المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الزمر ‌ ‌مكية وآياتها خمس وسبعون وتسمى سورة الغرف لقوله تعالى: {لَهُمْ - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌سورة الزمر ‌ ‌مكية وآياتها خمس وسبعون وتسمى سورة الغرف لقوله تعالى: {لَهُمْ

‌سورة الزمر

‌مكية وآياتها خمس وسبعون

وتسمى سورة الغرف لقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهي مكية كلها، أخبرني ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل: عن ابن عباس: أنها نزلت بمكة ولم يستثن.

ووجه اتصال أولها بآخر (ص) أنه - تعالى - قال في آخر (ص){إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} قال الآلوسي: وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام، ثم إنه ذكر آخر (ص) قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أُمهاتهم خلقًا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر - سبحانه - القيامة والحساب، والجنة والنار، وختم بقوله - سبحانه - {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فذكر - جل شأنه - أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد، متصلًا بخلق آدم المذكور في السورة قبلها، وبين السورتين أوجه أخرى من الربط تظهر بالتأمل: انتهى كلام الآلوسي.

‌مقاصد السورة

بين الله - تعالى - في هذه السورة أنه هو الذي أنزل الكتاب بالحق وطلب إلى عباده أن يخلصوا له العبادة ولا يشركوا به أحدًا، وبين أنه لو أراد أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما يخلق ما يشاء - سبحانه - هو الله الواحد القهار، وأتبع ذلك ببيان خلقه للسموات والأرض .. وما فيهما من الآيات الشاهدة بوحدانيته، وأنه خلق عباده كلهم من نفس واحدة، وبين أنه لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى منهم الشكر، وفرق بين العلماء وغيرهم فقال:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ثم خوف المشركين من سوء المصير بقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} وبشر الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وكانوا يستمعون

ص: 530

القول فيتبعون أحسنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ثم بين أنه تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وأنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وأنه لا يوجد أظلم ممن كذب على الله، وكذب بالصدق إذ جاءه، ثم بين أنهم يعترفون بخلق الله للسموات والأرض، فلا وجه لعبادته غيره ممن لا يرفع ضرًّا ولا يجلب نفعًا، ثم بين أنه - تعالى - هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها، وأنه {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ثم فتح الله - تعالى - أبواب الرحمة لجميع التائبين من الكفار والعصاة فقال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا .. } ثم قال: {وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ثم بين أن الذين كذبوا على الله تسود وجوههم يوم القيامة، ومصيرهم جنهم ففيها مثوى المتكبرين، وأنه - تعالى - ينجى الذين اتقوا بمفازتهم من العذاب {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ثم بين أن الأرض يومئذ تشرق بنور ربها {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. ثم ذكر أن خزنة النار يوبِّخون أهلها قائلين:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وأن الذين اتقوا يساقون إلى الجنة زمرا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثم قال: {وتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} .

ص: 531

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}

المفردات:

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} خبر لمبتدأ مقدر، أي هذا تنزيل الكتاب، أو مبتدأ خبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وهو على الأول متعلق بتنزيل، والظاهر أن الكتاب علي الأول مراد به السورة، وعلى الثاني القرآن كله.

{زُلْفَى} أي: قربة ومنزلة، وهي اسم مصدر من أزلفه إزلافًا أي: قربه تقريبًا.

{كَفَّارٌ} : مبالغ في الكفر.

{لَاصْطَفَى} : لاختار.

{الْقَهَّارُ} : الشديد القهر، يَغْلِب ولا يُغْلَب.

ص: 532

التفسير

1 -

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :

هذه الآية نزلت لإحقاق الحق، والرد على مزاعم قريش من أن القرآن من تأليف محمَّد وأنه يعلمه بشر.

والمعنى: تنزيل القرآن كائن من الله الغالب الحكيم فيما يقول، وأثر الغلبة والحكمة واضح في القرآن العظيم، فقد أعجز البشر أن يأتوا بمثله، وغلبت أحكامه وتشريعاته سواه، لما اشتمل عليه من الدقة والصدق، ومراعاة مصلحة البشر دنيا وأخرى، وكل ذلك شاهد بأنه من الله العزيز الحكيم، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثله، وقد أكد الله نزوله من العزيز الحكيم بقوله:

2 -

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :

إنا أنزلنا إليك - أيها الرسول - القرآن ملتبسًا بالحق أو بسبب إظهار الحق وتفصيله، فاعبد الله أنت ومن آمن معك: اعبده مخلصًا له الدين، فلا تشرك معه في العبادة أحدًا، فإنه لا رب سواه.

وقد دَلَّ الأمر بإخلاص الدين لله على وجوب تجريد العبادة من كل شرك، ففي الحديث القدسى:"من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشريكه".

وروى الحسن: عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمَّد بيده لا يقبل الله شيئًا شورك فيه، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .

ونقل القرطبي عن ابن العربى: أن هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبى حنيفة، والوليد بن مسلم، فإنهما يقولان: أن الوضوء يكفى من غير نية. قال ابن العرب: وما كان ليكون من الإيمان شطرًا، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.

ص: 533

3 -

{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} :

قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم وخالقكم، ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، قال الكلبي: جوابه في سورة الأحقاف: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} (1).

وجملة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مقول لقول مقدر، أي: قالوا: ما نعبدهم وبه قرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد.

ومعنى الآية: ألا لله الطاعة الخالصة من شوائب الشرك، فإنه المنفرد بصفات الأُلوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر، والذين اتخذوا من دون الله أربابًا ونصراء، قالوا في تبرير عبادتم لهم: ما نعبدهم إلَاّ ليقربونا إلى الله تقريبًا، يقولون ذلك مع أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، إن الله يحكم بينهم وحده يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون مع أهل الحق، فيقضى بإدخال أهل الحق الجنة، وأهل الباطل النار.

