الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: منهج المتوسِّعين
يجد المتتبِّع لاجتهادات أهل العلم في جمع الأسماء الحسنى أن فريقا منهم توسّع في عدّه للأسماء الحسنى فأطلق على الله أسماء لا تدخل في هذا الباب ولا علاقة لها به، فلم يفرِّق هؤلاء بين ما يصحّ إطلاقه وما لا يصحّ، فأدخلوا في عدِّهم للأسماء ما لا يصحّ إطلاقه اسما وإن كان له أصل في باب الصفات أو باب الإخبار فلم يحفظوا لهذا الباب خصوصيّته.
ولذلك نجد ابن القيِّم رحمه الله يحمل على هذا الفريق وينتقد صنيعهم فيقول: "إن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمالٍ ونقصٍ لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد والفاعل والصانع، فإن هذه الألفاط لا تدخل في أسمائه، ولهذا غلط من سمّاه بالصانع عند الإطلاق
…
"1.
وقال في موضع آخر: "وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتقّ له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيا دة على الألف فسمّاه " الماكرُ والمخادعُ والفاتنُ والكائدُ"2.
وقال رحمه الله: "إن الله لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقا، ولا ذلك داخلٌ في أسمائه الحسنى، ومن ظنّ من جهّال
1 بدائع الفوائد 1/ 168.
2 مدارج السالكين 3/ 415.
المصتفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه الماكر، والمخادع، والمستهزىء فقد فاه بأمير عظيم تقشعرّ منه الجلود وتكاد الأسماع تُصمّ عند سماعه، وغرّ هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى، أطلق على نفسه هذه الأفعال، فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه كلّها حسنى، فأدخلها في الأسماء الحسنى وقرنها بالرحيم، الودود، الحكيم، الكريم، وهذا جهل عظيم، فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا، بل تمدح في مواضع وتُذمّ في مواضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله تعالى مطلقا فلايُقال: إنّه تعالى يمكُرُ ويُخَادع ويستهزىء ويُسمَّى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد والمتكلِّم ولا الفاعل ولا الصانع لأن مسمّياتها تنقسم إلى ممدوع ومذموم، وإنّما يوصف با لأنواع المحمودة منها كالحليم والحكيم والعزيز والفعّال لما يريد، فكيف يكون منها الماكرُ والمخادعُ والمستهزىء.
ثم يلزم هذا الغالط أن يجعَل من أسمائه الحسنى الدّاعي، والآتي، والجائي، وا لذاهب، والرائد، وا لنّاسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف ذلك من التي أطلق تعالى على نفسه أفعالها من القرآن، وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل"1.
وقال الشيخ حافظ حكمي- بعد أن نقل كلام ابن القيِّم السابق ذكره-: "ومن هنا يتبيّن لك خطأ ما عدّة بعضهم ومنهم ابن العربى المالكيّ في كتابه أحكام القرآن حيث سمّاه بالفاعل والزّارع، فإن الفاعل والزّارع إذا أُطلقا بدون متعلِّق ولا سياق يدلّ على وصف الكمال فيهما فلا يفيدان مدحا، أمّا في سياقها من الآيات التي ذُكِرت فيها فهي صفات كمالٍ ومدحٍ وتوحُّدٍكما قال تعالى: {كَمَا
1 مختصر الصواعق 2/ 34.
بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 1 وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2 الآيات، بخلاف ماإذاعت مجردة عن متعلقاتها وماسيقت فيه وله، وأكبر مصيبة أن عدَّ في الأسماء رابعَ ثلاثة، وسادسَ خمسة مصرِّحا قبل ذلك بقوله: وفي سورة المجادلة اسمان فذكرهما. وهذا خطأ فاحش
…
"3.
وأصحاب هذا المنهج يقفون في الطرف المقابل لأصحاب المنهج الثاني ويخالفونهم في طريقتهم.
فأصحاب المنهج الئاني يرون أنّ الأسماء جميعها جامدة لا تدلّ على معنى، ولذلك اقتصروا على المطلق من الأسماء واستبعدوا المشتق والمضاف.
وأما هؤلاء فهم بعكسهم، إذ أنهم يرون الأسماء جميعها مشتقة وما منها اسم إلأ هو مشتق4، ولذلك أدخلوا مع المطلق من الأسماء، المشتق من الصفات والأفعال، وكذلك الأسماء المضافة.
