الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الميقات الزماني من ابتداء شوال من أول ليلة الفطر إلى قرب فجر ليلة النحر بقدر ما يسع الإحرام والوقوف. ويمتد زمن الإحلال منه إلى انتهاء ذي الحجة وهو المشهور عندهم، وقيل إلى الحادي عشر، وقيل إلى آخر أيام الرمي، وفائدة الخلاف عندهم في تأخير طواف الإفاضة، فعلى المشهور لا يلزمه الدم إلا إذا أخره إلى المحرم، وعلى القولين الضعيفين لا يلزمه إلا إذا أخره إلى الحادي عشر أو عن أيام الرمي؛ وإنما كان ما ذكر هو المشهور عندهم للتمسك بالحقيقة في قوله تعالى:(الحج أشهرٌ معلوماتٌ) لأن أقل الجمع ثلاثة، ومعنى الآية عندهم الحج وقته أشهر معلومات بمعنى أن له التحلل في ذي الحجة بتمامه، ولا يلزمه دم إلا بدخول المحرَّم، لا بمعنى أن له أن يبتدئ الإحرام به بعد فجر النحر، فإن ذلك لم يقله مالك ولا غيره ممن يعتد به.
ويكره الإحرام عندهم بالحج قبل شوال ولكنه ينعقد، وعند الحنفية يكره الإحرام بالحج قبل أشهره مع الصحة، وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة منه يوم النحر وفاقاً للحنابلة.
--
باب:
الإحرام أول الأركان، وهو في اللغة نية الدخول في التحريم، يقال أشتى إذا دخل في الشتاء، وأربع: إذا دخل في الربيع، وأنجد: إذا دخل نجدا، وأتهم: إذا دخل تهامة، وأصبح وأمسى: إذا دخل في الصباح والمساء.
وفي الشرع: نية الدخول في النسك وإن لم يتجرد من ثيابه المحظورة على المحرم لا نيته ليحج أو يعتمر، سمي الدخول في النسك إحراماً، لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه
أشياء كانت مباحة له: من النكاح والطيب والصيد وأشياء من اللباس ونحوها.
ومنه في الصلاة (تحريمها التكبير) ويسن لمريد الإحرام أن يغتسل وفاقاً للحنفية والشافعية والمالكية ذكراً كان أو أنثى، ولو حائضاً أو نفساء، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل) . رواه مسلم. وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض، فإن رجت الحائض والنفساء الطهر قبل الخروج من الميقات استحب لهما تأخير الغسل حتى تطهراً ليكون أكمل لهما وإلا اغتسلتا قبل الطهر لما تقدم، ولأن مجاوزة الميقات بلا إحرام غير جائز على ما تقدم، ويتيمم عادم الماء لإحرامه وكذا العاجز عن استعماله لنحو مرض وفاقاً للشافعية كسائر ما يستحب له الغسل، ولا يضر حدثه بعد غسله قبل إحرامه، قال مرعي: ويتجه ولو كان الحث بجماع وحيض، وإن الطفل يغسله وليه انتهى، فعلى هذا إذا اغتسل للإحرام ثم أحدث قبل نية الإحرام فقد حصل المسنون كحدثه بعد غسل للإحرام ثم أحدث قبل نية الإحرام فقد حصل المسنون كحدثه بعد غسل الجمعة وقبل صلاتها.
وقالت الحنفية: لو اغتسل ثم أحدث ثم توضأ وأحرم لم ينل فضل الغسل لأن كماله أن يصلي به، هذا هو الراجح عندهم. وعن الإمام أحمد لا يستحب التيمم، اختاره الموفق والشارح وصاحب الفائق وابن عبدوس في تذكرته وصوّبه في الإنصاف. قال الموفق: والصحيح أن التيمم غير مسنون لأنه غسل غير واجب فلم يستحب التيمم له عند عدم الماء كغسل الجمعة. والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب شرع لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً وتغييراً انتهى. قلت وهذه الرواية هي التي تطمئن إليها النفس وإن كان المذهب خلافها والله أعلم.
قال في تنوير الأبصار للحنفية: التيمم لغسل الإحرام عند العجز عن الماء ليس بمشروع لأنه ملوث انتهى. وعند المالكية: أن من لم
يجد ماء يغتسل به للإحرام أو وجده ولكن خاف باستعماله ضرراً أو زيادته أو تأخير برء فإنه لا يتيمم للإحرام، وعند الحنفية لا يقوم التيمم مقام الغسل عند العجز عن الماء إلا لمن جاز له أن يصلي صلاة سنة الإحرام فإنه يتيمم حينئذ. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويستحب أن يغتسل للإحرام ولو كانت نفساء أو حائضاً انتهى.
