الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة سبأ
نزلت بمكة المكرمة وعدد آياتها أربع وخمسون، وسميت بهذا الاسم لورود قصة سبأ فيها وهم قبائل كانت تسكن اليمن، وسبأ: لقب أَبيهم الذي يجمع قبائلهم عامة واسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وكانت بلقيس بنت شراحبيل ملكة عليهم وهي التي أَنبأَ الهدهد سيدنا سليمان عليه السلام نبأَهَا (1).
صلة هذه السورة بما قبلها:
1 -
أَن كلا من السورتين ورد فيه أمر الساعة، ففي سورة الأحزاب يقول الله تعالى:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} ويقول - تعالى - في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .
2 -
أَنه قد جاءَ ذكر الضعفاءِ والذين استكبروا في كل من السورتين: يقول - تعالى - في سورة الأَحزاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} . الآيتان 66، 67 وفي سورة سبأ يقول الله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ .. } الآيات (2). إلى غير ذلك مما يربط بين السورتين.
أهم مقاصد السورة:
1 -
تمجيد الله - تعالى - والثناءُ عليه في الدنيا، وتخصيصه بالحمد كله في الآخرة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} .
(1) ارجع إلى القصة في سورة النمل.
(2)
الآيات: 31، 32، 33.
2 -
إثبات أَمر قيام الساعة، وبيان إحاطة علم الله بما دق وعظم في ملكوته وملكه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
3 -
بيان ما أكرم الله به نبيه داود عليه السلام من أن الجبال والطير ترجِّع التسبيح مَعَه إذا سبح وأنه - تعالى - جعل له الحديد لينًا يعمل منه الدروع، قال تعالى:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} .
4 -
ذكر تسخير الريح لنبي الله سليمان عليه السلام تجري بأَمره، وأنه أَذاب له النحاس يسيل كالماء، وأَن الجن كانت تعمل بين يديه، بإذن ربه، قال تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} .
5 -
بيان أن داود وآله طلب منهم أَن يشكروا نعم الله عليهم {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} .
6 -
تسجيل ما كان لسبإ من نعيم وما كان في مسكنهم من جنتيين خيرهما كثير. وما من الله عليهم به من البركة والأَمن بتقارب قراهم، فلم يشكروا نعمة الله عليهم وأَعرضوا فأَرسل الله عليهم سيلا مدمرًا وبدلهم بجنتيهم جنتين ثمرهما قليل أو رديءٌ لا خير فيه، وما كان من ظلمهم أَنفسهم بأَن طلبوا أَن يباعد الله بين قراهم ليمشوا المسافات الطويلة في الصحاري والقفار فجعل الله سيرتهم تروى للاتعاظ بها وتكون مثالا لكفر النعمة كما شتت شملهم ومزقهم كل ممزق.
7 -
تصوير مَشْهَد من مشاهد يوم القيامة وإبراز ما يقع فيه من جدل وشقاق بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، وكل يلقي التبعة على الآخر، توضح ذلك الآيات (31، 32، 33).
8 -
بيان أَن المترفين وأُولي النعمة هم في كل أُمة رأْس الكفر والتكذيب، حيث تفتنهم أَموالهم وتغرهم أَولادهم، ويزهون ويتكبرون بجاههم، ولكن الله بين لهم أن أموالهم وأولادهم لا تقربهم من ربهم، ولا تنجيهم من عذابه. من الآيات 34، إلى 38
9 -
تسلية الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ناصره على الكافرين وخاذلهم فإنه - سبحانه - قد شدد النكير والعذاب على من كان أشد منهم قوة وأكثر عددًا قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} :
ويختتم - جل شأْنه - السورة بأنه إذا جاءَ يوم القيامة فلا نجاة لهؤلاء، وأنه لا ينفعهم إيمانهم آنذاك، قال تعالى:{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، ويحال بينهم وبين دخول الجنة ويكون شأْنهم شأن من شابههم في الكفر من الأُمم الماضية، قال تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} .
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
المفردات:
{يَلِجُ} : يدخل. {يَعْرُجُ} : يصعد.
التفسير
1 -
كل الثناء الحسن على الله مصدر الخير والإحسان ومالك كل الكائنات، فطرها على
أبدع نظام، وخلقها في أحسن إحكام، فهو - جل ثناؤه - يحمد في الدنيا وهو الحقيق بذلك الحمد وإن كان يحمد فيها غيره ويشكر سواه؛ فإن ذلك راجع إلى أَن غيره يكون سببًا وطريقًا إلى وصول نعم الله وانتهائها إلى المنعم عليه بها، فالمنعم في الحقيقة هو الله، أما في الآخرة فهو المستحق للحمد وحده فقد قطعت الأَسباب، وكل نفس بما كسبت رهينة، وهو - سبحانه - مختص بالحمد لما أَعده لعباده من نعيم مقيم، وتفضل بعفوه عن بعض الخطائين المذنبين، ولعدالته المطلقة مع خلقه أَجمعين {وَهُوَ الْحَكِيمُ} الذي أتقن كل شيءٍ صنعا، وأحسن كل كائن خلقًا وإبداعًا {الْخَبِيرُ} ببواطن الأُمور المحيط بكل شيءٍ علمًا.
2 -
يدرك ويحيط بكل ما ينفذ إلى باطن الأَرض من ماءٍ يتخلل أَجزاءَها، وجذور تتعمق في جوفها، كما يعلم ما يأْوي إلى جوفها من هوام وحشرات ودواب، وغير ذلك مما يخطئه العد والحساب وسبحانه يعلم ما يخرج من بطنها إلى سطحها من نبات ومعادن، وماءٍ ونفط وغير ذلك مما يكون حياة وخيرًا كالرزق الحسن، أو عذابًا مدمرًا كالبراكين والزلازل، ويعلم - سبحانه - ما ينزل ويهبط علينا من أَجواءِ الفضاءِ كالملائكة التي تتنزل بالرحمات والخير للطائعين المخبتين أو تنزل بالعذاب والنكال على الطاغين المجرمين، ويعلم ما ينزل من الضوء والحرارة والأشعة والشهب والأَمطار والثلوج، ويعلم - جل شأْنه - ما يصعد ويعرج في السماء من كلم طيب وعمل حسن، وملائكة تصعد بأَعمالنا، وغازات وبخار، وصواريخ ومركبات وموجات لا سلكية، وأضواءَ منعكسة من الأرض إلى غير ذلك مما يعلمه علام الغيوب.
وهو الكامل الرحمة الذي أمد الناس بنعمه الجليلة، وهو - سبحانه - مع كامل رحمته واسع المغفرة. كما قال - سبحانه -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) وذلك للتائبين لقوله عقبها {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} .
المفردات:
{بَلَى} : حرف جواب يأْتي بعد النفي للإثبات.
{يَعْزُبُ} : يبعد أو يغيب.
{ذَرَّةٍ} : هباءَةٍ أَو نملة صغيرة.
{مُعَاجِزِينَ} : ظانين تعجيز آيات الله.
{رِجْزٍ} : أَسوأ عذاب.
التفسير
3 -
(1) الآية 53 من سورة الزمر.
وقال الكافرون: إن الساعة لا تأْتيهم إنكارًا منهم قيامها، وجحدًا لمجيئها فلما حدث منهم ذلك أَمر الله - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم بربه - جل علاه - أَنها آتية فقال:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أَي: سيقع ما تنفون ويحصل ما تنكرون، ووصف - سبحانه - نفسه بأنه عالم الغيب كله، وهذا أَدخل في إقامة الحجة عليهم إذ أن قيام الساعة من أدق الأُمور الغيبية وأَخفاها، ثم أكد ذلك وعززه بأنه لا يبعد ولا يغيب عنه ما مقداره وزن هباءَة أو أصغر نملة كائنة في السموات ولا في الأَرض ولا أَصغر من ذلك ولا أَكبر إلا وهو مسطور مسجل في كتاب واضح بين وهو اللوح المحفوظ، وليقطع الله عليهم طريق اللجاجة والتكذيب أَنذرهم بالجزاءِ على العمل، فالله - سبحانه - بحكمته جعل لكل عمل جزاءً فالمحسن يثاب كما قال تعالى:
4 -
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} :
أي لتأْتينكم الساعة ليثيب الله - سبحانه - من تمكن الإيمان في قلوبهم فأَثمر الأَعمال الصالحة، والأَفعال المرضية، لهم - دون غيرهم - غفران ما عسى أَن يكون قد وقع منهم من هفوات - فهم بشر - ولهم مع هذه المغفرة العظيمة الواسعة الشاملة رزق واسع طيب حسن في دار النعيم.
والمسيءُ يعاقب كما قال تعالى:
5 -
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} :
أي أن: أُولئك الذين يسعون بالإثارة والإنكار لآيات الله وقرآنه فينسبونه إلى السحر أو الشعر أَو الكهانة أو يقولون عنه إنه أساطير الأولين ظانين إبطال آيات الله أو تعجيزها عن أَن تصل إلى الناس في نقائها وصفائها لتعمل عملها الطيب المبارك في القلوب فتهديها إلى الحق والنور، أو أنهم يعملون على تعجيز المؤمنين عن تكثير أتباعها هؤلاء لهم - دون سواهم - عذاب بالغ السوء في إيلامه.
المفردات:
{أَفْتَرَى} : أكذب واختلق. {جِنَّةٌ} : جنون.
{نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} : نغيبهم في بطنها.
{كِسَفًا} : جمع كسفة، وهي القطعة.
{مُنِيبٍ} : راجع وتائب إلى الله - تعالى -.
التفسير
بعد أن بين الله - سبحانه - حال المكذبين لآياتنا ومآلهم عقب ذلك ببيان رأْي أُولي العلم فيما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
6 -
المراد من الذين أُوتوا العلم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بعدهم سالكين طريقتهم، أَو هم أَهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله، أَو هم أولئك وهؤُلاء جميعًا، والمعنى: ويرى الذين أَعطاهم الله علمًا يقينيًّا تسامى في الصدق وتمكن في القلب - يرون الذي أُنزل إليك من لدن حكيم عليم هو الصدق الخالص، والحق الثابت الذي لا مرية فيه، أَما ما يفعله المعاجزون فهو باطل وزيف لا غناءَ فيه، وما أنزل إليك يهدى ويرشد كذلك إلى طريق وصراط الله العزيز الغالب الذي لا يغالب، وهو الحميد الذي يحمد ويشكر سعى من يصدق ويعمل صالحًا فيجازيه الجزاءَ الحسن، وفي هذا الأُسلوب الحكيم تنبيه وإرشاد إلى الالتجاء إلى الله رهبة من انتقام العزيز ورغبة في فضل وعطاء الحميد، وتثبيت لقلب نبيه، وبشارة له بأَنه ناصر دينه وناشره وحافظه، وخاذل أَعدائه ومهلكهم.
