الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
سورة الأحزاب
"
مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون
مقاصدها:
بدأ الله هذه السورة بأمر المؤمنين في شخص نبيهم بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وباتباع الوحي، والتوكل على الله - تعالى - وعقب ذلك ببيان أن الأزواج لا حق لهم في تحريم زوجاتهم كتحريم أُمهاتهم، وأن التبني غير مشروع في الإِسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أُمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق بالميراث من المهاجرين والأنصار، ناسخًا بذلك التوارث بالتآخي في الإِسلام بينهم في أول الهجرة، ثم بيَّن للمؤمنين فضله عليهم في الانتصار في غزوة الأحزاب، حيث أرسل على أعدائهم الأحزاب ريحًا وجنودًا لم يرها المسلمون، ففر الأحزاب منهزمين، وأنقذ المسلمين بذلك من حصارهم من فوقهم ببني قريظة، ومن أسفل منهم بالأحزاب، ونعى على المنافقين تخاذلهم ومعاذيرهم الكاذبة التي اخترعوها للفرار من المعركة، وأثنى على المؤمنين الصادقين الذين ثبتوا مع رسولهم في المعركة حتى جاء النصر من عند الله .. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} ثم أَتبع ذلك تخيير النبي لزوجاته، وأمر الله إياه بنصحهن، وختم ذلك بقوله - تعالى -:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} ثم أتبع ذلك نصائح للمسلمين والمسلمات، وذكر قصة الخلاف التي وقعت بين زيد ابن حارثة وبين زوجته زينب بنت جحش، وانتهت بطلاق زيد لها وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياها، تأكيدًا لنسخ التبني وآثاره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، وكان يدعى زيد بن محمد فلما نسخت شرعة التبني أصبح يدعى زيد بن حارثة، ونزل في ذلك قوله - تعالى -:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
ثم بين الله عدم وجوب العدة على المرأة إذا طلقت قبل الدخول، بها، وبين ما أحله لنبيه من الزوجات، وذكر طائفة من الآداب نحو بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وتحريم الزواج بزوجاته بعده، وبين وجوب لبس الثياب الساترة للمسلمات عند خروجهن، حتى لا يتعرضن للأذى، وهدد المنافقين والمرجفين بسوء المصير إن لم يرجعوا عن إرجافهم، وأمر رسوله أن يذكر لسائليه عن الساعة أنه لا يعلمها إلَاّ الله ولعلها تكون قريبًا، وبين أن الكافرين خالدون في النار أبدًا، وفي المؤمنين عن إيذاء الرسول كما آذى بنو إسرائيل موسى، وحثهم على أن يتقوا الله ويقولوا قولًا سديدًا وأوصاهم في ختامها بأداء الأمانة، لأن مسئوليتها عظيمة عند الله - تعالى -.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{اتَّقِ اللَّهَ} : دم على تقواه، أو زد على ما أنت عليه من التقوى.
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} : ودم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم.
{عَلِيمًا حَكِيمًا} : واسع العلم عظيم الحكمة. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ): فَوِّض الأمر إليه.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} : وكفى به حافظًا ومعينًا.
التفسير
1 -
خاطب الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ولم يخاطب غيره من الأنبياء بوصف النبوة كقوله - تعالى -: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} وقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} وذلك لتشريف نبيه محمد وتكريمه، وليرتب عليه ما هو من أبرز آثاره وأقوى لوازمه، وهو وجوب التقوى منه لله - تعالى - وعدم طاعته للكافرين والمنافقين.
وسبب نزولها - على ما ذكره الثعلبى والواحدي - أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة ابن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الموادعة (1)، وقدم معهم من المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم.
وروى أن عمر بن الخطاب لما سمع قولهم هذا قال: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني قد أعطيتهم الأمان" فقال لهم عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة. وقيل: نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يمتعهم باللات والعزى سنة، يأخذون نذورها على أن لا يعبدوها، لتعلم قريش منزلتهم عنده صلى الله عليه وسلم فأبى عليهم ذلك. ومعلوم قطعًا أن النبي أشد الناس
(1) أي: زمن الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في صلح الحديبية.
تقوى لله، وأبعدهم عن طاعة الكافرين والمنافقين، وإنما أمره الله بذلك تأييدًا له في موقفه منهم، وتثبيتًا له في مواجهة الكافرين والمنافقين، لكي ييئسوا من موافقته لهم بعد أن تلقى هذا الأمر من مولاه - جل وعلا - كما أن فيه أمرًا ضمنيًا للمؤمنين بذلك، فإن النبي إمام أُمته، فإذا كان الله قد أمره بذلك - وهو من التقوى والبعد عن طاعة الكافرين والمنافقين بالمحل الأرفع - فغيره من أمته أولى بذلك.
والتقوى - كما قال طَلْقُ بن حبيب -: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله - ذكره القرطبي.
والمعنى الإجمالي: للآية: يا أيها النبي دُمْ على ما أنت عليه من تقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فيما يعود على الدين بالضعف، وازدد في ذلك قوة على قوة، وليقتد بك المؤمنون في امتثال أمر الله ونهيه، إن الله كان - منذ الأزل ولا يزال - واسع العلم بالمصالح والمفاسد، عظيم الحكمة، فلا يكلفكم إلا ما تقتضيه الحكمة، مما يعود عليكم بالخير في الدنيا والآخرة.
وبين الله لنبيه سبيل التقوى فقال:
2 -
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} :
أي: واتبع في كل ما تأتي به أو تتركه من أمور الدين والدنيا ما يوحى إليك من ربك من الآيات والأحكام التي من جملتها ما جاء بالآية الكريمة السابقة، وليقتد بك المؤمئون في ذلك، إن الله كان بما تعملون خبيرًا، فيرشدكم إلى ما فيه صلاح أعمالكم وحسن المثوبة عليها.
3 -
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} :
واعتمد على الله - تعالى - في القيام بأعباء الوحي وتكاليفه، وكفى بالله موكولًا إليه الأمور كلها، فلا تهمنك معاصاة الكافرين ومناوأتهم، فإن الله ناصرك ومؤيدك.
المفردات:
{فِي جَوْفِهِ} : في صدره.
{تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} الظِّهار: قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، يريد بذلك تحريتم مباشرتها تحريمًا أبديًا كما هو شأنه مع أمه، وهو مأخوذ من الظهر، باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك.
{أَدْعِيَاءَكُمْ} : جمع دعيٍّ، والمراد به هنا: الابن بالتبني. {السَّبِيلَ} ): الطريق.
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} : انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم.
{هُوَ أَقْسَطُ} : هو أعدل.
{وَمَوَالِيكُمْ} : جمع مولى، ويطلق لغة على: المعتق، والعتيق، وابن العم، والناصر، والجار، والحليف، والمراد به هنا: الولي في الدين - أي: الصديق فيه - ويقابله العدو.
{جُنَاحٌ} : إثم.
{فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} : فيما فعلتموه مخطئين جاهلين قبل النهي.
{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} : ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه وقصدتموه من ذلك بعد النهي.
التفسير
4 -
نزلت هذه الآية لرد ما كان مزعومًا أو متبعًا قبل الإِسلام، فقد زعمت العرب أن الأريب اللبيب القوي الحافظة له قلبان، ومن ذلك قولهم لأبي معمر الفِهْري - أو جميل ابن معمر الجمحي - له قلبان، لأنه كان داهية قوى الحفظ لما يسمع، وكان يزعم أن له قلبين يفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وقد كذَّبه الله قولًا في هذه الآية، وفعلًا يوم بدر، وذلك أنه انهزم في هذا اليوم، ولقي أبا سفيان في العير في طريقه إلى مكة وهو معلق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فسأله أبو سفيان: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلَاّ أنهما في رجلي، فعرفوا من يومئذ أنه لو كان كما زعم لما لبس نعله في يده، والقلب: قطعة من اللحم صنوبرية الشكل، خلقه الله - تعالى - لضخ الدم في الشرايين لتغذية الجسم، وجذبه ثانيًا من الأوردة لإيصاله إلى الرئتين لتطهيره من "ثاني أُكسيد الكربون" الناتج من عملية الاحتراق في داخل الجسم، وبعد تطهيره يستعيده القلب ليعيد قذفه في الشرايين، وقد جعله الله مناطًا للحفظ والعلم، إما لأنه يمد الأجهزة الحافظة في المخ بغذائها - فهو سبب للحفظ والعلم - وإما لأن الحفظ والعلم من وظائفه.
