الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرعي، ولا دم عليه لعدم الدليل على وجوبه، ويأتي في باب صفة الحج شيء مما تقدم، ومن لم يمر بميقات من المذكورات أحرم بحج أو عمرة وجوباً إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه:(انظروا حذوها من طريقكم) رواه البخاري، وسن له أن يحتاط ليخرج من عهدة الواجب، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعدٍ إذ الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه حرام فإن تساويا قُرباً منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريقه، لأنه أحوط، فإن لم يحاذ ميقاتاً كالذي يجيء من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا يلملم لأنهما أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما، أحرم عن مكة بقدر مرحلتين فيحرم في المثال من جدة لأنها على مرحلتين من مكة، لأنه أقل المواقيت، وتقدم البحث في ذلك على مذاهب الأئمة الثلاثة، فإن أحرم ثم علم بعد أنه قد جاوز غير محرم ما يحاذي الميقات فعليه دم، قاله في المغني والشرح، قال في المبدع: وهو متجه.
--
فصل:
ولا يجوز لمن أراد دخول مكة ولو لتجارة أو زيارة أو أراد دخول الحرم أو أراد نسكا تجاوز الميقات بغير إحرام إن كان حراً مسلماً مكلفاً؛ بخلاف الرقيق والكافر وغير المكلف، لأنهم ليسوا من أهل فرض الحج، فلو جاوز الميقات رقيق أو كافر أو غير مكلف ثم لزمهم الإحرام بأن عتق الرقيق، وأسلم الكفار، وكلف غير المكلف، أحرموا من موضعهم لأنه حصل دون الميقات وعلى وجه مباح فكان له أن يحرم منه كأهل ذلك الموضع ولا دم عليهم إذا أحرموا من
موضعهم، لأنهم لم يجاوزوا الميقات حال وجوب الإحرام عليهم بغير إحرام، فإن لم يرد الحرم ولا نسكا لم يلزمه الإحرام بغير خلاف، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدراً مرتين وكانوا يسافرون للجهاد فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام. قال شيخ الإسلام: وليس لأحد أن يجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام، وإن قصد مكة لتجارة أو لزيارة فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع انتهى. وعند الحنفية: يجب الإحرام من الميقات لأحد النسكين، ويحرم تأخيره عنه لمن أراد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم ولو كان لقصد التجارة أو غيرها من إرادة نزهة أو دخول بيته ولم يرد نسكا، ويلزمه الدم بتأخير الإحرام عن الميقات ويجب عليه أحد النسكين إن لم يحرم عند دخول الميقات أو بعده إلى أن دخل مكة فيلزمه التلبس بحجة أو عمرة ليقوم بحق حرمة البقعة، وعندهم أيضا أن من جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم بعد المجاوزة أو لم يحرم بعدها فعليه العود: أي يجب عليه الرجوع إلى ميقات من المواقيت، ولو كان أقربها إلى مكة ولم يتعين عليه العود إلى خصوص ميقاته الذي تجاوزه بلا إحرام. وعن أبي يوسف الأولى أن يحرم من ميقاته كما صرح به في المحيط، وإن لم يعد مطلقا فعليه دم لمجاوزة الميقات.
فإن عاد قبل شروعه في طواف أو وقوف سقط الدم إن لبى من الميقات، وقال أبو حنيفة: لا يسقط الدم بالعود محرما لبى أو لم يلب، وقال زفر لا يسقط لبى أو لم لب لأن جنايته لا ترتفع بالعود، وعندهم أيضا يجوز لمن منزله الميقات أو داخله من أفقي وغيره، دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكا، هذا ملخص مذهب الحنفية. وعند المالكية أن المار بالميقات، إما أن يريد مكة أولاً، فإن كان لا يريد مكة أو كان غير مخاطب بالنسك كالعبد والصبي فلا إحرام عليه، فإن بدا له دخول مكة بعد
تعدي الميقات فأحرم فلا دم عليه ولو كانت حجة الإسلام، وإن كان يريد مكة وجب عليه الإحرام ولو لم يرد نسكا، فلو دخلها بغير إحرام وجب عليه أن يرجع إلى الميقات ليحرم منه إلا أن يغلب على ظنه فوات الحج أو الرفقة التي لا يجد غيرها فيحرم من مكانه الذي هو به ولا يرجع ويلزمه هدي.
