المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب: محظورات الإحرام: - مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام - جـ ١

[عبد الله بن جاسر]

الفصل: ‌ باب: محظورات الإحرام:

نيل الأوطار: وقد روى موقوفاً والرفع زيادة يتعين قبولها إذا جاءت من طريق ثقة، وهي ههنا كذلك لأن الذي رفعه عبدة بن سليمان، قال الحافظ وهو ثقة محتج به في الصحيحين وقد تابعه على رفعه محمد بن بسر ومحمد بن عبيد الله الأنصاري وكذا رجح عبد الحق، وابن القطان رفعه، ورجح الطحاوي أنه موقوف وتمامه فيه، وعند الشافعية التلبية سنة وليست واجبة وفاقا لنا، وعند أبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، وعند المالكية أنها واجبة يجب بتركها دم. والله أعلم.

(تنبيه مهم جداً) : ينبغي أن يحذر الملبي في حال تلبيته من أمور يفعلها بعض الغافلين: من الضحك واللعب ونحو ذلك، وليكن مقبلاً على ما هو بصدده بسكينة ووقار وليشعر نفسه أنه يجيب ربه وبارئه سبحانه وتعالى، فإن أقبل على الله بقلبه مخلصا له في القول والعمل خائفاً من ربه راجياً له أقبل الله عليه وأثابه فإن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وإن أعرض عن الله تعالى وتعلق على غيره وارتكب شيئاً من البدع أو الفسوق أو العصيان أو الرياء أو المباهاة، أعرض الله عنه وأحبط عمله، عياذاً بالله من الخذلان، ومن نزغات الشيطان، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

--‌

‌ باب: محظورات الإحرام:

وهي ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام، وهي تسعة:(أحدها) إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بلا عذر، وسواء في ذلك العمد والنسيان والجهل، لقوله تعالى:(ولا تحلقوا رءوسكم حتى تبلغ الهدي محله) وهذا نص على

ص: 135

حلق الرأس وألحق بالحلق القلع والنتف ونحوه، وبالرأس سائر البدن لأنه في معناه؛ فإن كان للمحرم عذر من مرض أو قمل أو قروح أو صداع أو شدة حر لكثرته مما يتضرر بإبقاء الشعر أزال الشعر وفدى كما لو احتاج لأكل صيد فأكله فعليه جزاؤه لقوله تعالى:(فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ولما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعلك آذك هوامك، قال نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) . متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي لفظ مسلم:(كأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل. فقال احلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) . وكعب بن عجرة بضم العين وسكون الجيم وفتح الراء، ابن أمية البلوي، حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه آية الفدية.

وأخرج ابن سعد بسند جيد عن ثابت بن عبيد الله: أن يد كعب قطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. وتوفى بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وله في البخاري حديثان، وقصة كعب حصلت وهو محرم مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وقوله: هو أُمّك بتشديد الميم، جمع هامة بتشديدها، والمراد بها هنا القمل كما جاء ذلك صريحا عن كعب حيث قال:(كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى) . الحديث متفق عليه.

(الثاني) : من محظورات الإحرام: تقليم الأظفار لأنه إزالة جزء من بدنه تحصل به الرفاهية فأشبه إزالة الشعر إلا من عذر فيباح عند العذر كالحلق، وسواء كان التقليم من يد أو رجل أصلية أو زائدة، وسواء كان تقليما أو قصا أو نحوهما

ص: 136

وسواء في ذلك العمد والنسيان والجهل، فمن حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو قلم ثلاثة أظفار فأكثر ولو مخطئاً أو ناسياً فعليه دم شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، هذا المذهب قاله القاضي وفاقا للشافعي، وعن أحمد رواية: في أربع شعرات تكون الفدية، نقلها جماعة اختارها الخرقي، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم بدون ربع الرأس؛ لأن الربع يقوم مقام الكل وكذا في الرقبة كلها أو الإبط الواحد أو العانة، وقال مالك: إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم، ويأتي تفصيل الفدية في بابها إن شاء الله تعالى، وخصت بالثلاث لأنها جمع وألحقت حالة عدم العذر بحالة وجوده لأنها أولى بوجوب الفدية، وأما التقليم: فبالقياس على الحلق لأنه في معناه في حصول الرفاهية، وفيما دون الثلاث من الشعرات في الأظفار في كل واحد طعام مسكين، ففي شعرة واحدة طعام مسكين، وفي شعرتين طعاماً مسكينين، وفي تقليم ظفر واحد طعام مسكين، وفي ظفرين طعاما مسكينين، لأنه أقل ما وجب شرعا فدية، وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وفي قطع بعض شعرة ما في جميعها، ففي بعض الظفر أو بعض الشعرة طعام مسكين، وفي شعرتين وبعض أخرى، أو ظفرين، وبعض آخر فدية كاملة، لأنه غير مقدر بمساحة وهو يجب فيهما سواء طالا أو قصرا كالموضحة يجب المقدر فيها مع كبرها وصغرها، وإن حلق رأسه مثلاً أو قص ظفره بإذنه، فالفدية على المحلوق رأسه دون الحالق وفاقاً لمالك والشافعي، وإن حلق رأسه أو قص ظفره بلا إذنه لكنه سكت ولم ينه الحالق ولو كان الحالق محرماً فالفدية على المحلوق رأسه لأن الله تعالى أوجب الفدية بحلق الرأس مع عمله أن غيره يحلقه، ولأن الشعر أمانة عند كوديعة فإذا سكت ولم

ينه الحالق فقد فرط فيه فيضمنه، ولا شيء على الحالق ونحوه

ص: 137

ولو محرما لأنه محظور واحد فلا يوجب فديتين، ولو أكره المحرم على حلق شعر نفسه أو تقليم ظفره فحلقه أو قلمه بيده مكرها فالفدية عليه لأنه إتلاف وهو يستوي فيه من باشره طائعاً أو مكرها، وإن كان المحرم المحلوق رأسه مكرها وحلق رأسه بيد غيره أو كان نائماً وحلق رأسه فالفدية على الحالق، نص عليه وفاقا لمالك، وكذا قلم ظفره لأنه أزال ما منع من إزالته كحلق محرم رأس نفسه، ولأنه لا فعل من المحلوق رأسه كإتلاف أجنبي وديعة غيره، وقيل على المحلوق رأسه وفقا لأبي حنيفة، وللشافعي القولان. قلت حاصل ذلك أن المحرم المحلوق رأسه ونحوه له أربع صور:

الأولى: أن يحلق زيد رأس عمرو بإذن عمرو.

الثانية: أن يحلق زيد رأس عمرو مع سكوت عمرو.

الثالثة: أن يكره زيد عمرا على حلق رأس عمرو بيده، أعني بيد عمرو.

الرابعة: أن يكره زيد عمرا على حلق رأس عمرو بيد زيد أو كان عمرو نائماً وحلق زيد رأس عمرو، فالفدية في الصور الثلاث الأولى على عمرو، والفدية في الصورة الرابعة على زيد الحالق، ومثل ذلك يقال في الظفر ونحوه، والله سبحانه أعلم، ومن طيِّب غيره والغير محرم فكحالق، فإن كان بإذنه أو سكت ولم ينهه فالفدية على المفعول به، وإن كان مركها أو نائما فعلى الفاعل، ويأتي أنه لا فدية على من تطيب مركها إن شاء الله تعالى، وإن حلق محرم شعر حلال أو قلم المحرم أظفار حلال أو طيب المحرم حلالا بلا مباشر طيب أو ألبس محرم حلالا مخيطا فلا فدية على المحرم وفاقاً لمالك والشافعي لإباحة ذلك للحلال ولأنه شعر أو ظفر مباح الإتلاف، فلم يجب بإتلافه جزاء كبهيمة الأنعام، وعند أبي حنيفة يتصدق بشيء.

وحكم الرأس والبدن في إزالة الشعر، وفي الطيب وفي اللبس واحد لأنه جنس واحد لم يختلف إلا موضعه، فإن حلق شعر رأسه

ص: 138

وبدنه ففدية واحدة كما لو لبس قميصاً وسراويل أو تطيب في رأسه وبدنه أو لبس فيهما فعليه فدية واحدة لأن الحلق إتلاف هو آكد من ذلك ومع ذلك ففيه فدية واحدة فهنا أولى، وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرة أو حلق من بدنه شعرتين، ومن رأسه واحدة فعليه دم أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كما لو كانت من موضع واحد، وإن خرج في عينيه شعر فقلعه فلا شيء عليه أو نظل شعر حاجبيه فغطى عينيه فإزالة فلا شيء عليه لأن الشعر آذاه فكان له إزالته من غير فدية كقتل الصيد الصائل، بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل أو صداع أو شدة حر فتجب الفدية لأن الأذى من غير الشعر وكذا إن انكسر ظفره فقصه لأنه يؤذيه بقاؤه وكذا إن وقع بظفره مرض فأزاله أو قطع إصبعاً بظفرها أو جلدة عليها شعر فهدر لأنه زال تبعاً والتابع لا يفرد بحكم كقطع أشفار عيني إنسان يضمنها دون أهدابها أو افتصد فزال شعر فهدر وإن لم يمكن مداواة مرضه إلا بقصه قصه وفدى، قال أبو داود في مسائله لأحمد وساق بسنده إلى عطاء قال يعصر المحرم القرحة والدمل انتهى.

وإن خلل المحرم لحيته أو مشطها أو خلل رأسه أو مشطه فسقط منه شعر ميت فلا شيء عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن خلل لحيته فسقط إن كان شعراً ميتاً فلا شيء عليه انتهى، وإن تيقن أن الشعر بان بالمشط أو التخليل فدى، وتستحب الفدية مع الشك في كونه بان بمشط أو كان ميتاً احتياطاً لبراءة ذمته ولا يجب لأن الأصل عدمه، وللمحرم حك بدنه ورأسه برفق نص عليه أحمد ما لم يقطع شعراً فيحرم عليه، وللمحرم غسل رأسه وبدنه في حمام وغيره بلا تسريح، لأن تسريحه تعريضا لقطعه روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وجابر وغيرهم وفاقا لأبي حنيفة والشافعي (لأن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 139

غسل رأسه وهو محرم ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر) متفق عليه حديث أبي أيوب، واغتسل عمر وقال:(لا يزيد الماء الشعر إلا شعثاً) . رواه مالك والشافعي، وقد روي عن ابن عباس، قال ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفساً في الماء. رواه سعيد، ومعنى أباقيك أصابرك في البقاء تحت الماء ليعلم أينا أطول نفسا فيه، وكره الإمام مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه، قال في الفروع: والكراهة تفتقر إلى دليل انتهى.

