الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
باب الفدية:
قال الشيخ منصور في حاشيته على الإقناع: الفداء: ما يعطي في افتكاك الأسير أو إنقاذ من هلكه، وإطلاق الفدية في محظورات الإحرام فيه إشعار بأن من أتى محظوراً منها فكأنه صار في هلكة يحتاج إلى إنقاذه منها بالفدية التي يعطيها، وسبب ذلك والله أعلم تعظيم أمر الإحرام وأن محظوراته من المهلكات لعظم شأنه وتأكد حرمته، ولم أجد من اعتنى بالتنبيه على هذا فليستفد فإنه من النفائس كذا رأيته بخط ابن نصر الله البغدادي انتهى.
والفدية مصدر فداه، يقال فداه وفاداه: أعطى فداءه، ويقال فدَّاه إذا قال له جعلت فداك، والفدية، والفداء، والفَدا، والفِدا بمعنى، إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح أوله قصر، وحكى صاحب المطلع عن يعقوب فداء ممدودا مهموزا مثلث الفاء، قال منصور: وهي مصدر فداه يفديه فداء انتهى، والفدية في الشرع: دم أو صوم أو إطعام يجب بسبب نسك كدم تمتع وقران أو يجب بسبب ترك واجب كترك الإحرام من الميقات أو الوقوف بعرفة إلى الليل لمن وقف نهاراً، وسائر الواجبات كترك المبيت بمزدلفة أو ليالي منى أو ترك رمي الجمار أو طواف الوداع، أو يجب بسبب فوات الحج بعدم وقوفه بعرفة لعذر حصر أو غيره حتى طلع فجر يوم النحر، ولم يشترط أن محلي حيث حبستني، فإن كان اشترط فلا دم عليه، أو يجب لفعل محظور من محظورات الإحرام فيه، أو يجب بسبب حرم مكة كقتل صيده وقطع حشيشه وبناته وشجره، وله تقديم الفدية على الفعل المحظور إذا احتاج إلى فعله لعذر كأن يحتاج إلى حلق ولبس وتطيب بعد وجود العذر المبيح لفعل المحظور لأنها كفارة فجاز تقديمها على وقت الوجوب
ككفارة اليمين له تقديمها على الحنث بعد عقد اليمين وكتعجيل الزكاة لحول أو حولين بعد ملك النصاب الزكوي.
والفدية على ثلاث أضرب: أحدها على التخيير وهو نوعان:
النوع الأول منهما: يخير فيه المخرج بين الصيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أقط كفطرة وكفارة، أو ذبح شاة فلا يجزئ الخبز كما لا يجزئ في الفطرة والكفارة على المذهب، واختار شيخ الإسلام إجزاء الخبز في الفدية كما اختار إجزاءه في الكفارة فيكون لكل مسكين رطلان عراقية من الخبز على القول بإجزائه كما قيل بذلك في الكفارة.
وينبغي أن يكون ما يخرجه بأدم ليكفي المساكين المؤنة على قياس الكفارة سواء أخرج الفدية خبزاً على القول بإجزائه أو أخرجها مدا من البر أو نصف صاع من غيره وإخراج الفدية مما يأكل أفضل: من بر وشعير وغيرهما كالكفارة وخروجها من خلاف من أوجبه لظاهر قوله تعالى: (مِن أوسط ما تطعمون أهليكم) .
وعند المالكية والشافعية لا يجزئ من البر إلا نصف صاع كبقية الأصناف وهو رواية عن الإمام أحمد لما في سنن أبي داود (وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) فالحديث إنما ذكر فيه التمر ويقاس عليه البر والشعير والزبيب، فالحكم ثبت في البر بطريق التنبيه أو القياس على التمر، والفرع يماثل أصله ولا يخالفه، والمذهب الرواية الأولى، قال شيخ الإسلام في الاختيارات: ويجزئ في فدية الأذى رطلاً خبز عراقية.
وينبغي أن يكون بإدام ومما يأكله أفضل؛ من بر أو شعير انتهى، والفدية التي يخيَّر فيها بين ما ذكرناه في هذا النوع الأول
هي فدية حلق أكثر من شعرتين وتقليم أكثر من ظفرين، وفدية تغطية الرأس من الذكر أو أوجه من الأنثى، وفدية اللبس والطيب، وفدية الإمناء بنظرة واحدة، والمباشرة دون الفرج بغير إنزال، وفدية الإمذاء بالمباشرة دون الفرج، وبتكرار النظر، وفدية ما إذا قبّل أو لمس بشهوة فأمذى فالواجب في ذلك كفدية الأذى يخيّر بين صيام أو صدقة أو نسك شاة لقوله تعالى:(فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)، وتجب الفدية ولو حلق أو قلّم أو لبس أو غطى رأسه أو تطيب لعذر أو غيره وهو مذهب المالكية والشافعية لقوله تعالى:(فمن كان منكم مريضا) الآية. وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجرة (لعلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه فدلت الآية والخبر على وجوب الفدية على التخيير، لأنه مدلول في حلق الرأس، وقيس عليه تقليم الأظفار واللبس والطيب لأنه يحرم في الإحرام لأجل الترفه فأشبه حلق الرأس.
