المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة لقمان ‌ ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات وسبب نزولها: أنَّ قريشًا - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌سورة لقمان ‌ ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات وسبب نزولها: أنَّ قريشًا

‌سورة لقمان

‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

وسبب نزولها: أنَّ قريشًا سألت الرسول عن قصَّة لقمان مع ابنه فنزلت.

مناسبتها لما قبلها: ذكر العلماء أوْجُهًا كثيرة لمناسبة. هذه السورة لما قبلها، ونقتصر على ما يلي:

ذكر في السُّورة السابقة - سورة الروم - قوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وذكر هنا في سورة لقمان قوله - تعالى -: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وكلتاهما تفيد إمكان البعث وسهولته على الله - تعالى - كذلك جاء في السورة السابقة قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، وقال عز وجل في هذه السورة:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} فذكر - سبحانه - في كل من الآيتين قسمًا لم يذكره في الأُخرى، ففي الأُولى ذكر الفريق المشرك، وفي الثانية ذكر الفريق المؤمن، وبيَّن في الآيتين طبيعة الناس وما جبلوا عليه، إذا مسَّهم مكروه دعَوْا ربهم خاشعين مُخْبتين، فإذا نَجَّاهم من شدَّتهم نسى أكثرهم فضله، وجحدوا آلاءه، ورجعوا إلى شركهم، وبقي قليل منهم.

كذلك ذكر في السورة الأولى هزيمة الروم ثم غلبتهم بعد قتال مرير بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تَحَارَبَا عليها وخرجا بذلك عن مقتضى الحكمة، وذكر في سورة لقمان قصَّة عبدٍ حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا مُلتفت إليها، أوْصَى ابنه بما يأْبى القتال، ويقتضي الصبر والمسالمة، وبَيْن الأمرين مِنَ التقابل ما لا يخفى.

‌مقاصد السورة

صُدّرت السُّورة الكريمة بـ (الم) إفْحَامًا للكافرين الذين تحدَّاهم القرآن أن يأْتوا بمثله مع أنه مُؤَلَّف من كلمات ذات حروف كالتي ينطقون بها في لغتهم، وتنبيهًا للآذان لتستعدَّ لسماع وقبول ما يُتْلى عليها من الهَدْي الرَّبَّاني، ثم أشارت إلى القرآن الحكيم باسم

ص: 75

الإشارة الذي يدلّ على البعد للفت النَّظر إلى علوّ منزلته، وذكرت أخلاق المحسنين التي تمكنُوا بها من الهدى والفلاح دون غيرهم، وعقبت ذلك بذكر نوعين من الناس: ضالٍّ مُضِلّ يُعْرض عن الإيمان حينما يُعْرض عليه، ومؤْمن صالح، وبينت جزاء كل، ثم أخذت السُّورة تلفت الأنظار إلى بعض مظاهر قدرته ودلائل نعمته، وذكرت تحدِّيَ الرسول للمشركين في قوة وصلابة بأن هذه المظاهر وتلك الدلائل مخلوقة لله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه من الشُّركاء الذين عبدتموهم، ولن يجدوا جوابًا لأن الظالمين بشركهم في ضلال مبين.

ثم ذكرت وصايا لقمان لابنه وما اشتملت عليه من أخلاق ونَهْيٍ عن الشرك وأمْر ببرّ الوالدين.

ثم عرضت لما خلقه الله للإنسان وأكرمه به من نعم ظاهرة وباطنة، وتحدَّثت عمن يجادل في الله بغير علم وإذا دعى إلي الإيمان واتِّباع ما أنزل الله اعتذر باتباع الآباء وتقليدهم فيما كانوا عليه، مع أنه ضلال يؤدى بهم إلى عذاب النار، ورفعت السُّورة من قدر من يَتَّجه إلى الله بوجهه، ويفوّض إليه جميع أمره، فقد تعلق بأقوى الأسباب التي توصله إلى رضا الله، وأوصت الرسول بألَاّ يهتمّ بكُفْر من كفَر، فسيرجع إلى الله ويذوق وبال أمره، ثم ذكرت الآيات أن المشركين إذا سُئِلوا عمن خلق السموات والأرض يقولون: هو الله، وهم بإقرارهم هذا لا يعلمون أنهم قد أقاموا الحجة على أنفسهم بفساد عقيدتهم.

ثم صوّرت السُّورة مدى عظمة الله، وعلمه، وكلامه، بأنه لو صار كلُّ أشجار الأرض أقلامًا، ومياه البحار الكثيرة مِدَادًا تُكْتَب به كلمات الله لفنيت الأقلامُ وَنَفِذَ المداد، وما نفدت كلمات الله، ومدى قدرته بأن خَلْقَهم وبَعْثَهم كَخَلْق وبعْث نفس واحدة، ومدى قدرته وفضله بأنه يُولِج الليل في النهار، ويُولِج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجرى أجل مسمَّى، وأن الفلك تجرى في البحر بنعمته ليُريكم من آياته، وأن الناس يلتجئون إليه في المُلمات.

ص: 76

وأمَرَتْ السورة بتقوى الله والخشية من يوم الحساب، حيث يُجازى الناس على أعمالهم وحذرت النَّاس من أن يُفتنُوا بمباهج الدنيا أو يُخدعوا بوسوسة الشيطان، وخُتمت السُّورة ببيان مفاتح الغيب وما استأْثَرَ الله بعلمه.

ومِمَّا تقدم يتضح أن أهم ما تناوَلَتْه السُّورة من أغراض ما يلي:

(1)

إثبات عقيدة التوحيد التي من أجلها أرسل الله جميع الرسل، وقد اشتملت السورة على مجموعة من الآيات الكونية التي تدلُّ على أن مَنْ خلَقَ هذا الكون قويٌّ قاهر، وعظيم قادر، ومُنْعِم متفضِّل جدير بأَن يُعْبَد، وأن الشرك أعظم الظلم.

(2)

الحث على مكارم الأخلاق التي جاءت في وصية لقمان لابنه من إقامته الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، والأمر بالمعررف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والصبر، والتواضع، وهذه هي صفات المجتمع الفاضل.

(3)

إعمال العقل والتفكير في ملكوت السموات والأرض.

(4)

ذم التقليد لأنه إنكار للعقل وتعطيل له.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

المفردات:

{الْحَكِيمِ} : ذي الحكمة، أو الحكيم قائلهُ.

{هُدًى} : دلالة مُوصلة الي المقصود، وهو مصدر هَدَيْتُ فلانا الطريق: إذا دللته عليه.

ص: 77

{يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} معنى إقامتها: تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وآدابها، من أقام العود: إذا قومه.

{يُوقِنُونَ} : يؤمنون أقوى الإيمان.

{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} : أي أولئك المؤمنون المحسنون في أعمالهم مُتَمَكِّنُون من الهدى الذي جاءهم من ربهم.

التفسير

1 -

{الم} : الله أعلم بمراده، وقيل: ابتدأ الله بعض السور بمثل هذه الحروف، ليشير إلى أن القرآن مؤَلف من كلمات ذات حروف من جنس ما يؤلف منه العرب كلامهم، وقد أعجز العرب عن أن يأتوا بمثله ومحمد مثلهم، فتلك حجة على أنه من عند الله، أو ليُنبه العقول والأَسماع ويشدَّها إلى الأسماع والإنصات لما يتلى.

