الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى عن ابن عباس أَنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا ومعاذًا فبعثهما إلى اليمن وقال: "اذهبا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أُنزل عليَّ .. " وقرأَ هاتين الآيتين.
ومعنى الآيتين: يا أيُّهَا النبي إنا أرسلناك شاهدًا لله بالوحدانية وعلى من بعثت إليهم، تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم، وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب، وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال، وتؤديها يوم القيامة أداءً مقبولا فيما لهم وفيما عليهم، كما جاءَ في قوله تعالى:{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ} وفي قوله سبحانه -: {لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وشاهدًا على جميع الأُمم بأَن أنبياءَهم قد بلغوهم رسالة ربهم، طبقًا لما عرفته من القرآن العظيم، وأرسلناك مبشرًا للطائعين بالجنة ونذيرًا للكافرين والعصاة بالنار، وداعيًا إلى الإيمان باللهِ واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، وإلى طاعته وفق شرعه بتيسيره ومعونته، وأرسلناك سراجًا منيرًا يستضاءُ به في ظلمات الجهالة والشبهات.
كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته
يتحمل الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة عن المعاصرين له من أُمته بما لهم وما عليهم، أما مَنْ بعده صلى الله عليه وسلم فعن طريق عرض الأَعمال عليه كما جاءَ في الأحاديث الدالة على ذلك، ولكنه يعرف ذلك إجمالًا لا تفصيلا، روى أبو بكر وأنس وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ليردَنَّ ناس من أصحابى على الحوض حتى إذا رأَيتهم وعرفتهم اختلجوا دونى، فأَقول: يا رب أصيْحابي أُصيْحابي، فيقال لي: إنك لا تعرف ما أحدثوا بعدك".
47 -
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} :
معطوف على مقدر يقتضيه المقام، أي: فراقب أحوال أُمتك، وبشر المؤمنين منهم بأَن لهم من الله فضلا كبيرًا على سائر الأُمم، أو جزاءً جزيلا تفضل الله به عليهم في مقابل صالحات أعمالهم.
(1) سورة البقرة الآية: 143.
48 -
هذَا النهي تأْييد من الله - تعالى - لموقفه من الكافرين والمنافقين (1)، وإقرار لما هو عليه في شأْنهم من معاصاتهم، جىءَ به بأُسلوب النهي لقطع أَطماعهم في ملاينة النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
والمعنى: دم على ما أنت عليه - أيها النبي - من معاصاتهم في مآربهم، وَتَرْكِ الملاينة في الإنذار والمسامحة معهم، ولا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارهم، واصبر على ما ينالك منهم، وتوكل على الله في كل أمرك؛ فإنه كفيل بنصرك وتأْييدك، وكفى بالله موكولا إليه في جميع الأُمور.
المفردات:
{نَكَحْتُمُ} : عقدتم. {تَمَسُّوهُنَّ} : تجامعوهن.
{فَمَتِّعُوهُنَّ} : فأعطوهن المتعة، وسيأْتى في التفسير بيانها.
{وَسَرِّحُوهُنَّ} : أخرجوهن من منازلكم، فليس لكم عليهن عدة.
{سَرَاحًا جَمِيلًا} : من غير ضرار ولا منع حق.
التفسير
49 -
حدثنا الله فيما مضى عن قصة زينب وكان مدخولا بها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم
(1) فهو من باب: إياك أعني واسمعى يا جارة.
بعد انقضاءِ عدتها، وجاءَ بهذه الآية المباركة لتبين للمؤمنين حكم الزوجة التي تطلق قبل الدخول بها، وقد أَفادت هذه الآية أن المرأة إذا عقد عليها وطلقت قبل الدخول بها فلا عدة عليها، وهذا حكم أجمعت عليه الأُمة.
وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) فأصبح حكمها قاصرًا على المدخول بهن، كما أنها مخصصة لعموم قوله تعالى: " {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (2) فأصبح حكمها قاصرًا على المدخول بهن كسابقتها.
والنكاح مختلف في معناه لغة، فقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطءِ، وقيل: العكس، وقيل: مشترك بينهما، ولم يرد في كتاب الله إلَاّ بمعنى العقد غالبًا، ومن آداب القرآن الكناية عن الدخول بالمماسة أو الملامسة، أو القربان أو الغشيان أو الإتيان.
والطلاق المعلق بالنكاح كقوله لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق لا يقع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل نكاح" وبهذا قال نيف وثلاثون من الصحابة والتابعين والأَئمة - كما قال القرطبي -، وقال جماعة من أهل العلم يقع طلاق المعينة بشخصها أو قبيلتها أو بلدها، وممن قال بذلك: مالك وأصحابه، والأَول هو الحق.
وقد جاءَ في الآية طلب المتعة لمن طلقت قبل الدخول، وإنما تجب إذا لم يفرض لها صداق فإن فرض لها صداق، فلا يجب لها سوى نصفه، لقوله تعالى - في سورة البقرة:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} .
ومن العلماء من جعلها عامة للمطلقة قبل الدخول، فرض لها صداق أو لم يفرض، لإطلاقها في الآية، والأرجح أنها مستحبة للمفروض لها صداق واجبة لمن لم يفرض لها (3).
(1) سورة البقرة - من الآية: 228.
(2)
سورة الطلاق - الآية: 4.
(3)
وعلى هذا يكون الأمر مشتركا بين الوجوب وانتدب على رأي من يجيزه.
وفي مذهب الشافعي القديم وجوبها لكلتيهما، ولا تزيد المتعة على نصف مهر مَنْ سمى لها، ولا تنقص عن خمسة دراهم، وأَما من لم يسم لها فلا تزيد عن نصف مهر مثلها ولا تنقص عن خمسة دراهم، وفي الموضوع تفصيلات أوْفَى في الموسوعات، وحسب القارئ هذا القدر.
والمعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تباشروا وطأَهن (1)، فأَعطوهن متعة جبرًا لطلاقهن، وأخرجوهن من بيوتكم إخراجًا جميلا (2)، من غير ضرار ولا منع حق مع كلام طيب لمواساتهن، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن.
المفردات:
{آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} : أعطيت مهورهن، وسمى المهر أجرًا، لأَنه في مقابل الاستمتاع بالمرأة.
{أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} : غنمته من الكفار بتيسير الله لك.
{يَسْتَنْكِحَهَا} : ينزوجها. (حَرَجٌ): ضيق.
(1) ويرى بعض المذاهب أن الخلوة الصحيحة بالمرأة كالدخول بها. فإن طلقت قبلها فلها المتعة، أما إن طلقت بعد الخلوة وقبل الدخول فلا متعة لها عندهم كالمدخول بها عند غيرهم.
(2)
لأنكم ليس لكم عليهن عدة.
التفسير
50 -
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
…
} الآية:
اختلف العلماءُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} فمنهم من أولها بمعنى أبحنا لك أن تتزوج كل امرأة خالية تؤتيها مهرها سوى المحارم، ومنهم من أولها بمعنى أبحنا لك أزواجك الكائنات عندك؛ لأنَّهن قد اخترنك على الدنيا، وهذا هو رأْي الجمهور؛ وهو الظاهر، لأن قوله:{آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ماض، ويؤيده ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أَي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلَّا مَنْ سُمِّي سُرَّ نساؤُه بذلك.