قال شيخ الإسلام: وإذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق وكذلك لغير الجنابة انتهى. وللمحر غسل رأسه بسدر وخطمى وصابون وأشنان ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم: في المحرم الذي وقصته راحلته (اغسلوه بماء وسدر مع بقاء الإحرام عليه) وقيس على السدر ما يشبهه، وذكر جماعة أنه يكره وجزم به في المستوعب والموفق في المغني والشارح وابن رزين وحكاه الموفق عن أبي حنيفة ومالك والشافعي لتعرضه لقطع الشعر، وعنه يحرم والصحيح الجواز وقاله القاضي وغيره وهو ظاهر ما قدمه في الفروع، وصححه في الكافي وغيره، ومشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما، ورواية التحريم ضعيفة، والله أعلم، وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها من ذلك المرض فلا شيء عليه وتقدم وإن انكسر ظفره فأزال أكثر مما انكسر فعليه فدية ما زاد على المنكسر لعدم الحاجة إلى إزالته بخلاف المنكسر (الثالث من محظورات الإحرام) تعمد تغطية رأس الذكر إجماعاً لنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس، وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته (ولا تخمروا رأسه) والأذنان من الرأس، ومنه أيضاً النزعتان والصدغ، والتحذيف والبياض فوق الأذنين، فما كان من الرأس حرم على

ص: 140

الذكر تغطيته لأن إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، فإن غطى الرأس أو بعضه حتى أذنيه بلاصق معتاد كعمامة وخرقة وبرنس بالضم: قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعه كانت أو جبة أو غير معتاد ولو بقرطاس فيه دواء أو لا دواء فيه وكعصابة لصداع ونحوه كرمد ولو يسيراً وطين طلاه به أو بحناء أو غيره ولو بنورة حرن بلا عذر وعليه الفدية وفاقاً للأئمة الثلاثة لأنه فعل محرماً في الإحرام يقصد به الترفه أشبه حلق الرأس، فإن فعل ما تقدم من التغطية عمداً لعذر كمرض وبرد شديد جاز ذلك وعليه الفدية وفاقاً للأئمة الثلاثة: وإن كان ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء

عليه، قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد: إذا استيقظ المحرم من منامه وقد غطى رأسه فليكشفه عنه ولا شيء عليه وليفزع إلى التلبية انتهى، وإن ستره بغير لاصق بأن استظل في محمل ضبطه الجوهري وصاحب القاموس كالمجلس وعكس ابن مالك، ونحوه من هودج وعمارية ومحارة، ومثل ذلك سيارة غير مكشوفة ونحوها حرم بلا عذر وفدى لأن ابن عمر رأى على محرم عوداً يستره من الشمس فنهاه عن ذلك، رواه الأثرم واحتج به أحمد، وكذا لو استظل بثوب ونحوه راكباً ونازلاً كالمحمل، ومثله الاستظلال بالشمسية إذا جعلها فوق رأسه لا حياله كما يأتي، قال الموفق في المغني: ويروى عن الرياشي قال: رأيت أحمد بن المعدل في الموقف في يوم حر شديد وقد ضحى للشمس فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة، فأنشأ يقول:

ضحيت له كي أستظل بظله

إذا الظل أضحى في القيامة قالصا.

فوا أسفاً إن كان سعيك باطلا

ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا.

وعن الإمام أحمد رواية بجواز الاستظلال في المحمل وبالثوب ونحوه وفاقاً

ص: 141

لأبي حنيفة والشافعي فعلى هذه الرواية يجوز للمحرم الركوب في السيارة التي ليست مكشوفة وفي الطائرة وعليها يجوز له الاستظلال بالشمسية وإن كان فوق رأسه، والله أعلم. ورخص في الاستظلال بالمحمل ونحوه ربيعة والثوري، وروي ذلك عن عثمان وعطاء، ويجوز للمحرم تلبيد رأسه بعسل وصمغ ونحوه لئلا يدخله غبار أو دبيب أو يصيبه شعث لحديث ابن عمر (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) متفق عليه. ويجوز أن يحمل على رأسه شيئاً كطبق ومكتل وأن يضع يده على رأسه لأنه لا يستدام ويجوز أن ينصب بحياله أعتي بإزائه ومقابلته شيئاً يستظل به كثوب عن الحر أو البرد أمسكه إنسان أو رفعه بعود لما روت أم الحصين قالت (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) رواه أحمد ومسلم، وأجاب الإمام أحمد بأنه يسير لا يراد للاستدامة بخلاف الاستظلال بالمحمل، ومثل نصب الثوب حيال المحرم نصب الشمسية حياله فلا شيء على المستظل بها على المذهب، بخلاف ما إذا كانت فوق رأسه فقد تقدم أنه لا يجوز على المذاهب، وعلى الرواية الأخرى يجوز ولو جعلها فوق رأسه، والله أعلم، ولو استظل بخيمة أو شجرة ولو طرح عليها شيئاً يستظل به تحتها أو استظل بسقف أو جدار ولو قصد به الستر فلا شيء عليه لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة بنمرة فنزلها) رواه مسلم، ولو غطى محرم ذكر وجهه جاز ولا إثم ولا فدية، ومن خاف برداً أو استحى من عيب يطلع عليه الناس في بدنه لبس وفدي، ويأتي ذلك إن شاء الله في الرابع والسادس من محظورات الإحرام.

(فرع) إذا مات المحرم لم يبطل إحرامه فيغسل بماء وسدر أو صابون ونحوه

ص: 142

لا كافور، ويجنب الطيب وإن كان ذكراً لا يلبس مخيطاً ولا يغطي رأسه وإن كان أنثى لا يغطي وجهها ولا يؤخذ شيء من شعره أو ظفره، وإن فعل به ذلك فلا فدية على فاعله لكن ظاهر الحديث أنه يأثم لمخالفته قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) . رواه الجماعة.

وروي عدم بطلان إحرامه عن عثمان وعلي وابن عباس، وبه قال عطاء والثوري والشافعي وإسحق، وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة: يبطل إحرامه بالموت ويصنع به كما يصنع بالحلال، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر وطاوس لأنها عبادة شرعية فبطلت بالموت كالصلاة والصيام، ولنا حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته راحلته، وهو حجة قاطعة يجب المصير إليها ولا يصار إلى القياس مع وجود راحلته، وهو حجة قاطعة يجب المصير إلها ولا يصار إلى القياس مع وجود الدليل، وقد سبق في فصل الاستنابة في الحج أنه إذا توفي وقد بقي عليه بعض مناسك الحج أنها تفعل عند بعد موته، سواء كانت حجته فرضاً أو نفلا عن نفسه أو عن غيره، وهذا هو الذي مشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما، وهو المذهب، وقال البخاري في صحيحه: باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج ثم ذكر حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة، قال القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري بعد قول المصنف: بقية الحج أي كرمي الجمار والحلق وطواف الإفاضة لأن أثر إحرامه باق لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج لأنه مات قبل التمكن من أداء بقيته فهو غير مخاطب به كمن شرع في صلاة مفروضة أول وقتها فمات في أثنائها فإنه لا تبعة عليه فيها إجماعا انتهى كلام القسطلاني، وقد ذكرنا ذلك استطراداً وإلا فموضع

ص: 143

ذكره في فصل الاستنابة تقدم ويأتي في فصل ثم يفيض إلى مكة شيء من ذلك، قال شيخ الإسلام: وأما الرأس فلا يغطيه المحرم لا بمخيط ولا غيره، فلا يغطيه بعمامة ولا قلنسوة ولا كوفية ولا ثوب يلصق به ولا غيره، وله أن يستظل تحت السقف والشجر، ويستظل في الخيمة ونحو ذلك باتفاقهم، وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

يضحون، وقد رأى ابن عمر رجلاً ظلل عليه فقال أيها المحرم أضح لمن أحرمت له، ولهذا كان السلف يكرهون القباب على المحامل وهي التي لها رأس، وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا بعض النساك وهذا في حق الرجل دون المرأة، وليس للمحرم أن يلبس شيئاً مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحاجة والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطية رأسه فيلبس قدر الحاجة فإذا استغنى عنه نزع وعليه أن يفدي: إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك كشاة، وإما بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مد من بر وإن أطعمه خبزاً جاز انتهى.

الرابع: من محظورات الإحرام لُبس الذكر عمداً المخيط قلَّ اللبس أو كثر في بدنه أو بعضه مما عمل على قدر الملبوس فيه من بدن أو بعضه من قميص وعمامة وسراويل وبرنس بضمتين، وهو قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كانت أو جبة، والجمع البرانس ونحوها ولو درعاً منسوجاً أو لبداً معقوداً ونحوه مما يعمل على قدر شيء من البدن وكالخفين أو أحدهما للرجلين وكالقفازين تثنية قفاز كتفاح: شيء يعمل لليدين كما يعمل للبزاة، قال القاضي أبو يعلى وغيره: ولو كان المخيط غير معتاد كجورب في كف وخف في رأس فعليه الفدية انتهى.

ص: 144

ورانٍ، وهو شيء يلبس تحت الخف كخف، لما روى ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم؟ قال: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) رواه الجماعة، وفي رواية لأحمد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول على هذا المنبر وذكر معناه، وفي رواية للدارقطني (أن رجلاً نادى في المسجد ماذا يترك المحرم من الثياب) . قال في الفتح: وهي شاذة، يعني رواية الدارقطني، فتنصيصه على القميص يلحق به ما في معناه من الجبة والدراعة، والعمامة يلحق بها كل ساتر ملاصق أو ساتر معتاد، والسراويل يلحق بها الثياب وما في معناها، ولا فرق بين قليل اللبس وكثيره لظاهر الخبر، فإن لم يجد إزاراً لبس سراويل لقول ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: (من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين) . متفق عليه. وفي رواية عن عمرو بن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: (من لم يجد إزاراً ووجد سراويل فيلبسها، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فيلبسهما، قلت: ولم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا) .

رواه أحمد، وهذا بظاهره ناسخ لحديث ابن عمر بقطع الخفين لأنه قال بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان بالمدينة كما سبق في رواية أحمد والدارقطني، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل) . رواه أحمد ومسلم، ومثل السراويل في المنع من اللبس لو شق إزاره وشد كل نصف على ساق، لأنه في معناه ومتى وجد إزاراً خلع السراويل كالمتيمم يجد الماء، وإن اتزر المحرم

ص: 145

بقميص فلا بأس به لأنه ليس لبساً للمخيط المصنوع لمثله، وإن عدم نعلين أو وجدهما ولم يمكن لبسهما لضيق أو غيره لبس خفين ونحوهما من رانٍ وغيره كسر موزة وزر بول وكنادر بلا فدية لظاهر الخبر المتقدم، ولو وجبت لبينها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقال في شرح المنتهى: وإن وجد نعلا لا يمكنه لبسها فلبس الخف فدى نصا، قال في الإنصاف: هذا المذهب وقدم في الفروع، واختار الموفق وغيره لا فدية، وجزم به في الإقناع، انتهى كلامه في شرح المنتهى. وإذا ليس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد، وفي المنتهى والإقناع وغيرهما يحرم قطعهما لحديث ابن عباس وجابر السابقين فإنهما لم يذكرا فيهما قطع الخفين، ولقول علي: قطع الخفين فساد، ولأن الخف ملبوس أبيح لعدم غيره أشبه لبس السراويل من غير فتق عند عدم الإزار ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وقال أبو الشعثاء لابن عباس: لم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا.

رواه أحمد، وروى أيضاً عن عمر: الخفان نعلان لمن لا نعل له، وعن الإمام أحمد رواية بقطع الخفين ونحوهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، وجوَّزه جمع، قال الموفق وغيره، والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح حديث ابن عمر وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط، قال الشارح والذي قاله صحيح فعلى رواية القول بالقطع إذا لبس الخفين من غير قطع فدى وهو قول عروة بن الزبير، ومالك بن أنس، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، وأصحاب الرأي لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم. وأجيب عن ذلك بأن زيادة القطع لم يذكرها جماعة، وروى أنها من قول ابن عمر ولو سلم صحة رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهي بالمدينة، وخبر ابن عباس بعرفات، فلو كان القطع واجباً لبينه صلى الله عليه وسلم للجمع العظيم الذي لم يحضر كثير منهم كلامه في المدينة في موضع

ص: 146

البيان ووقت الحاجة. فإن قيل حديث ابن عمر فيه زيادة لفظ القطع.