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام سبق في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدين بالمسجد أربعاً ثم ترجل وادهن وليس إزاره ورداءه وخرج بين الظهر والعصر فنزل بذي الحليفة فصلي بها العصر ركعتين ثم بات بها وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر فصلى بها خمس صلوات وكان نساؤه كلهن معه وطاف عليهن تلك الليلة فلما أراد الإحرام اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول) وقد قال زيد بن ثابت (إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى ملخصا. وقال ابن القيم أيضا وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة بعد ما صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وبات بذي الحليفة ثم أهلِّ بعد صلاة الظهر من يقوم الأحد بذي الحليفة في موضع مصلاه ثم ركب ناقته واستوت به على البيداء وهو يهل ودخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الأحد صبح رابعة من ذي الحجة انتهى ملخصاً من زاد المعاد. وسن لمريد الإحرام تنظف بأخذ شعره: من حلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار، لكن محل سنية أخذ الشعر وتقليم الأظفار عند الإحرام هو فيما إذا كان في غير عشر ذي الحجة لمن يريد التضحية عن نفسه أو لمن يضحي عنه غيره تلك السنة، أما إذا أراد أن يضحي عن نفسه أو علم أن أحداً يضحي
عنه فإنه يحرم عليه إذا دخل عشر ذي الحجة أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته حتى يضحي أو يضحَّى عنه، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك في باب الأضحية: وسن له أيضا قطع رائحة كريهة كالجمعة ولأن الإحرام يمنع أخذ الشعر والأظفار فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه فيه، قال إبراهيم كان يستحبون ذلك ثم يلبسون أحسن ثيابهم رواه سعيد.
ويسن لمريد الإحرام أن يتطيب ولو امرأة غير محدة لحرمة الطيب عليها في بدنه سواء كان الطيب مما تبقى عينه كالمسك أو أثره كالعود والبخور وماء الورد، لقول عائشة رضي الله عنها (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف البيت) رواه البخاري. وقالت:(كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) متفق عليه. والوبيص بفتح الواو وكسر الموحدة آخره صاد مهملة: هو بريق أثره ولمعانه، قال الإسماعيلي كما نقله القسطلاني: الويبص زيادة على البريق والمراد به التلألؤ قال وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط انتهى.
قال شيخ الإسلام وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس انتهى.
ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام خضاب بحناء لحديث ابن عمر: (من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء) ولأنه من الزينة أشبه الطيب. ويكره لمريد الإحرام تطييبه ثوبه الذي يريد الإحرام فيه وهو إزاره ورداؤه، فإن طيبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له لبسه والطيب فيه، لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة، فإن نزعه وأثر الطيب باق لم يغسله حتى يذهب فدى لاستعماله الطيب، أو نقل
الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر أو تعمد مسه بيده فعلق الطيب بها أو نحى الطيب عن موضعه ثم رده إليه بعد إحرامه فدى لأنه ابتداء للطيب، فإن ذاب الطيب بالشمس أو بالعرق، فسال إلى موضع آخر من بدن المحرم فلا شيء عليه لحديث عائشة قالت:(كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها) . رواه أبو داود. ومذهب الشافعية في الطيب عند الإحرام كمذهب الحنابلة. وعند الحنفية يستحب لمن أراد الإحرام أن يدَّهن ويتطيب، وبما لا يبقى أثره من الطيب أفضل: ويستحب عندهم بالمسك وإذهاب جرمه بماء الورد ونحوه من الماء السافي، والأولى عندهم أن لا يطيب ثيابه، وعند المالكية يكره لمريد الإحرام أن يتطيب، واحتجوا بحديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يعني ساعة، ثم قال:(اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) متفق عليه، ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع عندهم من استدامته، وحجة الأئمة الثلاثة ما تقدم من الأحاديث عن عائشة، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين والجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر: أي فهو ناسخ انتهى.