وتقييد الإحلال بتعجيل صداقهن، ليس لتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأَفضل له، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله:{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} فإن المشتراة لا يتحقق بدءُ أَمرها وما جرى عليها، وقد كان مهره لنسائه اثنتى عشرة أُوقية ونَشًّا، والأُوقية كانت أربعين درهما، والنشُّ: نصف الأُوقية، فيكون مهر الواحدة منهن خمسمائة درهم، إلَاّ أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقد أمهرها عنه النجاشى رحمه الله أَربعمائة درهم، وإلا صفية بنت حيي بن أَخطب، فقد اصطفاها من سبي خيبر ثم أَعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية، أَدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، فإنها قد خرجت في سهمه من سبايا بني المصطلق فكاتبته عن نفسها، وذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسام - تستعينه على كتابتها، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أَقضي عنك كتابتك وأَتزوجك، فقالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت. {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي: وأَبحنا لك التسري مما أَخذت من غنائم الكفار، وقد ملك صفية وجويرية فأَعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أُم ابنه إبراهيم، ومعنى {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}: مما رده الله عليك من فيءِ الكفار من السراري، والغنيمة قد تسمى فيئًا، والسراري مباحات للنبي - صلى الله عليه وسلنم - ولأمته مطلقًا، وأَما الزوجات فمن غير قيد للرسول
- صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يتزوج سوى ثلاث عشرة، وأَما الأُمة فلا يتزوج أَحدهم منهن سوى أَربع في عصمته، ويرجع هذا التفاضل في عدد الزوجات إلى أَن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك له الحق فيمن يرى في الزواج بها شد الأَزْرِ للدعوة الإِسلامية، وتأْليفًا لأَهل أُولئك الزوجات وغير ذلك من السياسات الإِسلامية، فأَنت ترى أَن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوسع في الزواج في شبابه في مكة، وتوسع فيه في شيخوخته بعد الهجرة؛ لتحقيق أَغراض إسلامية نشأَت بعد الهجرة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمَّد بن كعب، وعمر بن الحكيم، وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سِتَّ عشرة امرأَة، ستًّا من قريش: خديجة، وعائشة، وحفصة وأُم حبيبة وسودة، وأُم سلمة، وثلاثًا من بني عامر بن صعصعة وامرأتين من بني هلال بن عامر، ميمونة بنت الحارث - وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أُم المساكين، وامرأَة من بني أَبي بكر بن كلاب من القُرطاء (1) - وهي التي اختارت الدنيا - وامرأَة من بني الجون وهي التي استعاذت منه فطلقها، وزينب بنت جحش الأَسدية، والسبيتان: صفية بنت حيى بن أَخطب وجويرية بنت الحارث ابن عمرو بن المصطلق الخزاعية (2)، ويلاحظ أَنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع.
أي وأَحللنا هؤُلاءِ بشرط الهجرة معك، ويقول ابن كثير تعليقًا على ما تقدم: هذا عدل وسط بين الإِفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأَة إلَاّ إذا كان بينها وبينهم سبعة أَجداد، واليهود يتزوج أَحدهم بنت أَخيه وبنت أُخته، فجاءَت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأَباحت بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأَخ والأُخت، وهذا بشع فظيع.
(1) هم بطون من بني كلاب أبناء أخوة ثلاثة: قرط، وقريط، وقريط بوزن قفل، وأمير، وزبير.
(2)
انظر ابن كثير - وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، وفي عددهن ومن عقد عليهن ولم يدخل بهن كلام كثير، وحسب القارئ ما تقدم.
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وأحللنا لك أَيها النبي امرأَة مؤمنة إذا وهبت نفسها لك أَن تتزوجها بغير مهر إنْ شئت ذلك.
وهذه الآية توالى فيها شرطان: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} كقوله - تعالى - إخبارًا عن نوح عليه السلام أَنه قال لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (1).
وقد أَباح هذا النص للنبي صلى الله عليه وسلم أَن يتزوج من وهبت نفسها له دون مهر، واختلف العلماءُ في حدوث ذلك، فابن أَبي حاتم يروى بسنده عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأَة وهبت نفسها، ورواه ابن جرير بسنده عن يونس بن بكير أَنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحًا ومخصوصًا به؛ لأَنه مردود إلى مشيئته، كما قال تعالى:{إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
ومن العلماء من قال بحدوث ذلك في ميمونة بنت الحارث، ومنهم من قال إنهن أَربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأَنصارية، وأُم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم (2).
وقد ثبت أن امرأَة عرضت عليه نفسها هبة فزوجها من سواه، أَخرج الإِمام البخاري بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأَة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: يا رسول الله زوجنيها، فقال ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد. فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزارى ولها نصفه - قال سهل: وماله رداءٌ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما تصنع بإزارك؟ إن لبستَهُ لم يكن عليها منه شيءٌ، وإن لبِسَتْه لم يكن عليك منه شىءٌ، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه أو دعى له، فقال له ما معك من القرآن؟ فقال: معي سورة كذا، وسورة كذا لسور يعدِّدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَملكناكها بما معك من القرآن". وفي رواية: زوجتكها
(1) سورة هود من الآية: 34.
(2)
ذكر هؤلاء الأربعة الإِمام البيضاوي.
وهي رواية الأَكثر ولا تحل المرأَة بالهبة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
قال القرطبي: أجمع العلماءُ على أَن هبة المرأَة غير جائزة، وأن لفظ الهبة لا يتم به نكاح إلا ما روى عن أَبي حنيفة وصاحبيه، فإنهم قالوا: إذا وهبت فأَشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز، قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز النكاح بلفظ الهبة مع استيفاءِ ما يطلب في النكاح كالمهر: اهـ بتصرف يسير.
المعنى الإجمالي للآية: يا أيها النبي إنا أَحللنا لك أَزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن، وأحللنا لك الاستمتاع بالجواري اللاتي ملكتهن من غنائم الجهاد، وأَحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن إلى المدينة معك (1)، وأحللنا لك امرأَة مؤمنة وهبت نفسها لك إن أَردت نكاحها، فإن إرادتك هذه تقوم مقام القبول، وقد خصك الله بما خصك به من دون المؤمنين من أَجل نبوتك تشريفًا وتكريمًا لك بها (2)، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أَزواجهم من اشتراط العقد إيجابًا وقبولا وأَن لا يتجاوزن أَربعة، ووجوب القسم والمهر بالوطءِ حيث لم يسم، وما فرضناه لهم من التسري بملك اليمين كيف شاءُوا، وقد خصصناك - أَيها النبي - بما خصصناك به لكيلا يكون عليك ضيق عند الاقتضاء، وكان الله واسع الغفران، فيغفر ما يعسر التحرز عنه، عظيم الرحمة بالتوسعة في مظان الحرج.
(1) قال البيضاوي: يحتمل تقييد الحل بالهجرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
(2)
ولهذا عدل عن الخطاب في الآية إلى ذكره بعنوان النبوة في معرض الخصوصية.
المفردات:
{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي: تؤخر. والأَصل ترجىء، فخفف بقلب الهمزة ياءً، وقرىءَ بالوجهين في السبعة.
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أَي: ومن طلبته ممن نحيته وأَبعدته فلا إثم عليك. يقال: بغى، وابتغى، وتَبَغَّى بمعنى طلب. والعزل: التنحية. والجناح: الإثم.
{أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي: تبرد - سرورًا - وفعله من باب فرح.
التفسير
51 -
{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ
…
}. الآية.
المعنى: لك أَيها النبي أَن تؤخر من تشاءُ من أَزواجك، وتضم إليك من تشاءُ منهن، ويراد بذلك أَنك مخير فيهن توسعة عليك، إن شئت أَن تقسم المبيت بينهن قسمت، وإن شئت أَن تترك القسم تركت. هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم. فَخُص صلى الله عليه وسلم بأَن جعل الأَمر إليه، ولهذا ذهبت طائفة من فقهاءِ الشافعية وغيرهم إلى أَنه لم يكن القسم واجبًا عليه - صلوات الله وسلامه عليه - واحتجوا بهذه الآية الكريمة.
كذلك مما يدل على أن القسم لم يكن واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم ما أَخرجه البخاري بسنده، عن مُعَاذ، عن عائشة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأْذن في يوم المرأَة مِنَّا بعد أن نزلت هذه الآية {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ}. فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت كنت أقول: إن كان ذلك إليّ، فإني لا أُريد يا رسول الله أن أُوثر عليك أَحدا. قال ابن كثير فهذا الحديث يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم، وهو الذي ينبغي أَن يعول عليه؛ بهما قال ابن العربي؛ لكنه مع ذلك كان يقسم بينهن من قبل نفسه دون فرض عليه، تطييبًا لنفوسهن، وصونًا لهن عن الغَيْرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي، ولم يتركه حتى لحق بالرفيق الأَعلى.
قال صاحب البحر: اتفقت الروايات على أَنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين أَزواجه في القسم حتى مات.
وقيل: إن المراد من الآية تُطلق مَنْ تشاءُ، وتمسك من تشاءُ. وقال بعضهم: الإرجاءُ والإيواءُ لإطلاقهما في الآية يتناولان ما في التفسيرين من التخيير في القسم والطلاق.