وهذا هو الحقّ والصّواب ولكن هؤلاء غلطوا في أمرين.
الأمر الأوّل:
أنه ليس لهم قاعدة منضبطة في المشتق من الصفات أوالأفعال، فهم لا يفرِّقون بين ما يصحّ إطلاقه وما لا يصحّ إطلاقه منها.
وقد سبق أن أوضحنا في مبحث ضابط الأسماء الحسنى أن من شرط
1 الآية 104 من سورة الأنبياء.
2 الآيتان 63، 64 من سورة الواقعة.
3 معارج القبول 1/ 76، 77.
4 أحكام القرآن 2/ 858.
الاسم صحة الإطلاق وهو أن يقتضي الاسم المدحَ والثناءَ بنفسه. وأن من الأمور المتقرِّرة في النّصوص أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء وكذا باب الأفعال أوسع من باب الأسماء.
فالمتأمل في نصوص الكتاب والسنة في هذا الشأن يجد ما يلي:
ا- أن الله أطلق على نفسه أسماء كالسميع والبصير، وأوصافا كالسّمع والبصر، وهكذا أخبر عن نفسه بأفعالها فقال:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 1 وقال تعالى: {ِوَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 2 فاستعملها في تصاريفها المتنوّعة ممّا يدلّ على أن مثل ذلك يجوز إطلاقه عليه على أيّ صورة.
2-
وأطلق على نفسه أفعالأ كـ"الصُّنع"، و"الصِّبغة"، و"الفعل" ونحوها، لكنّه لم يتّسم ولم يصف نفسه بها لكنّه أخبر بها عن نفسه ممّا يدلّ على أنها تخالف الأوّلَ في الحكم فوجب الوقوف فيها على ما ورد.
3-
ووصف نفسه بأفعال في سياق المدح "يريد"، و"يشاء" فقال جل شأنه:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 3وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 إلاأنه لم يشتق له منها أسماء، فدلّ على أن هذا النّوع مخالفٌ للقسمين الأوّلين، فوجب ردّه إلى الكتاب والسنة وذلك بالوقوف حيث وقف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
4-
ووصف نفسه بأفعال أخرى على سبيل المقابلة بالعقاب والجزاء فقال تعالى:
1 الآية امن سورة المجادلة.
2 الآية 15 من سورة آل عمران.
3 الآية 125 من سورة الأنعام.
4 الآية 29 من سورة التكوير.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} 1 وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2 ولم يشتق منها أسماء له تعالى، فدلّ ذلك على أن مثل هذه الأفعال لها حكم خاص فوجب الوقوف على ما ورد.3
وبهذا يتبيّن غلط هؤلاء في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا وإدخاله في أسمائه الحسنى فجعلوا من أسمائه الصَّانعَ، والفَاعلَ، والمربِّي، وا لماكرَ، وا لمخادعَ، والفاتنَ، والمضِلَّ. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.4
الأمر الثاني.
الّذي غلط فيه هؤلاء هو إدخالهم للألفاظ الّتي صحّ ورودها خبرًا في باب الأسماء.
فالنُّصُوصُ كما سبق وأن أوضحنا فرقت بين باب الأسماء وباب الإخبار، فالله أخبرعن نفسه بالصُّنع والفعل ونحوها ولم يَصِف نفسه بذلك ولم يتّسم به فقال:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 5 وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد} 6 وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ؤ7!
ولذلك فإن أصحاب هذا النهج بين أحد خيارين إمّا أن يلتزموا بشرط الاسم وضابطه فيحذفوا تلك الأسماء التي لا يجوز إطلاقها على الله.
1 الآية 47 من سورة إبراهيم.
2 الاية 30 من سورة الأنفال.
3 القواعد الكليّة للأسماء والصفات ص 88.
4 تيسير العزيز الحميدص 573.
5 الآية 88 من سورة النمل.
6 الآية 157 من سورة هود.
7 الآية 138 من سورة البقرة.
وإمّا أن يتنكروا لهذا الضابط ويلزموا أنفسهم بإطلاق اسم من كلّ فعل ورد في النصوص كما ألزمهم ابن القيم بذلك حيث قال: " يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الدَّاعي والآتي والجائي، والذاهبَ والرائد، والناسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف ذلك من التي أطلق تعالى على نفسه أفعالها من القرآن، وهذا لايقوله مسلمٌ ولاعاقلٌ".1
1 مختصر الصواعق 2/34