2 -

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} :

هذه الآيات العظيمة الرفيعة القدر والمنزلة آيات القرآن الكريم المكتوب، المشتمل على الحكمة والصواب والعلم النافع.

3 -

{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} :

هذه الآيات هداية كاملة، ورحمة شاملة للذين يعملون الحسنات التي ذكرها في الآية بعدها، أو الذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص الله منهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لفضل اعتدادهم بها لما لها من أثر فعال في حياة الفرد والمجتمع.

4 -

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} :

المُحسنون هم الذين يقيمون الصَّلاة، ومعنى إقامتها: تأديتها على الوجه الأكمل بالإتيان بها تامة دون نقص في فرائضها وآدابها، والدَّوام عليها، والمحافظة على أوقاتها، وجمع الهمة عند أدائها وعدم الفتور في أدائها، ويؤْتون الزَّكاة، أي: يُعطونها مُستحقيها،

ص: 78

وهم الأصناف الذين ذكرهم الله في القرآن: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

} الآية (1).

والزكاة هي العلاج الرباني الذي عَلَجَ به العليم الحكيم أمراضَ البشرية كلها، وحلَّ به مشكلة الفقر، وحقَّق به العدالة الاجتماعية التي أعجزت نُطُسَ الأطباء (2)، وأكابر الحكماء، وقامت من أجلها مذاهب، ونشأَت فلسفات، وكلٌّ منها يضرب في أوْدِية الضلال ما دام بعيدا عن الهَدْي والعلاج الإلهي.

وهم بالحياة الآخرة يؤمنون أقوى الإيمان وأعظمه.

5 -

{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

أولئك المؤمنون المحسنون الموصوفون بما سبق من الصفات مُتمَكِّنون من الهدى الذي جاءهم منحة من ربهم، وأولئك هم الفائزون حقا دون سواهم، والاستعلاءُ في قوله - تعالى -:{عَلَى هُدًى} تمثيل لتمكُّنهم من الهدى واستقرارهم عليه، وتمسكهم به، ومعنى {هُدًى}: لُطْفٌ وتوفيقٌ استعانوا بهما على أعمال الخير والترقِّي إلى الأفضل فالأفضل، ونكَّر {هُدًى} لتفخيمه، أي: أنهم على هدى لا يبلَغ كُنهُهُ ولا يُدْركُ قدْرُه.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}

(1) سورة التوبة الآية 60.

(2)

أي: أمهرهم.

ص: 79

المفردات:

{لَهْوَ الْحَدِيثِ} : كل ما شغل عن عبادةِ الله وذكره من الغناء والأَضاحيك والخرافات وغيرها، وقد رُوي ذلك عن الحسن.

{سَبِيلِ اللَّهِ} : دينه الموصل إليه، أو كتابه الهادي إليه.

{هُزُوًا} : مهزوءًا بها وسخرية منها.

{وَلَّى} : أعرض عنها غير مُعتد بها.

{مُسْتَكْبِرًا} : مُبالغا في التكبر.

{كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} : مع أنه سامع.

{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} : الوقر الصم كليا أو جزئيا، وهو مانع من السماع.

{فَبَشِّرْهُ} : أعلمه، وذكر البشار للتهكم.

التفسير

6 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} :

لما ذكر الله - تعالى - حالَ السعداء وهم الّذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، ذكر عقبه حال الأَشقياء الذين أعرضوا عنه، ولم ينتفعوا بهديه، وأقبلوا على استماع الباطل وأحاديث اللهو والمجون وما لا خير فيه كالمزامير والغناء.

وفي أسباب النزول للواحدي، عن الكلبي ومُقَاتِل: أن النضر بن الحارث كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم - وفي بعض الروايات: كتب الأعاجم - فيرويها ويُحَدِّث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدِّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أُحَدِّثكم بحديث رُستم وأخبار الأكاسرة، فيستحلون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت.

والمعنى: ومن الناس من اهْتَدَى وهَدَى، ومنهم من ضل وأضل، فكان يشترى باطل الحديث وما لا خير فيه من الكلام، ويقصه على الناس وينشره بينهم، ويدعوهم إليه ويحسِّنه عندهم؛ ليصرفهم ويصدهم عن دين الله، أو عن الاستماع إلى كتابه الهادي

ص: 80

إليه، بغير بصيرة حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، جهلًا منه بما هو عليه من إثم وما يرتكبه من جُرْم، ويتخذ آيات الله ووحيه سخرية - الذين يفعلون ذلك - لهم عذاب مُهين ومذل لهم، لما اتَّصفوا به من إهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه، ودعوة الناس إليه. وقول الله - تعالى -:{يَشْتَرِي} في الآية: إما من الشِّراء المعروف على ما رُوى عن النَّضر بن الحرث من شِرائه كتب الأعاجم، أو نحو قوله - تعالى -:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} (1): أي استبدلوا الكفر بالإيمان واختاروه عليه؛ وعن قتادة: اشتراؤُه: استحبابه، يختارون حديث الباطل على حديث الحق.

7 -

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} :

وإذا تُقْرأُ على هذا الضَّال آيات الله أعرض عنها غير مُعْتَدٍّ متكبِّرا مُبالغًا في التكبّر، وحاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع، كأَنَّ في أذنيه صَممًا وثُقْلا مانعا من السّماع فأَنذره - أيها الرسول - بأن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة يوم القيامة يؤلمه كما تألَّم بسماع كتاب الله وآياته، وتصَامم معرضا عنها وما به من صمم، وقوله - تعالى -:{كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} فيه رمز إلى أنَّ من سمعها لا يُتَصَوَّر فيه التَّوْلية والاستكبار لما فيها من الأمور المُوجبة للإقبال عليها والخضوع لها. وقوله - تعالى -: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أصل معنى الوقْر: الحمل الثقيل، استعير للصم، ثم غلب حتى صار حقيقة فيه.

حكم الغناء: أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن أبن عباس أنه قال: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} : هو الغناء وأشباهه (2) ولقد عرض المفسِّرون لحكم الغناء وأطالوا فيه الكلام وبخاصة العلامة الآلوسي، وإليك نبذه مختصرة في هذا الموضوع:

الغناء الذي يُحرك النفوس ويبعث على إثارة الشهوة لما فيه من شعر يُشَبَّب (3) فيه بالنِّساء ويحث على الفجور بذكر الخمور والمحرمات، لا يُختلف في تحريمه، لأنه اللهو المذموم باتفاق. بل حكى بعضهم الإجماع علي حرمته في جميع الأديان.

(1) سورة البقرة، الآية:16.

(2)

الألوسي.

(3)

التشبيب: النسيب بالنساء وذكر محاسنهن.

ص: 81

أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا القِيان ولا تشتروهنَّ ولا تُعلِّموهن، ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهنَّ حرام" في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ

} إلخ ذكر ذلك الآلوسي والكشاف.

أمّا من سَلِم من ذلك، ففي "الدر المختار": التغنِّي لنفسه لدفع الوحشة لا بأْس به عند العامة على ما في "العناية" وصحّحه العيْني وغيره، وإليه ذهب شمس الدين السّرخسي، قال: ولو كان فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا، ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدُّفِّ فيه، ومنهم من أباحه مطلقا، ومنهم من كرهه مطلقا. انتهى كلام الدّر - ذكر ذلك الآلوسي، قال: الآلوسي: ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السَّماع، فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت:"دخل عَليَّ النبي صلى الله عليه وسلم جاريتان تُغَنِّيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، وفي رواية لمسلم تسجَّى بثوبه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارةُ الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد. والحق أنَّ الغناء الذي لا يُحرِّك الشَّهوة، ولا يحثُّ على الفجور وشرب الخمور، يجوز في المناسبات كالعيدين، كما ورد في حديث البخاري السابق عن عائشة، وكالعرس؛ لما ورد أن الرسول حينما علم بزواج فتاة قال: "هلا بعثتم معها من يقول: (1).