وقيل المعنى: يحكم بينهم وبين معبوديهم، فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونهم؛ أن الله لا يوفق من هو كاذب كفار إلى الاهتداء للحق، لإصراره على الكذب، ومبالغته في الكفر.

4 -

{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :

هذه الآية للرد على من زعم أن الملائكة بنات الله وأن عيسى ابن الله.

وحاصل معنى الآية: لو أراد الله أن يتخذ ولدا ويسميه بهذا الاسم ما جعل هذه التسمية لهم، وكان يصطفى مما يخلق ما يشاء ويسميه بهذا الاسم، لكنه لا يصطفى من المخلوق الحادث ولدًا لاستحالة الولدية عليه - تعالى - ولأن الحادث لا يصلح ولدا للقديم، وحيث بطلت الولدية للحادث، فيستحيل على الله أن يريد اتخاذ الولد، وهذا معنى ما يقوله علماء المنطق: إذا بطل التالى بطل المقدم.

(1) سورة الأحقاف من الآية: 28.

ص: 534

ونحو هذا المعنى قال الآلوسي: وجوز أن يكون المعنى في الآية: لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لجعل المخلوق ولدًا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له - تعالى - والتالى محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق، والولدية تأبى هذه المباينة (1) فالمقدم مثله، ويكون معنى {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لاتخذه ابنًا على سبيل تقدير المستحيل

انتهى بتصرف.

ثم ختم الله الآية بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيهًا له - تعالى - عن أن يتخذ ولدًا أو شريكًا في الألوهية، هو الواحد القهار الذي لا يشركه في الأُلوهية شريك، فلا يصلح ما سواه أن يكون له ولدًا فإنه مخلوق لله، والمخلوق لا يسمى ولدًا لخالقه، ولا يصلح لذلك، فضلا عن أن يكون له شريكًا، والقهارية المطلقة تنافى قبول الزوال المحوج إلى الولد أو الشريك.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}

(1) لأن الولد صنو أبيه وشريكه في صفاته.

ص: 535

المفردات

{بِالْحَقِّ} : بالحكمة والصواب.

{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} أي: يلفُّه فيخفِيه، من: كار العمامة وكَوَّرها على رأسه إذا لفها (1).

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : وذلَّلَهُما لمراده.

{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : كل يسير لمنتهى دوره، أو لمنقطع حركته.

{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : حواء، وسيأتي الكلام في هذا الجعل.

{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز، وكانت ثمانية أصناف، لأن كلا منها ذكر وأنثى، وإنزالها قضاؤها.

{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ظُلُمات البطن، والرحم، والمشيمة.

التفسير

5 -

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} :

هذه الآية مسوقة ثبات وحدانية الله وقهره لما سواه، والمراد من تكويره الليل على النهار وعكسه: أن يُذْهِب أحدهما ويأتي بالآخر ليحل محله، وقد عبر عن ذلك بالصورة البلاغية الموجودة في الآية على سبيل الاستعارة، فاطلب شرح ذلك من المطولات إن أردت.

ومعنى الآية: خلق الله هذا العالم المشاهد وغير المشاهد، ملتبسًا بالحق والحكمة والصواب، يغشى الليل مكان النهار، فتحل به الظلمة، فيسكن الناس وينامون ويستريحون من كدِّ النهار، ويغشى النهار مكان الليل، فيحل به النور، فينشط الخلائق ويعملون لما خلقوا من أجله، وسخر الشمس والقمر حيث جعلهما يجريان في مداريهما، فيترتب على تذليلهما وجود النهار تارة، والليل تارة أخرى، والفصول الأربعة: الربيع،

(1) أو من كور المتاع: ألقى بعضه على بعض.

ص: 536

فالصيف، فالخريف، فالشتاء، لمصلحة الإنسان والحيوان والنبات، وهذا الجريان لأجل سماه الله - تعالى - لانتهاء دورة كل منهما في مداره، أو لانقطاع حركته عند فناء العالم، ألا هو العزيز القادر على عقاب المصرين على الكفر والمعاصي، الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

6 -

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} :

وهذا دليل آخر على وحدانية الله وقهره لسواه، وترك عطفه على خلق السموات والأرض، للإيذان باستقلاله في الدلالة على وجود الله وسائر كمالاته.

والمراد بالنفس الواحدة التي خلقنا منها: نفس آدم عليه السلام فقد خلقت منه زوجه، ثم حدث التوالد بعد ذلك على النحو المعلوم، وبدأ بخلق الإنسان؛ لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره، باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل فيه:

وتزعم أنك جسم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

واختلف في معنى خلق حواء من آدم، فمعظم العلماء على أنها خلقت من قصيرى ضلعه اليسرى وهي أسفل الأضلاع، وقيل: إنه بمعنى أنها خلقت من جنسه ليسكن إليها، وقيل: إنها خلقت من بقية طينته، والله أعلم.

وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} فهو استدلال بنوع آخر من العالم السفلى، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، وكانت ثمانية أزواج أي: أصناف، باعتبار الذكر والأُنثى في كل منها، وفي ذلك يقول الله في سورة الأنعام:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} ثم قال: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (1)، ومعنى إنزال هذه الأنعام الثمانية قضاؤها، وإنزال الملائكة لتنفيذه، فالكلام على سبيل المجاز.

(1) سورة الأنعام الآيتين: 143 - 144.

ص: 537

وأما قوله - تعالى -: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ .. } فهو بيان لخلق من ذكر من بني آدم والأنعام.