7، 8 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ}:
لما عجز الكفار في أمر الساعة عن مقارعة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان لجأُوا إلى أُسلوب العاجز وهو السخرية والسفه والإثارة، فقال فريق منهم لفريق آخر - استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم واستبعادًا لأَمر البعث -: هل ندلكم على رجل منكم يحدثكم بأُعجوبة من الأَعاجيب، وأَمر مستبعد غريب، وهو أنكم إذا صرتم رفاتًا وترابًا، ومزق الفناءُ أجسادكم كل ممزق، وبدد البلى أجزاءَكم كل تبديد - ينبئكم - أَنكم تبعثون وتعودون خلقًا جديدًا سويًّا.
وإمعانًا منهم في السخرية والاستهزاء تجاهلوا اسم رسول الله وأتوا به نكرة كأَنه ليس معروفا لديهم.
ثم هم مع ذلك يتغافلون عن شأنه - وهو بينهم الصادق الأمين - فيقولون: أَهو مفتر وكاذب فيما يدعيه على الله وينسبه إليه، أَم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ فيرد الله عليهم بقوله:{بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} إضراب عن الأمرين ودحض لهما جميعًا أي: ليس الأَمر كما يفتري الكافرون، فالرسول عليه الصلاة والسلام -
لم يكن منه افتراءٌ ولا كذب على الله، ولا به جنون ولكن هؤلاءِ - بسبب إنكارهم للبعث - في العذاب الشامل الذي ينتظرهم، وفي الضلال والزيغ الذي غمهم وبعد بهم عن طريق الهداية، ونأَى وشط عن الصراط المستقيم.
9 -
أي أَعَمِي هؤُلاء الكافرون فلم يبصروا وينظروا إلى ما يحيط بهم من بديع صنع الله في سمائه وأَرضه فإن فيها ما يدعو إلى تدبر المتدبرين، وتفكير أُولي الأَلباب والمستبصرين، فضلا عن أَنهم جميعًا لا يقدرون على أَن يخرجوا أَو ينفذوا من أَقطار السموات والأَرض، فهو - سبحانه - قاهر لهم وهم في قبضته فإن شاءَ خسف بهم الأَرض وغيبهم في بطنها كما فعل بقارون، قال تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (1). أَو يسقط وينزل عليهم قطعًا من السماءِ تهلكهم كصنيعه مع أَصحاب الأَيكة، قال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (2) ثم يؤكد أن النظر في السموات والأرض والتدبر فيها والاعتبار بما حصل للأُمم السابقة علامة وأَمارة وهداية لكل عبد راجع إلى ربه ملتجئ إلى مولاه، متوكل عليه.
المفردات:
{أَوِّبِي مَعَهُ} : رَجِّعي معه التسبيح، من التأْويب وهو الرجوع بعد الرجوع.
{أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} : طوَّعناه له من غير نارٍ ولا مطرقة.
(1) من الآية 81 من سورة القصص.
(2)
الآية 189 من سورة الشعراء.
{سَابِغَاتٍ} : واسعات ضافيات.
{قَدِّرْ} : أَحْكِمْ أَو اقتصد. (السَّرْدِ): نسج الدروع.
التفسير
10 -
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
…
} الآية:
أشارت الآيات السابقة على هذه الآيات إلى إنكار المشركين أَمر البعث، واستبعاد حصوله. فجاءَت هذه الآيات تبرز قدرة الله - تعالى - في معرض فضله على أنبيائه بما لا يمكنهم إنكاره بعد أَن فاضت به أَخبارهم وأَشعارهم. وفي ذكر ذلك بعد ذكر تكذيب المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى صدق رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم وأن إرساله لم يكن بدعًا، بل كان مما جرت به سنة الله قبله في الأَرض من إرسال الرسل قبله وتأْييدهم بالمعجزات. وإحلال العقاب بمن خالفهم.
والمعنى: ولقد آتينا وأَعطينا داود من عندنا نعمة وإحسانا، لحسن إنابته وصدق توبته بما منحناه من الملك، وفصل الخطاب، وغير ذلك، وقوله تعالى:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} تَفْصِيل لبعض الفضل الذي أَعطاه الله إياه، ومعناه: يا جبال رجعي معه التسبيح كلما سبح. روى أَنه عليه السلام كان إذا سبح سبَّحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها، ولا يعجز الله - جلت قدرته - أَن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع - وقد سبح الحصى في كف رسولنا عليه الصلاة والسلام وسمع تسبيحه، فلا يبعد ما قيل: من أَن الله عز وجل خلق فيها الفهم وناداها وأمرها بذلك كما ينادي أُولي الفهم ويأْمرهم، وأنها امتثلت ما أُمرت به. وقيل: المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أَعين، واستخراج معدن وإنشاء طريق، وقوله تعالى:{وَالطَّيْرَ} معناه: وسخرنا له الطير؛ لأَن إيتاءَها إياه عليه السلام هو تسخيرها له، وفي تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المطيعين لأمره المذعنين لحكمه، ما يشعر بأَنه مَا مِنْ حيوان ولا جماد، ولا صامت ولا ناطق، إلا وهو منقاد إلى مشيئة الله - تعالى -
غير ممتنع على إرادته - سبحانه - وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} معناه: طَوَّعناه، وجعلناه في يده لينًا يصنعه كيف شاء، ويتصرف فيه بما يشاءُ.
11 -
أي أَلنا له الحديد وأَمرناه أن اعمل منه سابغات، ويحتمل أَن تكون علة وغاية على معنى أَلنا له الحديد ليعمل سابغات.
وعن مقاتل أنه عليه السلام حين ملك علي بني إسرائيل كان يخرج متنكرًا فيسألُ الناسَ عن حاله، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأَله فقال: نعم العبد لولا خلة فيه، فقال: وما هي؟ قال: يُرْزَقُ من بيت المال، ولو أَكل من عمل يده لتمّت فضائله، فدعا الله - تعالى - أَن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع، وأَلان له الحديد، فأَثرى، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو بعض ليلة وثمنها أَلف درهم ينفق بعضها على أَهله، وينفق الباقي في مصالح المسلمين والصدقات.
كذا قيل، ولعل الأَقرب إلى الفهم أَن داود عليه السلام كان يكره أَن يرزق من بيت المال، ويحب أن يأْكل من عمل يده تورعًا، فدعا الله أَن يعلمه صنعة وييسرها له ليأْكل من عمل يده فتم له ذلك ويسره الله له وكان أَول من اتخذها.
وقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} معناه: وأَحكم نسج الدرُوع وأَتقن صنعتها بحيث تتناسب حلقها ولا تكون مضطربة قلقة ولا تكون غليظة فيشق حملها ولا خفيفة فيسهل كسرها، وقيل: معنى قدِّر في السرد: اقتصد في نسج الدروع فلا تصرف وقتك كله فيه، واعمل فيه بما يوفر لك القوت والإعاشة، واصرف باقي وقتك في عبادة الله وطاعته، وهذا هو الأَنسب بقوله تعالى:{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} فإنه خطاب من الله - تعالى - لداود وآله وتكليف لهم بالعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، ومع أَن أَهله لم يجر لهم ذكر
فإنهم يفْهَمُون التزامًا من ذكره، وأَجاز بعضهم أَن يكون المراد بالعمل الصالح إتقان عمل الدروع، وحينئذ يكون الخطاب خاصًّا، ويحتمل أن يكون أمرًا عامًّا بالعمل الصالح مطلقًا بما في ذلك عمل الدروع.
وقوله تَعَالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} معناه: إني عالم بكل ما تفعلونه مُطّلع عليه لا يخفى علي شىءٌ منه، وهو تعليل للأَمر أو لوجوب الامتثال متضمن للتحذير من مخالفته على وجه الترهيب والترغيب، فإن من يعمل عملا لملك، ويعلم أَنه بمرأَى منه وتحت عينه يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه حتى ينال رضاه، ويَحْظَى بالأَمن والأَمان عنده.
المفردات:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} : بنصب الريح على معنى وأَعطينا سليمان الريح، وبالرفع على تقدير: ولسليمان الريحُ مسخرةٌ.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} : جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} القطر: النحاس الذائب، أَي: أَجرينا معدن النحاس سائلا كما ينبع الماءُ من العين.
{يَزِغْ} : يعدل ويخالف ما أَمرناه به.
{مَحَارِيبَ} : جمع محراب. قيل: معناها قصور، وقال المبرد: لا يسمى محرابًا إلَاّ ما يرتقى إليه بدرج - وقيل: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، وقيل: المساجد.
{وَتَمَاثِيلَ} : جمع تمثال وهي الصور.
{أجِفَانٍ} جمع جفنة: وهي ما يوضع فيها الطعام من أَعظم القصاع وأَكبرها، ويليها في الصغر القصعة، ويليها المِئْكلة، ويليها الصُّحَيفَة.
{كَالْجَوَابِ} : جمع جابية: وهي الحياض التي يُجْبى فها الماءُ للإِبل.
{قُدُورٍ} جمع قدر وهي ما يطبخ فيه من فخار ونحوه على شكل مخصوص.
{رَاسِيَاتٍ} : ثابتات على الأثافي (1) لا تنزل عنها لعظمها.
التفسير
12 -
هذه الآية شروع في تعداد ما من الله به على سليمان بعد بيان ما آتاه عز وجل لداود عليهما السلام. والمعنى: وسخرنا لسليمان الريح، وذللناها له تخضع لأَمره، وتتحرك على مقتضى إرادته كالمملوك المختص بالمالك يأْمرها بما يريد، ويسيطر عليها كما يشاءُ فهي مسخرة ومذعنة لأَمره.
ومعنى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} : جريها بالغداة - أَول النهار - مسيرة شهر، وجريها بالعشي - آخر النهار - مسيرة شهر، فكانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب أَخرج أَحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية: كان سليمان عليه السلام يغدو من بيت المقدس فَيُقِيلُ باصطخر ثم يروح من اصطخر فيقيل بقلعة خراسان.
(1) الأثافي: ما يوضع عليه القدر من الحجارة، ومفردها أثفية.
قال ابن الحاجب في أَماليه: إنما أَعاد لفظ الشهر للإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التي تأْتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، ولم يقتصر على زمن الغدو ليقيس عليه زمن الرواح؛ لأَن الرياح كثيرًا ما تسكن، أَو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين.
وإنما لم يقل: ومع سليمان الريح كما قال - في داود -: يا جبال أوبي معه، لأَن حركتها بتسخير سليمان لها، وسلطانه عليها بأَمر ربها، فتسير معه حيث شاءَ وهذا على خلاف تأْويب الجبال، فإنه كان تبعًا لتأْويب داود عليه السلام ولم يكن مسلطًا عليها.
وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . معناه: وأَجرينا له معدن النحاس بعد إذابته - كما ألنَّا الحديد لداود - فسال ونبع كما ينبع الماءُ من العين، فلذلك سمى عين القطر باسم ما آل إِليه، وكانت الأعمال تتأَتى به وهو بارد، ولم يلن ولا ذاب لأَحد قبله:{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: ومن الجن فريق يعمل بين يدي سليمان بإذن الله وأَمره كما ينبيءُ عنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يخرج من الجن عما أمرناهم به من طاعة سليمان والعمل بأَوامره وإرشاداته {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} : أَي: نصله يوم القيامة ألوانًا من عذاب جهنم جزاءً وفاقًا لخروجه على أَمرنا، فالمقصود بالعذاب عذاب الآخرة، وفي هذا دلالة على أَن الجن مكلفون كالبشر.
وعن الحسن قال: الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤُلاء وهؤُلاءِ مؤْمنون، وهم شركاءُ في الثواب والعقاب. ومن كان من هؤلاء وهؤُلاء مؤْمنًا فهو ولي الله - تعالى - ومن كان كافرًا فهو شيطان.
هذا وفي قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بذكر لفظ الرب، وقوله: عن أَمرنا بالإضافة إلى الضمير لمحة لطيفة؛ لأَن لفظ الرب ينبيءُ عن الرحمة، فناسب ذكره عند الإشارة إلى حفظ سليمان كما ناسب عند الإشارة إلى تعذيب الجن ذكر ضمير العظمة الموجب لزيادة الخوف.
13 -
هذه الآية تفصيل لما يقوم به الجِن من الأَعمال لسليمان عليه السلام.
والمعنى: يعمل هؤُلاء الجن لسليمان ما يشاءُ عمله من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.
والمحاريب جمع محراب، وهي قصور حصينة، ومساكن شريفة، ومنازل شاهقة سميت بذلك لأَنه يحارب غيره لحمايتها، وقيل: هي صدور المجالس.
قال المبرد: لا يسمى محرابًا إلا ما يرتقى إليه بدرج، وقيل: هي المساجد.
ويطلق المحراب أيضًا على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإِمام، وهو مما أُحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأَول، ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله.
وتماثيل: جمع تمثال. قال الزمخشري: صور الملائكة والأَنبياء والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام وغيرها، ليراها الناس فيعبدوا مثل عبادتهم وكان اتخاذ الصور جائزًا في شرعهم. كما قال الضحاك وأَبو العالية.
وقد روي أنهم عملوا لسليمان عليه السلام أَسدين في أسفل كرسيّه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بجناحيهما والله أعلم بصحة ذلك. {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} جمع جفنة: وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقًا وهي أَعظم القصاع، ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة، ويليها الصفحة وهي ما تشبع الخمسة، ويليها المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة، وهي ما تشبع الواحد.
والجوابي جمع جابية: وهي الحياض الواسعة يجبى إليها الماءُ، فهي مجبيٌّ إليها لا جابية، ثم غلبت على إناءٍ خاص كبير الحجم يملأُ ماءً.
{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} : جمع قدر؛ وهو ما يطبخ فيه من فخار وغيره على شكل مخصوص، وراسيات معناها ثابتات على الأَثافي لا تنزل عنها لعظمها، وصف القدور بثابتات بعد تشبيه الجفان بالجوابي يجمع إلى تحقيق التناسب حسن الاتساق، كما أَن تقديم الجفان وهي من أواني الأَكل على القدور مع أنها من أدوات الطبخ المقدم على الأكل يشير إلى أن هذه الأواني معدة للطعام وأن السماط الذي كاتت تستعمل فيه عظيمًا.
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} معناه: اعملوا يا آل داود من الطاعات، والأَعمال الصالحات ما تؤَدون به شكر الله على عظيم نعمه وجليل آلائه، أو اشكروا يا آل داود شكرًا على هذه النعم.
روى ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما قيل لهم: اعملوا آل داود شكرا لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي. وجاءَ في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أَنه عليه السلام قال: يا رب كيف أَشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه: الآن شكرتني حين علمت النعم منّي.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: وقليل من عبادي المتوفر على أَداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، قال ابن عباس في تعريف الشكور: هو الذي يشكر على أَحواله كلها، وفي الكشاف: هو المتوفر على أَداء الشكر الباذل وسعه فيه، وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافًا واعتقادًا وكدحًا، وأَكثر أَوقاته، وقيل: من يرى عجزه عن الشكر؛ لأَن توفيقه للشكر نعمة تستدعى شكرًا آخر لا إلى نهاية.
وقد نظم بعضهم هذا فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
…
عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأَيام واتسع العمر
إذَا مس بالنعماءِ عم سرورها
…
وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وهذه الجملة في ختام الآية يحتمل أن تكون من بقية خطاب آل داود داخلة فيه، ويحتمل أن تكون جملة مستقلة جيءَ بها إخبارًا لنبينا عليه الصلاة والسلام تنبيهًا وتحريضًا على الشكر.
ومن بدائع التنزيل هذه المواءَمة بين ما منَّ الله به على داود وما منَّ به على سليمان عليهما السلام، فإن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياءَ لداود وثلاثة أَشياءَ لسليمان وناسب بينهما، فالجبال المسخرة لداود يناسبها الريح المسخرة لسليمان، وتسخير الطير يناسب تسخير الجن، وإلانة الحديد تناسب إسالة النحاس. وهكذا تتقارب النعم بينهما لتقوى الصلة بين الولد وأبيه.
المفردات:
{قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} : أوقعنا على سليمان الموت، وحكمنا عليه به.
{دَابَّةُ الْأَرْضِ} : هي الأَرَضة - بفتحات - وهي دُوَيْبة تأْكل الخشب ونحوه وتسمى سُرْفة، كما تسمى سوس الخشب، وإضافتها إلى الأَرْض من إضافتها إلى ما تحدثه وهو الأَرْض، أي: أَكل الخشب {مِنْسَأَتَهُ} : عصاه، سميت بذلك لأَنه ينسأُ ويطرد بها، من نسأْت الكلب إذا طردته.
{خَرَّ} : سقط على الأرض.
{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} : علِمَت، من تبين الشيءُ إذا ظهر بعد التباس.
{مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ} : ما مكثوا فيه وأَقاموا عليه.
{الْمُهِينِ} : البالغ الحد في المهانة والذِّلَّة.
التفسير
14 -
جرت هذه الآية على نمط القصص القرآني من طي ما يعلم من أُسلوب القصة ويُفْهمُه
سياقُهَا، والمعنى: فلما تم لسليمان ما أَنعم الله به عليه من نعم يسخرها فيما يشاءُ ويوجهها إلى إنجاز ما يريد، فلما قضينا عليه الموت، وأَوقعناه وحكمنا به عليه ظلَّ أَمر موته خفيا على الجن فَعَمِيَ عليهم بعض الوقت ما دلهم عليه إلَّا دابة الأرض وهي الأَرَضَة أَكلت عصاه التي كان متكئًا عليها جالسا على كرسيه (1)، فسقطت وخرَّ سليمان ساقطًا على الأَرض بسقوطها. روي أَن داود عليه السلام أَسس بنيان بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فتوفي قبل تمامه، فوصّى به سليمان عليهما السلام فاستعمل فيه الجن والشياطين فباشروه، حتى إذا آن أَجله وعلم به سأل ربَّه أن يُعمّي عليهم موته ليفرغوا، ولتبطل دعواهم الغيب، فقام يصلى في مصلاه متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكيءٌ عليها فبقى كذلك، وهم فيما أُمروا به من الأَعمال، حتى أَكلت الأَرَضة عصاه فخرّ ميتًا، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه كلَّما صلى.
أي فلما سقط سليمان على الأَرض ميتا، وظهر أَمر موته تبينت الجن وظهر من أَمرها أَنهم لو كانوا يعلمون الغيب - كما يزعمون - لعلموا موته وقت حصوله، فلم يلبثوا بعد موته في الأَعمال الشاقة والعذاب البالغ الحد في المهانة والذل، والمراد بالجن في قوله {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} جميع الجن؛ كبراؤُهم وضعفاؤهم.
(1) انظر القرطبي، فقد ذكر أنه اتكأ على عصاه على كرسيه حينما قام يصلي، ومعنى قيامه للصلاة أداؤه لها، من قولهم: قام بالأمر، أي: أداه.
المفردات:
{سَبَإٍ} : قوم بلقيس، وهو في الأَصل اسم لرجل هو سبأ بن يشجب بن قحطان ويجمع قبائل اليمن عامة، ومن نسله عبد الله المنسوب إليه السبئية من غلاة الشيعة.
{مَسْكَنِهِمْ} : مواضع سكناهم وهي باليمن، يقال لها مأْرب، بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال.
{آيَةٌ} : علامة واضحة دالة على وجود الصانع الحكيم.
{جَنَّتَانِ} : جماعتان من البساتين: جماعة عن يمين إقليمهم وجماعة عن شماله.
{الْعَرِمِ} : سد يعترض الوادي، ويطلق أيضًا على المطر الشديد، والعرمُ: الصعب. من عَرِم الرجل فهو عارم: إذا شرس خلقه وصعب.
{وَبَدَّلْنَاهُمْ} : آتيناهم بدل جنتيهم بعد إهلاكهما {خَمْطٍ} : مُرٍّ بشع.
{أَثْلٍ} : شجر يشبه شجر الطرفاءِ لا ثمر له.
{سِدْرٍ} : هو شجر النبق. {جَزَيْنَاهُمْ} : عاقبناهم.
{الْكَفُورَ} : المبالغ في الكفر المتشبث به.
التفسير
15 -
لما ذكر سبحانه وتعالى الآيات السابقة بعض آلائة ونعمه على عباده المنيبين من أَمثال داود وسليمان وما اختصهم به من فضل، وأَسبغ عليهم من خير لقاءَ شكرهم، وجزاءَ امتثالهم وطاعتهم، عرض في هذه الآية طرفًا من قصة سبأ المنكرين للنعم، المعرضين عن الطاعة موعظةً قريش وتحذيرًا من كفرانهم النعم وإعراضهم عنها.
وسبأ بن يشجب ويسمى أيضًا عبد شمس وهو أَول ملوك اليمن في قول. ولقب بهذا اللقب لأَنه أَول من سبى السبي من ولد قحطان، وفي بعض الأَخبار عن فروة بن مسيك قال: أَتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: أخبرني عن سبإٍ. أرَجُلٌ هو أم
امرأَة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة: تيامن (1) منهم ستة وتشاءَم (2) منهم أَربعة، فأَما الذين تيامنوا فالأَزد. وكندة وحمير ومذحج. والأَشعريون وأَنمار ومنهم بجيلة. وأَما الذين تشاءَموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام.