(تنبيه) : المذهب أن الفدية تجب على من لبس أو غطى رأسه أو تطيب عمداً، بخلاف ما إذا كان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً كما يأتي والله أعلم.
وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا حلق من غير عذر فعليه دم من غير تخيير، اختاره ابن عقيل وهو مذهب الحنفية لأن الله سبحانه وتعالى خيَّر بشرط العذر فإذا عدم العذر زال التخيير، والمذهب الرواية الأولى لأن كل كفارة ثبت التخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه كجزاء الصيد لا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك، وإنما الشرط لجواز الحلق لا للتخيير، وتقدم حكم ما إذا قطع شعرتين أو قلّم ظفرين أو ما دونهما في باب محظورات الإحرام.
النوع الثاني: من الضرب الذي على التخيير: جزاء الصيد يخير فيه من وجب عليه بين إخراج مثل الصيد من النّعم فإن اختاره ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم ولا يجزئه أن يتصدق به حياً، لأن الله سماه هدياً، والهدي يجب ذبحه، وله ذبحه أي وقت شاء فلا يختص بأيام النحر لأن الأمر به مطلق، أو تقويم المثل بدراهم فإذا علم مثل الصيد الذي وجب عليه جزاؤه قوّم المثل لا الصيد بدراهم أو غيرها من النقود الرائجة، ويكون التقويم بالموضع الذي أتلف الصيد فيه وبقرب محل تلف الصيد، ويكون التقويم بمحل الإخراج إذا لم يكن موضع الإتلاف أو قربه، ويشتري بالنقود التي هي قيمه المثل طعاماً يجزئ في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب والأقط كواجب في فديه أذى وكفارة.
وجزم الشيخ مرعي بن يوسف في الغاية بإجزاء قوت غيره مع عدمه وما جزم به مرعي له وجه صحيح، والله أعلم.
وأن أحب أخرج من طعام مجزئ يملكه بقدر القيمة متحرياً العدل فلا يجب عليه الشراء من غيره إذا كان موجوداً عنده ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم، لأن الله تعالى ذكر في الآية التخيير بين ثلاثة أشياء وهذا ليس منها فيطعم كل مسكين من مساكين الحرم مداً من حنطة أو نصف صاع من غيرها، لأن دبل الهدي الواجب للمساكين أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً لقوله تعالى:(ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً) فعطف بأو، وهي للتخيير، قال في الإقناع وشرحه: وإن بقي من الطعام ما لا يعدل يوماً بأن كان دون طعام مسكين صام عنه يوماً كاملاً لأن الصوم لا يتبعض انتهى.
قال في المنتهى وشرحه: وإن بقي دونه صام يوما انتهى قال الخلوتي: انظر هل المراد مع إخراج ذلك الجزاء؟ وظاهر كلام الإقناع بل
صريحه أن الكلام مفروض فيما إذا صام بقدر عدد الأمداد وبقي من الطعام المعدل بالأيام أقل من مد فإنه يصوم عنه يوماً كاملا، ولا يجمع بين الصوم والإطعام، قال الشيخ عثمان النجدي على قوله في المنتهى وشرحه: وإن بقي دونه صام يوماً، يعني إذا اختار الصيام عن الإطعام فبقي ما لا يعدل طعام مسكين صام يوماً كاملاً كما لو كان الطعام عشرة أمداد بر ونصفا فيصوم أحد عشر يوماً، أما لو أحب الإطعام في الصورة المذكورة فالظاهر أنه يخرج ما معه ولا يجب عليه تكميل ولا صيام، قال في الإقناع: ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعضه انتهى كلام الشيخ عثمان، وما قاله الشيخ عثمان ظاهر لا غبار عليه، وهو مراد الأصحاب ولا يفهم من قولهم: وإن بقي دونه صام يوماً أنه إذا أطعم عشرة أمداد وبقي نصف مد صام عنه يوماً كاملاً لأنه تبيعض للجزاء وهو ممنوع يدل لذلك قوله في الإقناع وشرحه: ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعضه نص عليه لأنها كفارة واحدة فلم يجز فيها ذلك كسائر الكفارات انتهى. ومثله في شرح المنتهى، والله أعلم.
ولا يجب التتابع في هذا الصوم لعدم الدليل عليه والأمر به مطلق فيتناول الحالين وإن كان الصيد مما لا مثل له خُيّر بين أن يشتري بقيمته طعاماً يجزئ في الفطرة، وإن أحب أخرج من طعام يملكه بقدر القيمة كما تقدم فيطعمه للمساكين لكل مسكين مد بر، أي: ربع صاع أو نصف صاع من غيره من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، وبين أن يصوم عن كل طعام مسكين يوماً لتعذر المثل فيخير فيما عداه، قال الشيخ عثمان بن قائد فتكون المساكين بقدر الأمداد وأنصاف الآصع، وأيام الصوم بقدر المساكين انتهى.