وعن أبي رزين في سبب نزول الآية: هَمَّ رسول الله أَن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا تخلِّ بيننا وأنت في حل مما بيننا وبينك. افرض عن نفسك ومالك ما شئت. فأَنزل الله تعالى الآية. فأَرجأَ بعضهن، وآوى بعضهن (1).
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي: إذا أَردت أَن تؤوي إليك امرأَة ممن نحيت وأَبعدت فلا إثم عليك في ذلك. وكذلك حكم الإرجاءِ هو إلى مشيئتك. فدل أَحد الطرفين على الآخر.
وأفاد صاحب الكشاف أَن الآية متضمنة قسمة جامعة لما الغرض؛ لأَنه صلى الله عليه وسلم إما أَن يطلق، وإما أَن يمسك، وإذا أَمسك ضاجع أَو ترك، وقسم أَو لم يقسم، وإذا طلق وعزل، فإما أَن يخلي المعزولة لا يبتغيها أَو يبتغيها (2) ".
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أَي: إذا علمن أَن الله قد رفع عنك الحرج، وفوض أَمرهن إلى مشيئتك. كان ذلك أَقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزن؛ لأنه حكم كلهن فيه سواءٌ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلًا منك عليهن ومنة، وإن رجحت بعضهن علمن أَنه بحكم الله - تعالى - الذي فوض الأَمر إليك فتطمئن نفوسهن به دون أَن يتعلقن بأَكثر من ذلك؛ لأَن المرءَ إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيًا بما أُوتي منه وإن قل، وكان عليه الصلاة والسلام مع هذا التمييز يسوى بينهن في القسم تطييبًا لقلوبهن ويقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أَملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أَملك، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أَن يظهر ذلك في شيء من فعله.
وكان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به محمولا على بيوت أَزواجه، إلى أَن استأَذنهن أَن يقيم في بيت عائشة، قالت عائشة: أَول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أرجأ: ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وآوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب.
(2)
وانقسام الطلاق والإمساك بأقسامه بسبب إطلاق الإرجاء والإيواء في قوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء} .
في بيت ميمونة، فاستأْذن أَزواجه أَن يمرض في بيتها - يعني عائشة - فأَذِن له .. الحديث. خرجه الصحيح. انظر القرطبي.
وقد قبض صلى الله عليه وسلم في بيتها. ورد في الصحيح أَنها قالت: (فلما كان يومي قبضه الله - تعالى - بين سَحْري ونَحْري)(1).
وعن ابن عباس ومجاهد أَن المعنى: إذا علمن أَن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أَعينهن ولم يحزن، ورضين بما تفعله من التسوية أَو التفضيل؛ لأَنهن يعلمن أنك لم تطلقهن.
وقال الشعبى: الآية في الواهبات أنفسهن، تزوج رسول الله منهن وترك منهن، وقال الزهري: ما علمنا أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرجأَ أحدًا من أَزواجه، بل آواهن كلَّهنَّ (2).
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} : خبر عام - والإشارة إلى ما في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل في المعنى سائر المؤمنين، أَي: أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبكم من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه. كما يدخل في المعنى أيضًا أزواجه المطهرات لعلمه - تعالى - بما في قلوبهن من الرضا بما دبّر الله - تعالى - في حقهن من تفويض أَمرهن إلى مشيئته صلى الله عليه وسلم وبما يقابل ذلك من الخواطر الرديئة:
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} أَي: أَنه جل شأنه واسع العلم بلغ فيه مداه، يحيط علمه بسركم ونجواكم، وبضمائركم وخواطركم لا يعاجل عباده بالعقوبة رحمة بهم حتى يتدبروا أَمرهم، ويفكروا في مصيرهم، ولا يغتروا بإمهالهم فسبحانه يمهل ولا يهمل.
(1) السحر: الرئة، والنحر: أعلى الصدر.
(2)
انظر القرطبي.
المفردات:
{مِنْ بَعْدُ} أَي: من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم.
{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا أَن تستبدل بهن أزواجًا: ببعضهن أَو بكلهن.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أَي: حافظًا ومطَّلِعًا فاحذروا تجاوز حدوده.
التفسير
52 -
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
…
} الآية:
قال غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: نزلت هذه الآية مجازاة لأَزواج النبي، ورضًا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة؛ لمَّا أخبرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
والمعنى: لا يحل لك النساءُ من بعد التسع اللَّاتي في عصمتك اليوم؛ لأَنها نصابك، كما أن الأَربع نصاب أُمتك، ولا أَن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أُخَر: بكلهن أو ببعضهن كرامة لهن وجزاءً على حسن صنيعهن حيث اخترنك، وأعرضن عن متاع الدنيا وزينتها.
أخرج أبو داود في ناسخه، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أَنس قال: لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترن الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم قصره عليهن. فقال سبحانه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وأَخرج ابْن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية: احتبسه الله - تعالى - عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام وهن التسع اللَّاتي مات عنهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأُم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية.
و {مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ أَزْوَاجٍ} لتأكيد النفي، وفائدته استغراق الجنس بالتحريم. فيشمل النهيُ استبدالَ بعضهن أَو كلهن، ولو أَعجبك حسن الأزواج
المستبدلة (1). فنهاه - سبحانه - عن الزيادة عنهن أَو طلاق واحدة منهن أَو استبدال غيرها بها.
وقوله - سبحانه -: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ ممن حُرم عليه من النساء في قوله سبحانه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي: من كانت بملك اليمين، وهي المملوكة، فتحل له صلى الله عليه وسلم سواءٌ أَكانت مما أَفاءَ الله - تعالى - عليه أَم لا، ولم تحرم عليه المملوكة؛ لأَن الإِيذاءَ لا يحصل بها؛ لأَنه لا يجب القسم لها.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أي: حافظًا وَمُطَّلِعًا على كل ما في الكون، لا تخفى عليه خافية فاحذروا مجاوزة حدوده، وتخطى أَوامره ونواهيه.
المفردات:
{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي: غير منتظرين إدراكه ونضجه. يقال: نظرت الشيء، وانتظرته بمعنًى، والإنى مقصورًا: الإدراك والنضج. اهـ: مصباح.
(1) قال القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، واختلف فيما يجوز أن ينظر منها. فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد. بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وهناك أقوال أخرى يرجع إليها في القرطبي وغيره من الموسوعات.
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أي: أَكلتم، ويطلق الطعام على كل ما يساغ حتى الماء، وفي العرف: الطعام لما يطعم، والشراب لما يشرب، وطعم من باب تعب.
{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: ولا مسرورين به، ومستمتعين.
{فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} أي: يترككم حياءً من تنبيهكم.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} والمتاع: هو كل ما ينتفع به كالطعام والثياب وأَثاث البيت وغيرها.
{مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : وهو الساتر؛ لأَنه يمنع من المشاهدة، والأصل في الحجاب: جسم حائل بين جسدين، وقد استعمل في المعاني، فقيل: المعصية حجاب بين العبد وربه، والجمع: حُجُب ككتاب وكُتُب.
التفسير
53 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
…
} الآية:
شروع في بيان ما يجب على الناس مراعاته من حقوق نساءِ النبي عليه الصلاة والسلام وحقوقه وهو في بيوته صلى الله عليه وسلم إثر ما يجب عليه صلى الله عليه وسلم مراعاته من الحقوق المتعلقة بأَزواجه.
والآية تتضمن أَمرين: أَحدهما الأَدب في الحضور للطعام والجلوس بعده، والثاني يتعلق بأَمر الحجاب لزوجاته صلى الله عليه وسلم.
فأَما الأَوَّلُ فسببه كما قال ابن عباس: أَن أُناسًا من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأْكلون ولا يخرجون، وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدَّب الله به الثقلاء.