قيل خبر ابن عباس وجابر فيهما زيادة حكم وهو جواز اللبس بلا قطع فيكون هذا الحكم لم يشرع بالمدينة وهذا أولى من دعوى النسخ، وبهذا يجاب عن قول الخطابي: العجب من أحمد في هذا من قوله بعدم القطع فإنه لا يخالف سنة تبلغه وقلَّت سنة لم تبلغه، وفيما قاله الخطابي شيء فإنه قد يخالف لمعارض راجح كما هو عادة المتبحرين في العلم الذين أيدهم الله بمعونته في جمعهم بين الأخبار، فإن قلنا بالترجيح أمكن ترجيح المطلق بأنه ثابت من حديث ابن عباس وجابر كما تقدم، ورواية اثنين أرجح من رواية واحد أعني عبد الله بن عمر الذي نص في حديثه على القطع والله أعلم، قال في المغني فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية وليس له لبسه نص عليه أحمد، وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرماً وفيه فدية لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعهما لعدم الفائدة فيه، وعن الشافعي كالمذهبين، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودها، ولأنه مخيط العضو على قدره فوجبت على المحرم الفدية يلبسه كالقفازين انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وإن لبس مقطوعاً من خف وغيره دون الكعبين مع وجود نعل حرم كلبس الصحيح لأن قطعه كذلك لا يخرجه عن كونه مخيطاً وفدى للبسه كذلك انتهى. قال في شرح المنتهى. وإن لبس خفاً مقطوعاً دون الكعبين مع وجود نعل حرم وفدى انتهى.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها التاسومة، فإن لم يجد نعلين لبس خفين وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولا ثم رخص بعد ذلك في

ص: 147

عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا لأنه يصير بالقطع كالنعلين ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين مثل الخف المكعب والجمجم والمداس ونحو ذلك سواء كان واجداً للنعلين أو فاقداً لهما، وإذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أن يلبس الخف ولا يقطعه، وكلك إذا لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في البدل في عرفات كما رواه ابن عباس انتهى كلامه رحمه الله. قال في الفروع: وذكر القاضي جوازه وابن عقيل في مفرداته وصاحب المحرر وشيخنا، يعني جواز لبس المقطوع مع وجود نعل: لأنه ليس بخف، وإنما أمرهم بالقطع أولا لأن رخصة البدل لم تكن شرعت لأن المقطوع يصير كنعل فإباحته أصلية، وإنما المباح بطريق البدل الخف المطلق انتهى كلام الفروع، وهو وجيه موافق لكلام شيخه شيخ الإسلام، قال في الإقناع وشرحه: ويباح للمحرم النعل لمفهوم ما سبق، وهي الحذاء وهي مؤنثة وتطلق على التاسومة ولو كانت النعل بعقب وقيد، وهو السير المعترض على الزمام انتهى. قلت مقتضى الحديث سنية لبس النعلين عند الإحرام، والله أعلم.

ولا يعقد المحرم عليه شيئاً من منطقة ولا رداء ولا غيرهما لقول ابن عمر (ولا يعقد عليه شيئاً) رواه الشافعي، وليس له أن يجعل للمنطقة والرداء ونحوهما زراً وعروة ولا يخله بشوكة أو إبرة أو خيط ولا يغرز أطرافه في إزاره فإن فعل من غير حاجة أثم وفدى لأنه كمخيط، ومثل ذلك الحزام الذي يجعل فيه رصاص البندق فإنه ممنوع لبسه على المحرم إذا زره قياساً على المنطقة التي لها زر وعروة ما لم يكن حاجة للبسه كخوف، والله أعلم.

ويجوز للمحرم شد

ص: 148

وسطه بمنديل وحبل ونحوهما إذا لم يعقده، قال الإمام أحمد في محرم حزم عمامته على وسطه لا يعقدها ويدخل بعضها في بعض لاندفاع الحاجة بذلك، قال طاوس فعله ابن عمر إلا إزاره فله عقده لحاجة ستر العورة وإلا هميانه ومنطقته اللذين فيهما نفقته إذا لم يثبتا إلا بالعقد لقول عائشة (أوثق عليك نفقتك) ، وروي عن ابن عباس وابن عمر معناه، بل رفعه بعضهم، ولأن الحاجة تدعو إلى عقدهما فجاز كعقد الإزار، فإن ثبتا بغير العقد، كما لو أدخل السيور بعضها في بعض لم يجز عقدهما إلا لحاجة وكما لو لم يكن فيهما نفقة وإن لم يكن في منطقة أو هميان نفقة لم يعقدهما، فإن عقدهما ولو كان لبسهما لحاجة أو وجع ظهر فدى كما لو لبس مخيطاً لحر أو برد، وله حمل جراب وقربة الماء في عنقه ولا فدية عليه ولا يدخل حبلها في صدره نص عليه. قلت ومثله حمل الساعة وجعل حبل الكيس في عنقه، وأما إذا جعل الساعة في ذراعه وزرها فالظاهر أنه لا يجوز قياساً على المنطقة التي لبسها لغير حاجة والله أعلم. قال شيخ الإسلام: وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده كالإزار وهميان النفقة، والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده وإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع والأشبه جوازه حينئذ، وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم؟ فيه نزاع وليس على تحريم ذلك دليل إلا ما نقل عن ابن عمر أنه كره عقد الرداء، وقد اختلف المتبعون لابن عمر فمنهم من قال هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة وغيره، ومنهم من قال كراهة تحريم انتهى كلامه. ويجوز للمحرم أن يلتحف بقميص، أعني يغطي به جسده ما عدا رأسه ويرتدي به وبرداء موصلز قال في الإقناع: ولو لبس إزاراً موصلاً أو اتشح بثوب مخيط أو اتزر به جاز انتهى لأن ذلك كله ليس بلبس للمخيط المصنوع لمثله، وقد أحرم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة في رداء فيه بضع عشرة رقعة.

ص: 149

وإذا طرح على كتفيه قباء ونحوه كعباءة فدى ولو لم يدخل يديه في كميه، هذا المذهب لما روى ابن المنذر مرفوعاً أنه نهى عن لبس الأقبية للمحرم ورواه البخاري عن علي ولأنه عادة لبسه كالقميص، وقال الخرقي في مختصره وإن طرح على كتفيه القباء فلا يدخل يديه في الكمين، قال الموفق في المغني: ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن وعطاء وإبراهيم، وبه قال أبو حنيفة، وقال القاضي وأبو الخطاب: إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه في كميه وهو مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية إذا كان عامداً كالقميص، وروى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الأقبية، ووجه قول الخرقي ما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة إن لم يجد إزاراً لبس السراويل، وإن لم يجد نعلين لبس الخفين، ولأن القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به، وقياسهم منقوض بالرداء الموصل، والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في كميه، انتهى كلام الموفق، فعلى اختيار الخرقي والموفق، ومن تقدم ذكرهم يجوز للمحرم طرح العباءة ونحوها على كتفيه من غير أن يدخل يديه في الكمين والله أعلم.

قال شيخ الإسلام: وكذلك يجوز للمحرم أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك ويتغطى به باتفاق الأئمة عرضاً ويلبسه مقلوباً يجعل أسفله أعلاه ويتغطى باللحاف وغيره لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص والبرنس والسراويل والخف والعمامة ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس فهو في معنى

ص: 150

ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان في معنى القميص فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص لا بكم ولا بغير كم، وسواء أدخل فيه يديه أو لم يدخلهما، وسواء كان سليماً أو مخروقاً، وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه وكذلك الدرع وأمثال ذلك باتفاق الأئمة، وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع، وهذا معنى قول الفقهاء لا يلبس المخيط، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، وكذلك لا يلبس ما كان في معنى الخف كالموق والجورب ونحو ذلك، ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتبان ونحو. انتهى كلامه رحمه الله.

وإذا كان به شيء من قروح أو غيرها لا يحب أن يطلع عليه أحد لبس وفدى نص عليه أحمد، ولو خاف المحرم من برد لبس وفدى كما لو اضطر إلى أكل صيد، وله لبس خاتم وتقلد بسيف لحاجة كخوف عدو ونحوه لما روى البراء بن عازب قال (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح القراب بما فيه) متفق عليه، وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد، ومنع الإمام أمد أن يتقلد بالسيف لغير حاجة، وإنما منع أحمد من تقلده لغير حاجة لأنه في معنى اللبس، وقال الموفق: القياس يقتضي إباحته لأنه ليس في معنى اللبس كما لو حمل قربة في عنقه، ولا يجوز حمل السلاح بمكة لغير حاجة، وهذا المذهب لما روى مسلم عن جابر مرفوعاً (لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة) وقال أبو داود في مسائله لأحمد وساق بسنده إلى بسطام بن مسلم قال سألت الحسن ومحمد بن سيرين عن الرجل يخرج إلى مكة ويحمل معه السلاح فلم يريا به بأساً انتهى.

قال المجد بن تيمية في المنتقي: باب المحرم يتقلد بالسيف للحاجة، عن البراء قال (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة

ص: 151

أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب) وعن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفا ولا يقيم إلا ما أحبوا فاعتمر في العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثة أيام أمروه أن يخرج فخرج) رواهما أحمد والبخاري، وهو دليل على أن للمحصر نحر هديه حيث أحصر انتهى، والقراب بكسر القاف هو وعاء يجعل فيه راكب البعير سيفه مغمداً ويطرح فيه الراكب عصاه ونحوها ويعلقه في الرحل، ففي هذين الحديثين دليل على جواز حمل السلام بمكة للعذر والضرورة فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح) فيكون هذا النهي فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة، ويخصص بهذين الحديثين أيضا عموم قول ابن عمر رضي الله عنه للحجاج بن يوسف:(حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم) . رواه البخاري.

الخامس: من محظورات الإحرام تعمد الطيب إجماعاً لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب، وقال في المحرم الذي وقصته ناقته (لا تحنطوه) متفق عليهما، ولمسلم (لا تمسوه بطيب) فيحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه وثيابه أو شيء منهما، ولو كان التطييب له في غيره بإذنه، وكذا لو سكت ولم ينهه وتقدم، وسبق حكم ما لو تطيب قبل إحرامه ثم استدامه ويحرم على المحرم لبس ما صبغ بزعفران أو ورس لحديث ابن عمر، وفيه (ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس) والورس نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الحمرة للوجه

ص: 152

قاله الجوهري، وفي القاموس: الورس نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاء وللبهق شرباً انتهى. ويحرم على المحرم لبس ما غمس في ماء وردد أو بخر بعود ونحوه كعنبر لأنه مطيب، ويحرم عليه أيضاً الجلوس والنوم على ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود أو نحوه، فإن فرش فوق الطيب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة غير ثياب بدنه فلا فدية بالنوم عليه ولا بالجلوس عليه لأنه لا يعد مستعملا له، بخلاف ثياب بدنه ولو صفيقة، ويحرم على المحرم الاكتحال بمطيب والاستعاط بمطيب والاحتقان بمطيب لأنه استعمال للطيب أشبه شمه، ويحرم على المحرم قصد شم الأدهان المطيبة كدهن ورد ودهن عود ودهن بنفسج بفتح الباء والنون والسين معرب بوزن سفرجل، شمه رطباً ينفع المحرورين وإدامة شمه ينوم نوماً صالحاً ومرباه ينفع من ذات الجنب وذات الرئة، نافع للسعال والصداع قاله في القاموس، ودهن خيري، وهو المنثور، ودهن زنبق بوزن جعفر يقال هو الياسمين قاله الشيخ موسى الحجاوي في حاشية الإقناع، وقال الشيخ منصور: والمعروف أنه غيره لكنه قريب منه في طبعه انتهى. قال في القاموس الزنبق كجعفر: دهن الياسمين وورد انتهى.