والمعنى: لقد كان لشعب سبأَ في مساكنهم التي يسكنونها وقصورهم. ووديانهم التي يعيشون فيها ويعمرونها آية واضحة وعلامة دالة بملاحظة سوابقها ولواحقها على وجود الصانع المختار، والحكيم القادر على ما يشاءُ، هذه الآية هي جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله. وكل بستان من هاتين الجماعتين يجمع أَلوانًا شتى من الأَشجار والثمار، وهذه البساتين ترى في تقاربها وتضامها كأَنها جماعة واحدة. والمقصود أَن مساكنهم من العظمة، والترف والنعيم بحيث تحفها الأَشجار وتحيط بها الثمار من جميع الأنواع والأَشكال عن يمين وشمال، وهم ينعمون بها، وينطلقون في أَكل ثمارها الموفورة، روي أَن المرأَة كانت تخرج وعلى رأسها المكتل وتسير بين الأَشجار فيمتليء المكتل مما يتساقط من الثمار فهذا قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: كأَنها تناديهم بلسان الحال، وتدعوهم للأَكل منها، والشكر عليها. وقيل: هو على تقدير القول أَي: قال لهم نبيهم، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} .
{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} : استئناف يرشد إلى مقتضيات الشكر وموجبات الحمد أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة بخيراتها الوفيرة وخصبها الجيد، وربكم الذي رزقكم هذه الأَرزاق الواسعة، وأَفاءَ عليكم بهذه النعم وطلب شكركم رب غَفُورٌ واسع المغفرة لفرطات من يشكره.
16 -
المعنى: فتولوا وأعرضوا عن شكر الله تعالى، وعن الإيمان به مع هذه الآيات الداعية إليه، وهذه النعم المستوجبة له.
(1) اتجهوا جهة اليمن.
(2)
اتجهوا نحو الشام.
فأرسل عليهم سيل المطر الشديد، فاجتاح السد الذي كان ينظم الريّ في البلاد.
وقوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} معناه: عاقبناهم على إعراضهم وكفرهم وتكذيبهم نبيهم فأَذهبنا جنتيهم، وأَبدلناهم بهما جنتين ذواتي ثمر خمط مُرٍّ لا يستسيغه أَحد، يجمع بين المرارة والحموضة، وشجر آخر لا ثمر له يشبه شجر الطرفاء إلا أَنه أَكبر منه وهو الأثل، وشيءٍ قليل من شجر السدر وهو المعروف بالنبق.
وهذا النوع ينتفع به وله شأْن عند العرب، ولكنه كان قليلًا عقابا لهم، ولو أُطلق لكان نعمة لا نقمة. وقال الأَزهرى: السدر سدران: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغَسُول، وله ثمرة عَفْصة لا تؤْكل - وهو الذي يسمّى الضال - وسدر ينبت على الماءِ وثمره النبق وورقه غَسُول يشبه العُنّاب.
قال قتادة: كان شجرهم خير الشجر، فصيره الله شر الشجر بأَعمالهم، وتسمية البدل بجنتين للمشاكلة والتهكم.
ولفظ (قليل) إما أن يكون وصفًا لسدر كما تقدم، وإما أن يكون وصفًا للثلاثة {خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} .
17 -
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي: ذلك العقاب الذي ألحقناه بهم من التبديل بجنتيهم الوارقتين المثمرتين جنتين خبيثتين ذواتي أُكل خمط مرٍّ وأثل لا ثمر له وشيءٍ من سدر قليل لا يغني، أَو لا ينتفع به - ذلك العقاب عاقبناهم به بسبب كفرهم وإعراضهم عن الإيمان وعن شكر النعم، ويجوز أَن تكون الإشارة إلى مصدر الفعل (جزيناهم) أي جزيناهم ذلك الجزاء، وتقديم لفظ (ذلك) وهو مفعول على الفعل العامل فيه وهو جَزى من {جَزَيْنَاهُمْ} للتعظيم والتهويل، أو للتخصيص على معنى: ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاءً آخر، وما نجازي مثل هذا الجزاءِ ولا نعاقب هذا العقاب الشديد المستأْصل إلا المبالغ في الكفر المصر عليه.
المفردات:
{الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام، جعلناها مباركة بكثرة أشجارها ووفرة ثمارها، والتوسعة على أهلها.
{قُرًى ظَاهِرَةً} متواصلة يقرب بعضها من بعض، أو ظاهرة مرتفعة على الآكام والمرتفعات وهي أشرف القرى، أو مقامة على الطريق معروفة يسهل سير السابلة إليها.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} جعلنا المسافات بينها مقدرة على أبعاد قريبة بحيث يسهل التنقل بينها.
{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} : اجعل المسافات والأبعاد بيننا وبين القرى المباركة طويلة ممتدة لتطول أسفارنا إليها.
{أحَادِيثَ} جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به على سبيل التلهى والاستغراب.
{مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} : فرقناهم كل تفريق، وشتتناهم شر تشتيت.
التفسير
18 -
هذه الآية عود إلى ذكر ما أُوتي قوم سبأ من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، بعد ذكر ما أوتوا من النعم في مساكنهم ومنازل إقامتهم، ولم تذكر هذه النعم مع النعم التي قبلها
مباشرة لما في المعاودة والتثنية من إثارة الانتباه، وتجديد التذكير، فيكون أوقع في الأسماع وأقوى في التأثير والزجر.
والمعنى: وجعلنا بين مساكن أهل سبأ وبين قرى الشام التي باركنا فيها بكثرة أشجارها، ووفرة ثمارها وخيراتها - ومياهها، والتوسعة على أهلها - جعلنا بينهم - قرى أخرى كثيرة ظاهرة متواصلة بحيث يظهر لمن في بعضها ما أمامه من الأُخرى، أو جعلناها مرتفعة على الآكام على العادة في بناه القرى المنيعة الشريفة، أو أقمنا أوضاعها على الطريق ليسهل توصل السابلة إليها {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} فجعلنا الأبعاد بين كل قرية وأخرى على مقدار معين لا يشق على المسافر قطعه، ولا يطول وقته.
قيل: من سافر من قرية صباحًا وصل إلى الأُخرى وقت الظهر والقيلولة، ومن سار من قرية بعد الظهر وصل إلى أخرى بعد الغروب إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدوّ ونحوه، وقوله تعالى:{سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} على إرادة القول، بمعنى أبحناها وقلنا لهم: سيروا فيها، وهذا القول إما بلسان أنبيائهم، أي قال أنبياؤهم ومرشدوهم سيروا فيها حيث شئتم، وكيف شئتم ليالي وأيامًا آمنين لا تحسُّون مشقة ولا تستشعرون جوعًا ولا عطشًا ولا ترهبون عدوا، وإما بلسان الحال. أي: يسرنا لهم السير وسهلنا أسبابه فاندفعوا فيه كأنهم مأمورون به. وعلى أي تقدير فالمعنى: سيروا فيها آمنين مطمئنين وإن تطاولت مدة سفركم، وامتدت أيامًا وليالي كثيرة، وتقديم الليل على النهار لأن الليل مظنة الخوف من المغتالين وقطاع السبيل.
19 -
المعنى: بطروا النعمة وسئموا من طيب العيش ولم يعرفوا قيمته وملوا العافية، وطلبوا الكدَّ والتعب فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا فاجعلها مسافات بعيدة. بحيث نسير إليها على نجائبنا، ونفاخر بدوابنا ونربح في تجارتنا، وظلموا أنفسهم بما قالوا وما طلبوا وكانوا كبني إسرائيل الذين ملُّوا المن والسلوى، وآثروا الذي هو أدنى، فعجل الله لهم الإجابة بتخريب تلك القرى، ونجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، كما يفهم
من قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: ألحقنا بهم الخراب والدمار فجعلناهم بحيث يتحدث الناس عن أخبارهم حديث التلهى والاستغراب، ويضربون بهم الأمثال فيقولون: ذهبوا أيدى سبأ، ومزقناهم كل تفريق وشر تمزيق حيث لحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إلى غير ذلك. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: إن في ذلك الذي ذكر من قصتهم، واختلاف أحوالهم وتقلب الأيام بهم لعظات واضحة وآيات شاهدة لكل من راض نفسه على الصبر وغالب الشهوات وصبر على الطاعات، وقدر نعم الله، وقابلها بالمزيد من الشكر والوفير من الحمد ليستديمها ويستزيدها تصديقًا قوله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1).
المفردات:
{صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} : حقق فيهم ظنه ووجده صادقًا.
{سُلْطَانٍ} تسلط، واستيلاء. (حفيظ): محافظ.
التفسير
20 -
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى واستجابتهم لوسوسة إبليس، وتنكبهم السبيل السوى، أخبر عنهم فقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ
(1) آية 7 من سورة إبراهيم.
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي: حقق عليهم ظنه ووجده صادقًا، وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات وكفران النعم، أو ظنه ببني آدم حين شاهد - آدم عليه السلام أصغى إلى وسوسته، وقال: إن ذريته أضعف منه عزمًا، والرأى الأول أقرب لاتصاله بقصة سبأ، وقوله:{فَاتَّبَعُوهُ} أي: فاتبعه أهل سبأ. ومعنى {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : إلَاّ فريقًا قليلًا هم المؤمنون لم يتبعوه ولم يتأثروا بوسوسته، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار فإن المؤمنين قليل بالنسبة لكثرتهم.
21 -
أي: وما كان لإبليس على هؤلاء الغاوين من تسلط وقدرة على الاستيلاء عليهم بالوسوسة إلَاّ ليظهر ما علمناه أزلا في شأنهم؛ من يؤمن بالآخرة ويصدق بالحساب والجزاء يوم القيامة بحسن اختياره، ممن هو من هذا في ريب بسوء اختياره.
قال الحسن: والله ما ضربهم بعصى، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأمانى دعاهم إليها فأجابوه.
وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} معناه: وربك على كل شيءٍ وكيل قائم على أحواله وشئونه، فلهذا لا يفوته العلم بمن يؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها. و (حفيظ) إما مبالغة في حافظ أو بمعنى محافظ.
المفردات:
{زَعَمْتُمْ} : ظننتم وقلتم إنهم آلهة.
{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} : وزن ذرة وقدرها.
{ظَهِيرٍ} : معين.
{فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} : أزيل الخوف عن قلوبهم، يقال: فُزع عنه إذا أزيل الخوف عنه، مثل قولهم: قَرَّدْتُ البعير إذا أُزلت قراده، والفزع: انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
التفسير
22 -
لما بين الله - تعالى - حال الشاكرين ونعمه عليهم، وحال المشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة في أخبارهم وأشعارهم، عاد إلى خطابهم وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل - يا رسول الله - لهولاء المشركين تنبيهًا على بطلان ما هم عليه، وتبكيتًا لهم: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله فيما يهمكم من جب نفع أو دفع ضرر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم. ولم يمهلهم ليجيبوا بل قال - سبحانه - {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة} إشعارًا بتعينه جوابًا، فإنه لا يقبل المكابرة، وهو متضمن حال آلهتهم في الواقع، وأنهم إذا كانوا من العجز والعوز لا يملكون وزن ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر ولا يستطيعون جلب نفع ولا دفع ضرّ. فكيف يكونون آلهة تُعْبدُ؟ وذكر السموات والأرض للتعميم عرفًا فيراد جميع الموجودات. كما يقال: صباحًا ومساءً لجميع الأوقات وشرقًا وغربًا لجميع الجهات، والمراد نفى قدرتهم على شيء من النفع أو الضر أو الإيجاد أو الإعدام، وقوله - تعالى:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير} معناه: ومالآلهتهم آية شركة في السموات والأرض، لا خلقًا ولا ملكًا ولا تصرفًا، وما لله جلَّت قدرته من هؤلاء الآلهة من ظهير ولا معين يعينه في تدبير أمر من أمورهما.