أتيناكم أتيناكم

فحيُّونا نُحَيِّيكم

فلولا الحبة السمرا

ء لم نحلل بواديكم"

(1) في السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 289 أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت النساء إذا تزوجت المرأة أو الرجل خرج جواري الأنصار يغنين ويلعبن فمروا في مجلس فيه رسول الله وهن يغنين ويقلن:

أهدى لها زوجها أكبشا

يبحبحن في المربد

وزوجها في النادى

يعلم ما في غد

فقال: "سبحان الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، لا تقولوا هكذا، وقولوا:

أتيناكم أتيناكم

فحيانا وحياكم

قال البيهقي: هذا مرسل جيد: هامش جمع الجوامع ص 2338 العدد التاسع عشر من الجزء الثاني.

ص: 82

وعند التنشيط على القيام بالأعمال الشَّاقَّة كغناء وأناشيد أصحاب الحرف والصناعات، وكحداء الإبل للصبر على قطع المفاوز واجتياز الصحراء، كما يجوز سماع ذلك، والله أعلم.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}

المفردات:

{جَنَّاتُ النَّعِيمِ} : أي جنات النَّعيم الكثير.

{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} : أي هذا ثابت لا محالة؛ لأنه وعد الله، ووعده لا يتخلَّف.

{الْعَزِيزُ} : الذي لا يغلبه شيء.

{الْحَكِيمُ} : الذي لا يفعل إلا ما توجبه الحكمة، فهو يضع الشيء في موضعه.

التفسير

8، 9 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}:

في هاتين الآيتين بيان حال المؤمنين بآياته - تعالى - إثر بيان حال الكافرين بها، أي: إنَّ الذين آمنوا بالله وبآياته وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة لهم جنَّات يتنعمون

ص: 83

فيها بأنواع الترف، من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنِّساء وغير ذلك مما لا يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون لا يظعنون، ولا يَبْغُون عنها حِوَلا، بل يبقون فيها على وجه الخلود، وهذا حاصل لا محالة؛ لأنه وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، وهو العزيز الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولا يغلبه شيء فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده، الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي يضع الشيء في موضعه.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}

المفردات:

{بِغَيْرِ عَمَدٍ} : عَمَد وعُمُد: جمع عمود، وعماد، وهو: ما يُعْمَد به، أي: يُسْنَد.

{رَوَاسِيَ} : جبالا ثوابت أو شوامخ.

{أَنْ تَمِيد} : أي لئلا تضطرب وتتحرك.

{وَبَثَّ} : ونشر وذرأَ.

وأصل البثّ: الإثارة والتَّفريق، ومنه قوله - تعالى -:{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (1).

{زَوْجٍ} : صنف ونوع {كَرِيمٍ} : حسن شريف، كثير المنافع.

(1) سورة الواقعة، الآية رقم:6.

ص: 84

{خَلْقُ اللَّهِ} : مخلوقه. {فَأَرُونِي} : فأَعلموني وأخبروني.

{مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟.

التفسير

10 -

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} :

استئناف جيء به للاستشهاد بما فصَّل فيه على عزَّة الله التي هي كمال القدرة والغلبة، وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل.

والمعنى: خلق السّموات بغير عمد مرئيَّة، فإن الله - سبحانه - أمسكه بنظام محكم غير مرئى يحفظها من السّقوط أو الانتثار، وبعد أن ذكر الله عز وجل صنعه العجيب في حفظ السموات بَيّن صنعه الحكيم في حفظ الأرض حيث وضح سبحانه أنه جعل في الأرض جبالا شاهقة ثوابت حتى لا تهتزَّ وتضطرب بكم، والحكمة اقتضت خلقها على حال لو خلت معه من الجبال لَمَاَرَتْ واضطربت، ونشر فيها من كل الحيوانات التي تدبّ وتتحرك، ولما قرّر - سبحانه - أنه الخالق نبّه على أنه الرازق بإنزاله من السماء ماء وإنباته بسببه من كل صنف بهيج كثير المنافع، حسن المنظر.

والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين: (وأنزلنا - فأنبتنا) لإبراز مزيد الاعتناء بهما.

11 -

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

هذا الذي ذكره الله - تعالى -: في الآية السابقة - من إيجاد السّموات والأرض وما فيهما وما بينهما مخلوق لله، صادر عن إرادته وفعله وتقديره وحده لا شريك له، فأخبروني ماذا خلق الذين من دونه مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد حتى يكونوا شركاء له، بل الظَّالمون بإشراكهم في ضلال واضح وجهل وعمى ظاهر لا خفاء فيه، ثم انتقل من تبكيتهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال المبين المستدعى للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة لاستحالة أن يفهموا شيئًا فيهتدوا به إلى العلم بفساد ما هم فيه فينزجروا

ص: 85

عنه، حيث قال:{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، والتعبير بقوله:{بَلِ الظَّالِمُونَ} بدل الإضمار: للدلالة على أنَّهم بإشراكهم ظالمون بوضعهم الشيء في غير موضعه، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}

المفردات:

{لُقْمَانُ} : هو - على ما ذكر الكشَّاف - لقمان بن باعوراء بن أخت أيّوب عليه السلام أو ابن خالته، والذي عليه المحقِّقون: أنَّه كان رجلا صالحا حكيما، ولم يكن نبيّا، ولقد سجل الله في القرآن نصيحته لولده، وما سوى ذلك فإسرائيليات تفتقر إلى الدليل.

{الْحِكْمَةَ} : هي على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: العاقل والفهم والفطنة.

{لِابْنِهِ} : قيل: تاران - على ما قاله الطَّبري - وقيل: ماثان، وقيل: غير ذلك والله أعلم بالحقيقة.

{يَعِظُهُ} : ينصحه ويخوّفه.

{يَا بُنَيَّ} : تصغير إشفاق ومحبّة، لا تصغير تحقير.

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ} : لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه.

{عَظِيمٌ} : لما فيه من التَّسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة تصد عنه.

ص: 86

التفسير

12 -

: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} :

كلام مستأْنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنَّقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل.

والمعنى: ولقد أعطينا لقمان العقل والفهم والإصابة في القول، وأمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه ومنحه من الفضل الذي خصَّه به دون سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه لأَنه إنما يعود نفع ذلك وثوابه عليه، ومن كفر النعم وجحدها ولم يشكرها فإنما يكفر على نفسه؛ لأنَّ ضرر كفره عائد عليه، لأنَّه - تعالى - غنيّ لا يحتاج إلى الشكر، ولا يتضرر بالكفر، حميد حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، أو محمود بالفعل، ينطق بحمده - تعالى - جميع المخلوقات بلسان الحال.

13 -

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} :

واذكر إذ قال لقمان لابنه وهو ينصحه ويذكره بما هو خير له، نصيحة أب محبٍّ لولده مشفق عليه، فهو حقيقٌ أن يمنحه أفضل ما يَعْرف، ويسُوق إليه كل ما فيه الخير له: ولهذا أوصاه أوَّلًا بأن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا، وقال محذرًا: إن الشرك لظلم عظيم، أي: أعظم الظلم.