فإن فعل وقصد شم هذه المذكورات ووجد رائحة الطيب حرم وفدى، ويحرم على المحرم الإدهان بالأدهان المطيبة لأنها تقصد رائحتها وتتخذ للطيب أشبهت ماء الورد، ويحرم على المحرم شم مسك وكافور وعنبر وغالية، قال في المصباح: الغالية أخلاط من الطيب، وتغليت بالغالية وتغللت إذا تطيبت بها انتهى، وماء ورد وزعفران وورس وتبخر بعود ونحوه كعنبر لأنها هكذا تستعمل، ويحرم على المحرم أكل وشرب ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه ولو مطبوخاً أو مسته النار حتى ولو ذهبت رائحته وبقي طعمه لأن الطعم مستلزم

ص: 153

الرائحة ولبقاء المقصود منه، فإن بقي اللون فقط دون الطعم والرائحة فلا بأس بأكله لذهاب المقصود منه، وإن مس من الطيب ما لا يتعلق بيده كمسك غير مسحوق وقطع كافور وقطع عنبر وقطع عود ونحوه فلا فدية عليه بذلك، لأنه غير مستعمل للطيب، وله شم قطع العود، لأنه لا يتطبب به إلا بالتبخير، ولو شم الفواكه كلها من الأترج والبرتقال واللومي والتفاح والسفرجل والموز وغيرها، وكذا نبات الصحراء كشيح، وخزامى، وقيصوم، وإذخر، ونحوه مما لا يتخذ طيبا وكذا ما ينبته الآدمي لغير قصد الطيب كحناء وعصفر.

قال في القاموس: هو نبت يهري اللحم الغليظ وبذره القرطم انتهى. وله شم القرنفل والهيل وجعلهما في القهوة والأكل لأنهما لا يدخلان في مسمى الطيب وإنما يستعملان غالباً في الأبازير، وقد نص الفقهاء على أن القرنفل ليس من الطيب فيكون الهيل من باب أولى لأن القرنفل أفضل الأفاويه الحارة وأذكاها وأشهرها عند العرب، كما قال امرؤ القيس في معلقته المشهورة:

إذا قامتا تضوع المسك منهما

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

إذا تقرر هذا فإن الهيل لا يدخل في مسمى الطيب، والله أعلم، وله شم.

دار صيني ومن أنواعه القرفة، وشم زرنب قال في القاموس: الزرَّنب طيب أو شجر طيب الرائحة والزعفران انتهى، وللمحرم شم ما ينبته الآدامي لطيب ولا يتخذ منه طيب كريحان فارسي، وهو الحبق.

قال في القاموس: نبات طيب الرائحة فار سيَّته: الفوتنج، يشبه النمام، وحبق الماء وحبق التمساح: الفوتنج النهري، وخص الريحان الفارسي بعض العلماء بالضميران، وهو صنف من الريحان الفارسي. قال بعضهم: هو العنبج المعروف بالشام بالريحان الجمام لاستدارته على

ص: 154

الأصل واحد انتهى، وماء ريحان وفواكه والعصفر والقرنفل ونحوها كهو فيحل للمحرم استعماله، قال في الإقناع وشرحه: والريحان عند العرب هو الآس ولا فدية في شمه قطعاً قاله في المبدع انتهى، قال في شرح المنتهى: والريحان عند العرب الآس ولا فدية في شمه انتهى.

(تنبيه) : ذكر الفقهاء أن الريحان نوعان أحدهما يسمى عند العرب الآس والآخر يسمى الريحان الفارسي وهو الحبق وأنه لا فدية في شمهما، والمعروف الآن من الريحان بالديار النجدية نوع من أفخر الطيب سوى المذكورين وفيه الفدية إذا قصد المحرم شمه والله أعلم، وله شم نرجس قال في القاموس: النرجس بفتح النون وكسرها معروف نافع شمه للزكام والصداع الباردين وأصله منقوع في الحليب ليلتين يطلى به ذكر العنين فيقيمه ويفعل عجيباً انتهى، والنرجس بفتح النون وكسرها وكسر الجيم أعجمي معرّب، وله شم التمام، قال في القاموس التمام نبت طيب مدر يخرج الجنين الميت والدود ويقتل القمل وخاصته النفع من لسع الزنانير شرباً مثقالاً بسكنجبين انتهى. وله شم برم وهو ثمر العضاة كأم غبلان وهي شجر السمر، وله شم مرزجوش، قال في القاموس: بالفتح المرد قوش معرب مر رنكوش وعربيته السمسق نافع لعسر البول والمغص ولسعة العقرب والأوجاع العارضة من البرد والماليخوليا والنفخ واللقوة وسيلان اللعاب من الفم مدر جداً مجفف رطوبات المعدة والأمعاء انتهى. قال في المغني: الثاني ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والنرجس والبرم ففيه وجهان: أحدهما يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان وابن عباس والحسن ومجاهد وإسحق، والآخر يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد.

ص: 155

وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئاً، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر انتهى كلام صاحب المغني، والمذهب جواز شم المرزجوش والنرجس والبرم والريحان الفارسي كما تقدم، ويفدي المحرم بشم ما ينبته الآدمي لطيب ويتخذ منه كورد وبنفسج وخيري بكسر الخاء وتشديد الباء آخره وهو المنثور، والنيلوفر، قال في القاموس: النيلوفر ويقال النينوفر: ضرب من الرياحين ينبت في المياه الراكدة بارد في الثالثة رطب في الثانية مليِّن صالح للسعال وأوجاع الجنب والرئة والصدر، وإذا عجن أصله بالماء وطلى به البهق مرات أزاله، وإذا عجن بالزفت أزال داء الثعلب. انتهى.

ويقدي المحرم بشم ياسمين وبان قال في القاموس: البان شجر ولحب ثمره دهن طيب وحبه نافع للبرش والنمش والكلف والحصف والبهق والسعفة والجرب وتقشر الجلد طلاءً بالخل وصلابة الكبد والطحال شرباً بالخل، ومثقال منه شربا مقيء مطلق بلغماً خاصاً انتهى، ويفدي بشم الزنبق ولا فدية بادهان بدهن غير مطيب كزيت شيرج وسمن ودهن البان حتى في رأسه لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد السنجي، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد، وقد روى عنه الناس انتهى، وحديث ابن عمر هذا في إسناده المقال الذي أشار إليه الترمذي ومن عدا فرقدا فهم ثقات، وقوله: غير مقتت، قال في القاموس: زيت مقتت: طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة انتهى. قال في المغني: قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن، ونقل الأثرم جواز ذلك

ص: 156

عن ابن عباس وأبي ذر الأسود بن يزيد وعطاء والضحاك وغيرهم، ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال: الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه، فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان وهو قول عطاء والشافعي ومالك وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر، فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعاً وإنما الكراهة في الرأس خاصة، وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان، فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أم غيره إلا أن يكون مطيباً إلى أن قال: ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الطيب انتهى ملخصاً، إذا تقرر هذا فالذي عليه أكثر لأصحاب إباحة الأدهان بالزيت والشيرج والسمن والشحم ونحو ذلك إذا لم يكن فيه طيب حتى في رأسه وهو المذهب والله أعلم.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما الدهن في رأسه أو بدنه بالزيت والسمن ونحوهما إذا لم يكن فيه طيب ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى انتهى.

وإن جلس عند عطار أو جلس في موضع ليشم الطي فشمه مثل من قصد الكعبة حال تجميرها أو حمل شيئاً فيه مسك ليجد ريحه فدى إن شمه، نص عليه لأنه شمه قاصداً أشبه ما لو باشره فإن لم يقصد شمه كالجالس عند عطار لحاجة وكداخل السوق مثل السوق المسمى في مكة بسويقة، بالتصغير لا لشم طيب أو داخل الكعبة للصلاة لا لشم طيب، وكمن يشتري طيباً لنفسه أو للتجارة ولا يمسه فغير ممنوع لأنه لا يمكن الاحتراز منه ولمشتريه حمله وتقليبه إذا لم يمسه ولو ظهر ريحه لأنه لم يقصد الطيب ولم يستعمله، وقليل الطيب وكثيره سواء للعمومات، ولو قبل الحجر الأسود وشم فيه طيباً لم يضره ذلك، ما لم يقصد شم الطيب، والله أعلم.

ص: 157

(تنبيه) : إذا تطيب ناسياً أو عامداً لزمه إزالته بمهما أمكن من الماء وغيره من المائعات لأن القصد الإزالة، فإن لم يجد مائعاً يزيل به الطيب فإن يزيله بما أمكنه من الجاهدات كحكه بخرقة وتراب وورق شجر وحجر وخشب لأن الواجب إزالته حسب الإمكان وقد فعل. وله غسله بنفسه ولا شيء عليه لملاقاة الطيب لأنه تارك، والأفضل الاستعانة على غسله بحلال لئلا يباشره ويقدم غسله على غسل نجاسة وحدث، لكن إن قدر على قطع رائحته بغير الماء فعل وتوضأ بالماء لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته.

السادس من محظورات الإحرام قتل صيد البر المأكول وذبحه إجماعاً لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) واصطياده لقوله تعالى: (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حُرما) وأذاه ولو لم يقتله أو يجرحه في الاصطياد أو الأذى، وصيد البر هو ما كان وحشياً أصلاً لا وصفاً فلو تأهل كحمام وبط وظبا ضمنه اعتباراً بأصله ولا ضمان إن توحش أهلي من إبل أو بقر أو غيرهما فلا يحرم قتله للأكل ولا جزاء فيه، ويحرم قتل واصطياد متولد من المأكول وغيره كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب تغليباً للتحريم كما غلبوا تحريم أكله على الحلال، لكن يفديه المحرم إذا قتله لتحريم قتله، ويحرم قتله واصطياد متولد بين وحشي وأهلي وبين وحشي وغير مأكول لما تقدم، فحمام وبط وحشيّان وإن تأهلا وبقر وجواميس أهلية وإن توحشت اعتباراً بالأصل، وإذا أتلف المحرم صيداً أو تلف في يده أو بعضه بمباشرة أو سبب ولو بجناية دابة هو المتصرف فيها بأن كان راكباً أو سائقاً أو قائداً فعليه جزاؤه إن كان الإتلاف بيدها أو فمها لا برجلها نفحاً ولا وطئاً، ومثل ذلك سائق السيارة إذا أتلف صيداً بمباشرة أو سبب، والله أعلم.

أما كونه يضمنه بالجزاء إذا أتلفه فبالإجماع لقوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمداً

ص: 158

فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم) .