ويتجرد مريد الإحرام عن المخيط إن كان ذكراً لأنه عليه الصلاة والسلام تجرد لإهاله، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والتجرد من اللباس واجب في الإحرام وليس شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتفاق الأئمة أهل العلم، وعليه أن
ينزع اللباس المحظور انتهى. وعند الحنفية التجرد مستحب وليس بواجب قبل الإحرام حتى لو أحرم وهو لابس للمخيط ينعقد ويكره، وعند المالكية التجرد عن المخيط واجب. واختلف كلام الشافعية في ذلك، فعند النووي في منسكه أن التجرد سنة، والذي مشي عليه النووي في المجموع كالرافعي في العزيز أنه واجب. ويسن لمن يريد الإحرام أن يلبس ثوبين أبيضين لحديث (خير ثيابكم البياض) رواه النسائي، ويجوز الإحرام في غير البياض بلا خلاف، وفي الحديث (إن موسى بن عمران عليه السلام أحرم بعباءة قطوانية) وهي العباءة المخططة.
قال شيخ الإسلام: ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كان أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف، والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض وغيره من الألوان الجائزة وإن كان ملوناً انتهى.
ويسن أن يكونا نظيفين كما تقدم لأنه يستحب له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه، والثوبان اللذان يحرم فيهما إزار ورداء، سواء كان جديدين أو غسيلين، فالرداء على كتفه والإزار في وسطه لما روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً:(ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن المنذر ثبت ذلك ويجوز إحرامه في ثوب واحد، وفي التبصرة بعضه على عاتقه، ويسن لمريد الإحرام أن يلبس نعلين لما تقدم من الخبر، والنعلان هما التاسومة، ولا يجوز له لبس سرموزة ونحوها إن وجد النعلين، وللمرأة لبس المخيط في الإحرام إلا القفازين، والمراد بالمخيط هو كل ما يخاط على قدر المبلوس عليه كالقميص والسراويل والبرنس والقباء والدرع ونحوه مما يصنع من لبد ونحوه وإن لم يكن فيه خياطة، ولو لبس إزاراً موصلاً أو اتشح بثوب مخيط
أو اتزر به جاز لأن ذلك ليس لبساً للمخيط المصنوع على قدر الملبوس عليه لمثله، وعند المالكية والشافعية والحنفية يسن أن يلبس المحرم إزاراً ورداء ونعلين وأن يكون الإزار والرداء أبيضين نظيفين جديدين أو خلقين وفاقاً لمذهب الحنابلة.
قال الإمام مالك رحمه الله: عندي ثوب قد أحرمت فيه حججا ما غسلته، قال بعض علماء المالكية يريد مالك بذلك أنه لا يشترط في ثوبي الإحرام أن يكونا جديدين بل يجوز له أن يلبس في حال إحرامه غير الجديد ولو كان خلقاً أو وسخاً ولا يلزمه غسله حيث كان طاهراً ولكن الأولى غسله حيث كان وسخاً لأن النظافة من الإيمان، ويحمل قول مالك عندي ثوب إلى آخره على أنه غير وسخ ولو كان وسخاً لغسله، كيف لا؟ وهو إمام دار الهجرة فكلامه يدل على جواز الإحرام في غير الجديد ولو لم يغسله انتهى.
(فائدتان: الأولى) لا يضطبع حال الإحرام وإنما يسن الاضطباع حال الطواف فقط خلافاً لما توهمه العوام من أن الاضطباع في جميع أحوال الإحرام.
(الثانية) : قال البخاري رحمه الله في صحيحه، وقال إبراهيم النخعي: لا بأس أن يبدل ثيابه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح أي بغير المحرم ثيابه ما شاء، وفي رواية ابن أبي شيبه أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه قال سعيد: وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم فدخلوا مكة انتهى.
قال أبو داود في مسائله عن الحسن إنه كان لا يرى بأساً أن يظاهر المحرم بما شاء من الأزر والأردية ويبدل ثيابه التي أحرم فيها بغيرها من الثياب. انتهى.