روى الإمام البخاري بسنده المتصل عن عبد الله قال: لمَّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إيمانه بظلم؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّه ليس بذاك، ألَا تسمع إلى قول لقمان:{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ورواه مسلم من حديث الأعمش - اهـ: ابن كثير.

وإنما كان الشِّرك ظلمًا عظيمًا لأن التسوية بين من لا نعمة إلَاّ منه وما لَا نعمة منه البتة، ولا يُتصور أن تكون منه نعمة، إنما هو ظلم لا يُكْتنه عِطَمُهُ.

وقوله - تعالى -: {وَهُوَ يَعِظُهُ} قال الراغب: الوعظ: زجر مقترن بتخويف.

وقال الخليل: التذكير بالخير فيما يرق له القلب.

ص: 87

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

المفردات:

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} : أمرناه ببرِّهما.

{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} : ضعْفا على ضعف.

{وَفِصَالُهُ} : وفطامه.

{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} : تفسير لـ "وصينا" وما بينهما مؤكد للوصيَّة في حقِّ الأُم خاصة.

{إِلَيَّ الْمَصِيرُ} : إليَّ المرجع لا إلى غيري.

{وَإِنْ جَاهَدَاكَ} : وإن حملك والداك بجهد.

{مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : أي ما ليس لك علم باستحقاقه العبادة.

{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} : اسلك طريق من تاب عن شركه ورجع إلى الله.

التفسير

14 -

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} :

ص: 88

كلام مستأنف على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما في الوصية من النهي عن الإشراك، فهو من كلام الله عز وجل ولم يقله سبحانه وتعالى للقمان، وقيل: هو من كلامه - تعالى - للقمان، وكأنَّه قيل: قلنا له: اشكر، وقلنا له: وصَّينا الإنسان

إلخ.

والمعنى: وأمرنا الإنسان بأن يرْعَى والديه ويجعل لأمِّه أوفر نصيب، وأعظم قدر من العناية والرِّعاية؛ لأنها حملته جَهْدًا على جهد، وثقلًا على ثقل، يتزايد به ضعفها، ويتضاعف؛ لأن العمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا، وقد وقَّت الله فطامه في هذه الآية بعامين، للإشارة إلى أنهما الغاية التي لا تُتَجَاوزُ، والأمر فيما دون ذلك موكول إلى اجتهاد الأُم، وظاهر الآية أن مدَّة الرِّضاع عامان، ويؤيِّده قوله - تعالى -:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1)، وإلى هذا ذهب الشافعي والإمام أحمد، وأبو يوسف. ومحمد، وهو مختار الطحاوي، وروي عن مالك، وذهب الإِمام أبو حنيفة إلى أن مدَّة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرًا، ومن أراد معرفة دليله فليرجع إلى المطولات.

{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} : ووصَّينا الإنسان أن اشكر لي على نعمتي عليك، ولوالديك على ما تحملا من المشقَّة فيك حتى استحكمت قواك، وشُكْرُ الله يكون بطاعته وفعل ما يرضى عنه، وشكر الوالدين بصلتهما والبرّ بهما والدُّعاء لهما، إليّ المرجج والمآب لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من خير أو شر، ومن شكر أو كفر، وهذا تعليل لوجوب الامتثال لما أمر الله.

15 -

{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} :

أي: وإن حملك والداك بجَهْد على أن تشرك بالله ما لا تعلم أنه يستحق العبادة فلا تطعهما وصاحبهما في الدُّنيا صِحابًا معروفًا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم والمروءة، كالقيام

(1) سورة البقرة، الآية:233.

ص: 89

بشئونهما من طعام وكسوة، وعدم جفائهما وانتهارهما، ومن عيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا، وذكر لفظ:{فِي الدُّنْيَا} لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يضر تحمُّل مشقتها لقلة أيامها وسرعة مُضيّها. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يريد: واسلك طريق المؤمنين في دينك، ولا تتبع سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورًا بحسن مصاحبتهما في الدنيا، ثم إلى مرجعك ومرجعهما فأجازيك على إيمانك وأُجازيهما على كفرهما.

والآية الكريمة نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج ابن أبي ليلى، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي عثمان النُّهدي: أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ

الآية} كنت رجلًا بَرًّا فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعَيَّر بي، فقال: قاتل أمِّه، قلت: لا تفعلي يا أُمَّه؛ فإني لا أدع دينى هذا بشيء، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل فَأَصبَحَت قد اشتدَّ جهدها، فلما رأيت ذلك قلتُ: يا أمّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نَفسًا نفسًا ما تركت دينى هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية.

وأخرج الواحدي، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنه يريد بمن أناب: أبا بكر فإن إسلام سعد كان بسبب إسلامه. وقيل: من أناب، محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. والظاهر العموم، وقوله - تعالى -:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال الزمخشري: أراد بنفي العلم به نَفْيَه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام كقوله - تعالى -:{مَا يَدْعُون مِن دُونِهِ مِن شَيء} (1)، وقال الآلوسي: المعنى: وإن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرًا ليس لك به علم.

(1) سورة العنكبوت، الآية رقم:42.

ص: 90

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}

المفردات:

{إِنَّهَا} : أي الخصلة من الإساءة أو الإحسان.

{إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} : أي إن تكن في الصِّغر قدر حبة الخردل مثلًا، والمثقال: ما يُقدر به غيره لِتَسَاوي ثقلهما، وهو في العُرْف معلوم وزنه.

{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} : يُحضِرها فيحاسب عليها.

{لَطِيفٌ} : يصل علمه إلى كل خفي.

{خَبِيرٌ} : عالم بكنهه.

{إِنَّ ذَلِكَ} : إشارة إلى ما ذُكر من الصبر على ما أصابك وغيره.

{مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : مما عزمه الله وقطعه على عباده وأمر به.

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} : أي ولا تُمِلْه عنهم، ولا تُوَلِّهم صفحة وجهك كما يفعل المتكبِّرون.

ص: 91

{مَرَحًا} : فرحًا وبطرًا.

{مُخْتَالٍ} : متكبر.

{فَخُورٍ} : كثير الفخر، يُعدِّد ما أَعْطى مباهاة.

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} : أي وتوسط فيه بين البطء والإسراع، من القصد، وهو الاعتدال.

{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ} : أقبحها وأوحشها.

التفسير

16 -

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} :

رجوع إلى القصة بنشر بقية ما أُريد حكايته من وصايا لقمان لابنه:

يا بُنَيَّ إن الحسنة أو السيئة إن تكن في الصِّغر قدر حبة الخردل مثلًا، وتكن مع ذلك في أخفى مكان وأحْرَزه كجوف الصَّخرة، أو كانت في العالم العلوي أو السُّفليّ، يحضرها الله ويحاسب عليها.

والحكمة في هذا الترتيب - كما جاءَ في البحر لأبي حيان - أنه بدأ بما يتعقله السامع أولًا، وهو كينونة الشيء في صخرة، ثم عقبه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع، ثم عقبه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض. {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يحضرها يوم القيامة فيحاسب عليها، وهو إما على ظاهره، أو معناه: يجعلها كالحاضر المشاهد للتذكير والاعتراف بها، وهو أبلغ من قوله:(يعلمه الله) ففيه مع العلم بمكانه: القدرة على الإتيان به، وذلك لأن الله لطيف يصل علمه وقدرته إلى كل خفي، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقَّت ولَطُفَت واستترت، خبير عالم بكُنههِ ومُستَقَرّه، فهو خبير بدبيب النملة السَّوداء على الصخرة الصَّماء في الليلة الظلماء.