23 -
هذه الآية: استمرار في تسفيه آلهتهم، واستقصاء لقطع كل ما يمكن أن يرجى منهم أو ينتظر من نفعهم.
والمعنى: لا توجد الشفاعة رأسًا، ولا تتأتى أصلا عند الله - تعالى - في حال من الأحوال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأْهلين للشفاعة المستحقين لها فقد قال تعالى:{لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وعدم الإذن للأصنام بالشفاعة واضح، فلا مجال لنجاة عابديهم.
ويمكن أَن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن الله لشفيعه بشأنه، فلقظ {مَنْ} في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} واقع على الشفيع في المعنى الأول وعلى المشفوع له في المعنى الثاني، وحاصل المعنى عليه: أن الشفاعة لا تنفع من الشفعاء المستاهلين إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة، وهم المقصرون من أهل الإيمان ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص، ولمن شفاعة الأصنام بدلالته، إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة، فلأَن يحرموها ابن جهة العجزة عنها بالكلية أولى.
ومما تجدر الإشارة إليه أَن المراد بنفي نفع الشفاعة نفيها رأسًا، وإنما علق النفى بنفعها دون وقوعها تصريحًا بنفى ما هو غرضهم من وقوعها. وقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} معناه: حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير الرضا بالشفاعة من الله ذي الجلال والإكرام، قال المشفوع لهم المتلهفون على الإذن بالشفاعة المهتمون بأَمرها، قالوا للشفعاء: ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة؟ قال الشفعاء: قال ربنا القول الحق حيث أذن بالشفاعة للمستحقين لها، وهو المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وهذه الجملة وهي:{الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} من تمام الكلام الجاري على آلسنة الشفعاء، قالوها اعترافًا بغاية عظمة الله وقصور شأن كل من سواه.
وقال القرطبي في معنى الآية: إنه إذا أذن للشفعاء في الشفاعة، وورد عليهم كلام الله فزعوا، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل، والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سرى عنهم قالوا للملائكة فوقهم - وهم الذين يوردون عليهم الوحى بالإذن -:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي: ماذا أمر الله به. {قَالُوا الْحَقَّ} : وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} : فله أن يحكم في عباده بما يريد.
{يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ} : بالمطر وغيره.
{وَالْأَرْضِ} : بالنبات وسواه.
{قُلِ اللَّهُ} أي: قل إجابة عنهم إن لم يقولوه، إذ لا جواب سواه عندهم أيضًا.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} أي: وإنَّ أحَدَ الفريقين منا ومنكم.
{لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : لمحقٌّ متمكن من الحق، أو مبطل منغمس في الضلال الواضح.
{أَجْرَمْنَا} : أذنبنا. {تَعْمَلُونَ} : من الكفر والمعاصي.
{يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} : يوم القيامة عند الحشر والحساب.
{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} : ثم يحكم ويفصل بيننا بالعدل.
{الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} : الحاكم الفيصل، العليم بما ينبغي أن يقضى به.
{أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} : أعلموني هذه الآلهة التي جعلتموها أندادًا لله في العبادة.
{كَلَّا} : ردع لهم عن اعتقاد شريك.
{الْعَزِيزُ} : الغالب على أمره. {الْحَكِيمُ} : في تدبيره وتصريفه لخلقه.
التفسير
24 -
لما ذكر الله أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (1) أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرر المشركين بقوله: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ} ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ} أي: الله يرزقكم، وذلك للإشعار بأنهم مقرون بقلوبهم إلَاّ أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال: فما بالكم لا تعبدون من يرزقكم؟ وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ وقد كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ويتلعثمون مرة، عنادًا وإصرارًا وحذرا أن تلزمهم الحجة، ونحوه قوله عز وجل:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (2).
أي: قل - أيها الرسول - لهولاء المشركين إلزاما لهم: من يرزقكم من السموات والأرض، فينزل لكم الأمطار ويسوق لكم الأرزاق زرعًا نضيرا، وثمرًا وفيرًا، وغير ذلك من سائر الأرزاق ظاهرها وباطنها، وقيل لهم بعد الإلزام والإفحام:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: وإن أحد الفريقين منا معاشر الموحدين، ومنكم أيها المشركون لمتصف بأحد الأمرين: الاستقرار على الهدى، والتمكن من الحق، أو الانغماس في الضلال البيِّن الواضح.
وهذا من الكلام المنصف الذي يقول كل من سمعه موافقًا أو مخالفًا - يقول - لمن خوطب به: لقد أنصفك صاحبك.
(1) سورة سبأ من الآية: 22.
(2)
سورة الرعد، من الآية:16.
وفي ذكره بعد ما تقدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين؛ لأن التعريض والتورية أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وغلبة الخصم، فكأنه قال لهم: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب، ومثله قول حسان - شاعر رسول الله - يخاطب أبا سفيان بن حرب، وكان قد هجا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم:
أتهجوه ولست له بكفءٍ؟
…
فشركما لخيركما الفداء
وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الحق والضلال للدلالة على استعلاء صاحب الهدى، وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، بخلاف صاحب الضلال فهو منغمس، حتى كأنه في مهواة موحشة لا يدرى أين يتوجه.
25 -
{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} :
المعنى: قل لهم - أيها الرسول -: لا تُسألون عما اقترفنا من آثام، وارتكبنا من ذنوب، ولا نُسأل عما تعملون من شرور ومعاصٍ وكبائر، وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن مما يعبر به عن الكبائر، وأسند إلى المؤمنين فقيل:{لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} وعن الكبائر من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات، وأسند إلى المخاطبين، فقيل:{وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
وذكر ابن كثير أن معنى الآية: التبرى منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله - تعالى - وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبنم فنحن برآء منكم وأنتم برآءُ منا، كما قال - تعالى -:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (1).
(1) سورة يونس الآية: 41.
26 -
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} :
قل لهم - أيها النبي بعد أن تبين الحق من الباطل - قل لهم: يجمع بيننا ربنا يوم، القيامة عند الحشر والحساب، ثم يقضى بيننا بالحق، ويفصل بالعدل، فيدخل المحقين الجنة، والمبطلين النار، وهو القاضي الواسع العليم، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية.
27 -
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ
…
} الآية:
استفسار عن شبهتهم بعد إلزامهم بالحجة، زيادة في تبكيتهم، والمراد: قل لهم: أعلموني بالحجة والدليل في أي شيء كانت الشركة؟ هل شاركت الأصنام في خلق شيءٍ؟ فبينوا ما هو وإلا فَلِمَ تعبدونها؟
وقيل: (رأى) بَصَريَّةٌ، والمراد: أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله عز وجل الذي ليس كمثله شيءٌ في استحقاق العبادة، والغرض إظهار خطئهم العظيم.
وقال بعض الأجِلَّة: لم يُرِدْ من {أَرُونِيَ} حقيقته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى معبوداتهم ويعلمها، فهو تمثيل، والمعنى: ما زعمتموه شريكًا إذا برز للعيون - وهو خشب وحجر - تمت فضيحتكم وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أرني أباك الذي فاخرت به فلانًا الشريف، ولا تريد حقيقة الرؤية وإنما تريد تبكيته وتحقيره.
{كَلَّا} : ردع لهم عن زعم الشركة ومذهبهم فيه، أي: ليس الأمر كما زعمتم فليس له نظير ولا شريك ولا نديد ولا عديل، وقد نبه على فحش غلطهم وأنهم لم يقدروا الله حق قدره بقوله:
{بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: بل هو الله الموصوف بالغلبة القاهرة، والحكمة الباهرة، فأين شركاؤكم - التي هي أخس الأشياء وأذلها - من صاحب هذه الرتبة العالية؟!
المفردات:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً} أي: إلَاّ إرسالة عامة للناس جميعًا، من الكف، فإنها إذا عمتهم ففد كَفَّتهم أن يخرج منها أحد، قال الزجاج: أرسلناك جامعًا للناس في الإبلاغ "فهي حال من الكاف، والتاءُ للمبالغة".
{الْوَعْدُ} المراد بالوعد: اليوم الموعود للجزاء.
{مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} أي: لكم ميعاد يوم مؤجل محدد إذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدم.
التفسير
28 -
يقول الله - تعالى - لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك إلا جامعًا للمكلفين من الناس، مبشرًا من أطاعك بالجنة، ومنذرًا من عصاك بالنار، ولكن أكثرُ الناس لا يعلمون صدقك في دعوتك، وعموم رسالتك للناس جميعًا في شتى أنحاء الأرض، فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال.
ومثل هذه الآية في عموم دعوته قوله - تعالى -: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1).
(1) سورة الأعراف من الآية: 158.
وقوله - جل شأنه -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1).
ومثل ذلك ما ورد في الصحيحين مرفوعًا عن جابر قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحده قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" اهـ: ابن كثير، وفي الصحيح - أيضًا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأسود والأحمر، قال مجاهد: يعني الجن والإنس، وقال غيره: يعني العرب والعجم، والكل صحيح، وقال محمد بن كعب في قوله - تعالى -:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يعني إلى الناس عامة.
واعلم أن رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن ثابتة في مواضع أُخَرَ وبخاصة في سورة الجن، وسيأتي الحديث عن ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
29 -
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} :
ويقول الكافرون من فرط جهلهم وعظيم غيهم استبعادًا لقيام الساعة، واستهزاءً باليوم الموعود للجزاء ثوابًا أو عقابًا - يقولون - متى هذا اليوم الموعود بالجزاء الأُخروي، إن كنتم صادقين في وعدكم به فأخبرونا، قالوا هذا مخاطبين رسول الله - صلي الله عليه وسلم - والمؤمنين به، والمراد بصيغة المضارع {يَقُولُونَ} الاستمرار التجددي، وقيل: عبر بها استحضارا للصورة الماضية لغرابتها، والأصل:(قالوا).
30 -
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُون} :
أي: قل لهم - أيها النبي صلى الله عليه وسلم: لكم ميعاد يوم عظيم محدد فإذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدم، ولما كان سؤالهم عن الوقت إنكارًا وتعنيتا لا استرشادًا جاء الجواب على طريق التهديد مطابقًا لمجىء السؤال، وهو أنهم مرصودون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرًا عنه ولا تقدما عليه، وهو يوم القيامة الذي ستبين الآيات التالية أحوالهم فيه.
(1) سورة الفرقان، الآية:1.
المفردات:
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : المشركون من أهل مكة.
{بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: بالذي تقدمه من الكتب السماوية: كالتوراة والإنجيل الدالين على البعث.