وكان من عادة العرب أن يحرم الرجل زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه، بأن يقول لها: أنت عليَّ كظهر أمي أو نحوها، فلا يباشرها كما لا يباشر أحَدٌ أُمَّه، وكانوا يعتبرون الظهار طلاقًا في الجاهلية، وسيأتي حكمه في الإسلام في سورة المجادلة بمشيئة الله - تعالى -.
كما كان من عادتهم أن يتبنى الرجل ولد سواه فيرث ماله من بعده كما يرث الولد من أبيه النَّسَبِي، وتحرم عليه زوجته كما تحرم عليه زوجة ابنه من صلبه، فنزلت الآية لردِّ هذا كله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى غلامه زيد بن حارثة بعد أن أعتقه، وفقًا كان عليه العرب، ولهذا كان يدعى زيد بن محمد، فلما نزلت هذه الآية نسبه
إلى أبيه حارثة، قال القرطبي: روى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} .
وكان زيد - فيما روي عن أنس بن مالك وغيره - مسبيًّا من الشام، سَبَته خيل من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة، فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقام عنده مدة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل البعثة: خَيِّراه، فإن اختاركما فهو لكما دون فداءٍ، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثره على حريته وقومه، فقال محمد صلى الله عليه وسلم:"يا معشر قريش، اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه" فرضي بذلك أبوه وعمه. اهـ: من القرطبي بتصرف يسير.
وكان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان. ذكره القرطبي.
والمعنى الإجمالي للآية: ما خلق الله لرجل من قلبين في صدره، بل خلق له قلبًا واحدًا يعيش على نبضاته، ويعى أصناف العلم بسببه، وما صير أزواجكم في حكم أمهاتكم من حرمة المباشرة، حتى تجعلوهن مثلهن فيها، وما جعل الغرباء من عتقائكم وغيرهم أبناءً لكم، حتى تعطوهم حكمهم في الميراثِ وحكم عدم نكاح زوجاتهم، ذلك الذي تزعمونه في شأن هؤلاء جميعًا هو قولكم بأفواهكم، دون أن يكون له نصيب من الصحة، والله يقول الحق في شأنهم وفي كل أحكامه، وهو يهدي بشرعه إلى الطريق المستقيم.
5 -
في هذه الآية زيادة بيان لحكم التبني في الإِسلام، قال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن: اهـ. وبيان ذلك أن النبي سن
للناس جواز التبني الذي كان معمولًا به في الجاهلية قبل نسخه بهذه الآية وما قبلها، ولو خالف الإنسان هذه الآية، فدعا غيره إلى أبيه بالتبني، فإن كان على جهة الخطأ، بأن سبق لسانه إليه فلا إثم عليه، لقوله - تعالى -:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولا يجري هذا المجرى من غلب عليه اسم المتبني، كما هو الحال في المقداد بن عمرو، فقد غلب عليه لقب المقداد بن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ولكنه لصق به لفظ (ابن الأسود) بعد نزولها، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة فإنه كان يدعى لأبي حذيفة بعد نزولها، وغيرهما، ولم يحكم أحد بإثم من كان يقول هذا لغلبته على صاحبه.
وذلك غير ما حدث لزيد بن حارثة، فإنه لما نزلت الآية قطع الناس نسبه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالبنوة، وعزوه إلى أبيه حارثة، فإن نسبه أحد بالبنوة إلى محمد بعد نزولها متعمدًا كان آثمًا، لقوله - تعالى -:{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: فعليكم الجناح والإثم، قاله القرطبي، ثم قال في المسألة السادسة: روى الصحيح عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة، كلاهما قال: سمعته أُذناي ووعاه قلبي، محمدًا (1) يقول:"من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام".
أما قول الكبير للصغير: أنت ابني على سبيل التحنن والشفقة فلا حرمة فيه، ولكن بعض العلماء يرى كراهته، لما فيه من التشبه بالكفرة.
وحكم التبني بقوله: (هو ابني) عند الحنفية، أنه إن كان عبدًا عتق عليه، ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب، وكان بحيث يولد مثله لمثله، وعند الشافعية: لا عبرة بالتبني لا في العتق ولا في النسب (2).
المعنى الإجمالي للآية: انسبوا من تبنيتموهم إلى آبائهم الحقيقيين، فإن لم تعلموا آبائهم يقينًا فهم إخوانكم في الدين وأولياؤُكم فيه، فقولوا: هذا أخى ووليي في الدين،
(1)"محمدًا" بدل من الضمير المنصوب محلا في قوله: "سمعته أذناي".
(2)
انظر الآلوسي.
أي: صديقي فيه (1)، وليس عليكم إثم فيما قلتموه مخطئين قبل النهي، أو بعده نسيانًا أو سبق لسان، ولكن الإثم فيما قلتموه عامدمين قاصدين البنوة وأحكامها بقلوبكم، وكان الله غفورًا فيغفر للعامد إذا تاب، رحيمًا برفع الحرج والإثم فيما كان قبل النهي، أو كان خطأ لسان أو نسيانًا بعده.
المفردات:
{أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : أحق بهم من أنفسم.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: مثل أُمهاتهم في التحريم واستحقاق التعظيم.
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} أي: أصحاب القرابات بعضهم أحق ببعض في التوارث.
{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} : إلَاّ أن تعطوا حلفاءكم من المهاجرين والأنصار: برًّا معروفًا كالتوصية.
{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي: كان ما ذكر من الأحكام في الآيات السايقة مسطورًا في اللوح المحفوظ.
(1) من الولاء ضد العداء، ويجوز أن يكون بمعنى عتيق إن كان كذلك.
التفسير
6 -
هذه الآية نسخ الله بها بعض الأحكام التي كانت في صدر الإسلام، وبيانه ما يلي:
(1)
أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على أحد وعليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه ديغ فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته" أخرجه الصحيحان، وروى البخاري بسنده في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم قول الله - تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينًا أو ضَيَاعًا فليأتني فأنا مولاه" أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحزاب.
والمراد من عصبته: قرابته، والضَّياع: مصدر ضاع جعل اسما لكل ما هو عرضة للضياع، من عيال لا كافل لهم، ومال لا قيِّم عليه، وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع على ضياع - بكسر الضاد (1) - وقال بض العلماء: هو أولى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة، ويؤيد هذا المعنى حديث مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقَعْن فيها، وأنا آخذ بحُجزِكم وأنتم تقتحمون فيها" قال العلماء: الحُجْزة للسراويل والمعقد للإزار، فهذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه، أخذ بذلك الموضع منه.
وهذا مثل لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في نجاتنا، وحرصه على تخليصنا من المهالك التي بين أيدينا، بدافع شهواتنا ووسوسة الشيطان الرجيم، فهو أولى بنا من أنفسنا.
وفسرها بعضهم بأن المراد بأولويته بهم من أنفسهم أنه إذا أمر بشيء، ودعت النفس إلى غيره، كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وشرعه أحق من هوى أنفسهم،
(1) انظر القرطبي في تفسير (الضياع) بفتح الضاد - ومن كسر الضاد - (ضياعًا) فالمراد بهم العيال الضائعون الذين لا كافل لهم، جمع ضائع.
فينفذ حكمه لا حكمهم قال - تعالى -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1).
واستنبط بعض الفقهاء من هذا الحديث - تفسيرًا للآية - أنه يجب على الإمام أن يقضى من بيت المال دين الفقراء، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"فعلي قضاؤه".
(2)
ومنها أنها جعلت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أُمهات المؤمنين، حيث صيرتهن في حكم الأمهات في وجوب التعظيم والنفقة وحرمة النكاح على الرجال، ثم إن هذه الأُمومة لا توجب ميراثًا، ولا تمنع من زواج بناتهن.
واختلف في كونهن أمهات النساء، فمنهم من قال بذلك قياسًا على الرجال، ومنهم من منع رعاية للنص، ولما رواه الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة قالت لها: يا أُمَّه، فقالت لها:"لست لك بأُم، إنما أنا أُم رجالكم" قال ابن العربي: وهو الصحيح.