قالت المالكية: له أن يبيت في غير الثوب الذي أحرم فيه وله أن يبدل ثوبه وإن كان لقملٍ آذاه وأن يبيعه. انتهى. ويسن إحرامه عقب صلاة فرض أو نفل ندباً نص عليه لأنه صلى الله
عليه وسلم أهلَّ في دبر صلاة. رواه النسائي، وإحرامه عقب الصلاة أولى، وإن شاء أحرم إذا ركب، وإن شاء أحرم إذا سار قبل مجاوزة الميقات، لورود ذلك كله عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يركعهما وقت نهى ولا من عدم الماء والتراب لحديث (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ولا يركعهما من عجز عن استعمال الماء والتراب لقروح لا يستطيع معها مس البشرة لفقد شرطه، قال في الفروع: ويتوجه انه يستحب أن يستقبل القبلة عند إحرامه صح عن ابن عمر انتهى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: يستحب أن يحرم عقيب صلاة إما فرضاً وإما تطوعاً إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضاً أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح انتهى.
قال ابن القيم رحمه الله: وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهلّ أيضا ثم أهلّ لما استقلت به على البيداء، قال ابن حزم كان ذلك قبل الظهر بيسير وهذا وهم منه، والمحفوظ أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر ولم يقل أحد قط إن إحرامه كان قبل الظهر ولا أدري من أين له هذا؟ وقد قال ابن عمر:(ما أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره) وقد قال أنس (إنه صلى الظهر ثم ركب) والحديثان في الصحيح، فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر انتهى ملخصا.
قال أبو محمد في المغني: والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال (ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به الراحلة وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى
علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين علا البيداء) . رواه أبو داود والأثرم، وهذا لفظ الأثرم، وهذا فيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه انتهى. وعند الحنفية يصلي ركعتين بعد اللبس ينوي بهما سنة الإحرام يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص ولا يصليهما وقت نهى، ولو أحرم بغير صلاة جاز إحرامه وكره، فإذا سلم فالأفضل أن يحرم وهو جالس مستقبل القبلة في مكانه، وعند الشافعية يصلي ركعتين ينوي بهما سنة الإحرام يقرأن فيهما بعدد الفاتحة سورتي الإخلاص، فإن أحرم بعد فريضة أغنته عن ركعتي الإحرام ولو صلاهما منفردتين عن الفريضة كان أفضل، فإن كان الإحرام في وقت كراهة الصلاة لم يصلهما على الأصح عندهم، وفي الأفضل من وقت الإحرام قولان للشافعي: أحدهما أن يحرم عقب الصلاة وهو جالس. والثاني أن يحرم إذا ابتدأ السير راكباً أو ماشياً، وهذا هو الصحيح عندهم.
ويستحب أن يستقبل القبلة عند الإحرام هذا مذهبهم، وعند المالكية يسن لمريد الإحرام أن يركع ركعتين إن كان متوضئاً وإلا بأن لم يجد ماء تيمم وركعهما، ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص، فإن كان وقت نهي انتظر وقت الجواز إلا أن يخاف فوات الرفقة فيحرم بغير صلاة، فإن أحرم بعد صلاة فريضة أغنته عن ركعتي الإحرام، والأفضل عندهم تخصيصه بركعتين فإذا استوى راكباً أحرم وإن كان ماشيا فحين يشرع في المشي هذا ملخص مذهبهم، ولا ينعقد الإحرام إلا بالنية فهي شرط فيه، فإن قيل قد سبق أن الإحرام هو نية النسك فكيف يقال لا تنعقد النية إلا بالنية، وأن النية شرط في النية مع أنه يؤدي إلى التسلسل، وأما التجرد فليس ركناً ولا شرطا في النسك، قلنا لما كان التجرد هيئة تجامع نية النسك ربما أطلق الإحرام عليها فاحتيج إلى التنبيه، على أن تلك الهيئة ليست كافية
بنفسها بل لا بد معها من النية وأنها لا تفتقر إلى غيرها من تلبية أو سوق هدي كما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا يكون الرجل محرماً بمجرد ما في قلبه من قص الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، هذا هو الصحيح من القولين انتهى.
وعند الشافعية صفة الإحرام أن ينوي بقلبه الدخول في الحج والتلبس به، وإن كان معتمراً نوى الدخول في العمرة، وإن كان قارنا نوى الدخول في الحج والعمرة، والواجب أن ينوي هذا بقلبه ولا يجب التلفظ به ولا التلبية ولكن الأفضل أن يتلفظ به بلسانه وأن يلبي.
وعند المالكية حقيقة الإحرام نية النسك، وينعقد بمجرد النية على الراجح عندهم. ولو لم يحصل قول ولا فعل يتعلقان به من تلبية وتجرد من المخيط، ومقابل هذا قول خليل مع قول أو فعل تعلقا به وهو تابع لابن شاش وابن بشير واللخمي وهو ضعيف.