17 -

{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} :

بعد ما أمَرَ لقمان ولده بالتَّوحيد الذي هو أوَّل ما يجب على المكلَّف - في ضمن النهي عن الشَّرك - ونَبَّهه إلى كمال علمه - تعالى - وقدرته عز وجل أمره بالصَّلاة التي هي أكمل

ص: 92

العبادات - تكميلًا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد - فقال مُستَمِيلًا له: يا بُنَيَّ أقم الصلاة بأركانها وشروطها في مواقيتها، تكميلًا لنفسك، وأمر غيرك بما عرف حسنه شرعًا وعرفًا، وانْهَهُ عن القبيح والمنكر تكميلًا له.

والمعروف: ما حسَّنه الشَّارع وأَمر به، والمنكر: ما أنكره الشارع وقبَّحه ونهي عنه. والظاهر أنه أمره بكل معروف ونهاه عن كل منكر، وخص بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالشرك. ثم قال له: واصبر على ما أصابك من الشدائد والمحن في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن الصَّبر على ما أصابك وعلى سائر ما أُمرت به من عزم الأمور، أي: مما عزمه الله - تعالى - وأمر به أمر إيجاب وإلزام، فلزم قَبُولُه والعمل به والحرص عليه، وهذا تعليل لوجوب الامتثال لما سبق من الأمر والنهي.

18 -

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} :

ولا تستكبر على الناس، بل ألِن جانبك لهم، وأقبل عليهم متواضعًا، ولا تُوَلِّهم شِقَّ وجهك وصفحته كما يفعله المتكبِّرون إعجابًا بأنفسهم لأن الله لا يحب كل مختال فخور وأصل الصَّعَر: داءٌ يَعتري البعير فيلوى منه عنقه، ويستعار للكبر، ولا تمش في الأرض مرحًا وبطرًا كما يمشي المختالون المتكبرون؛ لأن الله - سبحانه - لا يُحبُّ كل مختال فخور. والمختال: المتكبِّر، وهو مأخوذ من الخيلاء وهو التَّبَختر في المشي كِبرًا، والفخور: كثير الفخر، وهو المباهاة، ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لغيره، والتعبير بفخور وهي من صيغ المبالغة، ولأن ما يقبح من الفخر كثيرة فإن القليل منه معفو عنه لابتلاء الناس به، فلطف الله - تعالى - بالعفو عنه، وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهدين بين الصَّفَّين، وبإباحة الفخر بنحو المال لقصد حسن كالتحدث بنعمة الله.

19 -

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} :

بعد النهي عن المرح في المشي أمر - سبحانه - بالتوسط فيه بين البطء والإسراع في تواضع، وذلك أليق بالمسلم، وأبعث على الهيبة والوقار، فقال: واقصد في مشيك، من

ص: 93

القصد: وهو الاعتدال، أَي: لا تَدِب دبيب المُتَمَاوتين ولا تثِب وثْبَ الشُّطَّار. قال ابن مسعود: كانوا يُنهَون عن خَبَب اليهود ودبيب النَّصَارى، ولكن مشيا بين ذلك، أما قول عائشة تصف عمر: كان إذا قال أسْمَع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أَشبع، وإذا مشى أسرع، فالمراد بالإسراع التوسُّط، وما فوق دبيب التَّمَاوُت، وكذلك ما ورد من صفته عليه الصلاة والسلام:"إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب"(1) فالمقصود به نشاطه عليه الصلاة والسلام وقُوَّتُه، لا الإسراع، لنهيه عليه الصلاة والسلام عنه حيث قال:"سرعة المشى تُذهِب بهاء المؤمن".

واخفض من صوتك وانقص منه واجعله قصدًا، ولا ترفعه إذا تكلَّمت، فذلك أوقر للمتكلم، وأَبسط لنفس السامع وفهمه، إن أقبح ما يُستنكَر من الأصوات ويُستَكرَه: لصوت الحمير، والجملة تعليل للأمر بالغضِّ من الصوت على أبلغ وجه وآكده، حيث مثل حال الرَّافِعِين أصواتهم بحال الحمير في نهاقهم، وفي ذلك من المبالغة في الذَّمَّ والتَّهجين والتَّثبِيط عن رفع الصوت والتَّرغيب عنه ما فيه، ولقد رد الله سبحانه وتعالى بهذا على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بِجَهَارة الصوت ورفعه، مع أن ذلك يؤذى السَّامع؛ إذ يَقرع الصَّمَاخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأُذن.

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}

(1) في القاموس: الحط: الحدر من علو إلى أسفل. الصبب - محركة -: تصبب نهر أو طريق يكون في حدور.

ص: 94

المفردات:

{سَخَّرَ} : ذَلَّل، والتسخير - على ما قاله الراغب -: سياقه الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا.

{وَأَسْبَغَ} : أتم وأكمل.

{نِعَمَهُ} : جمع نعمة، وهي: كل نفع قصد به الإحسان.

{يُجَادِلُ في اللهِ} : يجاور ويخاصم وينازع في توحيد الله وعبادته وصفاته.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} : ليس معه من الله برهان، ولا هدى رسول، ولا كتاب مرشد.

{اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله} : على رسوله من الشرائع المطهرة.

{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، يريدون عبادة ما عبد آباؤهم من دون الله.

التفسير

20 -

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ في اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} :

رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصَّة لقمان، من خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد.

والمعنى: قد رأيتم أن الله سخر لكم وذلَّل ما في السموات: الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك، وما في الأرض: البحار والأنهار والثِّمار والمعادن والدَّواب وما لا يحصى وأتم عليكم نعمه الظاهرة منها، وهي ما تُعْلَم بالمشاهدة، كغلبة الإِسلام والنُّصرة على الأعداء وحسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والسمع والبصر واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: وهي ما لا تعلم إلَاّ بدليل، أو لا تعلم أصلًا، مثل: المعرفة والقلب، والعقل والفهم. وكم في بدن الإنسان وحياته من نعمة لا يعلمها ولا يَهتدي إلى العلم بها، وصدق الله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1).

(1) سورة النحل، من الآية:18.

ص: 95

ومع هذه النعم فمن الناس من ينازع ويخاصم في توحيده عز وجل وفي صفاته - جل شأنه - كالمشركين المنكرين وحدانيَّته - سبحانه - وعموم قدرته - جلَّت قدرته - وشمولها البعث.

والإظهارُ بدل الإضمار في قوله - تعالى -: {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} بذكر الاسم الجليل - تهويل لأمر الجد فيه، وهذا الفريق الضَّال من الناس يفعل ما يفعل بغير علم مستفاد من دديل عقلي، ولا هُدى راجع إلى رسول مأخوذ منه، ولا كتاب أنزله الله - تعالى - ذي نور واضح الدلالة على المقصود، منقذ من ظلمة الجهل والضلال، بل يجادلون لمجرد التقليد واتِّباع ما كان عليه الآباء.

وقوله - تعالى -: {يُجَادِلُ} من الجدال، وهو: المفاوضة على سبيل المنازَعة والمغالبة، وأصله من: جَدَلْت الحبل، أي: أحكمت فَتْلَه، كأن المتجالدين يَفْتِل كل منهما صاحبه عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة.