{الظَّالِمُونَ} : المنكرون للبعث، ظلموا أنفسهم بكفرهم به.
{مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : محبوسون في موقف الحساب.
{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} : يتحاورون ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب.
{الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} : في الدنيا من الكافرين وهم الأتباع.
{اِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : الرؤساءُ والقادة.
{لَوْلَا أَنْتُمْ} : لولا إضلالكم وصدكم لنا عن الإيمان.
{لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} : باتباع الرسول.
{أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} : استفهام بمعنى الإنكار، أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإِيمان وردوهم عنه.
{بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} : آثمين بإصراركم على الكفر.
{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : بل صدنا مكركم بنا وخداعكم لنا في الليل والنهار، والمكر في لسان العرب: الاحتيال والخديعة.
{أَنْدَادًا} : شركاء ونظراء في العبادة، جمع ندٍّ، وهو الشريك والمثيل، يقال: فلأَن ندُّ فلأَن، أي: مثله.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: أضمر الفريفان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال، وأخفاها كل عن الآخر حين عاينوا العذاب أو أظهروها، فإن {أَسَرَّ} من الأضداد.
{الْأَغْلَالَ} : جمع غُل، وهو القيد يوضع في العنق، وقد نطلق الأغلال على السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم.
التفسير
310 -
يخبر الله - تعالى - عن تمادى الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإِيمان بالنبي وبالقرآن، وبما أخبر به من أمر المعاد، وعدم الإِيمان بالذي سبقه من كتب الله التي نزلت على الأنبياء السابقين تتحدث عن عبادته وحده، وعن المعاد والثواب والعقاب، يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا بالقرآن جميع ما تقدمه من كتب الله عز وجل فكفروا بها جميعًا.
وقيل: الذي بين يديه هو يوم القيامة، أي: أنهم كفروا بالقرآن وبما جاء به من البعث والجزاء، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله، أو لكل مخاطب: ولو ترى في الآخرة مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجّهم وهم يتحاورون ويتراجعون القول بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين، وجواب (لو) مقدر، أي: لرأيت أمرًا هائلا فظيعًا مخيفًا، ثم ذكر ما يرجعونه من القول فقال:{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} : استئناف لبيان تلك المحاورة، أي: يقول المستضعفون من الأتباع للمستكبرين من الرؤساء والقادة الذين اتبعوهم في الغي والضلال: لولا أنتم صددتمونا عن الهدى ومنعتمونا من الإِيمان، وحُلْتُم بيننا وبين الحق لكنا اتبعنا الرسول، وآمنا بما جاء به فنجونا من العقاب.
32 -
استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا حين اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم؟ فقيل من جهتهم: أنحن صددناكم عن الهدى
…
إلخ، أي: لسنا نحن الذين حُلْنا بينكم وبين الإِيمان وصددناكم عنه، ومنعناكم منه بعد إذ صممتم على الدخول فيه وصحت نياتكم في اختياره، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمِرَ الهوى دون آمر الهُدى، فكنتم مجرمين مشركين مصرين على الكفر باختياركم لا لقولنا وتسويلنا، ونحن ما فعلنا بكم أكثرُ من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل
ولا برهان، وخالفتم باختياركم الأدلة والبراهين التي جاءت بها الرسل.
33 -
لما أنكر المستكبرون بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ
…
} إلخ أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وردوا عليهم بقولهم: "بل أنتُم مجرمون" يريدون أن ذلك بكسبهم واختيارهم - لما أنكروا وقالوا ذلك - رد عليهم المستضعفون بقولهم: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهتكم؛ لأن الذي صدنا عن الهدى وصرفنا عن الحق خديعتكم ووسوستكم لنا في الليل والنهار، واحتيالكم علينا حين كنتم تطلبون منا أن نكفر بالله ونجعل له شركاء ونظراء في العبادة، وزينتم لنا الشرك وحسنتم لنا الكفر وخدعتمونا بأننا كل هدى، فإذا جميع ذلك خداع وكذب وباطل. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: وأضمر الظالمون من الفريقين: - المستكبرين والمستضعفين - الندامة على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال الذي جانب المستكبرين، ومن الضلال والانقياد إلى المضلين في جانب المستضعفين حينما رأوا العذاب وشاهدوه؛ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق، واشتغلوا عن إظهار الندامة بهول العذاب، أو لأنهم علموا أن لا فائدة من إظهارها، وقال الزمخشري وغيره: أسروا الندامة بمعنى أظهروها، فإن {أَسَرَّ} من الأضداد؛ إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب، فمعنى أسرَّهُ: جعله سرا، أو: أزال سره، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}: أي: وجعلنا السلاسل التي تجمع أيدي الكفار في أعناق الكافرين، والمراد بالكفار: المتكبرون والمستضعفون جميعًا، والأصل (في أعناقهم) إلا أنه أظهر كفرهم للتنويه بذمهم، والتنبيه على موجب تلك الأغلال. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: ما يستحق هؤلاء جميعًا إلا جزاء ما كانوا يعملون من الشرور والآثام في الدنيا.
المفردات:
{مُتْرَفُوهَا} : أصحاب النعمة والرياسة. {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} لا نؤمن به ولا نتبعه {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} : قالوا ذلك لاعتقادهم أن الله أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة، أو لإنكارهم عذاب الآخرة. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: يوسِّعه امتحانًا. {وَيَقْدِرُ} يُضيِّقه ابتلاء. {زُلْفَى} الزلفى، والزلفة: القربة، وهي كالقربى {جَزَاءُ الضِّعْفِ}: الثواب المضاعف، والضعف: الزيادة. {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} غرفات الجنة: منازلها العالية.
التفسير
34 -
هذه الآية مسوقة لتسلية رسول الله عما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه وكفرهم به وتكذيبهم وعداوتهم له عليه السلام وليتأسى بما حدث لمن قبله من المرسلبن حيث كذبهم المترفون.
والمعنى: وما أرسلنا في قرية من القرى رسولًا يدعو أهلها إلى الحق، ويأمرهم بالإيمان
ويخوفهم عاقبة المخالفة والخروج على أوامر الله إلا قال مترفوها: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: إنا بما جئتم به من التوحيد وغيره مكذبون لا نؤمن به ولا نتبعه، وإنما كان التكذيب طبيعة المترفين وديدنهم لما شغلوا به من زخرف الدنيا وبهجتها، وما غلب على قلوبهم منها، فهم منهمكون في الشهوات، ولأن الأديان جميعها جاءت تقرر حقوق الإنسان من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية وهذه كلها أمور ليست في مصلحتهم، كما أن الأنبياء جاءوا بمناهج من السماء، فيها أوامر ونواه، واتِّبَاع الأنبياء، والإيمان بدعوتهم يتطلب فعل الأوامر واجتناب النواهى، وهذا يشق على المترفين أولي النعمة والثروة والرياسة وأصحاب الرفاهية، ولهذه الحقيقة كان على رأس المكذبين لدعوات المرسلين ومناهج السماء المترفون الغارقون في الملاهى والشهوات من الرؤساء والجبابرة.
أما الفقراء فإن قلوبهم - لخلوها من ذلك - أقبلُ للخبر، ولأن رسالات الأنبياء تحررهم من الأغلال وذل الإسار لكبرائهم، وتقرر لهم حقوقهم، وتحقق لهم مطالبهم - لهذا كله - كانوا أشد الناس حُبًّا لها وإقبالًا عليها وتعلقا بها وتفانيا في نشرها، ولهذا تراهم أكثر أتباع الأنبياء عليهم السلام.
ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة، وحكى عن قوم نوح قولهم له:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (1) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الساحل وبقى الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش، إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينُهم. قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دُلَّنى عليه، - قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب - قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى كذا وكذا. قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: وما علمك بذلك؟ قال: أَنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال: فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} : قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل تصديق
(1) سورة الشعراء، الآية:111.
ما قلت. وكذلك قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل: "سألتك: أضعفاءُ الناس اتبعوه أم شرفاؤهم؟ فزعمت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل" اهـ: ابن كثير ج 3 ص 540 وقال تبارك وتعالى إخبارا عن المترفين المكذبين:
35 -
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} :
هذه الآية تحكى ما أجاب به المترفون رسلهم حين دعوهم إلى الحق.
والمعنى: وقال المترفون لرسلهم متباهين: نحن فُضِّلْنَا عليكم بالأموال والأولاد في نعمة لا تشوبها نقمة، وهو دليل كرامتنا على الله عز وجل ورضاه عنا، فلو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعوننا إلى تركه مخالفا لرضا الله لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، وهكذا قاسوا أمورَ الآخرة على أُمور الدنيا، وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعمٌ عليه في الآخرة، وأنهم لو لم يكونوا كرماء على الله لما وسع عليهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عنده لما حرمهم فعلى قياسهم ذلك قالوا:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} : أرادوا أنهم أكرمُ على الله من أن يعذبهم نظرا إلى أحوالهم في الدنيا، وهيهات لهم ذلك:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} (1).
36 -
قل - أيها النبي - لمن يزعم أن الغنى واليسار وكثرة المال والعيال دليل الكرامة والرضا - قل لهم - ردا عليهم، وحسما لمادة طمعهم الكاذب، وتحقيقًا للحق الذي يدور عليه أمر الكون: إن ربي ومالك أَمري يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسع له، ويضيق على من يشاة أن يضيق عليه، فربما يوسع - سبحانه - على العاصى، ويضيق على المطيع، وربما يعكس الأمر، وربما يوسع عليهما معا، وقد يضيق عليهما معًا، وقد يوسِّع على شخص مطيع أو عاصٍ تارةً، ويضيّق عليه أُخرى، يفعل ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكمة التامة والحجة القاطعة، فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا، لاختص به المطيع، وكذلك لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط، لاختص به العاصى،
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: 55، 56.
والمراد: منع كون ذلك دليلًا على ما زعموا، لاستواء المعادى والموالى فيه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: ذلك لأنهم لا يتأملون، فمنهم من يزعم أن مدار البسط: الشرف والكرامة. ومدارُ التضييق: الهوان والحقارة كهؤلاء المترفين المكذبين، وهم لا يدرون أن الأول كثيرًا ما يكون للاستدراج، والثاني قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات، ومنهم من تحير واعترض على الله - تعالى - في البسط على أُناس. والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعْيَت مذاهبهُ
…
وجاهلٍ جاهلٍ تَلْقَاهُ مرزرقًا
هذا الذي ترك الأفهام حائرةً
…
وصَيَّرَ العالم النِّحْريرَ زِندِيقًا
ولعمري إن العالم النحرير العارف هو الذي يقول:
ومن الدليل على القضاء وحكمه
…
بؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ
37 -
المعنى: وليست هذه الأموال والأولاد دليلًا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم، وليست أموالكم ولا أولادكم بالخصْلة أو المزَّية التي تقربكم عندنا قربة، لكن من آمن وعمل صالحًا. فإيمانه وعمله يقربانه منا، فأُولئك لهم الثواب المضاعف، فيجزون على الحسنة بعشر أمثالها أو بأكثر إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى وحرمان، ومن كل شيءٍ يحذر منه، روى مسلم عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بسنده قال:"إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(1).
