الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: ثمرات إحصاء أسماء الله الحسنى
ا- من ثمرات الإحصاء ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين 1/ 417، حيث قال: "وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال، وكل صفة، لها مقتضى وفعل؛ إما لازم وإما متعد، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه. وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها.
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته، وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسعمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكما ومصالح، وأسماؤه حسنى، ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه؛ ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه وأن ذلك حكم سيِّءٌ ممَّن حكم به عليه، وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 1، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
1 الآية 91 من سورة الأنعام
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1، وقال في حق من جوّز عليه التسوية بين المختلفين، كالأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2، فأخبر أن هذا حكم سيء لا يليق به تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 3 عن هذا الظن والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثيرة، ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته؛ إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها.
فاسمه "الحميد، المجيد" يمنع ترك. الإنسان سدىً مهملاً معطلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يثاب ولا يُعاقب. وكذلك، اسمه "الحكيم" يأبى ذلك.
وكذلك اسمه "الملك" واسمه "الحي، المجيدُ" يمنع ترك الإنسان شدىً مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يُعاقب، وكذلك اسمه "الحكيم " يأبى ذلك. وكذلك اسمه "الملك" واسمه "الحيُّ" يمنع أن يكون معطلا من الفعل؛ بل حقيقة "الحياة" الفعل، فكل حي فعالٌ وكونه سبحانه "خالقا قيوما" من موجبات حياته ومقتضياتها "
واسمه "السميع البصير" يوجب مسموعا ومرئيا.
واسمه "الخالق" يقتضي مخلوقا، وكذلك "الرَّازق".
واسمه "الملك" يقتضي مملكة وتصرُّفا وتدبيرا، وإعطاء ومنعا، وإحسانا
1 الآية 67 من سورة الزمر.
2 الآية 21 من سورة الجاثية.
3 الآيتان 115- 116 من سورة المؤمنون
وعدلا، وثوابا وعقابا.
واسمه " البَرُّ، المحسنُ، المعطي، المنان" ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها إذا عرف هذا، فمن أسمائه سبحانه "الغفار، التواب، العفوُّ)) ، فلابد لهذه الأسماء من متعلِّقات، ولابد من جناية تُغتفر، وتوبة تقبل، وجرائم يُعفى عنها.
ولابد لاسمه "الحكيم" من متعلق يظهر فيه حكمه، إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم "الخالق، الرزاق، المعطي، المانع" للمخلوق والمرزوق والمعطَى والممنوع، وهذه الأسماء كلُّها حسنى.
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه، ويتوب عليه ويسامحه: من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك.
وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته، وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده، وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما: مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على الجنايات، مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها. فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته، كما قال المسيح عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: فمغفرتك عن كمال
قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزا ويسامح جهلا بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم، وفي الأمر، تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها: هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال.
وغاياتها أيضا: مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته، فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له، وذكرهم له، وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى؛ إذ كل اسم؛ فله تعبد مختص به، علما ومعرفة وحالا.
وأكمل الناس عبودية: المتعبِّد بجميع الأسماء والصفات التي يطَّلِع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم"، أو يحجبه عبودية اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع" أو عبودية اسمه "الرحيم العفو الغفور" عن اسمه "المنتقم"، أو التعبد بأسماء "التودد والر، واللطف، والإحسان" عن أسماء "العدل، والجبروت، والعظمة، والكبرياء" ونحو ذلك.
وهذه طريقة الكُمَّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، والدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديتها.
وهو سبحانه يحبُّ موجب أسمائه وصفاته.
فهو "عليم" يحب كل عليم، "جواد" يحب كل جواد، "وتر" يحب الوتر، "جميل" يحب الجمال، "عفوٌّ" يحب العفو وأهله، "حييٌّ" يحبُّ الحياء وأهله، "بر" يحب الأبرار، "شكور" يحب الشاكرين، "صبور" يحسب الصابرين، "حليم" يحب أهل الحلم.
فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح- خلق من يغفِرُ له ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدَّر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له؛ ليترتب عليه المحبوب له والمرضي له
…
"1.
2-
من ثمرات الإحصاء أن من كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقرأ آثارها في الخلق والأمر رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل انتظام.
فلله العظيم أعظم حمد وأتمُّه وأكمله على ما من به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى.
والله يحب أسماءه وصفاته ويحب المتعبِّدين له بها، ويحب من يسأله ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها ويُثني عليه بها ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح "لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه
…
"2.
ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإحسان، والبر، والعفو، والجود، والصبر، والمغفرة، والرحمة،
1 ولمزيد استفصال في الموضوع انظر: طريق الهجرتين ص.13، ومفتاح دار السعادة 2/ 0 9، 1/ 287.
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب:{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} انظر: فتح الباري 8/ 295، 296 ح 4634. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب غيرة الله وتحريم الفواحش 8/ 100
والصدق، والعدل، والعلم، والشكر، والحلم، والأناة، والتثبُّت، ولما كان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها.
وإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأن اتصاف العبد بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، وهذا خلاف صفات العلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها لم يتعد طوره ولم يخرج بها من دائرة العبودية.
3-
ومن ثمرات معرفة أسماء الله الحسنى أن أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدهم حبا له، فكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبة خاصة، فإن أسماءه كلها حسنى وهي مشتقة من صفاته، وأفعاله دالة عليها. فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر، إذ ليس في أفعاله عبث، وليس في أوامره سَفَهٌ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل، والفضل، والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه.
ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلا عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التَّامة عليها، وهل مع المؤمنين محبة إلا من آثار صفات كماله؟، فإنهم لم يروه
في هذه الدَّار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم، فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم في حبه شأن آخر، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم من معرفته والعلم به، فأعرفهم بالله أشد حبا له؛ ولهذا كانت رسله أعظم الناس حبا له، والخليلان من بينهم أعظمهم حبا، وأعرف الأمة أشدهم له حبا، ولهذا كان المنكرون لحبه أجهل الخلق به1.
4-
ومن ثمرات وفوائد معرفة أسماء الله الحسنى أن إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه إما أن تكون:
ا- خلقا له تعالى، فهو أعلم بما كوَّنه وخلقه.
2-
أو أمرا، فهو علم بما شرَّعه.
ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه.
فالأمر كله: مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرَّأفة والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة وحكمة ورحمة ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى.
وفعله كله: لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلا ولاسدىً ولا عبثا.
1 طريق الهجرتين 127، 130 "بتصرف".
وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سواه تابع لوجوده، تبعَ المفعولِ المخلوقِ لخالقه.
فكذلك العلم بها- أي بأسمائه- أصل، للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى، ولهذا لا تجد فيها خللا ولا تفاوتا؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهل العبد به أو لعدم حكمته، أما الرَّبُ تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق، فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض1.
1 طريق الهجرتين ص 318 "بتصرف".
الخاتمة: في التحذير من الإلحاد في أسماء الله الحسنى
والإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها.
والإلحاد مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادته "ل- ح- د"، فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط.
ومنه الملحد في الدين: المائل عن الحق إلى الباطل، قال ابن السِّكِّيت: "الملحد المائل عن الحق المُدخِلُ فيه ما ليس فيه.
والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع.
أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها، وهذا إلحاد. حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة1.
قال ابن عباس ومجاهد: "عدلوا بأسماء الله تعالى عما هى عليه، فسموا بها أوثانهم، فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان"2.
1 بدائع الفوائد 1/ 169.
2 مدارج السالكين 1/ 30.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علَّةً فاعلةً بالطبع ونحو ذلك1؛ وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفية، فتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه ميلٌ بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سمُّوه بها نفسها باطلة ينزه الله تعالى عنها2.
الثالث: أن ينكر شيئا منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وإنما كان ذلك إلحادا لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها3.
قال ابن القيم: "ومن الإلحاد في أسمائه تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقوله من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معان، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها فكلاهما ملحد في أسمائه. ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد؛ فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك، فليستقلل أو ليستكثر"4
1 بدائع الفوائد 1/ 169.
2 القواعد المثلى ص 17.
3 المصدر السابق ص 16
4 بدائع الفوائد 1/ 169، 170.
الرابع: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه؛ وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه، فجعْلُها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها1.
قال ابن القيم: "ومن الإلحاد في أسمائه شبيه صفاته بصفات خلقه- تعالى الله عما يقول المشبِّهون علوا كبيرا- فهذا الإلحاد في مقابل إلحاد المعطلة؛ فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فَجَمَعهُم الإلحاد وتفرَّقت بهم طُرُقُه، وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، لم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أُنزِلَت عليه لفظا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريًّا من التشبيه، وتنزيههم خليا من التعطيل، لا كمن شبه حتى كأنه يعبد صنما، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما، وأهل السنة وسط في النِّحَلِ، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل" انتهى كلامه2.
وقال رحمه الله: "قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، ومن أعظم أنواع الإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنها مجازات، وهو أنواع هذا أحدها.
والثاني: جحدها وإنكارها بالكلية.
والثالث: تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه، وأن الثابت له منها مماثل لخلقه"3.
1 القواعد المثلى ص 17
2 بدائع الفوائد 1/ 170
3 مختصر الصواعق 2/ 110.
واسمع إلى أبيات يحذر فيها ابن القيم من لإلحاد، حيث يقول:
أسماؤه أوصاف مدح كلها
…
مشتقة قد حُمِّلت لمعان
إياك والإلحاد فيها إنه
…
كفر معاذ الله من كفران
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإ
…
شراك والتعطيل والنُّكران
فالملحدون إذا ثلاث طوائف
…
فعليهم غضب من الرحمن
المشركون لأنهم سموا بها
…
أوثانهم قالوا إله ثان
هم شبهوا المخلوق بالخلاق عكـ
…
سَ مشبه الخلاق بالإنسان
وكذاك أهل الاتحاد فإنهم
…
إخوانهم من أقرب الإخوان
والملحد الثاني فذو التعطيل إذ
…
ينفي خقائقها بلا برهان
هذا وثالثهم فنافيها ونا
…
في ما تدل عليه بالبهتان
ذا جاحد الرحمن رأشا لم يُقِ
…
ر بخالق أبدا ولا رحمن
هذا هو الإلحاد فاحذره لعل اللـ
…
ـه أن ينجيك من نيران
وتفوز بالزلفى لديه وجنة المـ
…
أوى من الغفران والرضوان1
ومن خلال النقول السابقة يتضح لنا أن الالحاد دائر بين التعطيل والتمثيل، فلابد للنجاة من الإلحاد والسلامة منه أن نحذر من هذين الداءين، وذلك بالبعد منهما أشد البعد.
والله الموفق والهادي إلى سواء السَّبيل.
1 القصيدة النونية ص 54، 156.