وإن أحرم بعد تعدي الميقات وجب عليه الهدي ولو لم يرد نسكا، لأن قصد مكة كقصد النسك كما في نقل ابن عرفة واعتمدوه، قال أبو مصعب من أصحاب مالك وعبد الملك لا يجوز أن يدخل مكة إلا محرماً ولو لتجارة أو لكونها وطنه أو لزيارة أهل بمكة أو لاستقضاء حق من غرمائه أو لشبه ذلك، وقال ابن شهاب: له أن يدخل حلالا ولا شيء عليه، هذا ملخص مذهب المالكية، وعند الشافعية إذا انتهى إنسان إلى الميقات وهو يريد حجاً أو عمرة لزمه أن يحرم منه، فإن جاوزه غير محرم عصى ولزمه أن يعود إليه ويحرم منه إن لم يكن له عذر، فإن كان له عذر كخوف الطريق أو الانقطاع من الرفقة أو ضيق الوقت أحرم ومضى في نسكه ولزمه دم إذا لم يعد، فإن عاد إلى الميقات قبل الإحرام فأحرم منه أو بعد الإحرام ودخول مكة قبل أن يطوف أو يفعل شيئاً من أنواع النسك سقط عنه الدم، وإن عاد بعد فعل نسك لم يسقط عنه الدم، وسواء في لزوم الدم من جاوزه عامداً أو جاهلاً أو ناسياً أم معذوراً بغير ذلك، وإنما يفترقون في الإثم فلا إثم على الناسي والجاهل ويأثم العامد، وأما إذا لم يرد حجاً ولا عمرة فإنه لا يلزمه الإحرام إذا أتى الميقات، هذا ملخص مذهب الشافعية والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: النوع الثالث المكلف الذي يدخل للحرم إما مكة أو غيرها ليغر قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم، وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يجب الإحرام
عليه. وعن أحمد ما يدل على ذلك، وقد روى عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى عن الأصل.
إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه، فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك انتهى ملخصاً، وقال أيضا ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فلا قضاء عليه، وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة إلى أن قال ولنا أنه مشروع كتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط لتحية المسجد وتمامه فيه ومثله في الشرح الكبير. قال في الفروع: إذا أراد حر مسلم مكلف نسكا أو مكة نص عليه أو الحرم لزمه إحرام من ميقاته وفاقاً لأبي حنيفة ومالك إلا أن أبا حنيفة يجوِّز لمن منزله الميقات أو داخله من أفقي وغيره دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكاً ولا وجه للتفرقة، وظاهر مذهب الشافعي يجوز مطلقا إلا أن يريد نسكا، وعن أحمد مثله ذكرها القاضي وجماعة وصححها ابن عقيل وهي أظهر للخبر السابق، وينبني على عموم المفهوم والأصل عدم الوجوب يعني عدم وجوب الإحرام على كل داخل، والله أعلم.
(تنبيه) : لا يجوز لمن أراد دخول الحرم أو مكة أو أراد نسكاً تجاوز الميقات
بغير إحرام هذا هو المذهب وعن الإمام أحمد رواية لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد نسكا ذكرها القاضي أبو يعلى وجماعة وصححها ابن عقيل واستظهرها ابن مفلح في الفروع، قال الموفق في المغني لأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل انتهى.