(1) ابن كثير.
المفردات:
{يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} أي: يمشون مسرعين في القرآن بالرد له والطعن فيه.
{مُعَاجِزِينَ} : زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله عليهم. {فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي: عذاب في جهنم تحضرهم الزبانية فيها، لا يفلتون من العذاب. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: يوسعه امتحانًا. {وَيَقْدِرُ لَهُ} : يضيقه له ابتلاءً. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في الخير.
{فَهُوَ يُخْلِفُهُ} : يعطى بدله. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: وهو خير المعطين، وإطلاق الرازقية على غيره - تعالى - مجاز؛ لأنه موصل للرزق، فهو رازق صورة، وقال الآمدي: إن المعنى: خير من تسمى بهذا الاسم وأُطلق عليه حقيقة أو مجازًا.
التفسير
38 -
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} :
والذين يسعون في معارضة آياتنا بالرد عليها محاولين إبطالها والنيل منها والطعن فيها، وتعجيز أنبيائنا عن تبليغها وإيصالها للناس ليعملوا بها وينتفعوا بهديها، ويسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسوله، والتصديق بآياته زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله - تعالى - أو أنبيائه عليهم أولئك الذين يرتكبون ما سبق في جهنم تحضرهم الزبانية فيها، لا يُفلتون ولا يجديهم نفعًا ما عوّلوا عليه، وجميعهم مجزيون بأعمالهم.
39 -
- قل أَيها النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربي يوسع الرزق علي من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء، فأنفقوا في سبيل الله وتقربوا لديه عز وجل بأموالكم {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: ومهما أنفقتم من شيءٍ فيما أمركم به وأباحه فهو يخلفه عليكم، أي: فهو يعوض عليكم، لا معوض سواه، إما عاجلا بالمال فقد جاء في الحديث القُدُسي يقول الله تعالى:"أَنْفِق أُنْفِق عليك" أو يعوضه بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلا بالثواب الذي كل خَلَفٍ دونه، وفي الحديث أَن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما:"اللهم أعط ممسكا تلفا" ويقول الآخر: "اللهم أعط منفقًا خلفًا (1) "{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} قال العلامة الزمخشرى: خير الرازقين وأعلاهم رب العزة؛ لأن كل من رزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله أجراه الله على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق.
وقال القرطبي: ما أُنفق في معصية: فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البُنْيان فما كان منه ضروريا يَكِنُّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه.
(1) رواهما مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - قرطبي.
المفردات:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي: يجمعهم للحساب عابدين ومعبودين.
{أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} أي: أهؤلاء خصوكم بالعبادة دوني؟ {سُبْحَانَكَ} : تنزيها لله عن الشرك. {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أي: أنت ربنا الذي نواليه ونطيعه ونخلص في العبادة له. {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله.
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} : لا يملك المعبودون للعابدين.
{نَفْعًا} : شفاعة ونجاة.
{وَلَا ضَرًّا} : عذابًا وهلاكًا. {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظلموا أنفسهم وهم المشركون.
التفسير
40 -
واذكر - أيها النبي - يوم يحشر الله المستكبرين والمستضعفين وما كانوا يعبدون من دون الله، وحين يعظم بالناس الحال، ويشاهدون من الأهوال ما لا يحيط به المقال، ثم يقول الله للملائكة - أمام من كانوا يعبدونهم -: أهؤلاء خصُّوكم بالعبادة دونى؟ وهذا الكلام مع كونه خطابًا للملائكة، فهو تقريع للمشركين وتبكيت لهم، وإقناط لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة - عليه م السلام - وليس للاستفهام والاستعلام؛ لعلمه - سبحانه - بما تجيب به، وهو على نهج قوله - تعالى - لعيسى عليه السلام:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) وقد علم - سبحانه - كون الملائكة وعيسى منزهين بُرآء مما وجه إليهم من موضوع السؤال الوارد على سبيل التقرير والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وَهَوانُهُم ألزم، وتخصيص الملائكة بالذكر؛ لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم، ولأنهم الصالحون للخطاب، ولانه إذا بطلت عبادتهم، فعبادة غيرهم أولى بالبطلان، وذكر ابن الوردى في تاريخه أن سبب حدوث عبادة الأصنام
(1) سورة المائدة من الآية: 116.
في العرب أن عمرو بن لحي مرَّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم، فقالوا له: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية، فنستنصر بها ونستقى، فتبعهم، وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسَوَّلَ للعرب عبادته فعبدوه. واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإِسلام.
41 -
استئناف بياني: كأنه قيل: فماذا قال الملائكة حينئذ؟ فقيل: قالوا - منزهين الله - سبحانك تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله، أن الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فيبنوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافيةً لذلك، ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين - كما روى عن مجاهد - حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله، فهم خاضعون لتأثير الشياطين الذين زينوا لهم الشرك.
وقيل: صورت الشياطين لهم صورة قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقال ابن عطبة: في الأُمم السابقة من عَبَدَ الجن، وفي القرآن ما يشير إلى ذلك، قال - تعالى -:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (1).
42 -
أي: فاليوم لا يملك بعض المعبودين لبعض العابدين نفعًا بالشفاعة، ولا ضرًّا بالعذاب؛ لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد، فلا نافع ولا ضارَّ إلا وحدَه.
(1) سورة الأنعام، من الآية:100.
وهذا ما يقال للملائكة عليهم السلام من قبل الله عند جوابهم بالتبرؤ عما نسبه إليهم المشركون، يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد إظهارًا لعجزهم وقصورهم أمام زاعمي عبادتهم، وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجاء العابدين فيهم.
وقيل: إن نسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم، كأَن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم.
والمراد باليوم يومُ القيامة، وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق، لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون حيث ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان:{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا، يقال لهم ذلك توبيخًا وتقريعًا.
المفردات:
{آيَاتُنَا} : القرآن. {قَالُوا مَا هَذَا} : يعنون رسول الله التالي للآيات. {يَصُدَّكُمْ} : يصرفكم ويمنعكم. {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} : من الأصنام. {وَقَالُوا مَا هَذَا} : يعنون القرآن المتلُوَّ. {إِفْكٌ مُفْتَرًى} : مختَلَقٌ {لِلْحَقِّ} : أمر النبوة كله، أو دين الإِسلام. {سِحْرٌ مُبِينٌ}: ظاهر لمن تأمله أنه سحر. {كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} : يقرأونها {مِعْشَارَ} معشار الشيء: عشره، وقيل: المعشار: عشر العشر، وقيل المعشار: عشر العُشَير، والعُشَيرُ هو عشر العشر، قال الماوردي: وهو الأظهر: لأن المراد المبالغة في التقليل اهـ: قرطبي. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : فكيف كأَن إنكاري لهم بالتدمير؟ والاستفهام للتهويل، أي: كان إنكاري هائلًا شديدًا.
التفسير
43 -
هذا بيان لبعض آخر من كفرهم، أي: وإذا تتلى عليهم بلسان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - آياتنا الناطقة بأحقية عقيدة التوحيد وبطلان الشرك، يسمعونها من فمه الشريف، قالوا: ما هذا؟ - يعنون رسول الله التالي للآيات الواضحات - إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم من الأَصنام، ويصرفكم عنه، ويمنعكم منه، فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لتحريك عروق العصبية منهم، مبالغة في تحبيب الشرك إلى نفوسهم، وتثبيتهم عليه، وتنفيرهم عن التوحيد، وقالوا: ما هذا - يعنون القرآن المتلو عليهم - إلا كذب مختلق ومفترى بإسناده إلى الله عز وجل وأشاروا إلى القرآن بهذه الاشارة للنيل منه - قبحهم الله - وأنَّى لهم ذلك وهو الكتاب الكامل {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} كما أشاروا إلى الرسول بمثلها في قولهم الذي حكاه القرآن عنهم بقوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} للغض من شأنه ولن يستطيعوا، فهو صلى الله عليه وسلم خير
المرسلين، سيد الأولين والآخرين، وقال الذين كفروا للحق، أي: لأمر النُّبُوَّة كله، أو القرآن حين جاءهم من غير تدبر ولا تأمل فيه - قالوا -: إن هذا إلا سحر مبين ظاهر لكل من تأمل فيه.
44 -
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} :
أي: وما آتيناهم كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، كما قال عز وجل {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (1) ولا أرسلنا إليهم قبلك من نذير ينذرهم بالعقاب على شركهم، وفي وصفهم بأنهم قوم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال كتاب، ولا بعثة رسول، فيه ما فيه من التهكم بهم، كما قال - تعالى -:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (2) فليس لتكذيبهم وجه ولا شبهة.
45 -
أي: وكذب الذين تقدموهم من الأُمم أنبياءهم كما كذبوا، وما بلغ المشركون المكذبون من قومك عُشْرَ ما آتينا هؤُلاء السابقين: من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري وعاقبة إنذاري بالتدمير والاستئصال ولم يُغْن عنهم استظهارهم بها هم به مستظهرون، فيلحذروا من مثله؛ لئلا ينالهم ما نالهم ويصيبهم ما أصابهم، فمن سنن الله أن ينصر أولياءه ويؤيد أصفياءه ويدحر مخالفيه وأعدءه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(1) سورة الروم، الآية:35.
(2)
سورة الزخرف، آية:21.
المفردات:
{أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} : أُذكِّركم وأحذركم بكلمة واحدة هي:
{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ (1)} قيامهم لله: اهتمامهم بالتفكير لوجه الله فما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وليس المراد به ما يقابل القُعُود، من قولهم: قام فلأَن بالأمر، أي: اهتم به حتى أتمه.
{مَثْنَى وَفُرَادَى} أي: اثنين اثنين وواحدًا واحدًا.
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي: يتفكر الاثنان كلاهما مع الآخر على سبيل التشاور والتفاهم للوصول إلى الحقيقة، ويتفكر كل واحد في نفسه بعد التشاور مع صاحبه.
{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} : جملة مستأنفة للتعليل، أي: ثم تتفكروا فيما دعوتكم إليه لأنه ليس بصاحبكم جنون. {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} أي: ما محمد إلا رسول مُنذر لكم.
{مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: لم أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، فالأجر لكم إن آمنتم بالله ورسوله.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي: ما أجرى إلَاّ عليه سبحانه.
(1) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدره تقديره: قيامكم لله، وهو بدل من لفظ (واحدة).
