذ بالاعتبار نتائج الظاهرة التي تكتسي في الجزائر طابعاً فريداً يبدو ماثلاً في الحياة اليومية بكل وضوح، مما لا نجد له مثيلاً في بلد آخر.
ينبغي أن نعتمد تخطيطاً بيانياً مزدوجاً له عودان، نضع في كل جانب الأشياء التي تخص كل مجتمع من هذين المجتمعين، من أجل أن نجعل المقارنة بارزة.
فمن جهة نجد أفكار مجتمع ما بعد الموحدين؛ أي المجتمع الذي أصبحت أفكاره المطبوعة في حالة تشويش، كفيلمٍ أو أسطوانةٍ مسحت بالزمن، لا نجد عليها بواعث الحياة.
وفي العمود الآخر نجد الأفكار الموضوعة لا تعبر عن شيء، كأسطوانة لم تحتفظ بأثر سوى أنغامٍ انفصلت عن أفكارها الأساسية التي بقيت على أسطوانة عالم ثقافي آخر.
وفي هذا الجانب فإن الأفكار الموضوعة تمثل مادة ثقافية: هي أيضاً أكثر غموضاً، وعاجزة عن توفير طرائق عملية فعالة.
فمن ناحية المجتمع الأول يغدو حدْسُنا في سبر الواقع مجرد ومضةٍ؛ لا تلبث أن تختفي قبل أن تجد ترجمتها في مخطط.
ومن ناحية المجتمع الثاني نجد فكرةً تخلط بين الحركة الوجودية التي تأتي في أعقاب حضارة، وبين الجهد الفكري الذي يحدّد نقطة انطلاق حضارة.
وإذا تابعنا المقارنة نجد في جهة العمود الأول الشكل الشخصي والأدبي، وفي جهة العمود الثاني الشكل الموضوعي المزيف والعلمي المزيف.
ثم نجد في العمود الأول مجتمعا مخدراً يفرض عاداته وأفكاره المسبقة وخرافاته كتقاليد أصيلة، وفي المقابل نجد مجتمعاً يريد أن يكون ثورياً، يثور في الواقع ليس على القيم الباطلة بل على القيم الأكثر أصالة.
نجد في جهة الفكرة التي فقدت إشعاعها الاجتماعي، وفي الجهة المقابلة الفكرة ذات الإشعاع القاتل.
في جهةٍ الركود والسكون، وفي الأخرى الديناميّة المزيّفة والفوضى الصارخة.
وهكذا فميزانية ازدواج اللغة؛ حتى منها المبسطة أكثر مما ينبغي لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تتعدى إلى إطار الجهود الخلاقة الجادة.
ويبدو أن تعقيداتها لم توفر الأدب العربي. هذا الحقل الخاص الذي تلمع فيه اليوم شهرة أديب (كتوفيق الحكيم) الذي هو في الحقيقة أفضل كاتبٍ روائيٍ عربيٍ معاصر.
ومن المؤلم والمدهش معاً أن نرى مؤلفاً موهوباً مثله يتورط في مواقف لها دلالتها؛ مشيراً إلى أن أفكارنا الأكثر أصالة تخون نماذج ثقافتنا؛ لتساير ثقافةً أجنبية سيئة التجانس.
ومثلاً، ففي إحدى أشهر المقتبسات المسرحيّة نجح توفيق الحكيم في ربط الدراما بمعضلة الصراع بين الحق والقوة.
لكن الشخصية التي طرحت المعضلة ليست عادية. إنها القاضي (العز بن عبد السلام) الذي سيبقى دائماً نموذج القاضي الذي لا يهادن في أداء الواجبات الملقاة على عاتقه.
لكن الشريعة من جهة أخرى لها مصطلحاتها الخاصة، وكل مصطلحٍ له أكثر من معناه اللغوي، إن له شحنةً عاطفية وأخلاقية ارتسمت فيه عبر تاريخ الثقافة.
لذا فإن مفهوم (القانون) خاصة على لسان قاضٍ في منزلة (العز بن عبد السلام) يجب أن يترجم بمصطلح (الشريعة) لتجد وزنها الكامل في المشكلة الأخلاقية.
ومن المدهش أن نرى الشخصية التي مثلت دوره في مسرحية توفيق الحكيم تنطقها (القانون)؛ كما لو كان أي قاضٍ من القضاة، أو أي محامٍ من صغار المحامين بالقاهرة أو الجزائر اليوم.
وهذا المظهر لازدواجية اللغة الذي أدلى بتأثيرات غير متوقعة في التعبير العربي عن أفكارنا ليست أقل مظاهر هذه المشكلة دلالة.
أما فيما يختص بالتعبير عن فكرنا باللغة الأخرى- فإنه يكتسي أحياناً مظهر الجهل الكامل بالثقافة الوطنية؛ إذا لم يكن خيانة لها.
وها هو على سبيل المثال ما يمكن قراءته في أول جملة من كتاب بعنوان: " فن العمارة بالجزائر ": " في الماضي كان يطلق على المهندس المعماري اسم (معلم البناء)، وكان يدعى لبناء القصور والمعابد والكنائس والأبنية الدفاعية ". ونلاحظ بألمٍ أن قائمة المصطلحات المعمارية التي وردت في هذا الكتاب الذي قامت بنشره وزارة الإعلام قد أغلقت عبارة (المسجد)؛ بينما المسجد مصطلحٌ خاص في فن العمارة الإسلامية لا يمكن إغفاله؛ حتى حينما ندرس في فرنسا أو في إنكلترا أو في ألمانيا.
فأقل ما يمكن قوله في هذا المقام: هو أن ازدواج اللغة يمكن أن يتولد عنه نتائج تتعارض كلياً مع الثقافة الوطنية.