الضرب الثاني: من أضرب الفدية على الترتيب، وهو على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دم المتعة والقران فيجب الهدي لقوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وقيس القارن عليه لترفهه بترك أحد السفرين كالمتمتع، بل القران أولى لأن أفعال المتمتع أكثر من أفعال القارن، والدم الذي يجب على المتمتع والقارن هو دم نسك لا دم جبران، فإن عدم المتمتع والقارن الهدي موضعه أو وجده يباع ولا ثمن معه إلا في بلده فصيام ثلاثة أيام في الحج، قيل معناه في أشهر الحج، وقيل معناه في وقت الحج ولا يلزمه أن يقترض ثمن الهدي، ولو وجد من يقرضه ويعمل بظنه في عجزه عن الهدي فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره فلهذا جاز للمعسر الانتقال إلى الصوم قبل زمان وجوب الصوم لأنه يجب بطلوع فجر يوم النحر، والأفضل أن يكون آخر الثلاثة يوم عرفة نص عليه أحمد فيصوم يوم عرفة هنا استحبابا للحاجة إلى صومه ويقدم الإحرام بالحج قبل يوم التروية الذي هو اليوم الثامن فيكون اليوم السابع من ذي الحجة محرماً فيُحرم قبل طلوع فجره وهو أولها ليصومها كلها وهو محرم بالحج، وعنه: الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية وهو اليوم الثامن ومال إليه صاحب الفروع! وروى عن ابن عمر وعائشة، فعلى هذه الرواية يُحرم قبل طلوع فجر يوم السادس ويصوم السادس والسابع والثامن ويقف بعرفات مفطراً وهذا أرفق له خصوصاً في أيام الحر فإن الوقوف بعرفة مع الصيام يشق وله تقديم الأيام الثلاثة قبل إحرامه بالحج بعد أن يحرم بالعمرة وأن يصومها في إحرام العمرة لأن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم فيه وبعد كالإحرام بالحج، ولأنه يجوز تقديم الواجب على وقت وجوبه إذا وجد سبب الوجوب وهو هنا إحرامه بالعمرة في أشهر الحج كتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين، ولا يجوز تقديم صوم الثلاثة قبل إحرام العمر لعدم وجود سبب
الوجوب كتقديم الكفارة على اليمين.
قال الخلوتي: وهل إذا صام الثلاثة قبل وقت وجوبها لعسرته ثم أيسر وقت وجوبها يلزمه هدي؟ الظاهر أنه يلزمه لأنه تبين أنه كان موسراً وقت الوجوب إذ وقت الوجوب إنما يدخل بفجر يوم النحر كما تقدم ثم رأيت في المسألة خلافا فقال ابن الزاغوني في الإقناع: يلزمه، ولعل علته ما تقدم، وقال ابن رجب: إطلاق كثير يخالفه، أي كلام ابن الزاغوني، يعني فاختيار ابن رجب: أنه لا يلزمه لأنه يلزم عليه الجمع بين البدل والمبدل منه فليحرر، وقد نقل شيخنا عبارة ابن رجب في القواعد في القاعدة الخامسة. انتهى كلام الخلوتي، ومراد الخلوتي بقوله شيخنا الشيخ منصور وعبارة ابن رجب في القواعد قال ومنها إذا كفر المتمتع بالصوم ثم قدر على الهدي وقت وجوبه فصرح ابن الزاغوني في الإقناع بأنه لا يجزئه الصوم وإطلاق الأكثرين يخالفه بل وفي كلام بعضهم تصريح به وربما أشعر كلام أحمد بذلك لأنه صوم صح فبرئت ذمته به فصادف وقت وجوب الهدي ذمته بريئة من عهدة الواجب، انتهى من القاعدة الخامسة. قلت ويأتي الكلام على هذا قريباً إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) : وقت وجوب صوم الأيام الثلاثة المذكورة في قوله جل وعلا: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) وقت وجوب الهدي وهو طلوع فجر يوم النحر على ما تقدم لأنها بدله.
(فائدة) : صوم الثلاثة بعد الإحرام بالعمرة أو في إحرام العمرة وقبل الإحرام بالحج جائز، وصومها وهو محرم بالحج أولها للسابع وآخرها التاسع سُنة فضيلة، وصومها أيام منى واجب مع أن أيام منى وهي أيام التشريق لا يجوز صومها عن تطوع ولا عن واجب إلا عن دم التمتع والقران والله أعلم، وإذا رجع إلى أهله صام سبعة أيام لقوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام في الحج وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) .