وأما كونه يضمنه إذا تلف في يديه فلأنه تلف تحت يد عادية أشبه ما لو أتلفه، إذ الواجب على المحرم إما إرساله أو رده على مالكه.

وأما ضمان جزئه بالإتلاف والتلف فلأن جملته مضمونة فضمنت أبعاضه كالآدمي والمال، وإن انفلتت الدابة منه فأتلفت صيداً أو بعضه فلا جزاء عليه، ويحرم على المحرم الدلالة على الصيد والإشارة والإعانة ولو بإعارة سلاح ليقتله أو يذبحه به سواء كان مع الصائد ما يقتله به أو لا، أو يناوله سلاحه أو سوطه أو يدفع إليه فرساً لا يقدر على أخذ الصيد إلا به لحديث أبي قتادة المتفق عليه، ويضمن المحرم الصيد بالدلالة عليه والإشارة إليه والإعانة عليه بشيء مما تقدم.

قال الشيخ عثمان بن قائد: وقد ذكروا أن من دفع لشخص آله فقتل بها شخصاً انفرد القاتل بالضمان، ولعل الفرق أن الآدمي لما كان من شأنه الدفع عن نفسه ولا يقدر عليه إلا بمزيد قوة قويت المباشرة فلم يلحق بها السبب بخلاف الصيد فإن من شأنه أن لا يدفع عن نفسه فضعفت المباشرة فألحق بها السبب. انتهى كلامه.

ولا ضمان على دال ولا مشير بعد أن رآه من يريد صيده، وكذا لو أعاره آلة لغير الصيد فاستعملها في الصيد لأن ذلك غير محرم، ولا تحرم دلالة على طيب ولباس لعدم ضمانهما بالسبب، ولا تحرم دلالة حلال محرماً على صيد بغير الحرم لأن صيد الحلال حلال بغير الحرم فدلالته أولى ويضمنه المحرم إذا قتله لقوله تعالى:(ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم) إلا أن يكون الصيد في الحرم فيشترك الحلال والمحرم في الجزاء كالمحرمين لتحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم، فإن اشترك في قتل صيد حلال ومحمر أو سبع ومحرم في الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق بالجرح الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحاً اعتباراً بحال جنايته عليه لأنه وقت

ص: 159

الضمان، وإن سبقه المحرم فجرحه وقتله الحلال أو السبع فعلى المحرم أرش جرحه فقط لأنه لم يوجد منه سوى الجرح.

قلت هكذا ذكر الأصحاب، والظاهر أن المحرم إذا جرح الصيد جرحاً لا يتمكن معه من الامتناع ولا يعيش بعده فإنه يلزمه جزاؤه كله، ولو قتله الحلال أو السبع بعد الجرح المذكور، والله سبحانه أعلم.

وإن كان جرحهما في حالة واحدة أو أحدهما بعد الآخر ومات منهما فالجزاء كله على المحرم تغليباً للوجوب، وإذا دل محرم محرماً على صيد ثم دل الآخر آخراً ثم كذلك إلى عشرة مثلاً فقتله العاشر فالجزاء على جميعهم لاشتراكهم في الإثم والتسبب في القتل، ولو دل حلالُ حلالاً على صيد في الحرم فكدلالة محرم محرماً على الصيد فيكون جزاؤه بينهما نص عليه أحمد، وإن نصب حلال شبكة ونحوها ثم أحرم، أو أحرم ثم حفر بئراً بحق كأن حفرها بداره ونحوها من ملكه أو موات أو للمسلمين بطريق واسع لم يضمن ما تلف بذلك لعدم تحريمه ما لم يكن حيلة على الاصطياد فإن كان حيلة ضمن، وإن لم يكن حفر البئر بحق كحفرها بطريق ضيق ونحوه ضمن ما تلف بها من الصيد كالآدامي إذا تلف في هذه المسألة ويحرم على المحرم أكل ما صاده هو أو غيره من المحرمين أو ذبحه أو دل عليه حلالاً أو أعانه عليه أو أشار إليه لحديث أبي قتادة المتفق عليه، ويحرم على المحرم أكل ما صيد لأجله لما في الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة وعلى المحرم الجزاء إن أكل ما صيد لأجله لأنه إتلاف منع منه بسبب الإحرام بخلاف قتل المحرم صيداً ثم يأكله فإنه يضمنه لقتله لا لأكله، نص عليه لأنه مضمون بالجزاء فلم يتكرر كما يأتي، وإن أكل المحرم بعض ما صيد لأجله ضمنه بمثله من اللحم لضمان أصله لو أكله كله بمثله من النعم ولا مشقة في ضمان البعض

ص: 160

بمثله من اللحم لجواز عدول المحرم إلى عدل البعض من طعام أو صوم، ولا يحرم على المرء أكل غير ما صيد أو ذبح له إذا لم يدل ونحوه عليه، فلو ذبح مُحِلٌ صيداً لغيره من المحرمين حرم على المذبوح له لما سبق، ولا يحرم على غيره من المحرمين، وما حرم على محرم للدلالة أو إعانة أو صيد أو ذبح له

لا يحرم على محرم غير الدال أو المعين، أو الذي صيد أو ذبح له كما لا يحرم على الحلال، وإن قتل المحرم صيداً ضمنه لقتله لا لأكله وتقدم لأنه ميتة يحرم أكله على جميع الناس كما يأتي، والميتة غير متمولة فلا تضمن، وبيض الصيد ولبنه مثله فيما سبق، ويحرم تنفير الصيد، فإن نفره فتلف أو نقص في حال نفوره ضمن التالف بمثله أو قيمته وما نقص بأرشه، وإن أتلف المحرم بيض صيد ولو بنقله فجعله تحت صيد آخر أو لم يجعله أو ترك مع بيضه بيضاً آخر فنفر أو جعل مع بيضه شيئاً فنفر الصيد عن بيضه حتى فسد البيض ضمنه بقيمته مكانه لقول ابن عباس: في بيض النعام قيمته، ويضم لبن الصيد بقيمته ولا يضمن البيض المذر ولا ما فيه فرخ ميت لأنه لا قيمة لو سوى بيض النعام فإن لقشرة قيمة فيضمنه بقيمته وإن كان مذِراً أو فيه فرخ ميت، وإن باض على فراشه أو متاعه صيد فنقل البيض برفق ففسد البيض بنقله فكجراد تفرَّش في طريقه فيضمنه، وإن كسر بيضة فخرج منها فرخ فعاش فلا شيء فيه، وإن مات بعد خروجه ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه، ففي فرخ الحمام: صغير أولاد النغم، وفي فرخ النعامة: حوار بضم الحاء المهملة صغير أولاد الإبل، وفيما عداهما قيمته لأن غيرهما من الطيور يضمن بقيمته، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم غيره ويحل للحلال، وإن كسره حلال فكلحم صيد إن كان أخذه لأجل المحرم لم يبح للمحرم أكله كالصيد الذي ذبح لأجله، وإن لم يكن الحلال أخذه لأجل المحرم أبيح للمحرم

ص: 161

كصيد ذبحه حلال لا لقصد المحرم، ولو كان الصيد مملوكاً وأتلفه المحرم ضمنه جزاء لمساكين الحرم وقيمة لمالكه لأنهما سببان مختلفان، ولا يملك المحرم الصيد ابتداء أعني ملكا متجدداً بشراء ولو بوكيله ولا باتهاب ولا باصطياد، فإن أخذه بأحد هذه الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً وتلف بيد المحرم المشتري فعليه القيمة لمالكه لأنه مقبوض بيد فاسد فيضمنه كصحيحه، وعليه الجزاء

لمساكين الحرم، وإن أخذه المحرم رهناً لم يصح، وإن تلف في يده فعليه الجزاء فقط لمساكين الحرم، ولا يضمنه لمالكه لأن صحيح الرهن لا ضمان فيه ففاسده كذلك وإن لم يتلف فعليه رده إلى مالكه لفساد العقد، فإن أرسل المحرم الصيد فعليه ضمانه لمالكه ولا جزاء فيه، وعلى المحرم رد الصيد المبيع أيضاً لمالكه لفساد العقد، ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال بخيار ولا عيب في ثمنه ولا غير ذلك، وإن رد الصيد المشتري على البائع المحرم بعيب في الصيد أو خيار للمشتري ذلك لقيام سبب الرد ثم لا يدخل في ملك المحرم لعدم أهليته لتملكه، وعلى هذا يكون أحق به فيملكه إذا حل ويلزم المحرم إرساله، ويملك المحرم الصيد بإرث لأنه أقوى من غيره ولا فعل منه، وفي معنى الإرث تنصف الصداق كأن أصدق امرأته صيداً وهو حلال ثم طلقها وهو محرم عاد نصفه عليه قهراً إذا كان الطلاق قبل الدخول، وإن أمسك المحرم صيداً حتى تحلل من إحرامه لزمه إرساله، فإن تلف الصيد قبل إرساله أو ذبحه بعد تحلله أو أمسك محرم أو حلال صيد حرم وخرج به إلى الحل ضمنه لأنه تلف بسبب كان في الإحرام أو الحرم، أو ذبح محل صيد حرم مكة ضمنه وكان الصيد ميتة في الصور المتقدمة، قال في المنتهى وشرحه: وإن أمسكه أي الصيد محرماً بالحرم أو الحل أو أمسكه حلالاً بالحرم فذبحه المحرم ولو بعد حله من إحرامه أو ذبحه ممسكه

ص: 162

بالحرم ولو بعد إخراجه من الحرم إلى الحل ضمنه وكان ما ذبح لغير حاجة أكله ميتة نصاً، ولو ذبح محل صيد حرم فكالمحرم فما لغير حاجة أكله ميتة انتهى ملخصاً.

قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى قوله فكالمحرم قال: يعني الشيخ منصوراً في الحاشية، أي فيكون ميتة انتهى.

أقول: انظر النكتة في ذكر المسألة مع اندراجها في قوله: وإن أمسكه محرماً أو حلالاً بالحرم إلى آخره وحرره، انتهى كلام الخلوتي.

قال بعض الأذكياء فيما كتبه على شرح المنتهى. أقول: نظرت فيه فظهر أن النكتة دفع توهم كون المراد من ذلك ذبح حلال أو محرم صيداً الحرم طارئاً لا أصليا انتهى.

وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم المكي بصيد لم يزل ملكه عنه فيرده من أخذه على مالكه إذا حل لاستدامة ملكه عليه ويضمنه من قتله بقيمته له لبقاء ملكه عليه، وزوال اليد لا يزيل الملك كالغصب والعارية ويلزمه إرساله في موضع فيه وإزالة يده المشاهدة عنه مثل ما إذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفصه أو مربوطاً بحبل معه ونحوه دون يده الحكيمة مثل أن يكون الصيد في بيته أو بلده أو يد نائبه الحلال في غير مكانه لأنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شيء ولا يضمنه إذا تلف بيده الحكمية، وللمحرم نقل الملك في الصيد الذي بيده الحكمية ببيع وغيره، ومن غصب الصيد من يد محرم حكمية لزمه رده إليها لاستدامتها عليه فلو تلف الصيد في يد المحرم المشاهدة قبل التمكن من إرساله بأن نفَّره ليذهب فلم يذهب لم يضمنه، وإن تمكن من إرساله فلم يرسله ضمنه، وكذا حكم من دخل الحرم بصيد، وإن أرسل الصيد إنسان من يد المحرم المشاهدة قهراً لم يضمنه.