والمعنى الإجمالي للآية: خلفكم من نفس واحدة هي نفس آدم، خلقها أولًا ثم جعل من جنسها زوجها ليسكن إليها، وقضى لكم من الأنعام ثمانية أصناف: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، ذكورها وإناثها، يخلقكم، ويخلق الأنعام خلقا مدرجا، خلقا من بعد خلق، حيوانا سويًّا مِنْ بعْدِ عظام مكسوة باللحم مصورة داخل الرحم، منْ بعْد مُضغٍ، من بعد علق، من بعد نُطَف، ويتم كل ذلك في ظلمات ثلاث، ظلمة البطن، وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، أو الصلب، والرحم، والبطن، ذلكم الذي أباع هذه العظائم هو الله ربكم المستحق وحده لعبادتكم، له الملك على الإطلاق في الدنيا والآخرة، ليس لغيره شريك في ذلك كله، لا إله إلَاّ هو، فكيف تصرفون عن عبادته مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء الصارف عنها - كيف تصرفون - إلى عبادة غيره مع كثرة الصوارف عن هذا الغير.

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

المفردات:

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : ولا تحمل نفس حاملة إثمها ذنب نفس أخرى، وقال الأخفش:

لا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى: اهـ. في معناه قوله - تعالى -: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (1):

(1) سورة الطور من الآية: 21.

ص: 538

التفسير

7 -

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

يخاطب الله عباده المصرين على الكفر بقوله: إن تظلوا على كفركم، فإن الله غنى عنكم وعن إيمانكم، وقد جاء في الحديث القدسى أنه - تعالى - قال:"يا عِبادِى لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئًا" أخرجه الإِمام مسلم.

ومع كونه - تعالى - غنيًّا عن إيمان عباده، وغير محتاج إليه، ولا إليهم، فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحبه لهم لسوء عاقبته، وما قدره عليهم إلا لسوء اختيارهم وإصرارهم عليه، وإن تشكروا نعمه عليكم بالإيمان والعمل الصالح فإنه - تعالى - يرضاه ويحبه لكم لحسن عاقبته.

ولا تحمل نفس آثمة بعملها إثم نفس أخرى، فكل امرىء بما كسب رهين، ما لم يتسبب في إثم النفس الأخرى، كالآباء الذين يسيئون تربية أولادهم، فينشئون على المعاصى مثل آبائهم، فإنهم يتحملون إثم إضلالهم منضما إلى إثم ضلالهم، من غير أن ينقص ذلك من إثم الأولاد المكلفين شيئًا، فكلٌّ مسئول عن ضلاله، وفي وجوب وقاية الأولاد من المعاصي التي تدخلهم النار، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1).

ويختم الله الآية منذًرا ومتوعدًا بقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ) أي: ثم إلى الله - تعالى - رجوعكم بالبعث والنشور، فيخبركم بما كنتم تعملون في دنياكم من خير فيثيبكم عليه، أو شر فيعاقبكم عليه إنه عليمٌ بما انطوت عليه الصدور من النوايا والأسرار من طاعة أو معصية فلا تخفى عليه خافية.

(1) سورة التحريم الآية: 6.

ص: 539

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُورَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}

المفردات:

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} أي: شدة من البلاء والفقر.

{مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي: راجعا إلى الله منصرفا عما كان يدعوه من دون الله عز وجل.

{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي: أعطاه وملكه نعمة عظيمة من لدنه يقال: خولك الله الشيء، أي: أعطاك إياه. والأصل أعطاك خولا - بفتحتين - أي: عبيدا وخدما. أو أعطاك ما تحتاج إلى تعهده والقيام عليه. ثم عُمِّم لمطلق العطاء.

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} القانت: المطيع، قاله ابن مسعود. وفي القاموس: أقنت: دعا على عدوه، أو أطال القيام في صلاته.

{آنَاءَ اللَّيْلِ} : ساعاته أوله ووسطه وآخره، وعن ابن عباس: آناء الليل: جوفه.

التفسير

8 -

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} :

ص: 540

الآية وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1).

واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر. وقيل: المراد به معين وهو عتبة ابن ربيعة، وأبو جهل، أي: وإذا مس الكافر بلاءٌ ونزلت به شدة دعا ربه راجعا إليه، منصرفا عما كان يدعوه من دون الله في حال الرخاء لعلمه أنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره.

{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي: إذا أعطاه نعمة عظيمة من لدنه أذهبت عنه شدته، وأعادت إليه رخاءه، نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى إزالته وكشفه. أو نسى الدعاء الذي كان يتضرع به من قبل التخويل والإعطاء. (فما) واقعة على الضر أو على الدعاء الذي كان يتضرع به. ويجوز أن يراد من لفظ (ما) في قوله:{نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أن يراد بها الله - تعالى - كما في قول سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: نسى ربه الذي كان يدعوه متضرعا إلى كشفه.

{وجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : وجعل لله أمثالا وشركاء في العبادة في حال العافية.

{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي: قل يا محمَّد تهديدا لذلك الذي جعل لله أندادا: تمتع بكفرك تمتعًا قليلًا أو زمانا قليلًا في الدنيا {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي: ملازميها والمعذبين فيها على الدوام. والجملة تعليل لقلة التمتع. وفيه من الإقناط من النجاة وذم الكفر ما لا يخفى. كأنه قيل: قد أبيت ما أُمرت به من الإيمان والطاعة. فاستمتع بهذا الكفر الذي أنت فيه تمتعًا قليلًا لا ينجيك من عذاب الآخرة فمتاع الدنيا قليل.

9 -

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُورَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} :

(1) سورة إبراهيم من الآية: 34.

ص: 541

بين - سبحانه - بهذه الآية أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره فلا يستويان عند الله

"وأم" المدغمة إما متصلة قد حذف قبلها ما يقابل ما بعدها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه. كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به: أأنت أيها الكافر الذي تدعو ربك في الضراء وتنساه في السراء أحسن حالا ومآبا، أم الذي هو قانت يقوم بمواجب الطاعات، ويداوم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادات أقرب إلى القبول، وأبعد عن الرياء، ويدعو في حالتى السراء والضراء {سَاجِدًا وَقَائِمًا}) أي: جامعا بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام لأنه أدخل في العبادة لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

{يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} : استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكايته حاله، فكأنه قيل: ما باله يفعل هذا؟ فقيل: يحذر الآخرة. أي: عذاب الآخرة {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} فينجو بذلك مما يحذر، ويفوز بما يرجوه وهو الجنة كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية. مع الإضافة إلى ضمير الراجى. وجواب هذا الاستفهام أن المطيع هو الأحسن حالا ومآلا.