وعند أَكثر المفسرين: أَن سببه ما وقع يوم أَن تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش. أخرج الإِمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والبيهقي
في سننه وغيرهم من طُرُقٍ عن أنس قال: لمَّا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو يتهيأُ كأَنه للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاءَ النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أَنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأُلْقِيَ الحجاب بيني وبينه، فأَنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ
…
} الآية.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلَّا مدعوين إلى طعام غير منتظرين إدراكه ونضجه: وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ وأُذِن لكم في الدخول فادخلوا، فإذا انتهيتم من طعامكم فتفرقوا وخففوا عن أهل البيت، وانتشروا لشئونكم، وهو خطاب لأُولئك المتحينين لوقت طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنهي في الآية لهم ولأمثالهم ممن يفعل فعلهم في المستقبل، فلا يفيد النهي عن الدخول بإذن لغير الطعام، ولا عن الجلوس والمكث بعد الطعام لهم آخر بموافقة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَي: ولا تمكثوا مستأْنسين لحديث بعضكم بعضًا، كما وقع لأُولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسوا أَنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله سبحانه:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي: إن ذلكم اللبث الدال عليه الكلام، أو ما كانوا يفعلونه من الاستئناس، كان يسبب الإيذاءَ للنبي لتضييق البيت عليه وعلى أَهله، وصده عن الاشتغال بما يعنيه، فيستحيي من إخراجكم لشدة حيائه، ولما كان الحياءُ مِمَّا يمنع الحَيِيَّ من بعض الأفعال قال سبحانه:{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} : بمعنى؛ لا يمتنع منه، ولا يتركه ترك الحيي منكم فلذا أمركم - سبحانه - بالخروج، فالمراد بالحق هنا إخراجهم، ووضع الحق موضعه لتعْظيم جانبه، وهذا أَدب أدَّب الله به الثقلاءَ (1)، والظاهر كما قال روح
(1) ومن هذا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس، عن عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله لم يحتملهم فقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} .
المعاني: حرمة المكث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم، إذا كان في ذلك أَذى لرب البيت، وليس ذلك مختصًّا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : شروع في بيان الأَمر الثاني الذي تضمنته الآية وهو أمر الحجاب لزوجات الرسول، وفي حكمهن نساءُ الأُمة.
والمعنى: وإذا طلبتم من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ينتفع به، فلا تسأَلوهن إلَّا من وراءِ ستر يستر بينكم وبينهن فإن سؤالكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من خواطر الشيطان ونوازع الفتن (1)، وأَنفى للريبة وأبعد عن التهمة.
وكان النساءُ قبل نزول الآية يبرزن للرجال، وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن، أخرج البخاري، وابن جرير، وابن مردويه عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أَمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأَنزل الله - تعالى - آية الحجاب.
وقد ورد في الصحيح عن ابن عمر، قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أَسارى بدر، وقال أَنس بن مالك وجماعة: سببها أَمر القعود في بيت زينب: القصة المذكورة آنفًا.
قال القرطبي: هذا أَصح ما قيل في أَمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأَقوال والروايات، لا يقوم شيءٌ منها على ساق.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي: لا يصح ولا يستقيم أَن يقع منكم إيذاءٌ لرسول الله في حياته بفعل ما يكرهه ويتأَذى منه، كالمكث الذي كنتم تفعلونه، والاستئناس لحديث بعضكم بعضًا ومكالمة نسائه من غير حجاب ونحوها.
وفي التعبير عنه صلى الله عليه وسلم برسول الله لتقبيح ذلك الفعل وأَنه بعيد بمراحل عما تقتضيه منزلته، وما يتطلبه علو شأْنه عند ربه حيث اختاره لرسالته.
(1) وهي: الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة.
{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} أي: ولا يحل لكم أَن تتزوجوا أَزواجه من بعد موته أَو فراقه لهن، لأَنهن أَزواجه في الدنيا والآخرة؛ ذلك لأَن المرأَة في الجنة لآخر أزواجها، وهن أُمهات المؤمنين، ولا يحل للأَبناء نكاح الأُمهات.
يروى أن رجلًا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمَّد يتزوج نساءَنا، والله لو قد مات لأجلْنا السهام على نسائه. فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أَزواجه من بعده وجعل لهن حكم الأُمهات، وهذا من خصائصه تمييزًا لشرفه، وتنبيهًا على مرتبته صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} : إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام بالمكث بعد الطعام، ونكاح أَزواجه من بعده. أَي: وكان ما ذكر في حكمه - تعالى - عظيمًا هائلًا، لا يقادر قدره، ولا يعرف مداه، فكان من جملة الكبائر ولا ذنب أَعظم منه، كما يقول القرطبي.
وفي ذلك من تعظيمه - تعالى - لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}
المفردات:
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} أَي: إن تظهروا أمرًا من الأُمور أو تستروه في أنفسكم يعلمه الله. يقال: خَفَيْت الشيءَ أُخفيه من باب رمى: سترته، كأَخفيته بالهمزة (1).
(1) وبعضهم يجعل الرباعي للكتمان والثلاثي للإظهار، وبعضهم يعكس الأوضاع.
التفسير
54 -
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} :
سبب نزول هذه الآية على ما قيل، أَنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أَننهى أَن نكلم بنات عمنا إلَّا من وراءِ حجاب؟ لئن مات محمَّد صلى الله عليه وسلم لنتزوجن نساءَه، وفي بعض الروايات لتزوجت عائشة.
والمعنى: إن تظهروا على ألسنتكم شيئًا ممَّا لا خير فيه كنكاح أَزواجه من بعده أَو تخفوه في صدوركم يجزكم الله لا محالة بما صدر عنكم من المعاصي البادية، وبما أَخفيتموه من الخواطر والمعتقدات المذمومة، فإنه - سبحانه - كامل العلم لا يخفى عليه ما كان من ماض تقضَّى وما يكون من مستقبل يأْتي:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1).
قال الإِمام أبو السعود: وفي هذا التعميم مزيد تهويل وتشديد، ومبالغة في التوبيخ والوعيد.
المفردات:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} : لا إثْمَ عَلَيهنَّ.
(1) الآية: 19 من سورة غافر.
{وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي: نساءِ المؤْمنات.
{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أَي: اقتصرن على ما أُبيح لكن فلا تتعدينه إلى غيره.
التفسير
55 -
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ
…
} الآية:
الآية استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب منهم إثر أمره - تعالى - لنسائه صلى الله عليه وسلم بالحجاب من الأَجانب.
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباءُ والأبناءُ والأَقارب: يا رسول الله أَوَ نُكَلمهن من وراءِ حجاب؟ فنزلت الآية.
والمعنى: لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائِهن ولا من أبنائِهن ولا من إخوانهن، ولا من أَبناءِ إِخوانهن ولا من أَبناءِ أخواتهن ولا نسائِهن (1) المؤمنات فليس لهن أَن يتجردن أمام مشركة أو كافرة، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري.
وهذا الحكم عام لنساء المؤْمنين، وقد سأَل بعض السلف فقال: لِمَ لَمْ يذكر العم والخال في هذه الآية والآية السابقة عند قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ
…
}؟ فأجاب عكرمة والشعبي: بأنهما لم يذكرا؛ لأَنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، فكرهَ لهما الرؤية وهذا الجواب غير مناسب؛ لأَن الوصف قد يقع من غيرهما، ولذلك كان الجواب المناسب لعدم ذكرهما هو أَنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمى العم أَبا في قوله تعالى:{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (2) فأُطلق على إسماعيل وصف الأُبوة ليعقوب مع أنه عم له، أو أَنهما لم يذكرا لأَنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أَبناء الإِخوة، وأَبناءِ الأخوات فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة حيث إنهن عمات لأبناءِ الإِخوة، وخالات الأَبناءِ الأَخوات.
(1) إضافة النساء إليهن للإشعار بأنهن معروفات لهن وموضع ثقة عندهن، والمقصود من الإخوان الإخوة.
(2)
من الآية 133 من سورة البقرة.
{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أي: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أَن تتعدينه إلى غيره، أو اتقين الله في كل ما تأْتين وتذرن ولا سيما ما أُمرتن به، ونهيتن عنه، واخشينه في الخلوة والعلانية.
وفي نقل الكلام من الغيبة في قوله سبحانه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ
…
} إلى الخطاب في قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فضل تشديد في طلب التقوى منهن، ثم توعد مَنْ ظنَّ الإفلات من سلطانه فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي: لا تخفى عليه خافية.
قال ابن عطاء: الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب، كما يعلم خطرات الجوارح وهو - سبحانه - يجازيكم على الأعمال بحسبها:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} .
المفردات:
الصلاة من الله على الرسول: الرحمة والرضوان، أو الثناءُ عليه عند الملائكة وتعظيمه، ومن الملائكة: الدعاءُ والاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاءُ والتضرع إلى الله أَن يعلي شأْنه ويرفع قدره.