ومن أمسك صيداً في الحل فأدخله الحرم المكي لزمه إرساله لأنه صار صيد حرم بحلوله فيه، قال في المغني: ومن ملك صيداً في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده

ص: 163

عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم.

قال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء وروى ذلك عن ابن عمر، وممن كره إدخال الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وإسحاق وأصحاب الرأي، ورخص فيه جابر بن عبد الله وسعيد بن جبير ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجاً وحل له التصرف فيه فجاز له ذلك داخل الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها.

ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام، ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه، وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم انتهى ملخصاً، أو أمسك صيداً في الحرم فأخرجه إلى الحل لزمه إرساله فإن تلف في يده ضمنه كصيد الحل في حق المحرم إذا أمسكه حتى تحلل، وإن قتل صيداً صائلا عليه دفعا عن نفسه خشية تلفها أو خشية مضرة كجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته لم يضمنه لأنه قتله لدفع شره فلم يضمنه كآدمي، أو تلف الصيد بسب تخليصه من شبع أو شبكة ونحوها ليطلقه أو أخذ الصيد محرم ليخلص من رجله خيطاً أو نحوه فتلف بذلك لم يضمنه لأن فعل أبيح لحاجة الحيوان، ولو أخذ الصيد محرم ليداويه فهو وديعة عنده فلا ضمان عليه إن تلف بلا تعد ولا تفريط لأنه محسن، وللمحرم أخذ ما لا يضر الصيد كيد متآكلة لأنه مصلحة الحيوان فإن مات بذلك لم يضمنه، وإن أزمن المحرم الصيد فعليه جزاؤه لأنه كتالف، ولا تأثير لحرم ولا إحرام في محرم الأكل غير المتولد بين مأكول وغيره تغليباً للحظر كما تقدم، ومحرَّم الأكل ثلاثة أقسام:

الأول: الفواسق وهي الحدأة بوزن عنبة والجمع حداء بحذف الهاء وحِدآن أيضاً مثل: غزلان، والغراب الأبقع وغراب البين والفأرة والحية

ص: 164

والعقرب والكلب العقور، لحديث عائشة قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، متفق عليه.

وما يباح أكله من الغربان وهو غراب الزرع أحمر الرجلين والمنقار لا يباح قتله لأنه من الصيد، قال في الفتح: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع وأفتوا بجواز أكله يعني في غير الحرم والإحرام فبقي ما عداه من الغربان ملحق بالأبقع انتهى.

ويستحب قتل الفواسق المذكورات لحديث عائشة المذكور لكن ذكر الفقهاء في كتاب الصيد أن الكلب العقور يجب قتله.

القسم الثاني: كل ما كان من طبعه الأذى وإن لم يوجد منه أذى كالأسد والنمر والذئب والفهد والبازي والصقر والشاهين والعقاب والحشرات المؤذية كالحية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث ونحوها فكل هذه يستحب قتلها في الحل والحرام.

القسم الثالث: ما لا يؤذي بطبعه كالرخم والبوم والديدان فلا تأثير للحرم ولا للإحرام فيه ولا جزاء في ذلك، قال في المبدع: ويجوز قتله، وقيل يكره وجزم به في المحرر وغيره، وقيل يحرم انتهى.

ولا بأس أن يقرد المحرم بعيره وهو نزع القراد عنه وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، وعند مالك لا يجوز، ويحرم على المحرم لا على الحلال ولو في الحرم قتل قمل لأنه يترفه بإزالته كإزالة الشعر وقتل صئبانه لأنه بيضه: من رأسه وبدنه وباطن ثوبه ويجوز من ظاهره قال القاضي أبو يعلي وابن عقيل، وظاهر كلام الموفق والشارح العموم وجزم به ابن رزين وغيره، وقدمه في الرعاية الكبرى وغيرها وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب

ص: 165

وصححه في تصحيح الفروع وهو ظاهر كلام صاحب المنتهى، ولو كان قتله للقمل وصئبانه بزئبق ونحوه فيحرم في الإحرام فقط وكذا رميه لما فيه من الترفه ولا جزاء في القمل وصئبانه إذا قتله أو رماه أشبه البعوض والبراغيث لخبر كعب، ولأنه لا قيمة له كسائر المحرم المؤذي وهذا هو الصحيح من المذهب قدمه في المغني والشرح وشرح ابن رزين وصححه في النظم وصححه في تصحيح الفروع أيضاً ومشى عليه في المنتهى والإقناع، وعن الإمام أحمد رواية يتصدق بشيء إن قلنا بحرمة قتله وفاقاً للحنفية والمالكية وجزم به في الهداية والمستوعب والمحرر والرعايتين والحاويين وغيرهم.

وعن الإمام أحمد رواية ثالثة بجواز قتل القمل للمحرم جزم بها في الوجيز والتصحيح وغيرهما، ولا يحرم بالإحرام صيد البحر والأنهار والآبار والعيون ولو كان مما يعيش في البر والبحر كالسلحفاة والسرطان ونحوهما لقوله تعالى:(أُحِل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) إلا في الحرم ولو للحلال كصيد من آبار الحرم وبركه ماجن بالنون لأنه حرمى أشبه صيد الحرم ولأن حرمة الصيد للمكان فلا فرق، وطير الماء والجراد من صيد البر فيضمن بقيمته في مكانه لأنه متلف غير مثلى، وعن الإمام أحمد رواية يتصدق بتمرة عن جرادة وروي عن ابن عمر، وقال مالك عليه جزاء الجراد بحكم حَكَمين لما رواه عن يحيى بن سعيد (أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فسأله عن جرادة قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب: تعال، فقال كعب درهم فقال عمر لكعب إنك لتجد الدراهم، لتمرة خير من جرادة، وروى أيضا عن زيد بن أسلم (أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أصت جرادة وأنا محرم فقال أطعم قبضة من طعام) وللشافعي مثله عن ابن عباس، وله أيضاً (أن عمر قال لكعب في جرادتين قتلهما ونسي إحرامه ثم ذكره فألقاهما: ما جعلت

ص: 166

في نفسك؟ قال: درهما، قال: بخ درهمان خير من مائه جرادة) فإن انفرش الجراد في طريقه فقتله بمشيه فعليه جزاؤه، وعن الإمام أحمد رواية لا يضمن الجراد لأن كعبا أفتى بأخذه وأكله وقال هو من صيد البحر، والمذهب أن الجراد يضمن بقيمته وأنه من صيد البر كما تقدم، وإن أتلف بيض طير لحاجة كالمشي عليه فعليه جزاؤه لأنه أتلفه لمنفعته أشبه ما لو اضطر إلى أكله بخلاف ما لو وقع من شجرة على عين إنسان فدفعها فانكسرت فلا ضمان عليه، وإذا ذبح المحرم الصيد وكان مضطراً فله أكله ولمن به مثل ضرورة الذابح لحاجة الأكل، وما ذبحه المحرم من الصيد ميتة في حق غير المضطر، قال المبدع: فإذا ذبحه كان ميتة ذكره القاضي، قال الشيخ منصور البهوتي وكلام صاحب الإقناع كالمنتهى يقضي أنه ميتة في حق

غير المضطر ومذكى في حق المضطر فيكون نجساً طاهراً بالنسبة إليهما وفيه نظر.

قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي في شرحه للعمدة: يمكن الجواب بأن لا نسلم أن كلام الإقناع والمنتهى يقتضي ذلك إذ الظاهر أن معنى قولهما إنه ميتة: أي كالميتة في الحل والحرمة لا من كل وجه في النجاسة، إذ المشبه لا يعطي حكم المشبه به من كل وجه، ويدل على ذكر تفريعهم على ذلك أنه لا يباح إلا لمن يباح له أكلها والله أعلم. انتهى كلاه في شرح العمدة.

وقال عثمان أيضاً في حاشيته على المنتهى معنى قوله ميتة: أي كميتة في التحريم لا في النجاسة بقرينة قولهم فلا يباح إلى آخره فيكون طاهراً في حق الجميع مباحاً في حق المضطر لا في حق غيره لأن التحريم لحرمته لا لنجاسته انتهى.

وقال الشيخ مرعي في غايته: هو ميتة نجس في حق غيره لا فق حق نفسه انتهى.

وقال الشيخ سليمان بن علي في منسكه، وكان ما ذبحه لغير حاجة أكله ميتة على جميع الناس ولحاجة أكله متية نجسة في حق غير لا في حق نفسه انتهى.

قلت ما قاله الشيخ

ص: 167

عثمان وجيه وإن كان خلاف ما ذهب إليه منصور ومرعي وسليمان، والله أعلم.

قال في المنتهى وشرحه: وكان ما ذبح لغير حاجة أكله ميتة نصاً ولو لصول عليه لأنه محرم لمعنى فيه لحق لله تعالى كذبيحة المجوسي فساواه فيه وإن خالفه في غيره، ومفهومه وإن كان لحاجة أكله فمذكى لحل فعله وقاله في الفروع توجيهاً وقال القاضي ميتة انتهى.

ونص عبارة الفروع: ويتوجه حله لكل أحد، قال منصور في حاشية المنتهى فظهر لك أن تقييده بقوله لغير حاجة أكله على بحث صاحب الفروع لكن في كالمه الآتي تبعاً للتنقيح أنه ميتة في حق غير المضطر الذابح له ومقتضاه أنه مذكى في حق الذابح وهو مخالف لكلام الأصحاب كما يعلم من الإنصاف وغيره، ويبعد جداً أو يمتنع أن يكون مذكى في حق الذابح ميتة في حق غيره انتهى ملخصاً.

وأجاب الشيخ عثمان على قول الشيخ منصور هذا بجوابه المتقدم قريباً.

قال في المنتهى وشرحه: ولمحرم احتاج إلى فعل محظور فعله ويفدي وكذا لو اضطر كمن بالحرم إذا اضطر إلى ذبح صيد فله ذبحه وأكله وهو ميتة في حق غيره فلا يباح إلا لمن يباح له أكلها: أي الميتة بأن يكون مضطراً انتهى. وقوله ميتة أي لعدم أهلية المذكى للزكاة والله أعلم.

وعند المالكية لو مات صيد البر بسهم المحرم أو كلبه أو ذبحه فإنه لا يحل لأحد تناوله، وجلده نجس كسائر أجزائه وكذا إن لم يصده بأن أمر غلامه بذبحه أو أعانه على صيد بإشارة أو مناولة سوط أو نحوه فإن يكون ميتة عندهم على كل أحد، وقالت الشافعية: لو ذبح المحرم أو الحلال في الحرم صيداً صار ميتة على الأصح فيحرم على كل أحد أكله ويصير ميتة لأنه لا يباح إلا بالتذكية وهو ليس من أهلها لقيام معنى به كالمجوسي انتهى.

قال في المغني وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي

ص: 168

والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري وأبو ثور لا بأس بأكله، قال ابن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق، وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال إلى أن قال ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي، وكذا الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال انتهى ملخصاً.