21 -

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} :

وإذا قيل لهؤلاء المجالدين في توحيد الله المنازعين في عبادته وصفاته: اتَّبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشَّريعة المطهَّرة، والدين الحق، وعقيدة التوحيد، قالوا: بل نتَّبع ما وجدنا عليه آباءنا فنعبد ما عبدوا من الأصنام والأوثان، ولم يكن لهم حجة في هذه العبادة إلا اتباع آبائهم الأقدمين، والاقتداء بالسالفين، ولو كانوا في ضلال مبين، ولقد عاب الله عليهم هذا النطق العجيب فقال:

{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} : أي: أيتَّبعونهم وينهجون منهجهم ويقلدونهم تقليدًا أعمى بلا تفكير ولا إعمال عقل، ولو كان الشيطان يدعو المجادلين وآباءهم إلى ضلال يُفضِي بهم إلى عذاب النار التي تتسعَّر وتلتهب؟

ص: 96

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} .

المفردات:

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} : يخلص ويفوض إلى الله جميع أُموره.

{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} : فقد تعلق بأوثق ما يُتعلق به من الأسباب وأشده.

{عَاقِبَةُ الْأُمُور} : مصير الأُمور ونهايتها.

{فَنُنَبِّئُهُمْ} : فنخبرهم. {ذَاتِ الصُّدُورِ} : خبيئة القلوب ودخيلتها.

{نَضْطَرُّهُمْ} : نلجئهم ونلزمهم. {عَذَابٍ غَلِيظٍ} : عذاب شديد ثقيل.

التفسير

22 -

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ .. } الآية:

بين الله في الآية السابقة حال الشرك المجادل التشبث بدين آبائه، المصرّ على تركه، ويبين في هذه الآية حال المسلم المستسلم لله المصدق بتوحيده، القائم على طاعته.

والمعنى: ومن يسلم نفسه إلى الله بأن يفوض إليه - تعالى - جميع أُموره، ويقبل عليه قلبا وقالبا، وهو محسن خلص في أعماله وأقواله، فقد استمسك وتعلق بأقوى ما يتعلق به من الأسباب الموصلة إلى سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة، وإلي الله عاقبة الأمور ومصيرها

ص: 97

كلها، فهي صائرة إليه لا إلى غيره، وليس لأحد سواه - جل وعلا - تصرف فيها بأمر أو نهي، أو ثواب أو عقاب - سبحانه - يجازي من أسلم وجهه إلى الله، وأخلص التفويض إليه، كما يجازي المجادل المماري فيه، يجازي كلاًّ بما يستحقه ويليق به: بمقتضى عدله وحكمته.

وفي قوله - تعالى -: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} تمثيل حال المتوكل على الله المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه، ليتيسر له تحقيق مراده.

23 -

{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ .. } الآية.

هذه الآية رجوع إلى بيان حال الكافر.

والمعنى: ومن كفر من هؤلاء المشركين فلا تحزن على كفره، ولا يهمك أمره: فقد أبلغت وليس عيك إلا البلاغ، وما أضر بذلك إلا نفسه، فإن الله - تعالى - سينتقم منه ويعاقبه أشد عقاب، ولهذا قال:{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} : أي إلينا لا إلى غيرنا رجوعهم بالبعث فنُعْلِمهم على وجه التبكيت والتقريع مما عملوا في الدنيا من الكفر والمعاصي، ونجازيهم بما يستحقون من العذاب والعقاب {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: إن الله - تعالى - واسع العلم بحقيقة ما في القلوب وضمائرها، لا يخفى عليه سرها، كما لا تخفى عليه علانيتها، ولا يفوته شيء من الجزاء عليها.

24 -

{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} :

أي: ننفعهم زمانًا، أو نفعًا قليلًا في دنياهم بأن نيسر أمورهم، ونوسع عليهم أرزاقهم، ثم نلجئهم إلى عذاب غليظ ثقيل يجمع إلى الإحراق بالنار الضغط والتضييق، مع إلزامهم ذللك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما أُلجىء إليه.

وعبر عن متاعهم في الدنيا بالقلة، لأن متاعها مهما توفر وتكاثر، وتعددت أنواعه وألوانه، وتطاولت أيامه فهو قليل جدًّا إذا قوبل بما عند الله، وما أعد للمتقين في دار الجزاء، وكل زائل قليل، وعُمُره وإن طال قصير.

ص: 98

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}

التفسير

25 -

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .. } الآية.

هذه الآية ترقٍّ في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسليته بقوله - تعالى -: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} فإن انتزاع اعترافهم بقدرة الله - تعالى - في خلق السموات والأرض اعتراف بصدقك في دعوى الوحدانية، وتسجيل لسفههم في تكذيبك وفي إشراكهم بخالق السموات والأرض.

والمعنى: ولئن سألت - أنت أيها النبي الكريم - هؤلاء الشركين، أو سألهم أي مخاطب غيرك: من خلق السموات والأرض وأحكم خلقهما وأبدع صنعتهما على نظام لم يعتره اضطراب، ولم يطرأ عليه خلل منذ عرفهما الإنسان؟ ليقولن: خلقهن الله، لأنهم في شركهم بعبادتهم معترفون بوحدانيته في خلقهن. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} قل يا محمد: الحمد لله على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان شركهم وكذبهم، أو قل: الحمد لله على وضوح دلائل التوحيد بحيث لا يجحدها كافر، ولا ينكرها مكابر، أو قل: الحمد لله الذي هدانا إلى التوحيد وصدق الإيمان، ولم يقدر علينا اللجاج والعناد فيما هو ظاهر الشواهد، واضح البراهين.

وقوله - تعالى -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} معناه: بل أكثرهم ليسوا أهلا للعم، ولا من ذوي الرأي والتفكير السديد.

أو: بل أكثرهم لا يعلمون أن هذا الاعتراف حجة عليهم، يقيم الدليل على جهلهم وعنادهم.

ص: 99

26 -

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} :

هذه الآية إبطال لشركهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكًا لمالكه في ملكه، فكيف يكون شريكًا له في العبادة؟.

والمعنى: لله ما في السموات والأرض خلقا وملكا وتصرفا، وليس لأحد سواه فيهن شأن استقلالا أو شركة، فلا يستحق العبادة غيره بوجه من الوجوه.

وقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} معناه: أنه - تعالى - هو الغني عن كل شيء، فليس محتاجًا إلى شريك أو غيره، المحمود من مخلوقاته بلسان المقال أو بلسان الحال.

وهذا التعقيب بعد قوله - تعالى -: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لدفع حاجته - تعالى - إلى شريك له فيهما، أو إلى عبادة عابد منهما، وإنما استعبدهم لمصلحتهم، فهو المستحق للعبادة وإن لم يعبدوه، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}

المفردات:

{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} : من مد الدواة إذا زادها من المداد وهو الحبر، ويطلق المد والمادة على مطلق الزيادة.

{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} : ما فنيت ولا انتهت؛ لأن كلماته - تعالى - ليست قاصرة على القرآن الكريم.

{بَعْثُكُمْ} : عودتكم إلى الحياة بعد الموت.

ص: 100

التفسير

27 -

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ .. } الآية:

قال ابن عباس: إن سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد!! كيف عُنينا بهذا القول؟ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان لكل شيء، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:"التوراة قليل من كثير" فنزلت الآية.