وإما أن تكون (أم) منقطعة وما فيها من الإضراب الانتقالي من التهديد بقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ) إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل الذى قانت من أصحاب الجنة.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: قل لهم يا محمَّد - بيانا للحق وتنبيها على شرف العلم والعمل -: هل يستوي الذين يعلمون حقائق الأحوال فيعملون بمقتضى علمهم كالقانت المذكور، والذين لا يعلمون ما ذكر فلا يعلمون؟ كلا لا يستوون والاستفهام للتنبيه على كون الأولين في أعلى مدارج الكمال. وكون الآخرين في أقصى مدارج البشر.

ص: 542

قال الزجاج: كما لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوى المطيع والعاصى فهو وارد على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوى العالمون والجاهلون لا يستوى القانتون والعاصون {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} كلام مستقل غير داخل في الكلام المأمور به، وارد من جهته - تعالى - بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي بيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم ولا يتعظ بوعظ الله وبياناته الواضحة إلا أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل من المؤمنين. وهؤلاء بمعزل عن ذلك.

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} : احذروا معاصيه وامتثلوا أوامره.

{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} : فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل المعاصي.

{إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال الأوزاعى: لا يوزن لهم ولا يكال وإنما يغرف لهم غرفًا لصبرهم على كل بلاءٍ. ويشمل الصبر على الهجرة شمولا أوليا.

التفسير

10 -

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ

} الآية:

أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب. أي: قل لهم هذا بعينه وهو {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، هو التقوى فإنَّ نقل عبارة أمر الله - تعالى - أدخل في إيجاب الامتثال به.

ص: 543

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} تعليل للأمر بالتقوى، أو لوجوب الامتثال به أي: قل للمحسنين في هذه الدنيا على وجه الإخلاص، وهو الذى عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإحسان بقوله عليه السلام: أنْ تعْبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

لهؤلاء المحسنين حسنة في الآخرة عظيمة لا يدرك كنهها وهي الجنة، وقيل المعنى: للذين أحسنوا في الدنيا. حسنة في الدنيا زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة، قال القشيرى: والأول أصح لأن الكافر قد نال نعم الدنيا.

ويقول القرطبي تعليقًا على ذلك: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء الحسن.

{وأرض الله واسعةٌ} أي: فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل المعاصي. وقيل المراد: أرض الجنة رغهم في سعتها، وسعة نعيمها، والجنة قد تسمى أرضًا، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (1) والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ترغيب في التقوى المأمور بها، أي: إنما يوفى الذين صبروا على دينهم، وحافظوا على حدوده، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه حين امتحنوا بالآلام والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل، ومفارقة الأوطان. هؤلاء يوفون أجرهم بمقابلة ما كابدوا من الصبر، يوفونه بغير حساب، والمراد المبالغة في الكثرة وهو المقصود بقول ابن عباس:"لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يُعرف" أي: بغير تقدير.

ولأهل البلايا نصيب أوفر ففي الحديث أنه "تنصب الموازين لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلايا، بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل النبلاء من الفضل".

(1) سورة الزمر من الآية: 74.

ص: 544

وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر كحيازتهم لفضيلة التقوى مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق المهاجرة ومتاعبها واحتمال البلايا في طاعة الله.

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}

المفردات:

{مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي: من كل ما ينافيه من الشرك والرياء وغير ذلك.

{أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي: أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وأسلم لله، وآمن به.

{مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: طاعتى وعبادتى.

{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} : أمر تهديد وتوبيخ، أي: ستلقون حتما جزاء كفركم.

{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} عن ابن عباس: ليس من أحد إلا خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.

ص: 545

{ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الواضح الظاهر.

{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} أي: لأُولئك الخاسرين طبقات كثيرة من النار فوقهم كهيئة الظلل: جمع ظلة، وأصلها: السحابة تظل ما تحتها.

{وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} : وسمى ما تحتهم ظللا لأنها تظل من تحتهم (1) والمراد أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجوانب.

التفسير

11 -

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان ما أُمر به من الإخلاص في عبادة الله عز وجل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون.

وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله - تعالى -.

12 -

{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} :

أي: وأمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى عبادته، وكأن له إحراز السبق في الدين بالإخلاص فيه، وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من إخلاص كل مخلص، فلم تكن له صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون.

13 -

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

أي: قل يا محمد لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك، وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه الصلاة والسلام: ألا تنظر إلى أبيك وجدك، وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت

(1) أو هو من قبيل المشاكلة.

ص: 546

ردا عليهم. أي: قل إني أخاف ترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، أو الميل إلى أي شيءٍ من المعاصي؛ لأني أخاف (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأَهوال. والمقصود تهديدهم والتعريض لهم بأَنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله - تعالى - ما أمن العذاب فكيف بهم.

14 -

{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} :

أي قل لهم: أعبد الله لا غيره - سبحانه - لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصًا له دينى عن الشرك الظاهر والخفى، أو مخلصا له دينى بعبادته - سبحانه - لذاته من غير طلب شيء منه - تعالى - كقول رابعة: سبحانك ما عبدتك خوفًا من عقابك ولا رجاء ثوابك.

أُمر عليه الصلاة والسلام أولًا ببيان كونه مأْمورا بعبادة الله - تعالى - بإخلاص الدين له، ثم الإِخبار بخوفه من العذاب على تقدير عصيانه. ثم الإِخبار بامتثاله الأَمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلبه صلى الله عليه وسلم في الدين، وحسما لأَطماعهم الفارغة في الرجوع إلى دينهم، وتمهيدا لتهديدهم بقوله عز وجل:

15 -

{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} :

بدأت الآية بأمر تهديد ووعيد وتوبيخ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي: فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دون الله، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأَنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كى يحل بهم العقاب.