التفسير
46 -
بين الله في الآيات السابقة أن الذين كفروا من قريش لمَّا جاءهم الرسول برسالته كذبوه وقالوا: ما هذا إلَاّ إفْك مفترى وسحر مبين، كما أنهم كانوا يصفونه بالجنون؛ وقد بين الله خطأهم بقوله:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي: أنه ليس عندهم علم عن طريق الوحى جاءهم على لسان رسول قبلك، لكي يعترضوا به على رسالتك ويردوها، وأنه كان ينبغي لهم أن يُقْبلوا عليك ويؤيدوك في رسالتك، بدلًا من تكذيبهم إيَّاك، وإعراضهم عن الكتاب الذي أيدك الله به وهو الحق المبين، في حين أنك فخرهم وعزهم، وأنت الرسول العربي الوحيد الذي جاءتهم، وجاءت هذه الآية أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بمواصلة وعظهم وتذكيرهم لعلهم يهتدون، ومعلوم أن العرب - مع إشراكهم - كانوا يعتقدون أن الله هو خالقهم، وأنهم ما يعبدون آلهتهم إلَاّ لتقربهم إلى الله زُلْفى، ولهذا طلب إليهم في هذه الآية أن يخلصوا في تفكيرهم وبحثهم عن الحق من أجل الله الذي يقرون بأُلوهيته وربوبيته لأربابهم.
والمعنى: قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: ما أنصحكم إلَاّ بخصلة واحدة، هي أن تتركوا التجمع في الرأي القائم على التعصب لعقائد أصولكم، وأن تنهضوا متفرقين: اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، فالاثنان يشاور كلاهما الآخر ويتفاهم معه؛ فإنه أعون على الوصول إلى الحق من الفكر الواحد، فإذا انقدح الرأي بين الاثنين، عاد كلاهما إلى نفسه، للموازنة والبت فيما جاءكم به محمد؛ فإنه ليس بصاحبكم هذا جنون، فقد عرفتموه بالعقل الراجح والفكر الرشيد، فلا يعقل أن يتصدى لأمر خطير تعتريه صعاب لا نهاية لها إلَّا وهو على نور من ربه، وقد أيده الله بالقرآن وسواه من المعجزات، ما محمد إلا محذر لكم قُبَيلَ عذاب شديد - هو عذاب الآخرة - فقد بعث قريبا من الساعة، قال صلى الله عليه وسلم:"بُعِثْتُ أنا والساعة، كهاتينِ" مشيرًا إلى قربها بضم أصبع السبابة إلى الوسطى، إيذانًا
بالفرق الصغير بينهما، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، وقربه صلى الله عليه وسلم من الساعة نسبيٌّ، فالأرض مخلوقة منذ ملايين من السنين لا يعلمها إلَّا علام الغيوب.
47 -
لم يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم على تبليغ الرسالة أجرًا، قال - تعالى - أي سورة يوسف:{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} الآية (104). وهذه الآية من هذا القبيل، تنفي أوَّلًا نفيًا صريحًا أنه سألهم أجرًا، وتبين أن بالأجر لهم إن آمنوا، وتبين أن أجره أي تبليغ الدعوة من الله وليس منهم.
ومعنى الآية على هذا الوجه: قل - أيها الرسول - للمشركين من قومك: لم أسألكم علي إيمانكم برسالتي أجرًا فالأجر لكم (1) من الله حين تؤمنون، وما أجرى في تبليغ الحكم إليكم إلَاّ على الله وحده وهو على كل شيءٍ رقيب وحاضر، فلا يخفى عليه عملي وعملكم، وسيجزى كل امرئ حسب عمله ونيته.
ويقول الزمخشري أي تفسيرها: {فَهُوَ لَكُمْ} جزاءُ الشرط الذي هو قوله: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} وتقديره: أي شيءٍ سألتكم من أجر فهو لكم، كقوله - تعالى -: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا
…
الآية}، وفيه معنيان:
(أحدهما): نفى سؤاله الأجر رأسًا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتنى شيئًا فخذه - وهو يعلم أنه لم يعطه شيئًا - ولكنه يريد به عدم الأخذ لتعليقه الأخذ علي ما لم يحدث وهو الإعطاء.
(والمعنى الثاني): أنه يريد بالأجر ما أراد في قوله - تعالى -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} ، وفي قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
(1) ففي الآية من وجوه البلاغة (الاستخدام) وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، فلفظ (الأجر) نفي أولًا أنه طلبه منهم، ثم أعاد الضمير عليه بمعنى أخر في قوله:(فهو لكم) وهو الأجر من الله، أي: فأجر الإيمان من الله لكم، ثم بين صراحة أن أجره علي الله بقوله: {إن أجرى إلا على الله).
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} لأن اتخاذ السبيل إلى الله نفعه يعود إليهم، وكذلك المودة في القربى، فقرابته قرابتهم، وكلاهما أمر معنوي لا مال فيه. انتهى بتصرف يسير.
المفردات:
{يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} : يلقيه وينزله ليرمي به الباطل.
{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: لم تعد للباطل كلمة يبدأ بها أو يعيدها.
{فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} : فإنما يعود ضرر الضلال عليها.
التفسير
48 -
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :
قل - أيها الرسول -: إن ربي ينزل الوحي على من يشاءُ من عباده، ويرمي به الباطل فيدمغه، أو يرى به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعدًا بإظهار الإِسلام ونشره فهو علام الغيوب.
49 -
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} :
قل: جاء الدين الحق من عند الله، وزهق الباطل واضمحل، فلم تبقَ للشرك مقالة يرددها بدءًا أو إعادة، بعد أن علت كلمة التوحيد بنزول القرآن وسطوع البرهان، وحينما فتح رسول الله مكة أي السنة الثامنة من الهجرة، دخل المسجد الحرام فوجد أصنام المشركين
حول الكعبة فجعل يطعنها بطرف قوسه وهو يقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} و {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود.
50 -
سبب نزول هذه الآية - كما ذكره القرطبي - أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت دين آبائك فضللت، فنزلت الآية.
وقد أفادت أن ضلال الإنسان يعود ضرره عليه؛ لأنه باختياره، حيث لم ينتفع بهدي ربه، وأن اهتداءه تعود منفعته عليه؛ لأنه انتفع بهدى ربه، وهذا الحكم عام لكل مكلف وإنما أمر الله رسوله أن يسنده إلى نفسه، إما رعاية لسبب النزول؛ لتكون ردًّا على ما قاله له المشركون، وإمَّا لأن الرسول مع جلالة قدره عند الله، إذا كان الحكم بقسميه يتناوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتناول غيره بالطريق الأَولوي، والتقابل بين شقي الآية يرجع إلى المعنى، فكأنه قيل: قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما هدايتي لنفسي.
واختير الأُسلوب الوارد في الآية لما فيه من إسناد فضل اهتدائه صلى الله عليه وسلم إلى ما أوحاه الله إليه.
ومعنى الآية: قل - أيها الرسول -: إن ضللت عن الحق، فإنما يعود وبال ضلالي على نفسي، فإن النفس أمارة بالسوء، وإن اهتديت إلى الحق فبسبب ما أوحاه إليَّ ربي وتوفيقه إياي للانتفاع به، إنه - تعالى - عظيم السمع لكل مسموع، قريب بعلمه من كل معلوم، فلا يخفى عليه ضلال الضالين، ولا اهتداءُ المهتدين، وسوف يجازى كل امريء بما كسبت يداه.
المفردات:
{إِذْ فَزِعُوا} : حين خافوا عند الموت أو البعث.
{مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} : من ظهر الأرض القريب من بطنها، أو من بطنها القريب إلى المحشر.
{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} التناوش: التناول السهل، - أي -: وكيف يتناولون الإِيمان تناولًا سهلا من مكان بعيد.
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} : وقد كفروا بمحمد ورسالته قبل حضور الموت.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} : ويتكلمون في محمد بما لم يظهر لهم من المطاعن.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} : ومنعوا من الانتفاع بإيمانهم بعد فوات الأوان.
{بِأَشْيَاعِهِمْ} : بأشباههم، جمع شِيع، وشِيعٌ جمع شِيعة.
{فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} : في شك موقع في الريبة، قال ابن عطية: الشكُّ المريب أقوى من مطلق الشك، وكأنه يريد أن يقول: إن لفظ (مريب) وصف للفظ شك لتقويته، فإن الريب بمعنى الشك والتهمة، ومثله قولهم: عجب عجيب، وشعر شاعر.
التفسير
51 -
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} :
كلام مستأنف يراد به حكايه أحوال الكفار حين يعرفون الحق معاينة وحضورًا؛ وذلك عند حضور الموت، أو حين بعثهم من قبورهم لحسابهم بين يدي رب العالمين.
والخطاب في قوله - تعالى -: {وَلَوْ تَرَى} إمَّا للرسول صلى الله عليه وسلم وإمَّا لكل من يصلح للخطاب.
والمعنى: ولو ترى الكفار عند الموت أو البعث من قبورهم، حين فزعوا وخافوا عاقبة كفرهم بعد أن أدركوا حقيقة أمرهم، فلا فوت لأحدهم ممَّا نزل به، وأخذوا من مكان قريب حيث أخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من بطنها إلى المحشر، لو تراهم حين ذاك لرأيت أمرًا هائلًا.
والمقصود من وصف مكان أخذهم بالقرب سرعة نزول العذاب بهم، والاستهانة بهم، وبهلاكهم، وإلَّا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عز وجل.
52 -
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} :
وقالوا: آمنا بالله وحده، أو بمحمد وما جاءنا به من الحق، وكيف يتأتى لهم تناول الإِيمان تناولًا سهلًا من مكان بعيد عن مكان التكليف فلا ينفع إيمانهم عند الموت؛ لأنه في حدود الآخرة، ولا عند البعث لفوات زمان التكليف ومكانه.
53 -
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} :
هذه الآية جملة حالية من ضمير قالوا في الآية التي قبلها، أي: وقال الكفار: آمنا بالله أو بمحمد من مكان بعيد بعد فوات الأوان، وحالهم أنهم قد كفروا به من قبل - أي: زمن التكليف - وهم أحياءٌ في الدنيا، ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر في الرسول من المطاعن من موضع بعيد عنه صلى الله عليه وسلم إن هذا الإيمان لا ينفعهم بعد فوات الأوان وتبدل المكان.
وفسرها الزمخشري بقوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وهو قولهم أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر ساحر كذاب، وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي؛ لأنهم لم يشاهدوا فيه سحرًا ولا شعرًا ولا كذبًا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة عن حاله؛ لأن أبعد شيءٍ مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجُرِّبت - أبعد شيءٍ من عادته - الكذب والجنون.
54 -
ومنع الكفار من تحقيق ما يحبون من قبول إيمانهم في الآخرة، والنجاة من العذاب، كما فعل بأشياعهم من قبل من كفار الأمم السابقين، حيث لم يقبل لهم إيمان بعد خروجهم من الدنيا، إن هؤلاء وأولئك كانوا من تكليفهم في دنياهم في شك قوى من صدق رسلهم فيما بلغوهم عن الله - تعالى -:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (1).
(1) سورة غافر: 85.