واستظهر القرطبي أنهن أمهات للرجال والنساء، فكما شملت أولوية النبي صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء بقوله - تعالى -:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فكذلك قوله - سبحانه -: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ويحمل الأثر المروى عن عائشة رضي الله عنها، إن صح -:(لست لكِ بأُم إنما أنا أم رجالكم) على أنه رأي لها في الآية. اهـ: بتصرف.
واختلف في النظر إليهن على وجهين: (أحدهما) أنهن كالمحارم فلا يحرم النظر إليهن. (وثانيهما) أن النظر إليهن حرام، لأن تحريم نكاحهن إنما هو لحفظ حق الرسول فيهن، ومن حفظ حقه فيهن حرمة النظر إليهن، وأما اللائي طلقهن الرسول صلى الله عليه وسلم ففي ثبوت حق الأمومة لهن خلاف. ولا يجوز أن يسمى النبي
(1) سورة النساء؛ الآية: 65.
- صلى الله عليه وسلم أَبًا للمؤمنين، لقوله - تعالى -:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ولكن يقال: إنه مثل الأَب لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنَا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم .. ". الحديث أخرجه أبو داود. وصحح بعضهم جواز إطلاق الأُبوة عليه؛ لأنه سبب للحياة الأبدية، كما أَن الأَب سبب للحياة، بل هو أحق بالأُبوة منه، وبهذا الرأْي أَخذ معاوية، وعكرمة، ومجاهد والحسن، بل قال مجاهد: كل نبي أب لأُمته، ومن هنا قيل في قول لوط:{هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} إنه أراد النساء المؤْمنات من أُمته، وأَخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان يقرأُ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .
(3)
أن قوله - تعالى -: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ المْهُاجِرِينَ والأْنصارِ} ناسخ لما كان في أول الهجرة من التوارث بالهجرة، حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا (1) .. } . فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأَعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئًا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلِكَ في هذه السورة بقوله:{وَأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} .
كما أنه ناسخ للتوارث بالحِلْف والمؤاخاة في الدين، روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام في تفسيرها قال:"إنا - معشر قريش - لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأَنصار نعم الإخوان، فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، ثم قال: حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا" وثبت عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك، فارْتَثَّ كعب يوم أُحد (2)، فجاءَ الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضَّح والريح (3) لورثه الزبير، فأَنزل الله - تَعالَى -
(1) الآية: 72.
(2)
الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح.
(3)
الضح - بكسر الضاد - ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، أراد أنه لو مات كعب عما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح، وكنى بذلك عن كثرة المال.
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ (1)
…
} فبين الله - تعالى - أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة. ويرجع ذلك إلى أن المسلمين لما توالدوا في الإِسلام وكثروا عدل بهم إلى التوارث بالقرابة بعد قطعه بسبب الكفر.
والمراد من كتاب الله: اللوح المحفوظ، أو القرآن الكريم، والمراد من لفظ (المؤمنين) الأَنصارُ، ومن لفظ (المعروف) في قوله:{إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} : الوصية، ومن (الأولياءِ) الأَصدقاء من المؤمنين، ويدخل فيهم المهاجرون والأنصار، فإن الوصية تصح لكل مؤمن ومؤمنة وتقدم على الميراث بالقرابة والمصاهرة، - لقوله - تعالى - في سورة النساء:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ (2)} بشرط أن تكون لغير وارث، قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وَصية لوارث" ومن العلماءِ من عمم المعروف في كل بر وخير، فيشمل الوصية وغيرها من أنواع البر كالهبة، ومنهم من عمم الأولياء فأجاز الوصية لليهود والنصارى إذا كانوا موالين، وبه قال محمَّد بن الحنفية. وغيره، ومنهم من قصر المعروف في غير المسلم على الأَقارب منهم كالوالدين والأَولاد، ومن أراد المزيد فليرجع إلى المطولات.
والمعنى العام للآية: النبي أحق بالمؤمنين من أنفسم؛ لأَنه أكثر منهم رعاية وعناية بمصالحهم، فحبه مقدم على حبهم لأَنفسهم، وتنفيذ أمره وشرعه مقدم على تنفيذ رغباتهم وشهواتهم، فهو أعرف بمصلحتهم الدنيوية والأُخروية منهم، وأزواجه صلى الله عليه وسلم كأُمهاتهم في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام، والبر والإعظام فلا يحل الزواج بإحداهن بعده، ولا التفريط في أي حق من حقوقهن، إعظامًا لمقام نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم وإجلالًا لقدره في أُمته، وهن فيما عدا ذلك كالأَجنبيات، فلا تجوز الخلوة بهن كما تجوز
(1) وقيل: النسخ كان بآية أخر الأنفال، وقيل: بالإجماع.
(2)
سورة النساء من الآية: 11.
بالأُمهات، ولا تحرم بناتهن ولا أَخواتهن كما تحرم بنات الأُمهات وأخواتهن، وأصحابُ القرابات - وقد انتشر الإِسلام بينهم - أحق بميراث قريبهم من المهاجرين والأنصار، لزوال الكفر الذي كان سببًا في حرمانهم من الميراث، ونقله منهم إلى المؤمنين من المهاجرين والأَنصار، وهذه الأولوية لا تمنع من أن تقدموا لأوليائكم من الأَنصار والمهاجربن وغيرهم معروفًا وبرًّا سوى الميراث كالوصية والهبة والهدية والصدقة، كان ما تقدم في هذه السورة من الأحكام في كتاب الله (اللوح المحفوظ، أو القرآن) مسطورًا واجب التنفيذ والامتثال.
المفردات:
{وَإِذْ أَخَذْنَا} : واذكر - أيها النبي - حين أَخذنا.
{مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} : من النبيين عهدهم بالدعوة إلى دين الله.
{مِيثَاقًا غَلِيظًا} : عهدًا عظيم الشأْن، أو قويًّا متينًا؛ لتأْكيده باليمين.
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} ليسأل النبيين عن الصدق الذي بلغوه لأَقوامهم، وعُبّر عن النببين بالصادقين لملازمتهم للصدق، وعما بلَّغُوه بالصدق؛ لأَنه من عند الله، وقد جعل نفس الصدق على سبيل المجاز.
التفسير
7 -
بعد أَن بين الله في الآيات السابقة بعض ما أبلغه رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم لأُمته من الأَحكام الناسخة لما كانوا عليه قبلها، جاءَ بهذه الآية لبيان أن تبليغ أحكام الله وشرائعه أمر مفروض على النبيين جميعًا، وقد أخذ عليهم العهود والمواثيق بتبليغها، سواءُ أَكانت ناسخة لما قبلها، أَم مؤكدة لها، أم جديدة لم يسبق مثلها.
والتصريح بذكر هؤُلاءِ الأَنبياءِ الخمسة - مع اندراجهم في عموم الأَنبياءِ قبلهم - لكونهم مشاهير أرباب الشرائع، وأُولي العزم من الرسل، وقدم نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم على سائر أولى العزم؛ تكريمًا له وتعظيمًا لشأْنه، لعموم نبوته وبقائها إلى قيام الساعة، فهو سيد ولد آدم ولا فخر، ورتب بعده باقى الأنبياء حسب ترتيبهم في الوجود والبعث، وإعادة أخذ الميثاق في الآية لتأكيده، ووصفه بكونه غليظًا تعظيمًا لشأْنه.
ومعنى الآية: واذكر لقومك - أيها النبي - حين أخذنا من جميع النبيين ميثاقهم أن يبلغوا شرائعنا لأُممهم، ويخصوني بالعبادة وحدي، وأخذنا هذا الميثاق بخاصة على أُولى العزم منهم، حيث أخذناه عليك وعلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم بذلك ميثاقًا مؤكدا عظيمًا، ثم بين المقصود من أخذ هذا الميثاق بقوله - سبحانه -:
8 -
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} :
أي: أخذنا الميثاق بتبليغ شرائعنا على جميع النبيين المعروفين بالصدق عندنا وعند أقوامهم منذ نشأَتهم؛ ليسأَل الله هؤُلاءِ الأَنبياءَ المتصفين بالصدق عما قالوه وبلغوه من شرائعه الصادقة، وبماذا أجابهم أقوامهم، فيؤدوا الشهادة أمام الله عما قوبلت به دعوتهم كما قال - سبحانه -:{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} (1) ويرتب على شهادتهم ما يستحقه أقوامهم من ثواب أَو عقاب، وقد أَعد للمؤمنين ثوابًا كريمًا، وأعد للكافرين عذابًا أَليمًا.