ولكونه أمر تهديد عقبه بقوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} :

أي: قل لهم أيها الرسول: إن الخاسرين الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمهم، وإتلاف ما لا بد منه هم الذين خسروا أنفسهم وأَهليهم باختيارم الكفر لهما فأضاعوهما وأتلفوهما يوم القيامة حين يدخلون النار، حيث عرضوهما للعذاب السرمدي، وأوقعوهما في هلكة ما بعدها هلكة، والمراد بالأهل الأَتباع الذين أضلوهم وقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وقيل المراد بالأهل: من أعده الله - تعالى - لمن

ص: 547

يدخل الجنة من الحور العين أي: خسروا أهليهم الذين يكونون لهم في الجنة لو آمنوا فبعدم إيمانهم ذهبوا عنهم ذهابًا لا إياب بعده.

أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد: عن قتادة قال: ليس أحد إلا قد أَعد الله - تعالى.

له أهلا في الجنة إن أطاعه.

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس أنه قال في الآية: خسروا أهليهم من أهل الجنة وكانوا قد أُعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله.

{أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} : جملة مستأنفة. وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة تنبيه إلى بعد منزلة المشار إليه في التفسير، وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس، وفي توسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته، وأنه لا خسران وراءه ما لا يخفى، حيث استبدلوا بالجنة نارا وبالدرجات دركات.

16 -

{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} :

الآية: بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام، أي: لهم من فوقهم أطباق بعضها فوق بعض من النار، ومن تحتهم أطباق كثيرة بعضها تحت بعض وتسميتها ظللا للمشاركة والمراد: أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجهات، والتعبير جار بظلل مجرى التهكم، ولذلك قيل لهم: من فوقهم ظلل

إلخ.

{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} أي: ذلك العذاب الفظيع الذي يخوف الله به عباده ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليبتعدوا عما يكون سببًا في إيقاعهم فيه. ثم وعظهم - تعالى - عظة بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة فقال مناديا لهم: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي عليكم، وغضبي منكم حتى تتحقق عبوديتكم لي التي هي عنوان الرضا عنكم، والتشريف لكم، والمراد في الآية المؤمنون لأنهم المنتفعون بالتخويف، وعممه آخرون في المؤمن والكافر. وقيل: هو خاص بالكافر.

ص: 548

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)}

المفردات:

{اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} الطاغوت: هو البالغ أقصى غاية الطغيان، ويطلق على الواحد والجمع، والمراد به: الشيطان. وقال الضحاك والسدى: هو الأوثان، ويجمع الطاغوت على طواغيت وطواغ.

{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي: رجعوا إليه وتابوا.

{لَهُمُ الْبُشْرَى} : الثواب على ألسنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت، وحين يحشرون والبشرى: اسم لما يعطاه المبشِّر.

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} : هم الذين يسمعون الحسن والقبيح فيتحدثون بالحسن، ويكفون عن القبيح فلا يتحدثون به.

{وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ} : أصحاب العقول السليمة.

التفسير

17 -

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} :

قال ابن إسحاق: نزلت في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة، والزبير رضي الله عنهم سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه وذكرهم بالله فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر، وغيرهما ممن وحدوا الله - تعالى - قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بالطاغوت هنا: ما يعبد من دون الله. وقال الزمخشرى: لا يطلق لفظ الطاغوت في هذه السورة على غير الشيطان، وكل

ص: 549

من عبد غير الله - تعالى - فهو يعبد الطاغوت، أي: الشيطان؛ لأن عبادة غير الله عبادة له فهو الآمر بها، والداعى إليها.

والمعنى: والذين باعدوا أنفسهم، ونزهوها عن عبادة الطاغوت البالغ الغاية في الطغيان.

{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي: أقبلوا إليه إقبالا كليا معرضين عما سواه {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب، وحسن العاقبة عند حضور الموت، وحين يحشرون {فَبَشِّرْ عِبَادِ} أي: فبشر - أيها الرسول - عبادي الذين هم أهل للبشرى بالثواب، وهم المعنيون بقوله - سبحانه -:

18 -

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} :

أي: هم الموصوفون باجتناب الطاغوت والإنابة إلى الله بأعيانهم. على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقَّادًا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فهذا اعترضهم أمران حرصوا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا.

وقيل: هم الذين يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء. والإبداء والإخفاء لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1){وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2).

وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، إلى غير ذلك مما قيل في: القرطبي وغيره.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لدينه ولما يرضاه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: وهؤلاء هم أصحاب العقول السليمة عن منازعة الهوى، ومعارضة الوهم لا غيرهم. وفيه دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله، وقبول النفس لها.

(1) سورة البقرة من الآية: 237.

(2)

سورة البقرة من الآية: 271.

ص: 550

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}

المفردات:

{كَلِمَةُ الْعَذَابِ} : إشارة إلى نحو قوله - تعالى -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (1) وقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أي: طبقات قد أعد بناؤها قبل يوم القيامة.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: مبنية على صورة يتأتى معها جرى الأنهار من تحتها لتكمل المتعة بها.

التفسير

19 -

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} :

بيان لأحوال أضداد السابقين على طريق الإجمال. وهؤُلاء هم عبدة الطاغوت ومتبعو كهنتها. والآية كما قيل: نزلت في أبي جهل وأضرابه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على إيمانهم، وأعلمه الله أن من سبقت له الشقاوة، وحق عليه القضاء بأنه من أهل النار، لا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن ينقذه منها ويجعله مؤمنا.

