الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الأحكام المستفادة من هذه المسألة
أولاً: "الدهر" ليس من أسماء الله:
من فقه هذه القاعدة والأحكام التي تُؤخذ منها أن يعلم أن "الدهر" ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى، وأسماء الله كما تقدم لنا كل واحد منها دل على "معنى" الذي نسميه الصفة.
وكذلك فإن الدهر اسم للوقت والزَّمن، قال الله تعالى عن منكر البعث:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ} 1 يريدون مرور الليالي والأيام2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تنازع المسلمون في تسمية الله "بالدهر"، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعِنَبِ الكَرمَ، فإن الكَرمَ الرَّجُلُ المُسلِمُ" 3.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولى الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: يسُّبُ ابن آدم الدهر، وأنا الدهر أُقَلِّبُ الليلَ
1 الآية 24 من سورة الجاثية
2 مجموع الفتاوى 2/ 491.
3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الألفاظ من الأدب وغيره، باب النهي عن سب الدَّهر 7/ 45، 46.
والنهار" 1، وفي رواية أخرى: "يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أُقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما" هذه ألفاظ مسلم2. قال القاضي أبو يعلي في "إبطال الئأويلات"3:"اعلم أن أبا بكبر الخلال قال: أخبرني بشر بن موسى الأسدي، قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الدهر فلم يجبني فيه بشيء".
قال القاضي: "وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث".
وقال حنبل: "سمعت هارون الحمَّال يقول لأبي عبد الله: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتَسُبوا الدهر" فقام فتح بن سهل فقال: يا أبا محمد، نقول: يا دهر ارزقنا؟، فسمعت سفيان يقول: خذوه، فإنه جهمي، وهرب.
فقال أبو عبد الله: القوم يردُّون الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها،
ولا نردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.
قال القاضي: وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون قوله "ونحن نؤمن بها" راجع إلى أخبار الصفات في الجملة ولم يرجع إلى هذا الحديث بخاصَّةٍ.
قال: وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله بن حامد هذا الحديث في كتابه، وقال: لا يجوز أن يُسمَّى الله دهرا.
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الألفاظ من الأدب، باب النهي عن سب الدهر 7/45.
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب 35، (فتح الباري 13/ 464 ح7491) .
3 إبطال التأويلات 2/ 374.
والأمر على ما قاله لأنه قد روي في بعض ألفاظ الحديث ما يمنع من حمله على ظاهره هذا، ولم يرد في غيره من أخبار الصفات ما دلَّ على صرفه عن ظاهره، فلهذا وجب حملها على ظاهرها، وذلك أنه روي فيه أنه:"يؤذيني ابن آدم، يَسُّبُ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّبُ الليل والنهار"، وفي لفظ آخر:"لي الليل والنهار، أجَدِّده وأُبْلِيهِ، وأَذْهّبُ بملوك وآتي بملوك"
فتبين أن الدهر الذي هو الليل والنهار خلق له وبيده، وأنه يجدِّده ويبليه، فامتنع أن يكون اسما له.
وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب، وهو أن الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في ماليَ بكذا، ونالتني قوارع الدهر ومصائبه. فيضيفون كل حادث يحدث مما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره من مرض أو صحة أو غنى أو فقر أو حياة أو موت إلى الدهر ويقولون: لعن الله هذا الدهر والزمان؛ ولذلك قال قائلهم:
أمِنَ المنون وريبه تتوجعُ
والدهر ليس بمعتب من تجزع
وقال تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 1 أي ريب الدهر وحوادثه، وقال سبحانه وتعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ} 2 فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسُّبوا الدهر" أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه، فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر، وإنكم إذا سببتم الدهر وفاعل ذلك ليس هو الدهر3.
1 الآية 30 من سورة الطور.
2 الآية 24 من سورة الجاثية.
3 نقض تأسيس الجهمية 1/124-126.
ثانيا: الردُّ على من أنكر تضمُّن الأسماء الحسنى للصفات:
من خلال ما تقدم إيراده من نقول وأدلة يعلم ضلال من نفى معاني أسمائه الحسنى وهم "المعتزلة" الذين ادعوا أنها كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسمَّاها باعتبار معنى قائم به. وقالوا: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة وهكذا وعلّلوا ذلك: بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدُّد القدماء.
وهذه العلة عليلة بل ميتة لدلالة السمع والعقل على بطلانها، أما السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة مع أنه الواحد الأحد، فقال تعالى:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الآيات 12-16 من سورة البروج.
وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} الآيات 1-5 من سورة الأعلى.
وأما العقل، فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي صفات من اتصف بها فهي قائمة به، وكل موجود فلابد له من تعدد صفاته1.