(1) سورة المائدة من الآية: 109.
المفردات:
{إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} : من قريش ومن تحزب معهم في غزوة الأَحزاب.
{وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} : المراد بهم: الملائكة.
{مِنْ فَوْقِكُمْ} : من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان وبنو قريظة.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} : من أسفل الوادى من جهة المغرب، وهم قريش وباقي حلفائها.
{زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} : مالت عن مستوى نظرها.
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي: خافوا خوفًا شديدًا، فالكلام على التمثيل أو الكناية لا على الحقيقة؛ لأن القلوب لا تفارق أماكنها من الصدور، ولكنها تضطرب رعبًا والحناجر: جمع حنجرة، وهي الحلقوم حيث مخرج الصوت.
{هُنَالِكَ} : ظرف مكان وقد يستعمل في الزمان حقيقة من قبيل المشترك، أو مجازًا، والمراد به هنا: الزمان، أي: في ذلك الحين ابتلى المؤمنون.
{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} : اضطربوا من الفزع اضطرابًا عنيفًا.
التفسير
9 -
تحكى هذه الآية والآيات التي بعدها قصة غزوة الخندق، وتسمى غزوة الأَحزاب وكانت - كما قال ابن إسحاق -: في شوال من السنة الخامسة الهجرية.
والمراد بالجنود الذين جاءُوا لحرب المؤمنين: الأحزاب الذين تحزبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أَسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن - وكان الرسول قد أَقطعه أَرضًا يرعى فيها سوائمه حتى إذا سمن خفه وحافره قام يقود قومه لحرب من أَنعم عليه - وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل وبنو سليم يقودهم أبو الأَعور السلمى، وبنو النضير يقودهم رؤساؤهم حيي بن أخطب وأبناء بني الحقيق، وبنو قريظة برياسة سيدهم كعب بن أسد.
وكان بين بني قريظة وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه بسعي حُيَيّ ابن أخطب، وكان عدد جنود الأَحزاب اثنى عشر ألفًا (1).
وسببها: أن يهود بني النضير كانوا قد خانوا عهد الرسول عليه السلام وذلك أَن النبي وبعض أصحابه كانوا في ديار بني النضير، فائتمروا على قتله، بأن يأْخذ أحدهم صخرة فيلقيها على النبي صلى الله عليه وسلم من علو، فأَطلع الله نبيه على قصدهم فرجع مع أصحابه، وبعث إليهم أن اخرجوا من بلادى فقد هممتم بقتلى، فتحصنوا بحصونهم، فحاصرهم النبي ست ليال، فسأَلوا أن يكف عن قتالهم، على أن يخرجوا من ديارهم ومعهم ما حملت الإبل غير آلة الحرب، فأَجابهم النبي إلى ما طلبوا، فذهب فريق منهم إلى خيبر وعلى رأْسهم حيي بن أخطب وآل أبي الحقيق وذهب آخرون إلى أَذرعات، فلم يقر لهم قرار بعد تركهم ديارهم، وعزموا على الأَخذ بالثأْر
(1) وقيل: عشرة آلاف، وقيل: خمسة عشر ألفًا.
ليستردوا بلادهم، فذهب جمع منهم برياسة حييّ بن أخطب إلى قريش لتحريضهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ووعدهم أن يقاتلوه معهم، ثم حرضوا غطفان فاستجابوا لهم، فخرجت قريش مع أحابيشها وبنو غطفان، فلما علم الرسول بخروجهم في حشدهم الكبير برياسة أبي سفيان، استشار أصحابه: أيمكث بالمدينة أم يخرج لقتالهم خارجها؟ فأَشار عليهم سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة من الحرَّة الشرقية إلى الحرة الغربية، فإنها هي الجهة التي تعتبر عورة ومدخلا للمدينة، أما بقية حدودها فمشغولة بالنخيل والبيوت، فيصعب على العدو القتال من ناحيتها، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم لكل عشرة أربعين ذراعًا ليحفروها، وقاسى المسلمون شدائد وصعابًا في حفرها، حيث لم يسبق لهم حفر الخنادق في حروبهم، ولم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينقل التراب متمثلا بشعر عبد الله بن رواحة:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأَنزلَن سكينة علينا
…
وثبت الأَقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
…
وإن أرادوا فتنة أَبينا
ثم خرج صلى الله عليه وسلم بثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب بعسكره في الجهة الشرقية، مسندًا ظهره إلى جبل سلع المطل على المدينة، أما قريش وأحابيشها فنزلوا بمجمع الأَسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحد، وكان الخندق فاصلا بين الرسول وبين أعدائه.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم النساءُ والذراري في الآطام (1)، واشتد الخوف عند المسلمين، وتجلى نفاق المنافقين في هذه الغزوة، فانسحبوا من المعركة معتذرين بأَن بيوتهم عورة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} وكانوا يقولون:{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} .
(1) جمع أطم: وهو المكان العالي من حصن أو جبل أو قصر.
وفي أَثناءِ هذا الخطر الداهم، نقضت قريظة عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم فأَصبح المسلمون بين نار من فوقهم ونار من أَسفل منهم، وقد هرب المنافقون بأَعذارهم المكذوبة، فزاغت الأَبصار وبلغت القلوب الحناجر من الخوف، ومضى قريب من شهر دون حرب بين الفريقين سوى الرمى بالنبل والحجارة من وراءِ الخندق، إلا أَن فوارس من قريش منهم عمرو بن عَبْدِ وُدّ - وكان يعد بأَلف فارس - وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، اقتحموا الخندق بخيولهم من مكان ضيق، فجالت خيولهم في السيخة بين الخندق وسلع، خرج علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في نفر من المسلمين، وأَخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فأَقبلت الفرسان معهم، وقتل عليٌّ عَمْرَو بنَ عَبْدِ وُدّ في قصة مشهورة، فانهزمت خيله حتى اقتحمت هاربة من الخندق، وقتل مع عمرومنبه بن عثمان بن عبد الدار، ونوفل بن عبد العزى، قيل: إنه وجد في جوف الخندق، فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: أجمل من هذه ينزل بعضكم أُقاتله، فقتله الزبير بن العوام، وذكر ابن إسحاق أن عليًا طعنه في ترقوته حتى أَخرجها من مراقه فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال:"هولكم؛ لا نأْكل ثمن الموتى".