والمعنى: أأنت مالك أمر الناس فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه؟ أَي: لا يستطيع أحد أن ينقذ من أضله الله، وسبق في علمه أنه من أهل النار، لسوء اختياره؛ لأنه لا يقدر على الإنفاذ إلا المالك القادر، والهمزة للإنكار. أي: النفي.

(1) سورة ص الآية: 85.

ص: 551

والهمزة الثانية في الآية هي الأولى كررت مع الجزاء لتوكيد معنى الإنكار. ثم وضع من في النار موضع ضميرهم لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، وقد جعل اجتهاده عليه الصلاة والسلام في دعائهم إلى الإيمان وحرصه على إيمانهم - جعل - سعيا في إنقاذهم من النار، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن حزنه على كفرهم وإصرارهم عليه.

20 -

{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} :

لما بيَّن - سبحانه - أن للكفار ظللا من النار فوقهم، ومن تحتهم، بيَّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا. ولفظ (لكن) الانتقال من قصة إلى قصة أخرى مخالفة للأولى وليست للاستدراك: ذكر ذلك القرطبي.

والمعنى: أن الذين اتقوا ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهم الذين خوطبوا بقوله تعالى:{يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة، وبأن لهم درجات عالية في جنات النعيم، بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم، أي: لهم علالي بعضها فوق بعض مبنيات محكمات عاليات. وحسبك إشارة إلى رفعة شأْنها أن الله جل شأنه - بانيها، وماذا يقال في بناءٍ هو من صنع مبدع السموات والأرض دون غيره، تلك الغرف تجرى من تحتها الأنهار فتزيدها رونقا وبهاءً من غير تفاوت في العلو والسفل. وهي مهيأة ومعدة لهم، قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة. وفي ذلك من تعظيم المتقين وعلو شأنهم ما فيه.

روى الإِمام أحمد بسنده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّها لمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ وألانَ الكَلام، وصَلَّى والنَّاسُ نِيَام".

{وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد لقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ

إلخ} فإنه وعد وأي وعد {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} مع الفريقين لاستحالته عليه - سبحانه - لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عز وجل.

ص: 552

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}

المفردات:

{اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} المراد بها: السحاب.

{فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ} أي: فأدخله في عيون وأنهار من الأرض. يقال: سلكت الشيء في الشيء أنفذته. والينبوع: عين الأرض ومجرى الماء، جمعه ينابيع، وفعله من باب قعد أو نفع. والمراد: أن الماءَ بعد هبوطه في الأرض يخرج من العيون والأنهار.

{ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يَصْفَرُّ. يقال: هاج البقل يهيج: اصفَرَّ. اهـ: مصباح.

{ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: متكسرا، يقال: حطم حطما من باب تعب فهو حَطِم إذا تكسر. اهـ: مصباح.

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الشرح في الأصل: البسط والمد للحم ونحوه، ويكنى به عن التوسيع. قال ابن عباس: وسَّع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: فهو على هدى منه - سبحانه -.

{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} قال المبرد: يقال: قسا القلب إذا صلب. وقلب قاس. أي: صلب لا يرق ولا يلين.

{مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: من أجل ذكره - سبحانه - الذي حقه أن تلين منه القلوب.

ص: 553

التفسير

21 -

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} :

الآية استئناف وارد: إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بها، وتنفيرا من التشبث بأذيالها، بعد أن وصفت الجنة بما يرغب فيها، ويشوق إليها، وإما للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته - سبحانه - وآيات حكمته ورحمته.

والمعنى: ألم تر أيها المخاطب أن الله أنزل بعظيم قدرته من السحاب ماء المطر أنزله بأسباب أرادها الله. فإن تصعيد الأبخرة من البحار بسبب حرارة الشمس وتكوين الغيوم ونحو ذلك من الأسباب الجوية التي أنشأها الله - جل وعلا - لإنزال المطر على الجبال والسهول والأودية، وسائر الأنحاء؛ أنزله - سبحانه - فأدخله في مسارب وينابيع في الأرض كالعروق في الأجساد {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} ثم يخرج الله بالمطر {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي: أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو مختلفا ألوانه المُدْرَكَةُ بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما، ويشمل الزرع المقتات للبشر وغيره {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي: يتم جفافه بعد أن انتقل في أطواره نموا ونضارة فتراه بعد خضرته مصفرا {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: فتاتا متكسرا.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} إن فيما ذكر تفصيلا من إنزال الماء، وإخراج الزرع لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال، يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون

ص: 554

بفتنتها، أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في ينابيع الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة.

22 -

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب.

فالصدر محل للقلب الذي هو منبع الروح، وانشراحه مستدع لاتساع القلب واستضاءته بنور الله.

والمعنى: أكلُّ الناس سواء؟ فمن شرح الله صدره واهتدى. أي: خلقه متسع الصدر مستعدا للإسلام فبقى على الفطرة الأصلية، ولم يتغير بالعوارض السيئة المكتسبة {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: فهو بموجب ذلك مستقر على نور عظيم من ربه، وهو اللطيف الإلهي الفائض عليه عند مشاهده الآيات الكونية والتنزيلية والتوفيق بها إلى الاهتداء إلى الحق. وسئل رسول الله عن الشرح فقال:(إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح. فقيل: هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت).

أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره، وقد استولت عليه ظلمات الغي والضلالة فأعرض عن الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها.

{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: من أجل ذكر الله الذي حقه أن تلين منه القلوب بمعنى: أنهم إذا ذكر الله عندهم أو آياته عز وجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} وكانوا أهلا للويل وسوء المصير.

وأسند الشرح إلى الله - تعالى - إيذانا بأنه على أتم الوجوه؛ لأنه فعل قادر حكيم، وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يقابل بالضيق؛ لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضى عدم قبول شيء بخلاف الضيق فإنه يشعر بقبول شيء قليل، وذلك غير مقصود.

ص: 555

وإسناد القساوة إلى القلوب دون الصدور للتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله.

{أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في بعد عن الحق ظاهر لا يخفى كونه ضلالا على أحد.

والآية قيل: نزلت في علي وحمزة رضي الله عنهما وأبي لهب وابنه. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل وذويه، والمراد منها العموم في كل من شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه، وكل من زادته الآيات رجسا وقساوة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}

المفردات:

{أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} المراد به: القرآن الكريم.

{مُتَشَابِهًا} : يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة وغير ذلك.

{مَثَانِيَ} : جمع مُثَنَّى (1) بمعنى مُرَدَّد ومكرَّر من التكرير والإعادة لما كرر من قصصه وأنبائه وأحكامه ويثنى للتلاوة فلا يمل.

{تَقْشَعِرُّ} أي: تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} المراد بذكر الله: الإِسلام وآية الرحمة ونحو ذلك.

(1) بضم الميم وتشديد النون مفتوحا، وهو جمع له على غير قياس، وقيامه مثنيات.

ص: 556

التفسير

23 -

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} :

عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حِسَان، وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود: أن الصحابة ملُّوا ملَّة فقالوا له عليه الصلاة والسلام: حدثنا فنزلت إرشادا لهم إلى ما يزيل ملَلَهُم وهو تلاوة القرآن الكريم واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضا نضيرا.

والمعنى: أن الله نزَّل أحسن الحديث، وهو القرآن العظيم - نزله كتابًا متشابهًا -، يشبه بعضه بعضا في الصدق والحق والوعظ والحكمة والإعجاز واستتباع منافع العباد في المعاش والمعاد وجعله مثاني (1) أي: مرددًا ومكررا وكرر من قصصه وأنبائه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه.

وقيل: هو مثاني لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل، ووقوع مثاني وهو جمع صفة لكتاب وهو مفرد باعتبار تفاصيله، وتفاصيل الشيء هي جملته ألا تراك تقول: إن القرآن سور وآيات، وأسباع وأخماس. فكذلك تقول: هو أحكام ومواعظ وأقاصيص {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه، ولتقرير كونه أحسن الحديث، ومن هيبته تقشعر منه جلود الذين يخشون الله حقّ خشيته، بمعنى تتقبض تقبضا شديدا. والمراد: إما بيان خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير، أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها بطريق التحقيق.

والمعنى: أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله - تعالى - تبدلت خشيتهم رجاء، ورهبتهم رغبة

(1) جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} . بمعنى كرة بعد كرة. وهذا رأي آخر غير الذي سبق.

ص: 557

وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته - تعالى - وإنما لم يصرح بها لأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره - تعالى - لأصالته كما يرشد إليه خبر (سبقت رحمتى غضبي) وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى ذكر رحمته عز وجل ولم ينعتهم الله بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وهو من الشيطان.

عن أسماءَ بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئَ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ القرآن عليهم خرَّ أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحى: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق.

فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقتهم وضرب رءُوسهم بالأرض عند سماع القرآن.

{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: ذلك الكتاب الذي شرحت أحواله هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء من عباده، الذين علم منهم اختيار الاهتداء بتأمُّلِه، والاتعاظ بما في تضاعيفه من شواهد الحقية، ودلائل كونه من عند الله - تعالى -.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: ومن يخلق - سبحانه - فيه الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء اختياره، فليس له من أحد يهديه إلى الحق ليخلصه من ورطة الضلال.

ص: 558

وقيل: الإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} إلى المذكور من الاقشعرار واللين أي: ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه - تعالى - يهدى بذلك الأثر من يشاء من عباده، ومن لم يؤثر فيه الهدى لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره، فما له من هاد يؤثر فيه حتى يهتدى.

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}

المفردات:

{يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} : وهو الذي يرمي به مكتوفًا في النار، فيتقي بوجهه العذاب الشديد، لأنه أول شيء تمسه النار.

{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أي: وتقول الخزنة للكفار: ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي وهو العذاب والنكال.

{فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} أي: فأصابهم العذاب الدنيوى.

{مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أي: من الجهة التي لا يخطر ببالهم إتيان الشر منها.

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} يقال كل ما نال الجارحة: قد ذاقته. أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال المبرد: والخِزْي من المكروه والخزاية من الاستحياء.

{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كان من شأْنهم أن يعلموا شيئًا لعلموا ذلك.

ص: 559

التفسير

24 -

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} :

استئناف جارٍ مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدى والضال. وقد نزلت - كما قيل - في أبي جهل.

والمعنى: أَكُلُّ الناس سواء؟ فمن شأْنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه - يتقي - به - العذاب السيء الشديد. كمن هو آمِن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى اتقائه بوجهه، فالوجه على حقيقته.

ويشير هذا إلى أن الإنسان إذا لقى مكروهًا من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يتقي بها وجهه؛ لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلَاّ بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه. قال عطاء، وابن زيد: يرمى به مكتوفًا في النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وجوز أن يراد من الوجه الجسم كله.

ويقال للظالمين من جهة الخزنة: ذوقوا وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي، ووضع المظهر في مكان المضمر - فقيل للظالمين، ولم يقل لهم - لتسجيل الظلم عليهم والإشعار بعلية الأمر في قوله تعالى:{ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وصيغة الماضي مع أن قول الخزنة مستقبل للدلالة على تحقق الوقوع.

25 -

{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} :

استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوى إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأُخروي.

والمعنى: كذب الذين من قبل قريش من الأمم السابقة عليهم، فأتاهم العذاب المقدر لكل أمة منهم من الجهة التي لا يحتسبون ولا يدور بخلدهم إتيان الشر منها؛ لأن ذلك أقسى على النفس وأشد إيلامًا لها.

ص: 560

26 -

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} :

أي: فأَذاقهم الله الذل والصغار بمعنى أنهما وصلا إليهم كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما، ولعذاب الآخرة المعد لهم أكبر وأنكى ممَّا أصابهم في الدنيا لشدته وسرمديته.

