الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: إحصاء أسماء الله الحسنى
المطلب الأول: الحث على إحصاء أسماء الله والمقصود بذلك
…
واعترض الحافظ ابن حجر على هذا الوجه فقال: "وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ "حفظها" تعيين السَّرد عن ظهر قلب، بل يُحتمل الحفظ المعنويُّ".
وقال الأصيليُّ: "ليس المراد بالإحصاء عدَّها فقط؛ لأنه قد يعدُّها الفاجر، وإنما المراد العلم بها".
وقال ابن بطال: "إن من حفظها عدا وأحصاها سردا ولم يعمل بها يكون كمن حفظ القرآن ولم يعمل بما فيه، وقد ثبت الخبر في الخوارج أنهم يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم"1.
المعنى الثاني: الطاقة، كما في قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} 2، أي: لن تطيقوه.
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا" 3؛ أي: لن تطيقوا كل الاستقامة.
فيكون معنى: "أحصاها" في الحديث: أي يطيقها، بحسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها في معاملة الرب سبحانه بها، وذلك مثل أن يقول: يا رحمن يا رحيم؛ فيخطر بقلبه الرحمة، ويعتقدها صفة لله عز وجل فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته، كقوله تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4.
وإذا قال: "السميع البصير" علم أنه لا يخفى على الله خافية، وأنه بمرأى
1 فتح الباري 11/226
2 الآية 20 من سورة المزمل.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 282، وابن ماجة ح 277، والدَّارمي 1/ 168
4 الآية 53 من سورة الزُّمر.
المطلب الأول: الحثُّ على إحصاء أسماء الله والمقصود بذلك.
أولا: الأدلة الواردة في الحث على إحصاء أسماء الله:
ا- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، والشاد هنا قوله:{فَادْعُوهُ بِهَا}
ووجه الاستشهاد:
أن الدعاء هنا يتناول كلا من:
أ- دعاء الثناء والتعبُّد: كقولك: الحمد لله، سبحان الله، الله أكبر.
ب- دعاء المسألة والطلب: اللَّهمَّ ارزقني، ربي اغفر لي، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسئل إلا بها1، فهو سبحانه يدعو عباده في هذه الآية إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديَّتها؛ إذ كل اسم من أسمائه عز وجل له تعبد مختص به، علما ومعرفة، وحالا.
علما ومعرفة: أي إن من علم أن الله مسمى بهذا الاسم، وعرف ما يتضمنه من الصفة ثم اعتقد ذلك: فهذه عبادة.
وحالا: أي إن لكل اسم من أسماء الله مدلولا خاصا وتأثيرا معينا في القلب والسُّلوك؛ فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره
1 بدائع الفوائد 1/ 164.
وسلوكه1.
2-
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما؛ مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة" متفق عليه، وفي رواية:"من حفظها".
الشاهد من الحديث: قوله: "من أحصاها"، "من حفظها".
ثانيا: معاني الإحصاء:
معنى قوله: "من أحصاها" قد ذكر فيه الخطابي2 "أربعة أوجه"، وهي:
المعنى الأول: العدُّ: كما في قوله سبحانه: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 3، فيكون معنى "أحصاها" في الحديث: أنه يعدُّها ليستوفيها حفظا، فيدعو ربه بها.
وقد استدل على صحة هذا التأويل بما ورد في رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة غير واحد، من حفظها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر"4.
قال الخطابي عند هذا الوجه: "وهو أظهرها".
وقالى النوويُّ: "قال البخاري وغيره من المحققين. معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخبر، وهو قول الأكثرين"5.
وقال ابن الجوزي: "لما ثبت في بعض طرق الحديث"من حفظها" بدل "من أحصاها" اخترنا أن المراد "العد"؛ أي: من عدَّها ليستوفيها حفظا".
1 مدارج السالكين 1/ 420 "بتصرف يسير".
2 شأن الدُّعاء ص 26- 29.
3 الآية 28 من سورة الجن.
4 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، الذكر. ح 2677
5 الأذكار للنووي ص هـ8، شرح صحيح مسلم 17/5
واعترض الحافظ ابن حجر على هذا الوجه فقال: "وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ "حفظها" تعيين السَّرد عن ظهر قلب، بل يُحتمل الحفظ المعنويُّ".
وقال الأصيليُّ: "ليس المراد بالإحصاء عدَّها فقط؛ لأنه قد يعدُّها الفاجر، وإنما المراد العلم بها".
وقال ابن بطال: "إن من حفظها عدا وأحصاها سردا ولم يعمل بها يكون كمن حفظ القرآن ولم يعمل بما فيه، وقد ثبت الخبر في الخوارج أنهم يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم"1.