وروى عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام وهو الصحيح من مذهب الشافعية، إذا تقرر هذا فعلى المذهب لو لم ينو نسكا ودخل مكة غير محرم فهل يلزم دم أو لا؟ الظاهر أنه لا يلزمه دم لأن الدم إنما يجب لجبران النقص الذي حصل في نسكه، وهذا لم يأت بنسك يجبره بدم وتقدم قريبا قول صاحب المغني إن الإحرام مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد، فإن تجاوز الميقات بغير إحرام لقتال مباح جاز لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه دخل مكة محرماً ذلك اليوم، أو لخوف أو لحاجة تتكرر كحطاب وفيج وهو رسول السلطان وناقل ميرة وحشاش وحطاب وفحام وناقل فاكهة من الطائف أو غيره وصاحب البريد ونحوهم ومكي يتردد لقرية بالحل، قال مرعي أو خارج الميقات انتهى.
فهؤلاء لهم الدخول بلا إحرام لما روى حرب عن ابن عباس (لا يدخل إنسان مكة إلا محرما إلا الجمالين والحطابين وأصحاب منافعها) احتج به أحمد دفعاً للمشقة والضرر لتكرره، قال ابن عقيل وكتحية المسجد في حق قيمة للمشقة، ثم إن بدا لمن لا يلزمه الإحرام ممن تقدم ذكرهم ممن تتكرر حاجته، والمكي الذي يتردد إلى قريته بالحل أن يحرم أو بدا لمن لم يرد الحرم كقاصد عسفان أو المضيق أو وادي فاطمة المسمى بمر الظهران أو لزيمة أو الشرايع ونحوهم أن يحرم أو تجاوز الميقات غير قاصد مكة ثم بدا له قصدها فجميع هؤلاء يحرمون من الموضع الذي بدا لهم
الإحرام فيه، لأنهم حصلوا دون الميقات على وجه مباح، فأشبه أهل ذلك المكان ولا دم على واحد منهم لأنهم لم يجاوزوا الميقات حال وجوب الإحرام عليهم بغير إحرام، ولأن من منزله دون الميقات لو خرج إلى الميقات ثم عاد غير محرم وأحرم من منزله لم يلزمه شيء، قال المحقق عثمان بن قائد النجدي: اعلم أن المار على الميقات لا يجوز له تجاوزه بلا إحرام بسبعة شروط: الإسلام والحرية والتكليف وإرادة مكة أو الحرم هذه الأربعة وجودية، والخامس والسادس والسابع: عدم القتال المباح والخوف والحاجة المتكررة وهذه الثلاثة عدمية فتدبر انتهى.
وحيث أحرم من الميقات لدخول مكة أو الحرم لا لنسك طاف وسعى وحلق أو قصر وحل من إحرامه، قال في المنتهى وشرحه: وأبيح للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخول مكة محلِّين ساعة من يوم الفتح، وهي من طلوع الشمس إلى صلاة العصر، لا قطع شجر لأنه صلى الله عليه وسلم قام الغد من يوم فتح مكة فحمد لله وأثنى عليه، ثم قال:(إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب) وكذا في الإقناع وشرحه وغيرهما من كتب الأصحاب مع تصريحهم بجواز مجاوزة الميقات بلا إحرام لدخول مكة أو الحرم إذا كان لقتال مباح، واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو دخول مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فإذا جاز لنا دخول مكة أو الحرم بلا إحرام للقتال المباح فكيف يكون دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة محلين ساعة من يوم الفتح من خصائصه صلى الله عليه وسلم؟ والذي يظهر
أن الخصوصية إنما هي في جواز البداءة بالقتال وعاد التحريم بعد الساعة التي أحل الله مكة فيها لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لنا أن نبدأ أحداً بالقتال فيها، أما إذا بدأنا أحد بالقتال جاز لنا قتاله لقوله تعالى:(ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) أما ترك الإحرام لدخول مكة أو الحرم للقتال المباح وهو الدفاع عن المسلمين فليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يبح للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من أصحابه ولا غيرهم قطع الشجر وقتل صيد الحرم.