وقد هيأ الله للمسلمين بعد ذلك أسباب النصر، فقد جاءَ نعيم بن مسعود الأَشجعي من غطفان - وهو صديق قريش واليهود - فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومى لا يعلمون، فمرنى بأَمرك حتى أُساعدك، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت رجل واحد، وماذا عسى أن تفعل، ولكن خَذِّلْ عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: أنتم تعرفون ودي لكم وخوفي عليكم، وإني محدثكم حديثًا فاكتموه عني، فوعدوه بكتمانه فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالم وديارهم وأن قريشًا وغطفان ليسوا مثلكم، فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا إلى بلادهم وأما أنتم فتساكنون الرجل (يريد الرسول) ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأَرى أن لا تدخلوا هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم، بأَن تأْخذوا منهم رهائن سبعين شريفًا منهم، فاستحسنوا رأْيه، ثم توجه
إلى قريش فاجتمع برؤسائهم وقال: أنتم تعرفون ودى لكم، ومحبتى إياكم، وإنى محدثكم حديثًا فاكتموه عني، فوعدوه بذلك، فقال: إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا مع محمَّد، وخافوا أن ترجعوا وتتركوهم معه، فقالوا له: أيرضيك أن نأْخذ جمعا من أشرافهم ونسلمهم إليك، وترد جناحنا التي كسرت - يريد بني النضير - فرضي بذلك منهم، ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل عما أخبر قريشًا، فأرسل أبو سفيان وفدا لقريظة يدعوهم للقتال غدًا - وكان يوم سبت - فقالوا: إنا لا نقاتل يوم السبت، ولم يصبنا ما أصابنا إلا بالتعدى فيه، ولن نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم، فتحققت قريش وغطفان مما قاله نعيم بن مسعود الأشجعى، فتفرقت القلوب وخاف بعضهم بعضًا، وأدى نعيم بن مسعود بهذه الوقيعة أعظم خدمة للإسلام في هذا الخطر المحدق به.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ابتهل إلى ربه قائلا: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأَحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا. عليهم" فكان هذا الدور الذي أداه نعيم جزءًا من إجابة الله لدعوته، وأرسل الله على أعدائه ريحًا باردة في ليلة مظلمة شاتية، كفأت قدورهم، وأطفأَت نيرانهم، وقلعت خيامهم، وأَرسل عليهم جنودًا من الملائكة لم يروها، كبَّرت في جوانب العسكر، فماجت الخيل بعضها في بعض، فقال طليحة بن خويلد الأَسدى: أما محمَّد فقد بدأكم بالسحر فالنجاءَ النجاء. فأَجمعوا أَمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، خوفًا من أن تتفق يهود مع المسلمين فيهجموا عليهم في تلك الليلة المدلهمة، وقد بلغ من خوفهم أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم: ليتعرف كل منكم أخاه، وليمسك بيده خوفًا من أن يدخل بينكم عدو، وبدأ بالرحيل، فقال له صفوان بن أُمية: أنت رئيس القوم فلا تتركهم وتمضى، فنزل من فوق بعيره وآذنهم بالرحيل، فرحلوا مهزومين. والمعنى: يا أَيها الذين صدقوا باللهِ ورسوله، اذكروا نعمة الله عليكم حين جاءتكم جنود كثيرة من الأَحزاب، مجهزون بمختلف أنواع السلاح، فأَرسلنا عليهم ريحًا شديدة كفأَت قدورهم، وقلعت خيامهم، ونشرف الرعب بينهم، وأرسلنا عليهم - أيضًا - جنودًا من الملائكة لم تروها، وكان الله بما تعملونه من حفر الخندق والاستعداد للقتال بقدر وسعكم، وأنه لا يكفي في رد هؤُلاء الأَعداء المحيطين بكم، كان الله بذلك كله خبيرا، فلذلك نصركم بالريح والجنود التي لم تروها.
10، 11 - {إِذْ جَاءُوكُمْ (1) مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}:
المعنى: يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم حين جاءكم جنود الأَحزاب {مِنْ فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادى من جهة المشرق وهم بنو غطفان ومن تبعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} من أَدنى الوادى من جهة المغرب - وهم قريش ومن تابعهم من الأَحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة (2) - وحين مالت الأبصار عن مستواها، وانحرفت عن طريقتها (3) حيرة ودهشة، وخافت القلوب خوفًا شديدًا، كأنها من خوفها بلغت الحناجر، وتظنون بالله مختلف الظنون، فالمؤمنون الصادقون يظنون أَن ينجز الله وعده بنصر نبيه وأَوليائه وإعلاء دينه - أو أنه يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنهم مهزومون فيقولون ما يليق بحالهم مما سيحكيه الله - تعالى -:. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} : على اختلاف درجاتهم بهذه المحنة، واضطربوا اضطرابا قويًّا من شدة الفزع، وظهر على لسان كل فريق ما يليق بحال إيمانه من صدق أو نفاق.
(1) بدل من (إذ جاءتكم) بدل كل من كل.
(2)
وقيل: الجائي من فوق بنو قريظة، ومن أسفل قريش وأسد، وغطفان، وسليم، وقيل غير ذلك.
(3)
وقال الأخفش: حين مالت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها.
المفردات:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : ضعف اعتقاد. {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : من النصر.
{إِلَّا غُرُورًا} : إلا باطلا من القول. {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} : يا أهل المدينة.
{لَا مُقَامَ لَكُمْ} : لا مكان لكم في أَرض المعركة تقيمون فيه وأنتم مطمئنون للنصر.
{فَارْجِعُوا} : إلى منازلكم. {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} : غير حصينة (1).
{مِنْ أَقْطَارِهَا} : من جوانبها. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} : الردة وقتال المسلمين.
{لَآتَوْهَا} : لفعلوا الفتنة.
{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} : وما مكثوا بإتيانها إلا زمانًا يسيرًا مقدار السؤَال والجواب.
التفسير
12 -
في هذه الآية وما بعدها يحكى الله موقف المنافقين ومرضى القلوب من وعد الله بالنصر في غزوة الأَحزاب، وتخذيلهم للمجاهدين من أَهل المدينة، وفرارهم من المعركة بأَعذار واهية، والتعبير بلفظ (يقول) بدلا من (قال) للدلالة على تكرار قولهم:{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} واستحضارًا لصورته لمزيد التشنيع عليهم.
روى النسائي بسنده عن البراءِ قال: لما أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأْخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَلقى ثوبه وأخذ المعول وقال:"باسم الله" فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: "الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحمراءَ الآن من مكانى هذا" قال: ثم ضرب أُخرى وقال: "باسم اللهِ" فكسر ثلثًا آخر، ثم قال: "الله أَكبر. أُعطيت مفاتيح فارس، والله
(1) وعورة في الأصل: مصدر، بمعنى الخلل، وصفت بها البيوت للمبالغة، ويوصف بها المفرد والمثنى والجمع مذكرًا أو مؤنثًا بلفظ واحد كما هو شأن المصادر.
إني لأُبصر قصر المدائن الأَبيض "ثم ضرب الثالثة وقال: "باسم الله "فقطع الحجر، وقال: "الله أَكبر. أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر باب صنعاءَ (1) "وقد تحقق كل ذلك، ولكن المنافقين لا يفقهون، فوصفوا هذا الوعد بالغرور.
وجاء في حديث آخر أَنه صلى الله عليه وسلم كلما ضرب ضربة أضاءَت له مملكة من هذه الممالك.
والمعنى الإِجمالى للآية: واذكر - أَيها النبي وكل مؤْمن - حين يقول المنافقون ومرضى القلوب مكررين: ما وعدنا الله من النصر والاستيلاء على الممالك إلا وعدًا باطلًا لا سبيل إلى تحقيقه.
13 -
المراد بالطائفة هنا عبد الله بن أبي بن سلول وأَصحابه - كما قال السدى - وقيل: هم أَوس بن قيظي وأَصحابه بنو حارثة - كما قال يزيد بن رومان.
ويثرب هي المدينة، وسميت يثرب باسم رجل من العماليق نزلها من قبل - كما قاله السهيلي - ولها عدة أَسماءٍ، منها: طابة، وطيبة، وقد كره بعض العلماءِ إطلاق لفظ يثرب عليها؛ لحديث رواه أحمد بسنده عن البراءِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله" تفرد به أحمد، وفي إسناده ضعف كما قال ابن كثير.
ومعنى قولهم: {لا مُقَامَ لَكُمْ} : لا مكان لكم في أَرض المعركة تقيمون فيه، فأَنتم عرضة للفناءِ من الأَحزاب الكثيرة العدد والعُدَدِ، ويصح أن يكون المعنى: لا إقامة لكم، أي: لا يمكنكم الإقامة، أو لا ينبغي أَن تقيموا هنا والحال على ما ترون. أو: لا إقامة لكم في دين محمَّد، فارجعوا كفارا، وتحللوا بذلك من بيعتكم إياه وأسْلِمُوه.
ومعنى الآية: واذكر - أيها النبي وكل مؤمن - حين قال جماعة من المنافقين وضعفاءِ الإيمان لجنود المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للدفاع عن المدينة: لا ينبغي أن تقيموا هنا على شفير الخندق في مواجهة الأَحزاب، فارجعوا إلى بيوتكم، يريدون
(1) ذكره القرطبى في آخر المسألة الثالثة من مسائل قوله - تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم
…
} الآية التاسعة من هذه السورة.