المعنى الثاني: الطاقة، كما في قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} 2، أي: لن تطيقوه.
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا"3؛ أي: لن تطيقوا كل الاستقامة.
فيكون معنى: "أحصاها" في الحديث: أي يطيقها، بحسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها في معاملة الرب سبحانه بها، وذلك مثل أن يقول: يا رحمن يا رحيم؛ فيخطر بقلبه الرحمة، ويعتقدها صفة لله عز وجل فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته، كقوله تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4.
وإذا قال: "السميع البصير" علم أنه لا يخفى على الله خافية، وأنه بمرأى
1 فتح الباري 11/226
2 الآية 20 من سورة المزمل.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 282، وابن ماجة ح 277، والدَّارمي 1/ 168
4 الآية 53 من سورة الزُّمر.
منه ومسمع؛ فيخافه في سرِّه وعلنِه، ويراقبه في كافة أحواله.
فإذا قال: "الرَّزَّاق" اعتقد أنه المتكفِّل، برزقه، يسوقه إليه في وقته، فيثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له غيره، ولا كافي، له سواه.
وإذا قال: "المنتقم" استشعر الخوف من نقمته، واستجار به من سخطه.
وإذا قال: "الضار النافع" اعتقد أن الضر والنفغ من قِبَل الله جلَّ وعزَّ لا شريك له، وأن أحدا من الخلق لا يجلب إليه خيرا ولا يصرف عنه شرا، وأن لا حول لأحد، ولا قوة إلا به.
وكذلك إذا قال: "القابض الباسط"، و"الخافض الرافع"، و"المعز المذل" وعلى هذا سائر الأسماء1.
وقال ابن حجر: "وقيل: معنى أحصاها: عمل بها، فإذا قال: "الحكيم" مثلا سلم جميع أوامره لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: "القدُّوس" استحضر كونه منزها عن جميع النقائص. وهذا اختيار أبي الوفاء بن عقيل. وقال ابن بطال: "طريق العمل بها أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كـ"الرحيم"، و"الكريم" فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده، فليمرن نفسه على أن يصحَّ له الاتِّصاف بها.
وما كان يختص به تعالى كـ"الجبَّار" و"العظيم" فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التَّحلِّي بصفة منها.
وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطَّمع والرَّغبة.
وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرَّهبة.
فهذا معنى أحصاها وحفظها.
1 شأن الدعاء ص 27-28.
وقال أبو نُغيم الأصبهاني: "الإحصاء المذكور في الحديث ليست هو التعداد، وإنما هو العمل والتَّعقُل بمعاني الأسماء والإيمان بها"1.
المعنى الثالث: أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة.
وهذا المعنى مأخوذ من الحصاة وهي: العقل.
قال طرفة:
وإن لسان المرء مالم تكن له
…
حصاة على عوراته لدليل2
والعرب تقول: فلان ذو حصاة؛ أي ذو عقل ومعرفة بالأمور.
فيكون معنى "أحصاها": أن من عرفها وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة3.
قال أبو عمرو الطَّلمنكي: "من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالما لمعاني الأسماء، ولا مستفيدا بذكرها وما تدلُّ عليه من المعاني"4.
المعنى الرابع: أن يكون معنى الحديث أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي هذه الأسماء كلها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة5.
1 فتح الباري 11/226
2 ديوان طرفة بن العبد ص 112.
3 شأن الدعاء ص 28، 29.
4 فتح الباري 11/226
5 شأن الدعاء ص 29.
قال الحافظ ابن حجر: "وقيل؛ المراد بالحفظ: حفظ القرآن لكونه مستوفيا لها، فمن تلاه دعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود. قال النووي: هذا ضعيف.
وقيل: المراد من تتبَّعها من القرآن"1
والحق والصواب أن الإحصاء شامل لهذه الأمور جميعها، فلابد من الجمع بين الإحصاء النظري المتمثل في العلم بها وحفظها وحفظ النصوص الدالة عليها، والإحصاء الفقهيِّ المتمثل في فهم معانيها ومدلولاتها والإيمان بآثارها والإحصاء العملى الذي هو العمل بمقتضاها ودعاء الله بها.
قال ابن بطال: "الإحصاء يقع بالقول، ويقع بالعمل، فالذي بالعمل أن لله أسماء يختصن بها كالأحد، والقدير، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها".
وله أسماء يستحبُّ الاقتداء بها في معانيها، كالكريم والغفو، فيسحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها، فبهذا يحصل الإحصاء العملي، وأما الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها، ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها2.
1 فتح الباري 11/226
2 فتح الباري 13/390.