ولا يصح صوم السبعة بعد إحرامه بالحج قبل فراغه منه، لأن المراد، والله أعلم بقوله تعالى:(إذا رجعتم) يعني من عمل الحج لأنه المذكور، ولا يصح صوم السبعة في أيام منى لبقاء أعمال من الحج. ولا يصح صوم السبعة بعد أيام منى قبل طواف الزيارة لأنه قبل ذلك لم يرجع من عمل الحج، وكذا لا يصح صوم السبعة بعد طواف الزيارة وقبل السعي. وإن صام السبعة بعد الطواف والسعي صح ذلك لأنه رجع من عمل الحج، والاختيار أن يصومها إذا رجع إلى أهله، أي وطنه لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) . متفق عليه. قلت وهذا الحديث دليل واضح على أن المراد بالرجوع في الآية الكريمة الرجوع إلى أهله أي وطنه والله أعلم. وقال في المنتهى وإن صامها قبل بعد إحرامه بحج أجزأ لكن لا يصح أيام منى انتهى، يعني بذلك صيام السبعة.
قال الخلوتي قوله بعد إحرامه بحج أجزأه: أي بعد فراغه من الحج وبعد مضي أيام منى كما يأتي في قوله لكن لا يصح أيام منى كما يعلم من التقييد، ومن تفسير قوله تعالى:(وسبعة إذا رجعتم) بإذا فرغتم من أعمال الحج انتهى، قال الشيخ عثمان، وعلى هذا فهو من باب الكناية حيث أطلق صاحب المنتهى الملزوم وهو الإحرام بالحج وأراد اللازم وهو الفراغ منه وإلا فظاهره غير مراد، ولهذا اعترض الحجاوي على من عبر بذلك كالمنقح والمصنف انتهى، ومراده بالمصنف صاحب المنتهى، قال الشيخ مرعي: وكلام المنتهى هنا غير محرر انتهى، قلت ولو قال صاحب المنتهى وإن صام السبعة قبل رجوعه إلى أهل بعد فراغه من الحج أجزأ لما ورد عليه اعتراض، والله أعلم، فإن لم يصم الثلاثة قبل يوم النحر صام أيام منى كما تقدم، وهي أيام التشريق لقول
ابن عمر وعائشة: (لم يرخص في أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي) . رواه البخاري، ولأن الله تعالى أمر بصيام الأيام الثلاثة في الحج ولم يبق من الحج إلا هذه الأيام فتعين فيها الصوم، ولا دم عليه إذا صامها أيام منى لأنه صامها في الحج فإن لم يصم الثلاثة في أيام منى ولا قبلها ولو لعذر كمرض صام بعد ذلك عشرة أيام كاملة استدراكاً للواجب وعليه دم لتأخيره واجباً من مناسك الحج عن وقته كتأخير رمي جمار عن أيام منى، وكذا إن أخر الهدي عن أيام النحر لغير عذر فعليه دم لتأخير الهدي الواجب عن وقته، فإن كان لعذر كأن ضاعت نفقته فلا دم عليه وليس عليه إلا القضاء كسائر الهدايا الواجبة، فإن قيل ما الفرق بين تأخير صيام الثلاثة عن أيام منى وتأخير الهدي عن أيام النحر حيث أوجبوا في الأول بالتأخير عن أيام منى دماً ولو لعذر ولم يوجبوا في الثاني دما إذا كان التأخير عن أيام النحر لعذر؟ قيل الفرق بينهما أن صوم الثلاثة متسع وقتها لأن أوله من إحرامه بالعمرة فيندر استغراق العذر له بخلاف أيام النحر التي هي زمن الهدي فإن وقتها ليس بمتسع، والله أعلم.
قال في الإقناع وشرحه: ولا يجب تتابع ولا تفريق في صوم الثلاثة ولا في صوم السبعة ولا بين الثلاثة والسبعة إذا قضي الثلاثة أو صامها أيام منى لأن الأمر ورد بها مطلقاً، وذلك لا يقتضي جمعاً ولا تفريقاً انتهى ومثله في المنتهى.
قال الخلوتي: قوله إذا قضي، التقييد به جرى على الغالب وإلا فلو صام أيام منى عن الثلاثة صح وكان أداء، ولا يجب بينها وبين السبعة حينئذ تتابع ولا تفريق، ومما تقرر تعلم أن قوله إذا قضي راجع للثلاثة فقط، إذ السبعة لا محل لها معين حتى تقضي بفواته انتهى.
وقول الخلوتي وإلا فلو صام أيام منى عن الثلاثة صح وكان أداء، فيقال لا يفهم من عبارة الإقناع وشرحه أنه إذا صاح الثلاثة أيام منى أنها تكون قضاء لأن
صاحب الإقناع وشرحه أراد أنه إذا قضى الثلاثة بعد أيام منى ولو كان كما فهمه الخلوتي لكانت عبارة الإقناع وشرحه هكذا إذا قضي الثلاثة أو قضاها أيام منى لكنه قال أو صامها أيام منى فتدبر.