التفسير
56 -
بعد أَن ذكرت الآيات السابقية الآداب التي يجب اتباعها معه صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، ومع أَزواجه المطهرات تشريفا له وتعظيمًا - بعد هذا - أَشادت هذه الآية - زيادة في تشريفه - بمنزلته العظيمة في الملإ الأَعلى عند ربه سبحانه وتعالى، وعند
ملائكته عليهم السلام حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} : إخبارًا لعباده بأَنه يرحمه ويرضى عنه أَو يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تستغفر له وتعظمه.
ثم أَمر الله المؤمنين بالدعاء له، والتسليم عليه بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} : ليجتمع الثناءُ الذي هو حقيق به من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا.
أخرج البخاري عند تفسير هذه الآية بسنده عن كعب بن عُجْرَة قال: قيل: يا رسول الله أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللَّهم صلى على محمد وعلى آل محمَّد كما صليت على إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد (1).
وفي رواية أُخرى عنه لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قال: قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. رواه الترمذي بهذه الزيادة (2)، ومعنى قولهم: أما السلام فقد عرفناه يقصدون به الذي في التشهد، وكان صلى الله عليه وسلم يعلمهم إيَّاه كما يعلمهم السورة من القرآن، وفيه: السلام عليك أَيها النبي ورحمة الله وبركاته.
والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها، فهي واجبة مرة في العمر عند الطحاوي، وأَوجبها الشافعي في الصلاة، فلا تصح صلاة عنده
(1) البخاري تفسير سورة الأحزاب.
(2)
وروي في ذلك عدة روايات.
بدونها، واختاره ابن العربي (1) وأوجبها الكرخي كلما ذكر اسمه، وهو الذي يقتضيه الاحتياط ويستدعيه العرفان بعلو شأْنه، وعليه الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم:"رَغِمَ أنف رجل ذكرت عِنده فلم يصلِّ عليَّ".
قال الحافظ ابن حجر: (لم أَر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلَاّ ما نقل عن إبراهيم النخعي، وهذا مشعر بأن غيره كان قائلًا بالوجوب). اهـ: تفسير الألوسي.
والصلاة على غيره على سبيل التبع، كصلى الله على النبي وآله فلا كلام في جوازها. أمَّا إذا أُفرد غيره من آل البيت فمكروه وهو من شعائر الروافض، ومن قال بالجواز مطلقا استدل بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} وبما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى" ونحوه، وقد أُجيب عنه: بأَنه صدر عن الله ورسوله، ولهما أَن يخصا من شاءَا بمن شاءَا، وليس ذلك لغيرهما إلَاّ بإذنهما، ولم يثبت عنهما إذن في ذلك.
وأمَّا الصلاة على الأَنبياء منا فجائزة معه صلى الله عليه وسلم وبدونه بلا كراهة، فقد جاءَ بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوى:(إذا صليتم على المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسوله من المرسلين).
{وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: قولوا السلام عليك أَيها النبي ونحوه، كما ذكرته الأحاديث.
"والسلام عليك" جملة خبرية أُريد بها الدعاءُ بالسلامة من النقائص والآفات، أو الدعاءُ بالانقياد لأوامره من المسالمة وعدم المخالفة، بأَن يصير الله العباد مذعنين له عليه الصلاة والسلام ولشريعته.
(1) وذكر الدارقطني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على آل بيته لرأيت أنها لا تتم.
المفردات:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : أَذية الله بالكفر به ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يطيق به. أَمَّا أَذية الرسول فتحصل بكل ما يؤذيه من الأَقوال والأَفعال.
{لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أَي: أَبعدهم من كل خير ورحمة، واللعن في اللغة الإِبعاد.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} أي: هيأَ لهم عذابا بالغ الغاية في الإهانة والإذلال.
{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي: من غير جناية يستحق بها المؤمنون والمؤمنات الأَذية.
{فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} أي: فعلوا وتحملوا إِثم أَفحش الكذب الذي افتروه على غيرهم وبهتوهم به.
{وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: ظاهرًا بينًا لا يخفى خبره.
التفسير
57 -
الآية: تهديد ووعيد لمن آذى الله بمخالفة أَوامره وارتكاب زواجره، وإصراره على ذلك، وآذى رسوله بعيب أو تنقيص.
والمعنى: إن الذين يؤذون الله - تعالى - باقتراف ما لا يرضاه من كبائر المعاصي ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، وقول النصارى:{الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ،
وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا، وكقول الذين يلحدون في آياته، والإيذاءُ بالنسبة لله تعالى فيه تجوز، لاستحالة حقيقة التأَذي في حقه جل وعلا.
وإيذاءِ الرسول هو قولهم: شاعر. كاهن. مجنون، وكسر رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أُحد، وإلقاء السَّلى (1) على ظهره بمكة وهو ساجد، وغير ذلك ممَّا يؤذيه.
ويجوز أن يكون المقصود من الآية تعظيم ذنب من يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر إيذاء الله معه، والغرض من ذلك بيان قربه منه، وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم يؤْذيه سبحانه، روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مغفل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهَ اللهَ في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أَحبهم فبحبي أَحبهم، ومن أَبغضهم فببغضي أَبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أَن يأْخذه".
هؤُلاءِ الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله عن رحمته في الدارين بحيث لا ينالون فيهما (2) شيئًا منها. وهيأَ لهم مع ذلك عذابا بالغ الغاية في إهانتهم وإذلالهم يصيبهم في الآخرة خاصة.
وتنكير العذاب ووصفه بالإهانة، وكونه من إِعداد الله يؤْذن بأَنه فوق احتمالهم لشدته حيث قال سبحانه:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} .
58 -
أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس قال: أُنزلت في عبد الله بن أبيّ وأُناس معه قذفوا عائشة رضي الله عنها فخطب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقال: من يَعْذرني في رجل يؤْذيني، ويجمع في بيته من يؤْذيني. فنزلت.
(1) السلى: كالحصى، الذي يكون فيه الولد والجمع: أسلاء مثل سبب وأسباب.
(2)
وذلك في الآخرة ظاهر وأما في الدنيا فقيل: يمنعهم زيادة (الهدى).اهـ: تفسير الألوسي.
وقيل في سبب نزولها: إن عمر رأَى جارية من الأَنصار فضربها، وكره ما رأَى من زينتها، فخرج أَهلها فآذوا عمر باللسان. فأَنزل الله هذه الآية.
وقيل: نزلت في منافقين كانوا يؤْذون عليًّا - كرم الله وجهه - ويسمعونه ما لا خير فيه.
والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر، ولكل ما سيأْتي من أَراجيف المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤْمنين والمؤمنات ما فيها.
والمعنى: والذين ينسبون للمؤْمنين والمؤمنات ما يتأَذون به من الأَقوال والأَفعال القبيحة بغير جناية يستحقون بها الأَذية شرعًا (1). {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} أي: فقد تحملوا بذلك إثم الكذب الفاحش المفتري الذي يبهت المؤمنين والمؤْمنات، أَي: يدهشهم ويحيرهم لفظاعته في الإِثم حيث يحكون أَو ينقلون عنهم ما هم منه براء.
عن أَبي هريرة - رضي الله هـ عنه - أَنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أَفرأَيت إن كان في أَخي ما أَقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته. رواه مسلم.
{وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: وتحملوا كذلك ذنبًا ظاهرًا واضح الأَثر بيِّن الخبر. روي أَن عمر بن الخطاب قال لأُبيّ بن كعب: قرأْت البارحة هذه الآية ففزعت منها: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} والله إني لأَضربهم وأَنهرهم. فقال له. أُبيّ: يا أمير المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوِّم. وأُطلق إيذاءُ الله ورسوله في الآية السابقة، وقيد إيذاءُ المؤمنين والمؤْمنات في هذه الآية بقوله - سبحانه -:{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} لأَن إِيذاءَ الله ورسوله لا يكون أبدًا إلَاّ بغير حق، وأَمَّا إِيذاءُ المؤْمنين والمؤْمنات فمنه حق كالحد والتعزير، ومنه باطل.
(1) وقيل: من الأذية تعيير المؤمن بحسب مذموم أو حرفة مذمومة أو شيء يثقل عليه سمعه.
المفردات:
{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} أي: يسدلن عليهن من الجلابيب، جمع جلباب، وهو ثوب واسع يغطي جميع الجسم كالملاءَة والملحفة يتخذنه إذا خرجن لداعية من الدواعي.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أي: أَقرب أَن يتميزن عن الإِماء والقينات اللَّاتي هن موضع التعرض للإيذاءِ من أهل الريبة.