بذلك ترك النبي مع المهاجرين، حتى إذا انتصرت عليهم الأَحزاب كان لهم بذلك يد عندهم تنجيهم من بطشهم، ويستأْذن جماعة منهم النبي في العودة إلى بيوتهم ليحرسوها قائلين:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي: ذليلة غير حصينة يخاف عليها من السُّرَّاق، وما هي بعورة - كما زعموا - ما يريدون بهذا الاستئذان إلا فرارًا من أَرض المعركة.
14 -
ولو دخل الأَعداءُ المدينة أو البيوت من جوانبها على هؤُلاء المعتذرين عن القتال بخلل بيوتهم، ثم سأَلهم هؤُلاء الأَعداءُ الحرب في صفوفهم ضد محمَّد وأَصحابه لأَعطوها وخاضوا غمارها ضده، ولم يتلبثوا في بيوتهم إلا زمنًا يسيرًا بقدر ما يأْخذون سلاحهم فطلبهم الإذن في الرجوع إلى بيوتهم ليس راجعًا إلى اختلالها وعدم حصانتها - كما زعموا - بل لنفاقهم وكراهتهم نصرة رسولهم.
وفسر بعضهم الفتنة بالكفر، والمعنى عنده: ولو سئلوا الردة عن الإِسلام لأَعطوها وما مكثوا بإعطائها إلا زمنًا يسيرا بمقدار السؤال والجواب، والمعنى الأول أَولى، وهو اختيار ابن عطية، وقد دخل فيه هذا المعنى ضمنًا.
المفردات:
{لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} أي: لا يفرون، والفار يُوَلّى دبره.
{مَسْئُولًا} : مطلوبًا الوفاءُ به.
{لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} : لا تنتفعون بالبقاء إلا زمنًا قليلًا.
{يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} : يمنعكم من قضائه خيرًا كان أو شرًا.
التفسير
15 -
قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أُحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله على أن لا يعودوا لمثل ما فعلوا.
وهذه الآية الكريمة تعيب عليهم نكوصهم في عهدهم في غزوة الخندق، حيث كانوا ضمن المنافقين المستأْذنين في الرجوع من المعركة لحفظ بيوتهم من الأَعداءِ، بحجة أَن بها عورة وخللًا، وتُذكّرهم بوجوب الوفاءِ بالعهد.
والمعنى: وقد كان هؤُلاءِ المنافقون المعتذرون عاهدوا الله أمام رسوله من قبل هذه الغزوة أن لا يعودوا للفشل الذي هموا به يوم أُحد، فلا يولون الأَدبار في حروب الرسول مع الكافرين، وكان الوفاءُ بعهد الله مطلوبًا، فما بالهم يستأذنون في العودة إلى بيوتهم في أَصعب أحوال الحرب بين الإِسلام والكفر.
16 -
قل - أيها الرسول - لهؤلاءِ المعتذرين الفارين من المعركة: لن ينفعكم الفرار من الموت حتف أُنوفكم إن قضى الله بذلك، أو من القتل إن قضى الله أَن تقتلوا وإذا فررتم من أَحدهما فسيدرككم ما قضاه الله عليكم منهما، وإذًا لا تمتعون بالفرار إلا زمانًا قليلًا مهما طال، فإن متاع الدنيا قليل مهما طال الأَجل.
17 -
قل لهم - أيها الرسول -: من هذا الذي يمنعكم من قضاء الله إن أراد بكم سوءًا أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله - عندما يحل بهم السوءُ - قريبًا ينفعهم ولا نصيرًا يدفع الضر عنهم.
المفردات:
{الْمُعَوِّقِينَ} : المثبطين الصادين الناس عن رسول الله، وهم المنافقون.
{هَلُمَّ إِلَيْنَا} : تعالوا إلينا وأَقبلوا علينا.
{الْبَأْسَ} : الحرب والقتال، وأَصل معناه: الشدة.
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} : بخلاءَ بالمعاونة.
{كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ} : كنظر المغشى عليه.
{مِنَ الْمَوْتِ} : من معالجة سكرات الموت.
{سَلَقُوكُمْ} : آذوكم بالكلام وبالغوا في شتمكم وذمكم.
{بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} : قاطعة سلطة.
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} : بخلاءَ على الإنفاق في سبيل الله.
{أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} : أبطلها.
التفسير
18 -
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بعض صور النفاق وصفات المنافقين، فهم الذين يستأْذن فريق منهم النبي في الرجوع إلى المدينة في غزوة الخندق متعلين بأَن بيوتهم غير محصنة ولابد من حراستها، وما يريدون إلا الفرار مع أَن بعضهم عاهدوا الله في غزوة أحد لا يولون الأَدبار، ولن ينفعهم الفرار من الموت أو القتل، ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا.
وفي هذه الآية الكريمة يبين الله صورة من صور هؤلاء المنافقين.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة - كما قال ابن السائب - في عبد الله بن أُبي، ومن رجع معه من المنافقين من الخندق إلى المدينة، كانوا إذا جاءَهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في جيش الرسول أن: ائتونا فإنا ننتظركم.
والمعنى: يعلم الله على سبيل التحقيق المثبطين سرًّا عن رسول الله، وهم فريق من المنافقين يصدون الناس عنه، ويمنعونهم من شهود الحرب معه، ومشاركته في الذب عن دين الله، وقتال أعداءِ الإِسلام، وهم الذين يقولون لإخوانهم في النفاق وكراهية الرسول وبغض الإِسلام: هلم إلينا، أَي: انضموا إلينا وقربوا أَنفسكم منا، وتعالوا ودعوا محمدًا فلا تشهدوا معه حربًا، فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه. وكانوا لا يباشرون الحرب والقتال إلا قيلا لعدم إخلاصهم، فهم لا يشهدون القتال إن شهدوه إلَاّ تقية دفعا عن أنفسهم.
وقيل: إن قوله - تعالى -: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} من تتمة كلامهم، ومعناه: ولا يأْتي أصحاب محمَّد حرب الأَحزاب، ولا يبقون فيها إلَاّ زمانًا قليلا تدور بعده الدوائر عليهم، والظاهر المعنى الأَول.
19 -
لا يزال النظم الكريم يعرض صور المنافقين. ومعنى الآية: بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة وبكل ما فيه منفعة لكم، فإِذا جاءَ الخوف من العدو، وتُوُقِّع أن يُستأْصل أَهل المدينة، رأيتهم ينظرون إليك في تلك الحال تدور أعينهم في أحداقهم حائرة، كحال المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرًا وخوفًا من الحرب.
فإِذا ذهب الخوف وجاءَ الأَمن وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نسوا تلك الحال واجترأْوا عليكم، وضربوكم بأَلسنة ذَرِبَةٍ فصيحة وقالوا: عظموا نصيبنا من الغنيمة فإنا ساعدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم.
وقد سأَل نافع بن الأَزرق، ابن عباس رضي الله عنه عن "السلق" في الآية فقال: الطعن باللسان، قال: وهل تعرف العرب ذلك، فقال: نعم، أَما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجـ
…
ـدة فيهم والخاطب المسلاق
وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة البليغة، قال: معنى سلقوكم: خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق إذا كان بليغًا في خطبته.
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: بخلاءَ على كل خير، فلا يعاونونكم في الحرب ولا ينفقون في سبيل الله، ولا غير ذلك من فنون الخير، أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لم يؤمنوا إيمانًا صحيحًا نابعًا من قلوبهم، فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان، وأضمروا في قلوبهم الكفر وتظاهروا بالإِسلام، ولم يستبطنوه فأَحبط الله أعمالهم، أي: أذهب أجرها وأظهر بطلانها؛ لأنها باطلة مذ عملت؛ إذ صحتها مشروطة بالإيمان الصادق، وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا هينا سهلا، لا يبالى به ولا يخاف اعتراضا عليه؛ لأنه عادل
يقول العلامة الزمخشرى: وفي هذا بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أَن الأَعمال الكثيرة من غير تصحيح الإيمان كالبناء على غير أَساس وأنها مما يذهب عند الله هباءً منثورًا.
المفردات:
{بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} : كائنون في البادية الأَعراب.
{مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} : رياءً وسمعة وخوفًا من التعيير.