والظاهر أن محل عدم وجوب التتابع في صيام الثلاثة إذا صامها في غير أيام التشريق، أما إذا صامها فيها فإنه يجب التتابع لأنه لم يبق من الحج سوى هذه الأيام الثلاثة فتعين فيها الصوم ولم أر من نبه على ذلك، والله أعلم. ومتى وجب عليه الصوم لعجزه عن الهدي وقت وجوبه فشرع في الصوم أو لم يشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه اعتباراً بوقت الوجوب كسائر الكفارات وإن شاء انتقل عن الصوم إلى الهدي لأنه الأصل، ومعنى هذا أنه لو طلع عليه فجر يوم النحر وهو معسر ولم يصم الثلاثة ثم أيسر جاز له الصوم ولا يلزمه الهدي، فإن شاء الانتقال من الصوم إلى الهدي فله ذلك لأن الهدي هو الأصل.
قال الشيخ منصور: وإن صام قبل الوجوب لعسرته ثم قدر على الهدي وقت الوجوب فصرح ابن الزاغوني بأنه لا يجزئه الصوم، وإطلاق الأكثرين يخالفه، وفي كلام بعضهم تصريح به قاله في القاعدة الخامسة، واقتصر عليه في الإنصاف انتهى، وتقدم الكلام في هذه المسألة قريباً، قال في المنتهى وشرحه ولا يلزمه من قدر على هدي بعد وجوب صوم بأن كان بعد يوم النحر انتقال عنه أي الصوم شرع فيه أي الصوم أو فلا، اعتباراً بوقت الوجوب فقد استقر الصوم في ذمته وإن أخرج الهدي إذاً أجزأ، لأنه الأصل انتهى.
قال الخلوتي: قوله بعد وجوب صوم ظاهره أنه لو صام قبل وجوبه ثم قدر على الهدي زمن وجوب صوم وهو يوم النحر أنه يلزمه الهدي وهو ما مشى عليه ابن الزاغوني انتهى. قلت الظاهر أنه لا يلزمه الهدي إذا قدر عليه بعد صوم الثلاثة حال عسرته ولو كان صيامه قبل
وجوب صوم لأنه يلزمه منه الجمع بين البدل والمبدل منه وهو غير لازم شرعاً والله أعلم. ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به كله أو بعضه لغير عذر بأن أمكنه الصوم ولم يصم أطعم عنه لكل يوم مسكين من تركته إن كانت وإلا استحب لوليه كقضاء رمضان ولا يصام عنه لوجوبه بأصل الشرع، بخلاف النذر، وإن كان لعذر فلا إطعام عنه لعدم تقصيره ولا شيء عليه.
(تنبيه) : لا دخل للإطعام في فدية التمتع والقران إذا كان من وجبت عليه الفدية حياً وإنما الواجب عليه الهدي، فإن لم يجد فالصيام كما تقدم، والله أعلم.
النوع الثاني من الضرب الثاني: المحصر يلزمه الهدي لقوله تعالى: (فإذا أحصرتم فما استيسر من الهدي) ينحره بنية التحلل مكان الإحصار فإن لم يجد المحصر الهدي صام عشرة أيام قياساً على هدي التمتع بنية التحلل ثم حل، وليس له التحلل قبل الذبح أو الصوم، ولا إطعام في هذا النوع كما أن فدية التمتع لا إطعام فيها إذا كان من وجبت عليه حيا كما تقدم التنبيه على ذلك، ووجه قياس المحصر على المتمتع هو كون وجوب الهدي فيهما بالنص في قوله تعالى في حق المتمتع:(فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) . وفي قوله تعالى في حق المحصر: (فإن أُحصر تم فما استيسر من الهدي) .
فلما كان كذلك قاسموا ما يقوم مقامه وهو الصيام في الإحصار عند عدم الهدي على ما نص عليه في التمتع، وهو الصيام إذا لم يجد الهدي، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
قال الشيخ الفتوحي: فإن قيل لم اعتبرت النية في المحصر دون غيره؟ فالجواب إنما اعتبرت لأن من أتى بأفعال النسك أتى بما عليه فحل بإكماله فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر، فأنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقرت إلى نية. انتهى.
النوع الثالث من الضرب الثاني: فدية الوطء أو إنزال مني بمباشرة دون فرج لشهوة أو قبلة أو استمناء أو لمس أو تكرار نظر لشهوة في حج قبل التحلل الأول فتجب بذلك بدنة أو ما قام مقامها كالبقرة وسبع شياه، فإن لم يجد البدنة أو ما يقوم مقامها صام عشرة أيام. ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أي فرغ من عمل الحج كدم المتعة لقضاء الصحابة به، قاله ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر لهم مخالف في الصحابة فيكون إجماعاً. وتجب شاة إن كان الوطء في العمرة، وتقدم في الباب قبله أن الوطء يفسد النسك قبل التحلل الأول، والوطء بعد التحلل الأول، وقبل الثاني لا يفسد النسك، بل يفسد الإحرام فليعاود ذلك حيث استوفينا فيه الكلام.