ومن تجاوز الميقات بلا إحرام يريد نسكا فرضاً أو نفلا ولو كان جاهلا أنه الميقات أو حكمه أو ناسيا أو مكرها، لزمه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه حيث أمكن كسائر الواجبات إن لم يخف فوت حج أو علة نفسه أو أهله أو ماله لصاً أو غيره، فإن خاف لم يلزمه رجوع ويحرم من موضعه، فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب عليه كما لو لم يجاوزه ابتداء. وإن أحرم دون الميقات من موضعه أو غيره لعذر أو غيره صح وعليه دم وفاقاً للأئمة الثلاثة سواء أمكن رجوعه أم لا، وإن رجع محرماً إلى الميقات لم يسقط الدم برجوعه، نص عليه لأنه وجب لتركه إحرامه من ميقاته فلم يسقط كما لو لم يرجع، وإن فسد نسكه هذا الذي تجاوز فيه الميقات بلا إحرام لم يسقط دم المجاوزة نص عليه كدم محظور، ونقل منها يسقط لأن القضاء واجب، وعند الحنفية من كان منزله في نفس الميقات أو داخل الميقات إلى الحرم كأهل لزيمة والشرائع والمضيق ووادي فاطمة وبحرة ونحوهم، فإن ميقاته للحج والعمرة جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحل وهو في رخصة وعدم لزوم كفارة ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام، وإحرامه من دويرة أهل أفضل، وله دخول مكة بغير إحرام إذا لم يرد نسكا، فإن أراد نسكا وجب عليه الإحرام
حينئذ، وأما من كان منزله خارج الميقات إلى الحل فيجب عليه الإحرام من الميقات لأحد النسكين ولو لقصد مكة أو الحرم أو تجارة بها أو نزهة أو دخول بيته، هذا ملخص مذهبهم، قال صاحب الفروع ابن مفلح: ولا وجه للتفرقة يعني تفرقة الحنفية بين من كان خارج الميقات وبين من كان فيه أو دونه إلى الحرم، حيث قالوا بوجوب الإحرام لدخول مكة أو الحرم مطلقا على من كان خارج الميقات دون من كان في الميقات أو داخله إلى الحرم إذ لم يرد نسكا والله أعلم.
وعند المالكية من تردد إلى مكة بحطب أو فاكهة أو غيرهما من دون الميقات كأهل وادي فاطمة ولزيمة والمضيق وجدة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، أما إن تردد لها من المواقيت فلا يجوز له أن يتعدى الميقات بلا إحرام هذا مذهبهم في هذه المسئلة، وفي إلزامهم للمتردد المذكور بالإحرام من الميقات كلما مر عليه مشقة وحرج، وقد قال تعالى:(وما جعل عليكم في الدين من حرج) .
(فائدة) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصداً مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي قرن المعروف بالسيل، وحيث إنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه والحالة ما ذكر نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات قرن المذكور أو على ما يحاذيه فإذا نزل بجدة محرماً قصد مكة لأداء نسكه، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة، لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب وتجاوزه بغير إحرام محرم وفيه دم. ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصداً مكة والله أعلم. وكره إحرام بحجة أو عمرة قبل الميقات المكاني وينعقد، ووجه الكراهة ما نقله أبو شامة عن أبي بكر الخلال: (أن رجلاً جاء إلى
مالك بن أنس فقال من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه، فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك، فقال: ما تكره من ذلك؟ فقال: أكره عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في زيادة الخير؟ فقال مالك فإن الله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي رواية أن رجلاً قال لمالك بن أنس من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعادها عليه مراراً، فقال: إن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وما في هذا من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها. قال فإن الله تعالى يقول:(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الآية. قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك خير من اختيار الله واختيار رسوله. حكاه في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث.
قال أحمد هو أعجب إليّ، وقال القاضي أبو يعلى وأصحابه وأبو محمد المقدسي في المغني والسامري في المستوعب وغيرهم، وروي الحسن (أن عمران بن حصين أحرم من مصره، أي بلده فبلغ ذلك عمر، فغضب عليه وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره. وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له) وراهما سعيد والأثرم.
وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، وعند المالكية يكره الإحرام قبل الميقات المكاني، وعند الشافعية يجوز أن يحرم قبل وصوله الميقات. وفي الأفضل قولان: الصحيح عندهم الإحرام من الميقات اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني من دويرة
أهله، وعند الحنفية يجب الإحرام من أي ميقات كان، سواء كان ميقات بلده أو غيره. والسنة عندهم أن يكون إحرامه من ميقات بلده والأفضل من دويرة أهله. لأنه من باب المبادرة إلى الطاعات والمسارعة إلى الخيرات، والفاضل عندهم كل ما قدمه على ميقاته من غير دويرة أهله قبل وصول ميقاته لكن بشرط كونه في أشهر الحج، والحرام عندهم تأخيره عن الميقات المعين لهن والمكروه عندهم تجاوز ميقاته إلى أدنى منه إذا كان في طريقه ميقاتان، ويصح الإحرام عندهم في جميع الصور الموافقة والمخالفة إلا أنه يجب في الحرام الدم، فلا يشترط لصحة الإحرام مكان ولا زمان هذا مذهبهم، والله أعلم.
ويكره عندنا أن يحرم بالحج قبل أشهره لقول ابن عباس: (من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج) رواه البخاري ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكاني، فإن أحرم بالحج قبل أشهره انعقد، ويدل لصحة إحرامه بالحج قبل أشهره قوله تعالى:(يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وكلها مواقيت للناس فكذا للحج. وقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) أي معظمه فيها كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ولا ينقلب إحرامه بالحج قبل ميقاته المكاني أو الزماني عمرة. خلافاً لما اختاره الآجري وابن حامد، نقل أبو طالب وسندي يلزمه الحج إلا أن يفسخه بعمرة فله ذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وميقات العمرة الزماني جميع العام لعدم المخصص لها بوقت دون آخر فتباح كل وقت من أوقات السنة في أشهر الحج وغيرها، فلا يكره الإحرام بها يوم النحر ولا يوم عرفة ولا أيام التشريق كالطواف المجرد، إذ الأصل الإباحة ولا دليل على الكراهة، ويأتي في صفة العمرة بيان صورة الإحرام يوم النحر، وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وسمي شوال بذلك لأن فيه يخرج
الحاج فتشول الإبل بأذنابها: أي تحركها؛ وسمي ذوي القعدة بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال، وقيل لأن موسى عليه السلام قعد فيه بطور سيناء، وقيل لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار؛ وسمي ذو الحجة بذلك لوقوع مناسكه فيه، وما قلناه من أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة هو ما رواه ابن عمر مرفوعاً وقاله جمع من الصحابة، فيوم النحر منها لأن العشر بإطلاقها للأيام كالعدة، قال تعالى:(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)، قال القاضي أبو يعلى والموفق وغيرهما: العرب تغلِّب التأنيث في العدد خاصة لسبق الليالي فتقول سرنا عشراً، وإنما فات الحج بفجر يوم النحر لخروج وقت الوقوف فقط لا بخروج وقت الحج. فإن قيل الأشهر جمع في قوله تعالى:(الحج أشهر معلومات) وأقل الجمع ثلاثة، قلنا: الجمع يطلق على اثنين كقوله تعالى: (فإن كان له إخوة) وعلى اثنين وبعض آخر كعدة ذات الأقراء قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) لأنها تشمل القرءين وبعض الثالث عند من جعل القروء الأطهار كما هو رواية عن أحمد، وهو مذهب الشافعي، أما من جعل الأقراء الحيض، كما هو الصحيح من المذهب، فلا بد من ثلاثة أقراء كاملة في العدة، والله أعلم.
يوم النحر هو يوم الحج الأكبر لحديث ابن عمر مرفوعاً (يوم النحر يوم الحج الأكبر) رواه البخاري. وعند الشافعية ميقات الحج الزماني شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة آخرها طلوع الفجر يوم العيد وليس منها يوم النحر ولا ينعقد الإحرام بالحج عندهم في غير هذه المدة، فإن أحرم به في غيرها لم ينعقد حجاً وانعقد عمرة مجزئة من عمرة الإسلام على الأصح عندهم. ولو أحرم عندهم قبل أشهر الحج إحراماً مطلقاً انعقد عمرة، وعند المالكية