وقال أيضا: وإذا اضطر المحرم فوجد صيداً وميتة أكل الميتة وبهذا قال الحسن الثوري ومالك، وقال الشافعي وإسحاق وابن المنذر: يأكل الصيد وهذه المسألة مبنية على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة فيساوي الميتة في التحريم ويمتاز بإيجاب الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمة الإحرام فلذلك كان أكل الميتة أولى إلا أن لا تطيب نفسه بأكلها فيأكل الصيد كما لم يجد غيره انتهى كلام المغني، والذي مشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما أن المحرم يقدم أكل الميتة على الصيد، ورأيت حاشية هذا نصها فيه: إن الميتة محرمة لذاتها والصيد محرم لسبب عارض، وقولهم إن تذكية المحرم له تجعله ميتة ليس نصاً من الشارع وإنما هي كلمة فقيه لا تصح إلا من باب التشبيه، ثم إن أكل الميتة ضار في الغالب والتعرض للضرر حرام في نفسه انتهى.

قلت ويعلم الله أن لو وقعت لي هذه المسألة عياذاً بالله لقدمت أكل الصيد على الميتة وسقت الجزاء لأن نفسي لا تطيب بأكلها على ما ذكره الموفق، والله غفور رحيم.

(تتمة) تقدم أنه إذا احتاج المحرم إلى فعل محظور كلبس وحلق وأكل صيد فله فعله وعليه الفدية لحديث كعب بن عَجرة لما احتاج إلى حلق رأسه وأباح له صلى الله عليه وسلم حلقه وأوجب عليه الفدية، والباقي في معناه ولأن أكل الصيد إتلاف فوجب ضمانه كما لو اضطر إلى طعام غيره، قال الشخ محمد الخلوتي في حاشية المنتهى على قوله في المنتهى: ولمحرم احتاج إلى فعل محظور فعله ويفدي

ص: 169

هل هو عام حتى في الوطء أو لا؟ قال شيخنا منصور: الظاهر لا، لأن الكلام في المحظور غير المفسد تأمل انتهى. قلت وهو كما قال الشيخ منصور بلا إشكال والله أعلم.

السابع: من محظورات الإحرام: عقد النكاح فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره بولاية ولا وكالة، ولا يقبل للمحرم النكاح وكيله الحلال ولا تزوج المحرمة، والنكاح في ذلك كله باطل تعمَّده أو لا لما روى مسلم في صحيحه من عثمان مرفوعاً (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) وقوله لا ينكح هو بفتح الياء ولا ينكح بضم الياء وكسر الكاف معنا لا يتزوج ولا يزوج إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون محظوراً بخلاف أمته ولأن الإحرام يمنع من الوطء ودواعيه فمنع عقد النكاح كالعدة، والاعتبار بحالة عقد النكاح لا بحالة الوكالة، فلو وكل محرم حلالاً في عقد النكاح فعقده بعد حله من إحرامه صح عقده، وهل مثله لو وكل محرم محرماً في عقد النكاح فعقده الوكيل بعد حله وحل موكله من إحرامهما؟ الظاهر نعم لوقوع العقد حال حل الموكل والوكيل والله أعلم، ولو وكل حلال حلالا فعقده الوكيل بعد أن أحرم هو أو موكله فيه لم يصح العقد لما تقدم، ولو وكل حلالا حلالاً في عقد النكاح ثم أحرم الموكل لم ينعزل وكيله بإحرامه فإذا حل الموكل كان لوكيله عقد لزوال المانع، ولو وكل حلال حلالاً في عقد النكاح فعقده وأحرم الموكل فقالت الزوجة وقع العقد في الإحرام وقال الزوج وقع قبله فالقول قول الزوج لأنه يدعي صحة العقد وهي الظاهر، وهي تدعي فساده فكان القول قوله.

ثم إن طلق الزوج قبل الدخول وكان قد أقبضها نصف المهر فلا رجوع له به وإن لم يكن أقبضها فلا طلب لها به لتضمن دعواها أنها لا تستحقه لفساد العقد، وإن كان بالعكس بأن قالت

ص: 170

الزوجة وقع العقد قبل الإحرام وقال الزوج وقع في الإحرام فالقول قوله أيضاً لأنه يملك فسخه فقبل إقراره به لكن لها نصف الصداق لأن قوله لا يقبل عليها في إسقاطه لأنه خلاف الظاهر ويصح النكاح مع جهل الزوج والزوجة وقوع عقد النكاح هل كان قبل الإحرام أو فيه؟ لأن الظاهر من العقود الصحة، وإن قال تزوجتك وقد حللت وقالت بل كنت محرمة صدق، وتصدق هي في نظيرتها في العدة بأن قال الزوج: تزوجتك بعد انقضاء عدتك وقالت بل قبله ولم تمكنه من نفسها فقولها لأنها مؤتمنة على نفسها، قال الشيخ محمد الخلوتي: ومنه تعلم أن قولهم: القول قول مدعي صحة العقد ليس على إطلاقه انتهى.

وإن أحرم الإمام الأعظم لم يجز أن يتزوج لنفسه ولا لغيره بالولاية العامة ولا الخاصة، ولا أن يزوج أقاربه بالولاية الخاصة ولا أن يزوج غيرهم ممن لا ولي لها بولاية العامة كالخاصة، ويجوز أن يزوج خلفاؤه كالقضاة والأمراء إن كانوا حلالا من لا ولي له أولها لأنهم ليسوا وكلاء عنه ولأنه يجوز بولاية الحكم ما لا يجوز بولاية النسب، وأما وكيله في تزويج نحو بنته فليس له عقدة بعد إحرامه حتى يحل، وأما تزويج نوابه لنحو بناتهم وأخواتهم إذا كانوا حلالاً فصحيح لأنه لا نيابة لهم عنه فيه. وإن أحرم نائب الإمام الأعظم فكإحرام الإمام فلا يجوز أن يتزوج لنفسه ولا لغيره بالولاية العام ولا الخاصة، ولا أن يزوج أقاربه بالولاية الخاصة ولا غيرهم ممن لا ولي له بالولاية العامة كالخاصة، وتكره خِطبة محرم بكسر الخاء امرأة على نفسه وعلى غيره وخِطبة مُحِل مُحرمة كخطبة عقد النكاح بضم الخاء وهي: إن الحمد لله نحمد ونستعينه إلى آخرها، ويكره حضور المحرم وشهادته في النكاح بين حلالين.

قال الشيخ مرعي: وإلا فالشهادة في عقد فاسد حرام انتهى، قال الخلوتي في حاشيته على

ص: 171

المنتهى قوله وشهادته فيه أي شهادة المحرم عقداً من محلين لا من محرمين لأن شهادته من محرمين حرام لكونه عقداً فاسداً، وشهادة العقد الفاسد حرام انتهى.

وتباح الرجعة للمحرم وتصح لأنها إمساك كشراء أمة لوطء وغيره لورود عقد النكاح على منفعة البضع خاصة بخلاف شراء الأمة ويصح اختيار من أسلم على أكثر من أربع نسوة لبعضهن في حال الإحرام لأنه إمساك واستدامة لا ابتداء للنكاح كالرجعة وأولى، ولا فدية عليه في شيء من ذلك كله أعني جميع ما تقدم من صور عقد النكاح لأنه عقد فاسد لأجل الإحرام فلم تجب به فدية كشراء الصيد، ولا فرق فيه بين الإحرام الصحيح والفاسد.

الثامن: من محظورات الإحرام وطء يوجب الغسل وهو تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لقوله تعالى: (فمن فرض فيهنَّ الحج فلا رفث) قال ابن عباس: هو الجماع: قُبُلا كان الفرج أو دبرا، من آدمي أو غيره حي أو ميت فمن جامع في فرج أصلي قبل التحلل الأول ولو بعد الوقوف بعرفة فسد نسكهما حكاه ابن المنذر، إجماع العلماء أنه لا يفسد النسك إلا به، وفي الموطأ بلغني أن عمر وعليا وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم فقالوا ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج من قابل والهدي، ولم يعرف لهم مخالف، ولو كان المجامع ساهياً أو جاهلاً أو مكرماً نصا أو نائمة نقله الجماعة لأن من تقدم من الصحابة قضوا بفساد النسك ولم يستفصلوا، وذكر في الفصول رواية عن الإمام أحمد لا يفسد حج الناسي والجاهل والمكره ونحوهم وخرَّجها القاضي أبو يعلي في كتاب الروايتين، واختارها شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية وصاحب الفائق ابن قاضي الجبل ومال إليه ابن مفلح في الفروع وقال هذا متجه ورد ما احتج به الأصحاب وهو جديد قول الشافعي،

ص: 172

ويجب بالجماع قبل التحلل الأول في الحج بدنة لقول ابن عباس: أهد ناقة ولتهد ناقة، ويقوم مقام البدنة بقرة أو سبع شياه ولو لم تتعذر فإن لم يجد بدنة صام عشرة أيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع من أفعال الحج كدم المتعة لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك، والتحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة، وهي: طواف الإفاضة، والحلق أو التقصير، ورمي جمرة العقبة، ويأتي ذكر ذلك في موضعه إنشاء الله تعالى، ولا يفسد الإحرام بشيء من المحظورات غير الجماع قبل التحلل الأول، وعلى الواطئ والموطوءة المضي في فاسده ولا يخرجان منه بالوطء، وحكم الإحرام الذي أفسده المحرم بالجماع حكم الإحرام الصحيح فيفعل بعد الفساد كما كان يفعل قبله من الوقوف وغيره ويجتنب ما يجتنب قبل الفساد من الوطء وغيره وعليه الفدية إذا فعل محظوراً بعد الإفساد، ويقضي

من فسد نسكه بالوطء كبيراً كان أو صغيراً نصاً، واطئاً أو موطوءة، فرضاً كان الذي أفسده أو نفلا أو نذراً فوراً، قال في الغاية، وجوباً انتهى، لقول ابن عمر فإذا أدركت قابلا فحج وأهد، وعن ابن عباس مثله، وعن عبد الله بن عمرو مثله رواه الدارقطني والأثرم وزاد: وحل إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك وأهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما، وهذا كله إن كان المفسد نسكه من واطئ وموطوءة مكلفاً لأنه لا عذر له في التأخير، وإلا يكن مكلفاً بل بلغ بعد انقضاء الحجة الفاسدة قضى بعد حجة الإسلام فوراً لزوال عذره، ويصح قضاء عبد وأمة في رقهما لتكليفهما ويكون إحرام الواطئ والموطوءة في القضاء من حيث أحرما أولا بما أفسدا من الميقات أو قبله لأن الحرمات قصاص، بخلاف المحصر إذا قضي لا يلزمه الإحرام إلا من الميقات نص عليه لأن المحصر فيه لم يلزمه إتمامه وإن لم يكونا أحرما قبل

ص: 173

الميقات بل منه أو دونه إلى مكة لزمهما الإحرام من الميقات لأنه لا يحل تجاوزه بلا إحرام، وإن أفسد القضاء فوطئ فيه قبل التحلل الأول لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول كما لو أفسد قضاء صوم أو صلاة ولأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجباً في الذمة على ما كان عليه.

قال ابن الصلاح: إذا كان ما أفسده بالجماع قضاءً وجب قضاء المقضي لا القضاء فلو أحرم بالقضاء عشر مرات وأفسد الجميع لزمه قضاء واحد عن الأول وكفارة لكل واحد من العشرة انتهى.

ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت لقول ابن عباس: أهد ناقة ولتهد ناقة، وإن أكرهت المرأة فالنفقة على الزوج لأنه المفسد لنسكها فكانت عليه نفقتها كنفقة نسكه، قال في المنتهى وشرحه: ونفقة قضاء نسك مكرهة على مكرهٍ ولو طلقها لإفساده نسكها كنفقة نسكه، وقياسه لو استدخلت ذكر نائم فعليها نفقة قضائه انتهى.