والمعنى: ولو ثبت أن ما في الأرض من جميع أنواع الشجر أقلام، وصار البحر على اتساعه وامتداده مدادًا يمده ويزيده من بعده سبعة أبحر مثله في السعة وكثرة الماء، فكتبت بهذه الأقلام وهذا المداد كلمات الله وأوامره في كونه وملكوته، ما فنيت ولا انتهت كلمات الله لعدم تناهيها، بل تفنى الأقلام وينتهي المداد دون أن تنتهي كلماته - تعالى - فإن كلام الله في شئون كونه أمرا ونهيا وإيجادًا وإعدامًا وغير ذلك لا ينتهى، والمكلفون به من الملائكة وغيرهم لا يحصونه عددا {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}: قادر غالب لا يعجزه شيء {حَكِيمٌ} : لا يخرج عن الحكمة ما يتكلم به.

هذا وفي الآيات مباحث منها:

1 -

أن المراد (بشجرة) كل أنواع الأشجار النى يمكن أن تؤخذ منها الأقلام، والنكرة قد تعم في الإثبات كما في قوله - تعالى -:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .

2 -

اختيار جمع القِلَّة في {أَقْلَامٌ} مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه، وإيثار جمع القلة في الكلمات (وجمع المؤنث من قبيل القلة) للإيذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل منها فكيف بالكثير.

3 -

ليس المراد بذكر العدد في قوله: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} خصوص العدد، وإنما المراد الكثرة، واختير عدد (سبعة) بخصوصه من بين الأعداد لأن كثيرا من المعدودات التي لها شأن سبع، كالسموات، والكواكب السيارة، وأيام الأسبوع إلى غير ذلك.

ص: 101

27 -

{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} :

توسطت هذه الآية الآيات التي تتحدث عن قدرة الله وتعدد آثارها، للإيذان بأن من له هذا الكون العريض لا يصعب عليه خلقُنا ولا بعثنا، فقد ورد أنها نزلت في أُبي بن خلف، ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله - تعالى - قد خلقنا أطوارا: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم تقول: إنا نبعث جميعًا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟.

والمعنى: ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم بعد الموت يوم القيامة إلا كخلق نفس واحدة وبعثها في السهولة واليسر والتأتي بالنسبة إليه عز وجل لأنه لا يشغله شأن عن شأن، ومناط وجود الكل تعلق إرادته - تعالى - وقوله للشيء: كن فيكون {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : أي: إن الله - تعالى - عظيم السمع والبصر يسمع ويبصر جميع مخلوقاته لا يشغله بعضها عن بعض.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}

ص: 102

المفردات:

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} : يدخل كل واحد منهما في الآخر فيتفاوت بذلك حالهما طولا وقصرًا.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : سيرهما، وذللهما طلوعًا وأُفُولًا.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قيل: هو يوم القيامة. وقيل: منتهى دورتهما.

{الْفُلْكَ} : السفينة، ويطلق على الواحد والجمع.

{صَبَّارٍ شَكُورٍ} : كثير الصبر على البلاء والشكر على النعماء.

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ} : غطَّاهم وأحاط بهم.

{كَالظُّلَلِ} الظُّلل: جمع ظلَّة، وهو ما يستظل به من جبل وسحاب وغيرهما.

{مُقْتَصِدٌ} : مقيم على القصد السوى من التوحيد.

{يَجْحَدُ} : ينكر ويكفر.

{خَتَّارٍ} : شديد الغدر.

{كَفُورٍ} : مبالغ في الكفر.

التفسير

29 -

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى

} الآية:

هذه الآية شروع في تفصيل بعض آثار القدرة المتمثلة في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وتوضيح نعمه على خلقه، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو عام لكل من يصلح للخطاب.

والمعنى: ألم تعلم علمًا قويًّا جاريًا مجرى الرؤية البصرية أن الله - تعالى - يدخل جزءًا من كل واحد من الليل والنهار في الآخر ويضيفه إليه، فيختلف بذلك حالهما طولا وقصرًا، وذلل الشمس والقمر، وهداهما لمصالح خلقه طلوعًا وأفولًا، كلٌّ من النيرين يجرى في فلكه

ص: 103

إلى أجل سماه الله وحدده، لا يعدوه ولا يقصر عنه، قيل: هو يوم القيامة، وقيل: إلى منتهى ومدار معلوم، الشمس تجرى فيه إلى آخر العام والقصر يسرى فيه إلى آخر الشهر ..

وهذا الإيلاج بالنسبة لعالمنا الأرضي والعوالم المماثلة لنا، وليس عند الله ليل ونهار، وقدمت الشمس على القمر في قوله:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لأنها كالمبدإ للقمر، ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر، وعطف {سَخَّرَ} الماضي على {يُولِجُ} المضارع، فخالف بين المعطوفين لأن إيلاج واحد من الليل والنهار في الآخر متجدد يختلف طولًا وقصرًا، وحرارة وبردًا، بخلاف تسخير الشمس والقمر، فإنه لا تجدد فيه ولا تعدد، إنما التجدد والتعدد في آثاره كما يشير إليه قوله - تعالى -:{كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .

وقوله - تعالى -: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} معطوف على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} داخل في حيز الرؤية؛ فإن من شاهد مثل ذلك الصنع لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطًا بجلائل أعماله، خبيرًا بدقائقها، فلا يَنِد عنه أمر من أُمورها، ولا يخفى عليه شأن من شئونها.

30 -

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} :

أي: ذلك المذكور من الآيات الكريمة، والمشاهد الواضحة من سعة العلم، وكمال القدرة، واختصاص الباري - تعالى - بذلك ثابت بسبب أن الله - تعالى - وحده هو المتقق في ذاته وفي جمع صفات الكمال اللائقة بربوبيته، وأن ما يدعونه من دونه من الآلهة الباطل المعدوم الذي لا يقوم على أُلوهيته دليل، وأن الله هو العلي على جميع الأشياء، الكبير عن أن يتصف بنقص، أو أن يكون له شريك.

31 -

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} :

تصور هذه الآية مظهرًا آخر من مظاهر قدرته، ومشهدًا من مشاهد آياته في الأرض بعد أن صورت الآيات السابقة مظاهر القدرة في السماء.

ص: 104

والمعنى: ألم تعلم - أيها المكلف - علمًا يقينيا آخر تضمه إلى علمك السابق تعميقًا للإيمان، وتجسيدًا للحقائق - ألم تر وتعلم - أن السفن تجرى في البحر بنعمة الله - تعالى - وقدرته على تهيئة أسباب الجري من الريح، وانسياب الماء، وحفظ الله لها، أو بنعمة الله التي تحملها من الطعام والمتاع والأغراض؛ ليريكم رأي العين آياته الناطقة بأُلوهيته، الشاهدة بعظيم قدرته.

إن في كل ما ذكر من الآلاء والمشاهد لآيات عظيمة في دلالتها كثيرة في عددها لكل صبار كثير الصبر على البلاء، شكور عظيم الشكر على النعماء، والراد من الصبار الشكور: المؤمن. لأن الصبر والشكر عمدتا الإيمان، فقد ورد "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر" كما أن التعقيب بهما على ركوب الفلك يُلمِع إلى مناسبة دقيقة لأن الراكب الفلك إذا كان مؤمنًا يكون غالب بين صبر عند أسباب الفزع وشكر عند أسباب الأمن.

32 -

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} :

تسير هذه الآية مع جري السفينة وتحكي أحداث البحر، فإن راكبه كثيرًا ما يكون عرضة لغضبته وثورة الموج، واهتياج الماء فيتملكه الهلع.