التفسير
20 -
ومن صفات المنافقين أنهم يظنون أن جيوش الأحزاب لا تزال مكانها تحاصر المدينة وأنهم لم يرحلوا ولم يشتت الله شملهم، وذلك لما مسهم من الجزع، وأصابهم من الدهشة والهلع، وإن يأْت الأَحزاب كرة ثانية يتمنوا أنهم خارجون إلى البدو ومقيمون بين الأعراب يتسقطون أخباركم، ويسأَلون كل قادم من جانب المدينة عما حدث لكم وجرى عليكم من الأَحزاب، وهكذا يتعرفون أحوالكم بالاستخبار والسؤال لا بالمشاهدة والعيان فرَقًا وخوَرًا.
واختيار البادية ليكونوا سالمين من القتال، بعيدين عن أرض المعركة، ولو كانوا فيكم في هذه الكرة المفروضة، وظلوا في معسكركم، وحدث قتال، والتحم الجيشان
ما قاتلوا إلا قتالًا قليلًا رياءً وسمعة وخوفًا من التعيير، وهو قليل لا يجدى نفعًا، ولا يسوق نصرا، ولا يدفع ضررا لأَنه زياءٌ، ولو كان لله لبالغوا في القتال لتحقيق النصر.
المفردات:
{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} : قدوة طيبة.
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: يأْمل رضا الله، وثواب اليوم الآخر.
{مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من الابتلاءِ والنصر.
{وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أَي: ظهر صدق خبر الله ورسوله في الوعد.
{وَتَسْلِيمًا} : وانقيادًا لأَوامره وطاعة لرسوله.
التفسير
210 -
هذه الآية أصل كبير في التأَسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولقد أمر الله - تبارك وتعالي - الناس فيها بالتأَسى بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأَحزاب في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه
وقال معاتبا للذين قلقوا واضطربوا في أَمرهم يوم الأحزاب وللمتخلفين: لقد كان لكم (1) في رسول الله أُسوة حسنة فهلا اقتديم به وتأسيتم بشمائله؟ والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه السلام في أمر الحرب من الثبات في القتال ونحوه، فهي عامة للاقتداء به في كل أفعاله "ما لم يُعلم أنها من خصوصياته".
أخرج الشيخان والنسائى وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأَته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ فقال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة ثم قرأَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: لمن كان يأْمل رحمة ربه ورضوانه، ونعيم اليوم الآخر وهو يوم القيامة أو يخاف الله واليوم الآخر، فالرجاءُ هنا بمعنى الأَمل أو الخوف، وقرن سبحانه وتعالى بالرجاء كثرة الذكر لأَن المثابرة على كثرة ذكره عز وجل تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق التأَسي والاقتداءُ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصرح بعض الأَجلة كالإِمام النووى أَن ذكر الله المعتبر شرعًا ما يكون في جملة مفيدة كسبحان الله، والحمد لله، وأَجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه، فالمتلفظ بنحو: سبحان الله والحمد لله إذا كان غافلا عن المعنى لا يثاب إجماعًا.
22 -
هذا بيان لما صدر عن خلص المؤْمنين وصالحي المسلمين عند اشتباه الشئون، واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم.
(1) في الكلام فن التجريد، وهو أن ينزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف بها، نحو: لقيت منه أسدًا، وهو كما يكون بلفظ في، كقول الشاعر:
أراقت بنو مروان ظلما دماءنا
…
وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
أي: لما شاهد المؤْمنون الأَحزاب وعاينوا جموعهم المحتشدة، قالوا مشيرين إلى ما شاهدوه: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه الفرج القريب والنصرة على الأعداءِ، أو الجنة. قال ابن عباس: يعنون قوله - تعالى - في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (1) وفي البحر عن ابن عباس قال: قال الرسول لأصحابه: "إن الأحزاب سائرون إليم تسعا أو عشرا" أي: بعد تسع ليال أو عشر من وقت أخباره لهم، فلما رأوهم قد أَقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وكذلك قول الرسول:"سيشتد الأَمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم" وتتبعه ابن حجر بأَنه لم يوجد في كتب الحديث.
وصدق الله ورسوله في الوعد حيث ظهر صدق خبر الله. ورسوله في مجىء الأَحزاب وفي النصرة عليهم، وما زادهم ما رأَوه من الضيق، وما كابدوه من الشدة إلا قوة إيمان بالله، وحسن انقياد لأوامره، وطاعة لرسوله.
وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد ويقوى لزيادة التكاليف وزيادة الأَعمال، وكما يزيد لذلك ينقص بنقصه - كما قال الجمهور.
(1) سورة البقرة، الآية: 214، أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما.
المفردات:
{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} : من الثبات في القتال مع الرسول حتى الاستشهاد أو النصر، ووفوا بذلك.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} : وفاءً بنذره بأَن قاتل حتى استشهد.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} : ومنهم من يبق حيا ينتظر ذلك الشرف.
{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} أي: وما غيروا عهد الله ولا نقضوا شيئا منه.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} : بأن يميتهم على نفاقهم فيعذبون بكفرهم.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: أو يوفق المستعد منهم للتوبة.
التفسير
23 -
لما ذكر سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأَنهم استمروا على العهد والميثاق.
أخرج الإِمام أَحمد ومسلم والترمذي والنسائى وجماعة عن أَنس قال: غاب عمى أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه!! لئن أَراني الله مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرين الله - تعالى - ما أصنع، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أَبا عمرو أَين؟ قال: واها لريح الجنة أَجدها دون أُحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ .... } الآية. وكانوا يرونها نزلت فيه وفي أصحابه.
وفي الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، أي: نذر الثبات التام والقتال الذي يُفضى بحسب العادة إلى نيل الشهادة أو النصر.
والمعنى: من المؤْمنين المخلصين رجال، أي رجال؟! رجالٌ عاهدوا الله أن يكونوا فداءً للدعوة وقربانا للإسلام، ومنارات على طريق الإيمان بالثبات مع الرسول في القتال، والاستبسال في الذود عن دين الله حتى يفوزوا بإحدى الحسنيين: الشهادة أَو النصر، وصدقوا في هذا العهد بأَن وفوا به وحققوه بما أظهروه من أعمالهم، ومن وفى بعهده فقد صدق فيه.
وهؤُلاء الصادقون منهم من قضى نحبه، أَي: وَفَّى بنذره بأَن قاتل حتى استشهد كحمزة أَسد الله ورسوله، قتل وهو يصول ويجول كالأَسد الهصور في الميدان، ومصعب ابن عمير استشهد وهو يحمل لواءَ المؤمنين إلى الجنة، وأَنس بن النضر الذي تقدمت قصته، ومنهم من ينتظر بأَن بقى حيًّا يتشوف إلى ذلك الشرف وينتظر يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤَدى نذره ويفي بعهده كعثمان وطلحة، روى أَن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أُصيبت يده، فقال الرسول:"أوجب طحة".
وعن ابن عباس أن نافع بن الأَزرق سأَله عن قوله - تعالى -: (قَضَى نَحْبَهُ) فقال: أجله الذي أجل له، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد:
ألا تسأَلون المرءَ ماذا يحاول
…
أنَحْبٌ فيقضى أم ضلال وباطل
وأَخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروى نحوه عن ابن عمر.
والمعنى الأصلي للنحب - على ما قرره الراغب والبيضاوى والكشاف -: النذر، يقال: قضى فلان نحبه، أي: وفى بنذره، واستعير للموت لأَنه كنذر لازم في رقبة كل حيران، كما يطلق - أيضًا - في اللغة على الأَجل والنفس وغيرهما.
{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} : وما غيّر هؤُلاء الصادقون عهدهم، ولا نقضوه ولا بدلوا تبديلا، لا أصلا ولا وصفا، بل ظلوا على ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا راغبين فيه مراعين لحقوقه صادقين في تحقيقه، وفي الكلام تعريض بمن بَدَّله من المنافقين، فكأَنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون.
24 -
المعنى: إنما يختبر الله عباده بالخوف والشدائد والزلازل والمحن ليميز الخبيث من الطيب فيظهر أَمر هذا وذاك بالفعل، ليجزى الله المؤمنين الصادقين بصدقهم في إيمانهم ووفائهم وصبرهم على تحقيق ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به ومحافظتهم عليه، ويعذب المنافقين الناقضين عهد الله، المخالفين لأَمره إن شاءَ إن لم يتوبوا، أو يتوب عليهم بأن يوفق المستعد منهم للتوبة.