وعند الحنفية الإحرام هو الدخول في التزام حرمة ما يكون حلالاً عليه قبل التزام الإحرام، ويشترط لصحة الإحرام عندهم النية والتلبية، أو تقليد البدنة مع السوق، ولا يدخل في الإحرام بمجرد النية بل لا بد من التلبية أو ما يقوم مقامها حتى لو نوى ولم يلب لا يصير محرماً، وكذا لو لبي ولم ينو، وعند أبي يوسف يصير محرماً بمجرد النية، هذا ملخص مذهبهم في هذه المسألة. والله أعلم.
ويستحب التلفظ بما أحرم به فيقصد بنيته نسكاً معيناً لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل من معه في حجة الوداع، ولأن أحكام ذلك تختلف فاستحب تعيينه ليترتب عليه مقتضاه، ونية النسك كافية فلا يحتاج معها إلى تلبية ولا سوق هدي، خلافاً للحنفية لعموم حديث (إنما الأعمال بالنيات) وإن لبى أو ساق هديا من غير نية لم ينعقد إحرامه للخبر، ولو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة فيسبق
لسانه إلى الحج أو ينوي الحج فيسبق لسانه إلى العمرة أو ينوي القران فيسبق لسانه إلى أحدهما أو ينوي أحدهما فيسبق لسانه إلى كليها، انعقد إحرامه بما نواه دون ما لفظ به وفاقاً للشافعية والحنفية لأن النية محلها القلب، وينعقد إحرامه حال جماعة لأنه لا يخرج منه به، ويفسد إحرامه بالجماع فيمضي في فاسده ويقضيه كما يأتي إن شاء الله تعالى، ويخرج من الإحرام بردة لعموم قوله تعالى:(لئن أشركت ليحبطن عملك) ولا يخرج منه بجنون وإغماء وسكر وموت لخبر المحرم الذي وقصته راحلته، ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون أو الإغماء أو السكر لعدم أهليته للنية، فإذا أراد الإحرام نوى بقلبه قائلا بلسانه: اللهم إني أريد النسك الفلاني ويعينه من عمرة أو حج أو قران ويلفظ بما عينه فيسره لي وتقبله مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني أو فلي أن أحل، فإذا أراد التمتع قال اللهم إني أريد العمر فيسرها لي وتقبلها مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ويشترط.
وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني ويشترط، وهذا الاشتراط سنة، ويفيد هذا الشرط شيئين أحدهما أنه إذا عاقه عدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق ونحوه أن له التحلل، والثاني أنه متى حل بذلك فلا شيء عليه، وممن رأى الاشتراط في الإحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار رضي الله عنهم، به قال عبيدة السلماني وعلقمة والأسود وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة والشافعي بالعراق، وأنكر الاشتراط ابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة. وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط ويقول: حسبكم سنة نبيكم
صلى الله عليه وسلم، وحجة القائلين بالاشتراط ما روت عائشة رضي الله عنها قالت:(دخل الني صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم، ولقول عائشة لعروة قل: اللهم إني أريد الحج فإن تيسر وإلا فعمرة، ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يعارض بقول ابن عمر، ولو لم يكن في الاشتراط حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر، وإذا اشترط وحل فلا شيء عليه، نص عليه الإمام أحمد.
قال في المستوعب وغيره إلا أن يكون معه هدي فيلزمه نحره؛ ولو قال: فلي أن أحل خير، فإن اشترط بما يؤدي معنى الاشتراط كقوله: اللهم إني أريد النسك الفلاني إن تيسر لي وإلا فلا حرج عليّ، جاز لأنه في معنى ما تقدم في الخبر، وإن قال في إحرامه متى شئت أحللته أو إن أفسدته لم أقضه لم يصح اشتراطه لأنه لا عذر له في ذلك وإحرامه صحيح، وإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به لم يفد لقول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة:(قولي محلي) أي مكان إحلالي (من الأرض حيث حبستي) قال الشيخ منصور في شرح الإقناع: والقول لا يكون إلا باللسان. انتهى. قلت: أما القول في حديث ضباعة هذا فهو صريح في الأمر بالنطق بالاشتراط حيث جاء فيه (قولي محلي حيث حبستني) ولكن قد يكون القول بالفعل أيضا كما في حديث عمار حين تمرغ