والمعنى: وإذا غشي ركاب البحر وغطاهم وأحاط بهم موج هائج متعالٍ كالجبال والسحب التي تعلو الرءُوس، وأحدق خطر الغرق بهم خلصت نفوسهم مما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الخوف الشديد فاتجهوا جميعًا إلى الله مستجيرين داعين مخلصين له الدين أن يؤمّن خوفهم ويبدد فزعهم، فلما قدر لهم النجاة، ووصلوا إلى بر السلام والأمن عاودتهم نزعات الشر، وغلبهم سلطان الهوى والضلال، وانقسموا، فمنهم مقتصد، أي: مقيم على القصد، أي: الطريق السوي وهو التوحيد، باق على الإخلاص الذي كان عليه في البحر عند الفزع، ومنهم جاحد راجع إلى كفره وإنكار فضل الله عليه، وما يجحد بآيات الله وينكرها بعد قيام البراهين عليها إلَاّ كلُّ ختَّار غدار شديد الغدر لا يذكر فضلا ولا يحمد معروفًا، كفور مبالغ في الكفر مجرد من الانتفاع بآيات الله - تعالى - وإدراك نعمه، فقوله - تعالى -:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} في مقابل {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قائم مقام عبارة "ومنهم جاحد" مع تضمنه ذم الجاحد، والإيجاز من ألوان البلاغة.

ص: 105

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}

المفردات:

{وَاخْشَوْا يَوْمًا} : هو يوم القيامة.

{لَا يَجْزِي} : لا يغني ولا يقضي.

{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} : فلا تلهينكم ولا تخدعنكم.

{الْغَرُورُ} : الشيطان؛ لأنه يغر الإنسان ويخدعه، وأصل الغرور: صيغة مبالغة من غرَّه: إذا أصاب غَرَّته، أي: غفلته ونال منه ما يريد.

التفسير

33 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا

} الآية.

تتجه السورة في نهايتها وبعد الذي ذكرته من دلائل التوحيد، ومظاهر النعم - تتجه إلى الأمر بالتقوى، وتجنح إلى العظة والتخويف من لقاء الله، فتوجه هذا النداء الذي تحس منه النفس المطمئنة معاني الإشفاق، ولمسات الرحمة والإحسان، وتعم به جميع المخلوقين مؤمنين ومشركين حتى تنقطع منهم الأعذار، ولا يبقى لأحد عتب ولا تعلَّة.

والمعنى: يأيها الناس آمنوا بالله ربًّا، واتقوه حق تقواه، فافعلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وخافوا يومًا لا ينفع فيه مال ولا جاه، يوم القيامة الذي لا يغني والد عن ولده ولا يقضي عنه شيئًا، ولا مولود هو مغنٍ عن والده ولا قاضٍ عنه شيئًا، وكل

ص: 106

يواجه عمله ويلقى جزاءه، فينال ثوابه أو عقابه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} (1).

واختلاف التعبير بين {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} وبين {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} لأنه - تعالى - لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد أن يكفى والده ما يسوءُه، قطع - سبحانه - هنا وَهْم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة، كما أوجب الله عليه ذلك في الدنيا.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: إن وعد الله بالقيامة - والبعث متحقق ثابت لا يخلف، وذكر الآلوسي أن المراد بوعد الله: الثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد، أو هو على معناه اللغوي، وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه، وأما عدم إخلاف الوعيد بالعقاب ففيه كلام، والحق أنه لا يخلف أيضًا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين ليس من إخلاف الوعيد في شيء، لما أن الوعيد في حقهم كان معلقًا بشرط لم يذكر ترهيبًا وتخويفًا.

وقيل: المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق.

{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: ولا يلهينكم الشيطان ويصرفنكم عن الطاعات، ويحملكم على المعاصي بتزيينها لكم.

وعن أبي عبيدة: "كل شيء غرّك حتى تعصي الله - تعالى - وتترك ما أمرك - سبحانه - به غرور، شيطانًا أو غيره" وإلى ذلك ذهب الراغب، قال:"الغرور: كل ما يغر من مال وجاه وشهوة وشيطان".

(1) سورة عبس، الآيات: 34 - 37.

ص: 107

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}

المفردات:

{السَّاعَةِ} : القيامة.

{الْغَيْثَ} : المطر.

{وَمَا تَدْرِي} : وما تعلم.

التفسير

34 -

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ

} الآية.

أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلًا يقال له: الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد!! متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا، فمتى تُخْصِب؟ وقد تركت امرأتي حاملًا، فمتى تلد؟ وقد علمتُ ما كسبتُ اليوم، فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت، فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية، وهي وثيقة الارتبارط بما قبلها، فقد تعرض ما قبلها لذكر يوم القيامة، فتهيأت بذلك الأذهان للسؤال عنه، وجاء الجواب عن هذا السؤال وعن مثله مما استأثر الله بعلمه.

والمعنى: إن الله - تعالى - وحده عنده عدم قيام الساعة استأثر به لحكمة يعلمها، ولم يعط علمه لنبي مرسل، ولا لملك مقرب {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في وقته بلا تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه إلى غيره، وبمقدار تقتضيه حكمته، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} من ذكر أو أُنثى، تام أو ناقص، وغيرها من أحوال الأجنة في بطون أمهاتهم.

ص: 108

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} : أي لا تعلم كل نفس برة أو فاجرة، عاجزة أو قادرة، مؤمنة أو كافرة، ما يجرى عليها من الرزق أو من الأعمال في غدها. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي: وما تعلم نفس - أية نفس - في أي مكان أو زمان تموت.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي: إن الله واسع العلم فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء التي من جملتها مفاتح الغيب، خبير يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

واختلاف التعبير بين الجملة الاسمية في قوله - تعالى -: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} والجملة الفعلية بعده في قوله - تعالى -: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} للدلالة بالتعبير الأول على مزيد الاعتناء باختصاص أمر الساعة، وعلى شدة خفائها، وبالتعبير الآخر على استمرار تجدد المتعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص.

وهكذا تنتهى سورة لقمان بذكر مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها، كما تدل عليه الأحاديث والآثار؛ فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل أنه صلى الله عليه وسلم سئل: متى الساعة؟ فقال للسائل: ما السئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربَّها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْمِ في البنيان، هن في خمس لا يعلمهن إلَاّ الله - تعالى - ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ

} الآية. هكذا في بعض الروايات، ولعل هذا الاستئثار بهذه الخمس من قيض رحمة الله - تعالى - ومزيد فضله؛ لتأخذ الدنيا حظها من التعمير في غير تخوف ولا تعويق، وليعلم الخلق أن مفاتيح رزقهم عند الله، وأسبابه عنده، فيقبلوا عليه بالدعاء، وينقطعوا إليه بالرجاء، وليرضى كل إنسان بما يقضي له الله به من الذرية ذكورًا أو إناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا، وليبيت كل مخلوق معتمدًا على ربه فيما يجرى عليه من رزق في غَدِه، فلا تغره قوته ولا تخدعه حيلته ومهارته، ويسعى لتحصيله حيث كان، حتى يدركه أجله فيما لا يعلمه من مكان وزمان.

وليست المغيبات محصورة في هذه الخمس، وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها، أو لأنها كثيرًا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها، وبالجملة فالمغيبات لا تتناهي، فسبحان العليم الخبير.

ص: 109