قال الخلوتي في حاشته على المنتهى: ويجب بالوطء في حج قبل التحلل الأول بدنة وبعده شاة على ما تقدم فإن لم يجدها هل يصوم عشرة أيام لذلك أو تستقر في ذمته حتى يجدها؟ وهل هي كفدية الوطء في الترتيب أو كفدية الأذى في التخيير؟ الذي اختاره شيخنا الأول: وقال الخلوتي أيضا: ويجب بوطء في عمرة شاة، وإذا لم يجدها هل يصوم عشرة أيام لذلك؟ وهل هي فدية تخيير إلحاقاً لها بفدية الأذى، أو فدية ترتيب إلحاقاً لها بفدية الوطء؟ توقف فيه شيخنا، يعني الشيخ منصور ثم استظهر أنه يصوم لذلك وأنها كفيدة الوطء انتهى كلام الخلوتي، وتعقبه الشيخ عثمان بن قائد النجدي في حاشيته على المنتهى، فقال: أقول هذا البحث نشأ من الغفلة مما يأتي قريباً من قول الشارح، يعني منصوراً في شرح المنتىهى، وكذلك لو وطيء في العمرة أي فإن الواجب عليه كفدية الأذى صيام أو صدقة أو نسك، وعلى هذا فذكر المصنف، يعني الشيخ الفتوحي في المنتهى، الشاة في الوطء في العمرة مع ما هو مرتب غير ظاهر إلا أن يقال إن المقصود ذكر فدية الوطء في الحج قبل التحلل
الأول وهي مرتبة، وأما فدية العمرة فذكرت بطريق التبعية لا لكونها من هذا القسم: ولهذا لم يتعرض المصنف، يعني التوحي لما إذا لم يجد الشاة كما فعل في بدنة الحج. والحاصل أنه متى وجب في الوطء شاة في حج بعد التحلل الأول، أو في عمرة فإن الشاة لا تجب بخصوصها بل على التخيير المذكور على ما نقله الشيخ منصور في شرحه هنا وفي شرح الإقناع عن الشرح الكبير فتدبر انتهى كلام الشيخ عثمان.
قلت: ما قاله الشيخ عثمان هو صريح عباراتهم: قال في الإنصاف: ومثال فعل المباشرة الموجبة للدم كل استمتاع يوجب شاة كالوطء في العمر وبعد التحلل الأول إن قلنا به والمباشرة من غير إنزال ونحو ذلك إذا قلنا تجب شاة فحكمها حكم فدية الأذى على ما تقدم في أول الباب. وهذا أيضاً من غير خلاف جزم به الشارح وابن منجا وغيرهما انتهى، إذا تقرر هذا فما أوجب شاة كالوطء في الحج بعد التحلل الأول والوطء في العمرة فحكمها حكم فدية الأذى على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة تجزئ في الأضحية أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة، والله أعلم.
ويجب على المرأة المطاوعة مثل ذلك المذكور في الحج والعمر، ولا تجب فدية الوطء على المكرهة والنائمة لقوله عليه الصلاة والسلام:(عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولا يجب على الواطئ أن يفدي عنها وتقدم في الثامن من محظورات الإحرام.
الضرب الثالث من أضرب الفدية: الدماء الواجبة لغير ما تقدم كدم وجب لفوات الحج بعدم وقوفه بعرفة لعذر حصر أو غيره حتى طلع فجر يوم النحر ولم يشترط أن محلي حيث حبستني فإن كان اشترك فلا دم عليه، أو وجب الدم لترك واجب كترك الإحرام من الميقات أو الوقوف بعرفة إلى الليل لمن
وقف نهاراً وسائر الواجبات كترك المبيت بمزدلفة أو ليالي منى أو رمي الجمار أو طواف الوداع فيلزمه من الهدي ما تيسر كدم المتعة من حكمه وحكم الصيام بدله، أعني أنه يجب عليه دم كدم المتعة على الترتيب. فإن عدم الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع هكذا صرح في الإقناع والمنتهى وغيرهما أن الدم الواجب لفوات حج أو لترك واجب حكمه حكم دم التمتع، يعني على الترتيب، لكن صيام ثلاثة أيام في الحج إن أمكن ذلك فأما إذا لم يمكن كما إذا ترك طواف الوداع أو رمي إحدى الجمرات في أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى ليلة اليوم الثاني أو الثالث فإنه يصوم عشرة أيام بعد الحج. أما إن ترك المبيت بمنى ليلة أحد عشر فإنه يمكنه أن يصوم أيام التشريق الثلاثة، وحينئذ يكون قد صام ثلاثة أيام في الحج، والله أعلم.