فبهذه القاعدة يعلم ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها فنفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد سبق إيراد الأدلة من القرآن والسنة على تضمن الأسماء الحسنى للصفات، فليرجع إليها.
وإنه لمن المكابرة الصريحة والبهت البيِّن أن يجعل معنى اسمه "القدير"
1 القواعد المثلى ص 8.
هو معنى اسمه "السميع، أو "البصير".
ثالثا: إن أسماء الله تعالى كلها من قبيل المحكم المعلوم المعنى، وليست من المتشابه كما يدَّعي بعض المبتدعة الذين يفوِّضون المعنى لهذه الأسماء بدعوى أنها من المتشابه، بل هي من المحكم لأن معانيها معروفة في لغة العرب وغير مجهولة، وإنما المجهول هو الكنه والكيفيَّة للصفات التي تضمنتها هذه الأسماء.
(فالله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير، سميع بصير، غفور رحيم؛ إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، فنحن نفهم معنى ذلك، ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوُّع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات)1.
ودعوى أن نصوص الأسماء والصفات غير معلومة المعنى هي دعوى أهل التجهيل الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلأ لا يعلمه إلا الله، وهي عندنا بمنزلة {كهيعص} 2، {حم عسق} 3، {المص} 4.
فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها، ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله، وظنَّ هؤلاء أن هذه طريقة
1 مجموع الفتاوى 3/ 59
2 الآية 1 من سورة مريم.
3 الآيتان ا- 2 من سورة الشورى
4 الآية 1 من سورة الأعراف.
السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ولا يفهمون معنى قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1، وقوله:{وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 وأمثال ذلك من النصوص وبنوا هذا المذهب على أصلين.
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه.
والثاني: أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله.
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرأون {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4، و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 5، ويروون "ينزل ربُّنا كل ليلة إلى سماء الدُّنيا" ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أُريد به، ولازم قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه"6.
ولا شك أن دعوى كون طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك- بمنزلة الأمِّيِّين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ} 7 - هي دعوى باطلة وفيها من القدح في الدِّين وفي حق الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في السابقين الأولين واستجهالهم واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أمِّيِّين بمنزلة الصالحين من العامة، لم
1 الآية 75 من سورة ص.
2 الآية 67 من سورة الزمر.
3 الآية 5 من سورة طه.
4 الآية 5 من سورة طه.
5 الآية 64 من سورة المائدة.
6 الصواعق المنزلة 2/ 422، 423 بتصرف يسير.
7 الآية 78 من سورة البقرة.
يتبحَّروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهى1
وهذا القول إذا تدبَّره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، فإنه من المعلوم أن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بيَّن لعباده غاية البيان، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبيِّن للناس ولهذا قال الزهريُّ:"من الله البيان وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم" فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله، إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعا.
ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى، فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرِّسالة.
وبيان المعنى وحده بدون دليله، وهو اللفظ الدَّال عليه ممتنع.
فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى.
والله تعالى أنزل كتابه- ألفاظه ومعانيه- وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى، فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقن أنه بيَّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفط وهذا هو الذي ينبغي، فإن المعنى هو المقصود، وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؛ وكيف نتيقَّن بيانه للوسيلة ولا نتيقّن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال؟ 2.
ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والرَّيب، فثلجت
1 مجموع الفتاوى 8/5- 10 بتصرف.
2 الصواعق المنزلة 2/ 737، 738.
به الصدور واطمأنت به القلوب واستقرّ الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل، الأمر والنهي، وقرَّرت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
ومن يطَّلع على كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم يعلم أنهم عرفوا معاني تلك النصوص وفهموها.
رابعا: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعدّ تضمّنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.
وإن دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين:
أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
مثال ذلك:
أ- مثال للاسم الذي دل على وصف متعدٍّ:
"السميع"
ا- يتضمن إثبات "السميع" اسما لله تعالى.
2-
وإثبات "السمع" صفة له.
3-
وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو أنه يسمع السر والنَّجوى كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
ب- مثال للاسم الذي دلَّ على وصف غير متعدٍّ:
"الحيُّ":
ا- يتضمن إثبات "الحيّ" اسما لله عز وجل.
2-
إثباة "الحياة" صفة له.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: "إن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل، فيخبر عنه فعلا ومصدرا نحو: "السميع"، "البصير"، "القدير" يُطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} 1، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} 2 وهذا إذا كان الفعل متعديا.
فإن كان لازما لم يُخبر عنه به، نحو "الحي" بل يُطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يُقال:"حيي""3
1 الآية 1 من سورة المجادلة.
2 الآية 23 من سورة المرسلات.
3 بدائع الفوائد 1/162.