والقينة: الأَمة البيضاءُ، هكذا قال ابن السكيت مُغَنيةً كانت أو غير مُغَنية، وقيل: تختص بالمغنية.
التفسير
59 -
بعد ما بين - سبحانه - سوءَ حال المؤذين زاجرًا لهم عن الإِيذاء أَمر النبي أَن يأْمر بعض المتأَذين منهم بما يدفع إيذاءَهم في الجملة من الستر والتميز عن مواقع الإيذاءِ، وذلك بأَن يدنين عليهن بعض جلابيبهن، ويراد من إدنائه أَن يلبسنه على البدن كله، أو التلفع بجزءٍ منه لستر الرأْس والوجه، وإرخاء الباقي على بقية البدن. هذا إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراءِ أَو بين النخيل، من غير تمييز بين الحرائر والإِماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف الفساق عن معارضتهن، وكانت المرأَة من نساء المؤْمنين
قبل نزول هذه الآية تكشف عن وجهها وتبْرز في درع وخمار (1) كالإِماءِ فيعرض لهن بعض الفجار يظن أَنها أَمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره. ولفظ النِّساء خَصَّهُ العرف بالحرائر.
والمعنى الإجمالي للآية: مُرْ - أيها النبي - أَزواجك وبناتك ونساءَ المؤمنين، أن يسدلن عليهن بعض جلابيبهن.
واختلف في كيفية هذا السِّتر، فقال السّدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلَّا العين، وقال علي بن أَبي طلحة عن ابن عباس: أَمر الله نساءَ المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أَن يغطين وجوههن من فوق رءُوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال محمد بن سيرين: سأَلت عبيدة السلماني، عن قول الله تعالى:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأْسه وأَبرز عينه اليسرى.
وظاهر الآية أنها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإِماءِ. فيعلم به أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأَذى ولا ريبة، ويشير إلى ذلك قوله - سبحانه -:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي: ذلك أَقرب وأَجدر أن يُعْرَفنَ لتسترهن أَنهن حرائر، فإذا عرفن فلا يتعرض لهن، وتنقطع الأَطماع عنهن، وليس المراد أَن تعرف المرأَة حتى تعلم من هي؟ وكان عمر رضي الله عنه إذا رأَى أَمة قد تقنعت ضربها بالدرة محافظة على زي الحرائر.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أَي: كثير المغفرة، فيغفر ما سلف منهن من تفريط فيما أُمرن به من الستر المطلوب، كما أَنه سبحانه كثير الرحمة فيثيب من امتثل منهن أَمره بما هو أَهله - جل شأْنه -.
(1) ودرع المرأة: قميصها مذكر، والخمار ثوب تغطي به المرأة رأسها، والجمع خمر، مثل: كتاب وكتب، واختمرت المرأة وتخمرت: لبست الخمار.
المفردات:
{الْمُنَافِقُونَ} : هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإِسلام.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : ضعاف الإيمان.
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} : ناشرو الأَخبار الكاذبة فيها ليبعثوا الرجفة والزلزلة في قلوب المؤمنين بأَكاذيبهم.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} : لنحرضنك ونسلطنك عليهم.
{مَلْعُونِينَ} : مطرودين من رحمة الله.
{أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} : أينما ظفر بهم أُسروا.
{سُنَّةَ اللَّهِ} : طريقته الدائمة.
التفسير
60 -
بعد أن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أَن يقول لأَزواجه وبناته ونساء المؤْمنين يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يعرف الفساق أَنهن حرائر فلا يتعرضوا لهن بسوءٍ، هدد الله المنافقين ومرضى القلوب الذين كانوا يذيعون الأَخبار الكاذبة - هددهم - بأَنهم إن لم يرجعوا
عن إثارة الفتن بين المسلمين لَيُحَرضَنَّ اللهُ رسوله عليهم ويغرينّه بهم حتى يضطرهم إلى الجلاء عن المدينة ويلجئهم إلى الخروج منها لإفسادهم؛ حتى لا يجتمع هؤلاءِ بكفرهم وضلالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤْمنين في بلد واحد إلَّا زمانا قليلًا يجمعون فيه متاعهم وشملهم، وكان هذا هو الجزاء الوفاق لطائفة من الناس لم ترع حرمة الجوار ولم تكن أَمينة على من يساكنونهم ويعاشرونهم، بل كانوا مصدر إزعاج وقلق.
61 -
{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} :
أي: مطرودين من رحمة الله أَينما وجدتهم ينشرون الفتن أَخذتهم وعاقبتهم فقتَّلتهم تقتيلًا جزاءَ خيانتهم وزجرا وتشريدًا لمن خلفهم.
62 -
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} :
أي: سَنَّ الله ذلك وشرعه شرعًا مؤكدًا في الأُمم الماضية والشعوب السابقة أن يشرد أو يقتل أُولئك الذين يسعون بالإِفساد بين سواهم، وذلك بإجلائهم عن أَوطانهم وقهرهم وإذلالهم وقتلهم أَينما وجدوهم على حالة الإفساد وإشاعة الفزع والخوف بين المؤمنين، فأَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الضالين ليس بدعًا، بل هو سائر على نظام سابق حكيم، وقضاءٍ محكم، ولن تجد لقضاءِ الله وحكمته تغييرًا وتبديلًا، فلا يبدل الله سنته، ولا يستطيع أحد من خلقه تبديلها.
إذن فالحكم باقٍ كما كان في الأُمم السابقة من أَن المفسد يضرب على يديه ويؤْخذ بجريرته ويناله أَشد العقاب حتى يرتدع وينزجر غيره ممن تسول له نفسه أَن يحذو حذوه أو يسلك سبيله.
وذكر الألوسي في كتاب روح المعاني كلاما عن السدي قال: أَخرج ابن أَبي حاتم عنه أنه فيها: كان النفاق على ثلاثة أوجه: نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوهًا من وجوه الأَنصار فكانوا يستحيون أَن يأْتوا الزنى؛ يصونون بذلك أنفسهم وهم المذكورون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض، وهم منافقون إن تيسر لهم الزنى
عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأَمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهن فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين يكابرون النساء يقول الله فيهم:{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: لنحرضنك عليهم، ثم يصفهم بكونهم ملعونين، ويبين عقابهم بقوله:{أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أي: في أَي مكان وجدوا يعملون هذا العمل الشائن، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}: ثم قال السدى: هذا حكم في القرآن ليس يعمل به، لو أن رجلًا فما فوقه اقتصوا أَثر امرأَة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، وهو أَن يؤخذوا فتضرب أَعناقهم، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}: كذلك كان يفعل بمن مضى من الأُمم، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}: فمن كابر امرأَة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية؛ لأَنه يكابر. اهـ.
وما ذهب إليه السدى له تقديره ووجاهته، فإنه الأَولى والأَجدر أن يعامل به هؤلاء الذين يسعون في الأَرض فسادًا ويغتصبون النساء وينتهكون أَعراضهن غير عابئين ولا مبالين بالعقوبات غير الرادعة، ولا خائفين من بطش الله وأخذه، غير أنه لا يترك أمر عقاب وقتل من يفعل ذلك لعامة الناس، بل لا بد من الرجوع في ذلك إلى القاضي - شأْن سائر العقوبات والزواجر - حتى لا يتخذ الناس ذلك ذريعة وتَعِلَّةً للنيل من خصومهم وإهدار دمائِهم.
المفردات:
{السَّاعَةِ} : يوم القيامة.
{لَعَنَ الْكَافِرِينَ} : طردهم وأَبعدهم عن رحمته.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} : هيأَ لهم نارًا شديدة الاشتعال.
{وَلِيًّا} : معينًا.
{نَصِيرًا} : ناصرًا يخلصهم من النار.