قال الشيخ منصور: لكن في مسألة الفوات لا يتصور صوم الثلاثة قبل يوم النحر لأن الفوات إنما يتحقق بطلوع فجره وإنما أُلحق بدم التمتع لتركه بعض ما اقتضاه إحرامه كالمترفه يترك أحد السفرين ولم يلحق بالإحصار مع أنه أشبه به إذا هو إحلال من إحرامه قبل إتمامه، لأن البدل في الإحصار ليس منصوصاً عليه وإنما ثبت قياساً، وقياسه على الأصل المنصوص عليه أولى، على أن الهدي هنا كهدي الإحصار والصيام مثل الصيام عن دم الإحصار إلا أن التحلل في الإحصار لا يجوز إلا بعد ذبح الهدي أو الصيام بنية التحلل وهذا يجوز قبل الحل وبعده انتهى كلامه.
ومعنى كلام الشيخ منصور هذا أن الصيام ليس منصوصاً عليه في الإحصار وإنما ثبت قياساً على التمتع فألحق الفوات بدم التمتع ولم يلحق بدم الإحصار لأنهم قد جعلوا هدي التمتع أصلاً حيث كان منصوصاً عليه وعلى بدله، وهو الصيام في الآية الكريمة، وقاسوا عليه دم الإحصار كما تقدم في النوع الثاني من الضرب الثاني لأنه لم ينص
فيه على الصيام فصار كالفرع.
ولما كان الأمر كذلك قاسوا دم الفوات على الأصل المنصوص عليه وعلى بدله، وهو هدي التمت وبدله وهو الصيام، ولم يقيسوه على الفرع، وهو دم الإحصار الذي نص فيه في الآية الكريمة على الهدي فقط ولم ينص فيه على بدله وهو الصيام وإن كان الفوات أشبه بالإحصار محافظة على أولوية القياس على الأصل المنصوص عليه وعلى بدله في قوله تعالى:(فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) . الآية، والله أعلم.
وما وجب من الدماء للمباشرة في غير الفرج كالقُبلة واللمس والنظر بشهوة، فما أوجب منه بدنة وهو الذي فيه إنزال وكان قبل التحلل الأول من الحج فحكمه حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج على الترتيب فتجب البدنة أو ما يقوم مقامها، كالبقرة وسَبع شياه، فإن لم يجد ذلك صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، لأنه دم وجب بسبب المباشرة أشبه الواجب بالوطء في الفرج، وما عدا ما يوجب بدنه، بل أوجب دماً كاستمتاع لم ينزل فيه وكالوطء في العمرة وبعد التحلل الأول في الحج فإنه يوجب شاة، وحكمها حكم فدية الأذى لما في ذلك من الترفه وهي على التخيير كما تقدم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما (فيمن وقع على امرأته في العمرة قبل التقصير: عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك) . رواه الأثرم.
ففدية الأذى يجب فيها على التخيير الهدي أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، وهي صاع ونصف من البر لكل مسكين ربع صاع أو ثلاثة آصع من غيره مما يجزئ في فطرة لكل مسكين نصف صاع وتقدم شيء من ذلك في النوع الثاني من الضرب الأول من هذا الباب.
وإن كرر النظر فأمنى أو قبّل فأمنى أو لمس لشهوة فأمنى أو استمنى فأمنى وكان ذلك قبل التحلل الأول فعليه بدنة
قياساً على الوطء، فإن لم يجدها صام عشرة أ] ام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كما تقدم قريباً، وإن كرر النظر قبل التحل الأول أو بعده وقبل الثاني فأمذى أو قبَّل فأمذى أو لمس لشهوة فأمذى أو استمنى فأمذى فعليه شاة لأنه يحصل به التذاذ، أو أمنى بنظرة واحدة قبل التحلل الأول أو بعده وقبل الثاني فعليه شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كفدية الأذى لأنه فعلٌ يحصل به اللذة أوجب الإنزال أشبه اللمس، وإن لم ينزل بالنظرة الواحدة فلا شيء عليه أو أنزل علن فكر فلا شيء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم) . متفق عليه، ولأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسه على تكرار النظر لأنه دونه في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال، ويخالفه في التحريم إذا تعل بأجنبية، وفي الكراهة إذا تعلق بمباحة كصائمة فيبقى على الأصل، وأن أمذى بنظرة من غير تكرار للنظر فلا شيء عليه لمشقة الاحتراز منه أو احتلم فلا شيء عليه لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وخطأ في كل ما تقدم من المباشرة دون الفرج وتكرار النظر والتقبيل واللمس لشهوة أنزل أو أمذى أو لا كعمد في حكم الفدية كالوطء فلا تختلف الفدية بالخطأ والعمد فيه، والمرأة كالرجل مع شهوة فيجب عليها مع الشهوة ما يجب عليه لاشتراكهما في اللذة، فإن لم توجد منها شهوة فلا شيء عليها.