قال في الإنصاف ولو طلقها وتزوجت بغيره، ويجبر الزوج الثاني على إرسالها إن امتنع ثم قال: وظاهر كلام المصنف: يعني الموفق أن زوجها الذي وطئها يجوز ويصلح أن يكون محرما لها في حجة القضاء وهو صحيح وهو ظاهر كلام الأصحاب قاله في الفروع، وقد ذكر المصنف والشيخ وابن منجا في شرحه يكون بقربها ليراعي أحوالها لأنه محرمها، ونقل ابن الحكم يعتبر أن يكون معها محرم غير الزوج قلت فيعابا بها انتهى كلام الإنصاف وتستحب تفرقتهما في القضاء وفاقاً لمالك والشافعي من الموضع الذي أصابها فيه وفاقاً للشافعي، وعنه من حيث يحرمان وفاقاً لمالك وزفر، ودليلنا ما روى ابن وهب بإسناده عن سعيد بن المسيب (أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتما حجكما ثم ارجعا وعليكما حجة

ص: 174

أخرى من قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما وتفرقا، ولا يواكل أحد كما صاحبه ثم أتما مناسككما وأهديا) وروى الأثرم عن ابن عمر وابن عباس معناه إلى أن يحلا من إحرامهما لأن التفريق خوف المحظور وقوله في الحديث (حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما) إلى آخره يعني أنهما يحرمان من المكان الذي أحرما منه وأصابها فيه قبل الميقات لما تقدم قريباً من أن إحرام الواطئ والموطوءة في القضاء من حيث أحرما أو لا بما أفسدا من الميقات أو قبله لأن الحرمات قصاص، وليس المعنى أنه إذا كان أصابها بعد أن أحرما من الميقات وجاوزاه لا يحرمان إلا من ذلك الموضع الذي أصابها فيه بعد الميقات لأنه في هذه الصورة يلزمهما الإحرام من الميقات ولو كان قبل المكان الذي أصابها فيه والله أعلم، ويحصل التفريق بأن لا يركب معها على بعير ولا يجلس معها في خبائها وما أشبه ذلك بل يكون قريباً منها فيراعى أحوالها لأنه محرمها كما سبق عن الإنصاف، قال الإمام أحمد: يتفرقان في النزول والمحمل والفسطاط وما أشبه ذلك لأنه ربما يذكر إذا بلغ الموضع فتتوق نفسه

فيواقع المحظور ففي القضاء داع بخلاف الأداء.

وقال الحنفية: لا يتفرقان لتذكر شدة المشقة بسبب لذة يسيرة فيندمان ويتحرزان انتهى. والعمرة في ذلك كالحج لأنها أحد النسكين فيفسدها الوطء قبل الفراغ من السعي كالحج قبل التحلل الأول، ولا يفسد العمرة الوطء بعد الفراغ من السعي وقبل الحلق كالوطء في الحج بعد التحلل الأول، ويجب المضي في فاسد العمرة ويجب قضاؤها فوراً كالحج ويجب عليه دم وهو شاة لنقص العمرة عن الحج، قال في المنتهى وشرحه: وعمرة وطئ فيها كحج فيفسدها وطء قبل تمام سعي لا بعده، أي السعي، وقبل حلق لأنه بعد تحلل أول، وعليه بوطئه في عمرته شاة

ص: 175

لنقص حرمة إحرامها عن الحج لنقص أركانها ودخولها فيه إذا جامعته سواء وطئ قبل تمام السعي أم بعده قبل الحلق، ولا فدية على مكرهة في وطء في حج أو عمرة لحديث (وما استكرهوا عليه) ومثلها النائمة ولا يلزم الواطئ أن يفدى عنها أي النائمة والمكرهة انتهى.

قلت: وهذا بخلاف النفقة فإن المكره يلزمه نفقة المرأة التي كرهها على الوطء كما تقدم والله أعلم، لكن إن كان المفسد لعمرته مكياً أو حصل بمكة مجاوراً أحرم للقضاء من الحل سواء كان قد أحرم بالعمرة التي أفسدها منه أم من الحرم لأن الحل هو ميقاتها، قال في الإقناع وشرحه وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها وأتمها خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها لأن الحرمات قصاص، فإن خاف فوت الحج أحرم به من مكة وعليه دم، فإذا فرغ من حجه خرج فأحرم من الميقات بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته نص عليه انتهى.

وعبارة المغني والشرح: وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته انتهى.

وعبارة الفروع: وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى فيها فأتمها فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فإذا فرغ منه أحرم بعمرة مكان التي أفسدها، وفدي بمكة لما أفسد من عمرته انتهى، وإن أفسد المفرد حجته وأتمها فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل لأنه ميقاتها، وإن أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد لما تقدم أن عمل القارن كعمل المفرد، وإن جامع المحرم بعد التحلل الأول وقبل التحلل

ص: 176

الثاني بأن رمي جمرة العقبة وحلق مثلا ثم جامع قبل طواف الإفاضة لم يفسد حجه، قارناً كان أو مفرداً أو متمتعاً لكن فسد إحرامه بالوطء فيمضي إلى الحل، التنعيم أو غيره، ليجمع بين الحل والحرم فيحرم منه ليطوف للزيارة في إحرام صحيح لأن الحج لا يتم إلا به لأنه ركن ثم يسعى إن لم يكن سعى قبل لحجه ويتحلل.

قال في المبدع: والمراد فساد ما بقي منه لا ما مضى إذ لو فسد كله لوقع الوقوف في غير إحرام، وليس هذا عمرة حقيقة، والإحرام إنما وجب ليأتي بما بقي من الحج، هذا ظاهر كلام جماعة منهم الخرقي فقول أحمد ومن وافقه من الأئمة: إنه يعتمر، يحتمل أنهم أرادوا هذا وسموه عمرة لأن هذه أفعالها وصححه في المغني والشرح، ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فيلزمه سعي وتقصير وعلى هذا نصوص أحمد وجزم به القاضي وابن عقيل وابن الجوزي ولأنه إحرام مستأنف فكان فيه طواف وسعي وتقصير كالعمرة المفردة والعمرة تجري مجرى الحج بدليل القران بينهما انتهى.

ويلزمه شاة بوطئه بعد التحلل الأولى وقبل الثاني لعدم إفساده للحج كوطء دون فرج قبل التحلل الأول بلا إنزال ولخفة الجنابة، والقارن كالمفرد لأن الترتيب للحج لا للعمرة بدليل تأخير الحلق إلى يوم النحر، فإن طاف للزيارة وحلق ولم يرم جمرة العقبة ثم وطئ ففي المغني والشرح لا يلزمه إحرام من الحل ولا دم عليه لوجود أركان الحج.

وقال في الفروع فظاهر كلام جماعة كما سبق لوجود الوطء قبل ما يتم به التحلل، والوطء بعد التحلل الأول محرم لبقاء تحريم الوطء المنافي وجوده صحة الإحرام، وقول صاحب الفروع: فظاهر كلام جماعة كما سبق، يعني من أنه يفسد إحرامه إذا لم يرم جمرة العقبة، وإن طاف للزيارة وحلق، ووافقه منصور في شرح الإقناع حيث قال فيفسد إحرامه بالوطء قبل رمي جمرة

ص: 177

العقبة انتهى، والذي يترجح عندي ما يأتي من أن إحرامه لا يفسد قال في المنتهى وشرحه: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: حلق، ورمي، وطواف إفاضة، فلو حلق وطاف ثم وطئ ولم يرم فعليه دم لوطئه ودم لتركه الرمي، وحجه صحيح انتهى.

قال في الإقناع وشرحه: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: رمي، وحلق، وطواف فلو حلق وطاف ثم واقع أهله قبل الرمي فحجه صحيح وعليه دم، فظهر من عبارة المنتهى والإقناع وشرحهما أنه لا يفسد إحرامه فلا يلزمه إحرام من الحل إذا وطئ بعد الحلق وطواف الإفاضة وقبل رمي جمرة العقبة، بخلاف ما لو وطئ بعد الحلق والرمي وقبل طواف الإفاضة فإن حجه صحيح أيضاً لكن يفسد إحرامه بالوطء فيمضي إلى الحل فيُحرم منه ليطوف للإفاضة في إحرام صحيح كما تقدم قريباً، والله أعلم.

التاسع: من محظورات الإحرام: المباشرة من الرجل للمرأة فيما دون الفرج قبل التحلل الأول بشهوة باستمناء أو قُبلة أو لمس وكذا نظر لشهوة لأنه وسيلة إلى الوطء المحرَّم فكان حراماً فإن فعل فأنزل فعليه بدنة نقله الجماعة لأنها مباشرة اقترن بها الإنزال فأوجبتها كالجماع في الفرج ولم يفسد نسكه ولا إحرامه كما هو ظاهر عباراتهم خلافاً لما ذكره الشيخ موسى الحجاوي في مختصره حيث قال: لكن يحرم من الحل لطواف الفرض، ورده شارحه الشيخ منصور فقال ظاهر كلامه أن هذا في المباشرة دون الفرج إذا أنزل، وهو غير متجه لأنه لم يفسد إحرامه حتى يحتاج لتجديده، فالمباشرة كسائر المحرمات غير الوطء، هذا مقتضى كلامه في الإقناع كالمنتهى والمقنع والتنقيح والإنصاف والمبدع وغيرها، وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطئ بعد التحلل الأول إلا أن يكون على وجه الاحتياط مراعاة للقول بالإفساد انتهى كلام منصور، فظهر من هذا أن القول

ص: 178

بفساد الإحرام بالمباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول إذا أنزل خلاف مقتضى عبارات من تقدم ذكرهم، لأن المباشرة دون الفرج استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد نسكه ولا إحرامه بها كما لو لم ينزل وكما لو لم يكن الإنزال بشهوة، والفرق بينه وبين الصوم أنه يفسده كل واحد من محظوراته، بخلاف الحج فإنه لا يفسده إلا الجماع في الفرج قبل التحلل الأول، والله أعلم.

فإن لم يجد بدنة صام عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع من أفعال الحج كدم المتعة، لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك فإن لم ينزل بالمباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول فالواجب عليه شاة كفدية الأذى، أعني أنه يخير بين ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام، ومثله في التخيير ما وجب بوطء في عمرة أو في حج بعد التحلل الأول. قلت: وهل إذا باشر دون الفرج بعد التحلل الأول وقبل الثاني يلزمه شاة كما يلزمه في الوطء في الفرج لبقاء التحريم أولا؟ الظاهر أنه يلزمه إذا أنزل، أما إذا لم يُنزل ففيه تفصيل نذكره في باب الفدية إن شاء الله تعالى.

(تنبيه) : يجب على المحرم التحفظ من محظورات الإحرام إلا في مواضع العذر التي نبهنا عليها فيما سبق، وربما ارتكب بعض الناس شيئاً من محظورات الإحرام وقال أنا أفتدي متوهماً أنه بالتزامه للفدية يتخلص من إثم المعصية وذلك خطأ صريح وجهل قبيح، فإنه يحرم عليه الفعل وإذا خالف أثم ووجبت عليه الفدية وليس الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرّم ولا رافعة لإثمه من أصله كسائر الكفارات، ومن فعل شيئاً مما يحكم بتحريمه عمداً فقد أخرج حجه عن أن يكون مبروراً.

ص: 179