التفسير
63 -
كان المشركون والمنافقون يسأَلون رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء وسخرية عن وقت قيام الساعة، وكذلك كان يفعل اليهود امتحانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأَنهم يعلمون من التوراة أَن الله قد أَخفاها فأَمر الله رسوله أَن يقول لهم:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} فلا يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ثم يخاطب الله نبيه بقوله:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} أَي: أَنها مع استئثار الله بعلمها فإنها مرجوة ومأْمولة المجيءِ عن قريب، يقول تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (1)، والله - سبحانه - قد أَخبرنا أَن علامات الساعة وأشراطها قد جاءَت، فقال تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (2) وأَشراط الساعة يحدثنا عنها رسولنا الكريم في حديثه الشريف الذي رواه الإِمام البخاري: عن عبد الله بن أَبي أَوفى قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءَ أَعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى الرسول يتحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه. قال: أَين السائل عن الساعة؟ قال: ها أَنا يا رسول الله. قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأَمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" كما نجد بعض أَماراتها في آخر حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الذي جاءَ فيه جبريل عليه السلام في صورة رجل شديد
(1) الآية الأولى من سورة القمر.
(2)
الآية 18 من سورة محمَّد.
بياض الثياب شديد سواد الشعر، ويقول عمر رضي الله عنه: ولا يعرفه منا أَحد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإِسلام فأَجابه، ثم سأَله عن الإيمان فأَفاده، ثم عن الإحسان فأَخبره به، ثم عن الساعة فقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:"ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أَمارتها. قال: أن تلد الأَمة ربتها، وأَن ترى الحفاة العراة رعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان" إلى آخر الحديث (1). وفي هذا الأُسلوب القرآني البديع تهديد للمستهزئين، وتبكيت وتقريع للممتحنين المتعنتين.
وقد أَخفى - سبحانه - وقت الساعة لحث المؤْمنين ودفعهم إلى حسن الاستعداد للقاء الله بالعمل الصالح والإخلاص والإنابة له، وتقصير الأَمل في الدنيا، وعدم الاغترار بها، كما أَخفى - جل شأْنه - الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس ليحرص الناس على الحفاظ عليها جميعًا طلبا لها، وابتغاءَ الظفر بها، وأَخفى ساعة الإجابة يوم الجمعة، وليلة القدر في العشر الأَواخر من رمضان، وأَولياءَه في خلقه، واسمه الأَعظم من أَسمائه الحسنى، أخفى هذه الأَشياءَ ليواظب المؤْمن على أن يملأَ هذه الأَوقات بالذكر والعبادة والدعاءِ، ويرعى حرمة المسلمين جميعًا ويذكر الله بأَسمائه الحسنى؛ هذا وقد دأَبت طائفة البهائية على نشر ما يسمونه بسر العدد التاسع عشر ويتحايلون على إضفاءِ قدسية عليه وتبجيل له، ويدعون أن الحاسب الآلى يعطي تحديدا لزمن قيام الساعة، ويحاولون أَن يلووا ويطوعوا آيات القرآن الكريم لمعتقدهم الفاسد، ونحلتهم الباطلة، ولكن أَنى لهم ذلك، وعلماءُ الإسلام لهم بالمرصاد يتتبعونهم ويكشفون حيلهم وخداعهم، ويدحضون مزاعمهم ويظهرون زيف قولهم وباطل دعوتهم والله من ورائهم محيط.
64، 65 - {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}:
بعد أن بين - سبحانه - أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن وقتها مرجو ومأْمول المجىءِ عن قريب، أخبر وأَكد أنه - تعالى - طرد الكافرين من رحمته وأبعدهم عن رضوانه، وقطع
(1) رواه مسلم.
رجاءَهم في عفوه وفضله وأَيئسهم من مغفرته: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)، وليس الأَمر قاصرا على الطرد من النعيم، ولكنه - جل علاه - هيأ لهم وخلق - جزاءَ كفرهم - نارًا شديدة الاشتعال والاتقاد:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2) يمكثون فيها أبدًا لا تنفك عنهم ولا تزايلهم ولا يجدون وليا يدافع عنهم أو يحفظهم منها، ولا نصيرًا يجهد نفسه ويبذل وسعه في أن يخلصهم وينقذهم من لظاها هذا العذاب كان جزاء كفرهم وعنادهم، بعد أَن هداهم إلى طريق الخير وبين لهم طريق الشر وبشر وأَنذر:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (3)، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (4).
المفردات:
{تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ} : تدار وتصرف من جهة إلى أُخرى، أو تغيَّر وتبدَّل من سيءٍ إلى أَسوأ.
{سَادَتَنَا} : ملوكنا وحكامنا.
{وَكُبَرَاءَنَا} : رؤساءَنا الذين نقتدي بهم في الشر.
{ضِعْفَيْنِ} : مثلين.
(1) من الآية 116 سورة النساء.
(2)
من الآية 24 سورة البقرة.
(3)
الآية 10 من سورة البلد.
(4)
من الآية 46 سورة فصلت.
التفسير
66 -
بعد أن أَوضح الله ما يصير إليه أمر هؤُلاء من عذاب مقيم في جهنم أَبان - جل شأْنه - ما يصدر منهم من قول وما يبدو من ندم:
ندم البغاة ولات ساعة مندم
…
والظلم مرتعُ مبتغيه وخيم
فيقولون - وقد غيرت وجوههم من حالة قبيحة وسيئة إلى حالة أَقبح وأَسوأَ في النار من شدة ما يأْلمون وهول ما يجدون - يقولون ويرددون نادمين متحسرين على ما فرط منهم -: يا ليتنا استجبنا لله فآمنا به وأَجبنا داعي الله ورسوله فصدقناه فيما جاءَ به، لو حدث منا هذا ما أَصابنا ما نعانيه من الهول العظيم والعذاب المهين. وخص - جل شأْنه - الوجوه بالذكر مع أن أَجسادهم كذلك؛ لأن الوجوه أعظم الأَعضاء مكانة وشرفا، وذلك فيه ما فيه من الإذلال وتهويل الأَمر وتفظيع الخطب وتفزيع النفس وترويع القلب.
67 -
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} :
أي إنهم في هذا اليوم بعد أن أَبدوْا ندمهم وأَظهروا أَسفهم، أرادوا أَن يتنصلوا من جريمتهم، فيلصقوها بسادتهم وكبرائهم، ممن كانوا لهم قادة في الشر وقدوة في الكفر، فيقولون ما كان منا إلَاّ الطاعة والخضوع والإِذعان لهؤُلاء الرؤساء فلم يكن منا عناد أَو مكابرة أو مجالدة للرسل والأَنبياءِ، وإنما كنا تبعا لهؤُلاءِ مستضعفين لديهم، مقهورين تحت سلطانهم، لا نملك إلَاّ أن نكون طوع أَمرهم، ولولا هؤلاء الرؤساءُ لكنا مؤْمنين، فهؤُلاءِ قد رضوا أَن يكونوا أَداة في أَيدي أولئك يصرفونهم كما يشاءُون، إنهم يعتذرون بذلك رجاءَ الإفلات من العقاب ولكنه عذر مردود غير مقبول، وحجة داحضة إذ كيف يغفلون نعمة العقل التي منحهم الله إيَّاها فجعلها مناط المسئولية ومحور الجزاءِ:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (1). ويهدرون
(1) الآية 38 من سورة المدثر.
ما تفضل به عليهم وملأَ به كونه من آيات وشواهد دالة على أَنه الواحد.
68 -
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} :
بعد أن يئس هؤُلاء المرءُوسون من تحميل الرؤساء مسئولية إضلالهم، وأَنه لا فكاك لهم منه طلبوا من ربهم أن يضاعف العذاب ضعفين ويجعله كفلين ويكثره لهؤُلاء الذين كانوا سببًا في إضلالهم؛ تشفيًا فِيهم وغيظًا منهم، ضِعفا لضلالهم هم وضِعفًا آخر لإضلالهم غيرهم، كما طلبوا أَن يطردهم الله طردًا كبيرًا ويبعدهم بعدا سحيقًا لا أَمل في رحمة بعده، وهم بهذا الدعاء على رؤسائهم إنما ينفسون عن أَنفسهم من غيظ وغضب.
المفردات:
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} : أظهر براءَته.
{وَجِيهًا} : عظيم القدر رفيع المنزلة.
{سَدِيدًا} : قاصدًا ومتوجها إلى هدف معين.