(مسألة) : عبارات الأصحاب صريحة في أن الاستمتاع فيما دون الفرج بلا إنزال يجب به شاة فهل تجب الشاة حتى لو لم يمذ وحتى لو كان الاستمتاع بعد التحلل الأول وقبل الثاني أو لا؟ وهل إذا كرر النظر أو قبَّل أو لمس لشهوة أو استمنى فلم ينزل ولم يمذ عليه شاة أو لا؟ وهل يفرق بين ما إذا حصل ذلك قبل التحلل الأول وبين ما إذا حصل ذلك بعد التحلل الأول وقبل الثاني أو لا؟ ينبغي
أن يحرر، فأقول وبالله التوفيق: قال في الإقناع وشرحه: وأما الاستمتاع بلا إنزال فيجب به شاة كما تقدم انتهى.
فظاهرة أن الشاة تجب على المستمتع بما دون الفرج إذا لم ينزل سواء أمذى أم لم يمذ، أما إن أنزل بالاستمتاع فعليه بدَنة إذا كان ذلك قبل التحلل الأول كما تقدم، قال في المنتهى وشرحه: وما أوجب من ذلك شاة كما لو أمذى بذلك أي المباشرة دون الفرج وتكرار النظر والتقبيل واللمس بشهوة فكفدية أذى أو باشر ولم ينزل أو أمنى بنظرة فكفدية أذى انتهى. وقال أيضاً: وخطأ في الكل، أي كل ما ذكر من مباشرة دون الفرج وتكرار نظر وتقبيل ولمس بشهوة أنزل أو أمذى أو لا، كعمد في حكم الفدية كالوطء انتهى.
قال في المغني: وروى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبد الله قبَّل عائشة بنت طلحة محرماً فسأل فأجمه له على أن يهريق دماً، والظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه لم يذكر، وسواء أمذى أو لم يمذ، وقال سعيد بن جبير: إن قبّل فأمذى أم لم يمذ فعليه دم، وسائر اللمس بشهوة كالقُبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة، قال أحمد فيمن قبض على فرج امرأته وهو محرم فإنه يهريق دم شاة، وقال عطاء: إذا قبل المحرم أو لمس فيهرق دماً إلى أن قال: فصلٌ، فإن كرر النظر حتى أمذى، فقال أو الخطاب عليه دم، وقال القاضي ذكره الخرقي قال القاضي لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس. وإن لم يقترن بالنظر مني أو مذي فلا شيء عليه سواء كرر النظر أم لم يكرره. وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد أن عليه شاة، وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعري عن اللمس ظاهراً أو على أنه أمني أو أمذي، أما مجرد النظر فلا شيء فيه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم، وكذلك أصحابه انتهى.
قال
في الشرح الكبير: إذا كرر النظر فأنلز ففيه روايتان: إحداهما عليه بدنة روى ذلك عن ابن عباس. قلت: وهو المذهب إذا كان قبل التحلل الأول في الحج، والثانية عليه شاة، وهو قول سعيد بن جبير وروى أيضاً عن ابن عباس، وقال أبو ثور لا شيء عليه وحكى عن أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمباشرة فأشبه الفكر، ولنا أنه إنزال بفعل محظور فأوجب الفدية كاللمس، وقد روى الأثرم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال له رجل (فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمتني وحدثتني حتى سبقتني الشهوة، فقال ابن عباس: تم حجك وأهرق دماً) فإن كرر النظر فأمذى فعليه شاة، وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه جزء من المني لكونه خارجاً بسبب الشهوة ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس، فإن لم يقترن به مني ولا مذي فلا شيء عليه كرر النظر أو لم يكرره، وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد أن عليه شاة وهو محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يخلو عن اللمس ظاهراً أو على أنه أمنى أو أمذى، أما مجرد النظر فلا شيء فيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه انتهى.
قلت ومن هذه العبارات التي سقناها يظهر أن المباشرة دون الفرج بقُبلة أو لمس بشهوة أو استمناء يجب فيها شاة حتى لو لم يحصل بالمباشرة مني ولا مذي ولو كان ذلك بعد التحلل الأول لبقاء التحريم وإطلاقهم وجوب الفدية ويكون حكمها حكم فدية الأذى على التخيير، وتقدم بيان الفرق بين المني والمذي فيما إذا كانت المباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول.
وأما تكرار النظر فإنه إذا لم يحصل بسببه مني ولا مذي فلا كفارة فيه إلا أنه إذا كان بشهوم يحرم ذلك على المحرم، وأما إذا أمذى بنظرة واحدة فلا شيء عليه لمشقة التحرز كما أنه لا شيء على من فكر فأنزل ولا على من احتلم، هذا ما ظهر لي من كلامهم في هذه المسألة، والله سبحانه أعلم.