ولما كانت رحمته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} : بقبول التوبة {رَحِيمًا} : بالعفو عن المعصية.
والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة: أنه - تعالى - إن شاءَ عذبهم في الآخرة لبقائهم على نفاقهم في الدنيا، وإن شاءَ - سبحانه - لم يعذبهم بأَن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى التوبة والإِخلاص في الإيمان والعمل.
ومثل ذلك قول السدي: المعنى: ويعذب المنافقين إن شاءَ تعذيبهم لبقائهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان بالتوبة فيعفو عنهم.
وللعلامة الآلوسي كلام طويل في هذا الموضوع فليرجع إليه من أَراد.
المفردات:
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : الأَحزاب.
{بِغَيْظِهِمْ} الغيظ: أشد الغضب والحنق.
{لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} : غير ظافرين بشيءٍ من مرادهم.
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} : بجنوده من الريح والملائكة.
التفسير
25 -
رجوع إلى حكايته بقية القصة، وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله - تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (1).
يقول الله - تعالى - مخبرا عن الأحزاب لما أَجلاهم عن المدينة بما أَرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية: ورد الله الأحزاب الذين كفروا، بما أَرسله عليهم من الريح والجنود، فلم ينالوا خيرا من غزوهم للمؤمنين، فقد أَلقى الله الرعب في قلوبهم فولوا مهزومين مدحورين، وكفى الله المؤمنين القتال ولم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤْمنين قتلهم وحده، ونصر عبده، وأعز جنده بجنود من الريح والملائكة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأَحزاب وحده، فلا شىءَ بعده" أخرجه الشيخان.
وفي قوله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} : إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش وحلفائها، قال محمَّد بن إسحق: لما انصرف أهل الخندق قال صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم" فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان رسول الله يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله - تعالى - مكة، وهذا الحديث الذي ذكره محمَّد بن إسحاق صحيح كما قال الإِمام أحمد، وروى مثله الإِمام البخاري في صحيحه، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} على تنفيذ ما يريد، {عَزِيزًا} لا يغلبه غالب.
(1) سورة الأحزاب الآية: 9.
المفردات:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} : عاونوا الأَحزاب وساعدوهم.
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : يهود بني قريظة.
{مِنْ صَيَاصِيهِمْ} : من حصونهم، جع صِيصيَة، وهو: ما تُحصِّن وامتُنِع به.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} : وأَلقى في قلوبهم الخوف الشديد.
{وَأَوْرَثَكُمْ} : وملككم إياها وجعلها لكم.
{وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} بعد وهي خيبر، أخذت بعد قريظة، وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
التفسير
26 -
سبب النزول:
روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأَحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إليهم فإن الله دَاقُّهُمْ (1) دقَّ البيض على الصفار، وإنهم لكم طعمة، فأذن في الناس أن من كان
(1) دقه: كسره، أو ضربه فهشمه، فاندق. ص 222 ج 3 قاموس.
سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاءِ الآخرة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تنزلون على حكمى؟! " فأبوا، فقال:"على حكم سعد بن معاذ" فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أَن يقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم ونساؤُهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أَرقعة"(1) ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضربت أعناقهم، وروى أن النبي جعل عقارهم للمهاجرين دون الأَنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال:"إنكم في منازلكم" وقال عمر رضي الله عنه: أَما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: "لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس" قال: رضينا بما صنع الله ورسوله - اهـ: الكشاف بتصرف.
والمعنى: وأنزل الله الذين عاونوا الأحزاب المخذولة وساعدوهم على حرب رسول الله من أهل الكتاب، وهم بنو قريظة - من اليهود من بعض أَسباط بني إسرائيل - كان قد نزل آباؤُهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأُمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (2) واقتلعهم من قلاعهم التي تحصنوا بها، وحصونهم التي امتنعوا خلفها، وأَلقى في قلوبهم الخوف الشديد، لأنهم مالأُوا المشركين على حرب الرسول -، وهم يعرفون صفاته في كتبهم، وليس من يعلم كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليكون لهم العز والغلبة والشوكة، فرد الله عليهم كيدهم في نحرهم، انهزم المشركون ورجعوا بصفقة المغبون، وتركوا حلفاءهم من بني قريظة لنصيبهم المحتوم، وراموا استئصال المؤْمنين فاستئصلوا، ولهذا قال - تعالى -:{فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} : فالذين قُتِلُوا هم المقايلة، والأَسرى هم النساءُ والذرارى.
27 -
(1) في الصحاح: الرقيع: سماء الدنيا وكذلك سائر السموات.
(2)
سورة البقرة من الآية: 89
وأَورثكم مزارعهم، وملككم حصونهم ومنازلم وأَموالهم: نقودهم ومواشيهم وأثاثهم، انتقل إليكم ملكها بعد قتلهم، وأَصبح مِلْكُكُم إياها مِلْكًا قويا، ليس بعقد يقبل الفسخ أو الإقالة، وأَورثكم أيضًا أرضا لم تطأْها أَقدامكم من قبل، قال عروة: لا أَحسبها إلا كل أرض فتحها الله -تعالى- على المسلمين، أو هو فاتحها إلى يوم القيامة، وبذلك قال عكرمة واختاره في البحر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} : فقد شاهدتم بعض آثار قدرته في هزيمة الأحزاب وتشتيت جموعهم، والانتصار العظيم علي بني قريظة وأورثكم أرضهم وأموالهم، وهو - سبحانه - قدير على أن يملككم ما شاء.
المفردات:
{قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} : وكن تسعا وطلبن منه شيئا من زينة الدنيا.
{إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: السعة فيها والتنعيم بها.
{وَزِينَتَهَا} : وزخرفها ومتعها.
{فَتَعَالَيْنَ} : أَقْبلْنَ بإرادتكن واختياركن.
{أُمَتِّعْكُنَّ} متعة الطلاق.
{وَأُسَرِّحْكُنَّ} : أطلقكن.
{سَرَاحًا جَمِيلًا} : طلاقا حسنًا لا ضرار فيه.
التفسير
28 -
جاءَ في البحر: أنه لما نصر الله نبيه، وردَّ عنه الأَحزاب، وفتح عليه النضير وقريظة، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحليّ والحُلَل والإماءِ والخَوَل (1)، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأَن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأَبناءَ الدنيا أَزواجهم، فأَمره - تعالى - أن يتلو عليهن ما نزل في أَمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
…
الآية} وبدأَ بعائشة فقال لها: "إني ذاكر لك أَمرا ما أحب أن تتعجلي فيه حتى تستأْمرى أبويك". قالت: ما هو؟ فتلا عليها قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ
…
الآية} قالت: أَفيك استأْمر أبويّ؟ بل أختار الله ورسوله، ثم تتابعن كلهن على ذلك فسماهن الله أُمهات المؤْمنين، تعظيما لحقهن، وتأْكيدا لحرمتهن، وتفضيلا لهن على سائر النساء، وقصره عليهن إذ قال:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (2) اهـ: آلوسى. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم مثل ذلك، ومما سبق يتضح مناسبة هذه الآية لما قبلها.
وفي خبر رواه ابن جرير وابن أَبي حاتم عن قتادة والحسن: أَنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه السلام تسع نسوة، خمس من قريش وهن:
(1)
عائشة (2) وحفصة (3) وأم حبيبة بنت أبي سفيان (4) وسودة بنت زمعة (5) وأم سلمة بنت أبي أُمية.
ومن غير قريش: (6) صفية بنت حُيَيّ الخيبرية (7) وميمونة بنت الحارث الهلالية (8) وزينب بنت جحش الأسدية (9) وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكان هذا التخيير كما روى عن عائشة وأبي جعفر بعد أن هجرهن - عليه الصلاة السلام - شهرا "تسعة وعشرين يوما" وكان درسا قاسيا، وموقفا حاسما - وقفه رسوله الله أمام نسائه حين أردن زخارف الدّنيا وزينتها - بأَمر من الله.
والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك ناصحًا مبينًا لهن وحي الله وأمره: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، والسعة فيها، والتنعم بها، فاقبلن بإرادتكن واختياركن لخصلتين
(1) أي: الخدم.
(2)
سورة الأحزاب: الآية: 52.