التفسير
69 -
بهذه الآية الكريمة يرشد الله المؤْمنين، وينهاهم عن أَن يتشبهوا بقوم موسى غلاظ القلوب الذين آذوا وأهانوا رسول الله موسى عليه السلام ورموه بشتى أَنواع النقائص فنسبوا إليه السحر والجنون ولطخوه بالزنى، وأَشاعوا عنه أَنه قتل أخاه هرون؛ لأَنهم كانوا يحبونه ويؤْثرونه للين جانبه معهم وحدة موسى عليهم، فأَظهر الله - سبحانه - براءة موسى مما نسبوه إليه، وأَبان ظلمهم له وحيفهم عليه، فدمغهم بالكذب والافتراءِ، وقرر أن موسى عليه السلام رفيع القدر لديه، عظيم المنزلة عنده، صنعه على عينه، ورعاه رضيعًا وآثره بالآيات البينات التسع، وناداه من جانب الطور الأيمن، وقربه وناجاه، واتخذه كليمًا، فحقا كان عند الله وجيهًا ذا منزلة رفيعة وجاه عريض، قيل: نزلت فيما كان من أَمر المنافقين في شأْن تزوجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، حيث قالوا: تزوج زوجة من تبناه، فآذوه مما قالوا مع أَنها ابنة عمته، ولو أراد لتزوجها بكرًا، ولكن زيدًا طلقها باختياره، وأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ عادة التبني وآثارها، وأن يتزوج طليقة زيد متبناه، تأْكيدًا لنسخ أحكام التبني.
70 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} :
ينادي الله عباده بأحب صفة لهم - وهي الإيمان بالله - يناديهم آمرًا لهم أَن يكونوا في وقاية وحفظ من غضب الله وعقابه، فلا يقربوا معصية، ولا يفرطوا في طاعة، مداومين على التمسك بالتقوى، ليكونوا في رعاية الله وعنايته {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1).
ثم يأْمرهم أَن يقولوا القول الصواب، يوجهونه ويقصدون به وجه الحق، ولا يعدلون به إلى القول الباطل الجائر، لا يشركون مع الله أَحدًا، ولا يخشون في الحق لومة لائم.
(1) الآية 128 من سورة النحل.
71 -
رتب - سبحانه - علي تقواهم لله وتحريهم القول الصادق أَنه يكافئهم ويجازيهم على ما يفعلون جزاءً حسنًا، وثوابًا جزيلا، وذلك بأَن يصلح لهم أَعمالهم، أي: يوفقهم إلى الصالح والمرضي منها، ويبارك لهم فيها، ويتقبلها بالقبول الحسن، ويغفر ويكفر سيئاتهم فيسترها ولا يفضحهم بها، بل إنه - عز جاهه - يذهبها ويمحوها {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) ثم إذا أَحسن العباد التوبة والإنابة إلى الله - تعالى - وعملوا العمل الصالح، فمن سعة رحمته وعظيم فضله يجعل سيئاتهم حسنات، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2).
ومن يتمثل أَمر ربه وأَمر رسوله فيفعل ما أُمر به، وينتهي عما نهي عنه فقد ظفر وسعد ونال الجزاء الأوفى في الآخرة والأولى، وفاز بالجائزة الكبرى التي يتعاظم قدرها وتسمو منزلتها وتعلو مكانتها.
(1) من الآية 114 سورة هود.
(2)
الآية 70 من سورة الفرقان.
المفردات:
{عَرَضْنَا} : طلبنا. {الْأَمَانَةَ} : هي التكاليف الشرعية.
{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} : والتزم الإنسان القيام بها.
{ظَلُومًا} : كثير الظلم. {جَهُولًا} : كثير الجهل.
التفسير
72 -
لما بين الله - سبحانه - عظم شأن طَاعَة الله ورسوله، وذلك بإنذار المتمردين والخارجين عليها بالعذاب الشديد، وبشارة من قام بها وأَذعن لها بالحظ العظيم والفوز الكبير، أَتى عقب ذلك ببيان رفعة التكاليف الشرعية وإظهار عظمتها وخطرها وسمو منزلتها، فقال:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} أي: طلبنا من هذه المخلوقات العظيمة والكائنات الضخمة الكبيرة أَن يقمن بأضداء التكاليف الشرعية دون إلزام منا وقهر عليها، فأَبت وامتنعت عن القيام بهذه المسئولية الجليلة، ولم يكن إباؤُها وامتناعها عن تمرد وعصيان، كإباءِ إبليس حينما أَبي السجود لآدم، إذ كان إباؤُه عن استكبار واعتراض وتمرد على أَمر الله قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (1). وإنما كان إباؤُها عن خوف وإشفاق من أَنها لا تستطيع أَداءَها على وجه يرضى عنه ربها وخالقها.
والمراد بالأَمانة التكاليف الشرعية الشاملَة لأَمانات الناس وعرضها على السموات والأَرض والجبال وامتناعها من قبول التكليف بها تمثيل لصعوبة الالتزام بأَدائِها فأَشفقن منها لذلك.
وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مَثَلٍ، أَي أَن السموات والأَرض على كبر أَجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أَي أَن التكليف أَمر حقه أن تعجز السموات والأَرض والجبال. وقد كلَّفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
(1) الآية 34 من سورة البقرة.
جَبَلٍ}. ثم قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} قال القفال: فإذا تقرر أَنه تعالى يضرب الأَمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يُخرَّج إلَاّ على ضرب المثل وجب حمله عليه: اهـ (1).
والمراد من حمل الإنسان لها قبوله الالتزام بأَدائها. إما بإعداد الله له بما زوده من ملكات وغرائز وطبائع وما غرس فيه من قدرات. وإما بقبول ذلك قولًا يوم أن أخذ الله عليه الميثاق وهو في عالم الذر، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (2) وكان قبول الإنسان القيام بها يقتضي أن يشمر عن ساعد الجد، ولكن الإنسان كان شديد الظلم لنفسه فقد ترك الأَمانة ولم يقم بحقها، وفرط في جنب الله فلم يلتزم بالمسلك السوي والطريق المستقيم، وكان كثير الجهل غارقا في بشريته مطيعًا لهواه ونفسه الأَمارة بالسوءِ، ومكن منه الشيطان ولم يتبصر ويدرك ما ينتظره وما يؤُول إليه أمره من عذاب أَليم وعقاب مقيم، فكان في جهالة جهلاء، والمراد من الإنسان في الآية الكريمة معظم هذا النوع وأَكثره، إذ هناك من الناس من قام بنصيب وافر وحظ عظيم من أَداء الأَمانة والقيام بالتكاليف، قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (3).
وللزمخشري صاحب الكشاف رأْي جدير بالتسجيل والتنويه به؛ فقد قال: والمراد بالأَمانة الطاعة؛ لأَنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأَداء؛ وعرضها على الجمادات وإباؤُها وإشفاقها مجاز، قال: إن هذه الأَجرام العظام من السموات والأَرض والجبال قد انقادت لأمر الله - عز وعلا - انقياد مثلها، وهو ما يتأَتى من الجمادات وأَطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا أو تكوينًا وتسوية على هيئات مختلفة، وأَشكال متنوعة كما قال تعالى:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (4) وأَما الإِنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعات، ويليق به من الانقياد لأَوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع وأما حمل الأَمانة فمن قولك: فلان حامل الأَمانة ومحتمل لها، تريد أَنه لم يؤَدها إلى صاحبها
(1) انظر القرطبي.
(2)
الآية 172 من سورة الأعراف.
(3)
من الآية 13سورة سبأ.
(4)
من الآية 11 سورة فصلت.
حتى تزول عن ذمته، وتخرج عن عهدته؛ لأَن الأَمانة كأَنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حاملها، أَلا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق، فإذا أَداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملًا لها إلى أَن قال: فمعنى {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} ، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} فأبين إلَاّ أن يؤدينها، وأَبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤَديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركًا لأَداء الأَمانة، وبالجهل لإِخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أَداؤها. اهـ.
ورأْى الزمخشري هذا يلتقي مع ما قبله في أن كلا منهما يدين ويؤثِّم ويتوعد من يضيِّع الأَمانة ولا يقوم بحقها.
ولما كانت المعصية والطاعة سببا وعلة للجزاء قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: أن الله - سبحانه - يعذب المنافقين الذين يعبدون الله بجوارحهم، وقلوبهم غير مطمئنة بالإيمان، كما يعذب من يشرك بعبادة ربه أَحدا سواه، ويتوب ويغفر الهفوات واللمم من السيئات عن المؤْمنين والمؤْمنات تفضلا منه وجزاءَ انقيادهم وطاعتهم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} والله - جل شأْنه - غفور لسيئات عباده رحيم بهم.