{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئًا لعلموا ذلك واعتبروا به.

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}

المفردات:

{مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : يحتاج إليه الناظر في أمور دينه.

{غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: غير مختلف وهو قول ابن عباس. والعوج - بكسر العين وفتحها - مصدر عوج كتعب. قال ابن الأثير: إن مكسور العين مختص بما ليس مرئيًّا كالرأى، والقول. والمفتوح مختص بما هو مرئي كالأجساد. وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم من المفتوح، واختار المرزوقى أنه لا فرق بينهما.

التفسير

27 -

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} :

أي: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن الرفيع الشأن من كل مثل يحتاجون إليه، للنظر في شئون دينهم، بمعنى بينا لهم ذلك بضرب الأمثال كى يتذكروا بها ويتعظوا.

28 -

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :

أي: وأنزلناه قرآنًا عربيًا سلم مبناه ومعناه لا اختلال فيه بوجه من الوجوه ولا انحراف.

ونفى مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من {غَيْرَ عِوَجٍ}

ص: 561

ولما كان العوج (بالكسر) يقال فيما يدرك بالعقل والبصيرة والعوج (بالفتح) يقال فيما يدرك بالحس، عبر بالأول ليدل على أنه أبلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجًا فضلا عن الحس.

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : الكفر والكذب بترك الاختلاق عليه والشك فيه.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}

المفردات:

{مُتَشَاكِسُونَ} أي: شرسو الطباع.

{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أي: خالصًا لسيد واحد.

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : الحق فيتبعونه.

التفسير

29 -

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

هذا مَثَلٌ من الأمثلة القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها، وتحصيل التقوى. والمراد هنا بضرب المثل تشبيه حالة عجيبة بأُخرى مثلها.

والمعنى: ضرب الله للمشرك الذي يعبد آلهة كثيرة - ضرب له - مثلًا عبدا مملوكًا لجماعة

ص: 562

متشاحنين يتجاذبونه ويتعاورونه لا يلقاه رجل منهم إلَاّ جرَّه واستخدمه، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يُرضى واحدًا منهم بخدمته، ولا يدري على أيهم يعتمد في حاجاته ولا أيهم يرضي بخدمته، فهمُّه شعاع، وقلبه أوزاع.

وضرب لمن يعبد الله وحده مثلا رجلا خالصا لفرد واحد، وليس لغيره سبيل عليه، وذلك الفرد يَعُولُهُ ويعرف له صدق بلائه، فهو في راحة من الحيرة وتوزع القلب.

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: هل تستوي صفتاهما وحالاهما، وهو إنكار واستبعاد لاستوائهما، ونفي له على أبعد وجه وآكده. وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما، أو يتلعثم في الحكم بتباينهما، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد مع الله آلهة، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له.

والسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : تقرير لما قبله من نفي الاستواء بين المثلين، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله - تعالى - وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده وعبادته أو الحمد لله على إقامة الحجة عليهم.

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجة المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره فيقعون في ورطة الشرك والضلال.

ص: 563

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}

المفردات:

{إِنَّكَ مَيِّتٌ} مع التشديد: من لم يمت وسيموت، ومع التسكين: من فارقته الروح.

{تَخْتَصِمُونَ} أي: يتخاصم فيه الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم، قاله ابن عباس وغيره.

يقال: اختصم القوم: خاصم بعضهم بعضًا. اهـ: مصباح.

التفسير

30 -

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} :

تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيه - سبحانه - بموته. ويدخل معه مؤمنو أمته. والمقصود من الضمير في "إنهم ميتون" الكفار. وقد احتمل خطابه كما قال القرطبي خمسة أوجه:

أحدها: أن يكون ذلك تحذيرًا من الآخرة.

الثاني: أنه ذكره حثًّا على العمل.

الثالث: أنه توطئة للموت.

الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية مع قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}

الآية.

ص: 564

الخامس: ليعلمه أن الله - تعالى - سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة.

وفي البحر: لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر - سبحانه - بأن مصير الجميع بالموت إلى الله - تعالى - وأنهم يختصمون يوم القيامة ببن يديه وهو عز وجل الحكم العدل فيميز هناك المحق من المبطل.

وقيل: كانوا يتربصون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا بأنهم جميعًا سواء بصدد الموت، فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني.

وتأكيد الحملة في {إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة عن الموت، وتأكيد الأُولى دفعًا لاستبعاد موته صلى الله عليه وسلم.

31 -

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} :

يعني تخاصم الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم قاله: ابن عباس وغيره.

وقيل: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد، أي: ثم إنك وإياهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: عند مالك أمركم (تخَتَصِمُونَ) فنحتج عليهم بأنك بلغت ما أُرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات فكذبوا ولجوا في المكابرة والعناد معتذرين بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، ويقول السادة: أغوتنا الشياطين وآباؤُنا الأقدمون وغلبت علينا شقوتنا.

ص: 565

وقال جَمْعٌ: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام.

أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن عساكر: عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآية {إِنَّكَ مَيِّتٌ

} الخ، فقالوا: وما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان بن عفان قالوا: هذه خصومة ما بيننا.

وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه. فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد، وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد حتى رأيت بعضا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت.

وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم "صفين" وشد بعضنا على بعض بالسيوف. قلنا: نعم هو هذا.

وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألَاّ يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه ثم طرح في النار".

ص: 566

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}

المفردات:

{بِالصِّدْقِ} : الذي هو عين الحق، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذروته القرآن الكريم.

{مَثْوًى} : مقام ومسكن، من: ثوى بالمكان يثوي ثواءً وثُويًّا إذا أقام به.

التفسير

32 -

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} :

ذكرت الآية السابقة تخاصم المشركين عند الله يوم القيامة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم إني بلَّغت فكذبتم، واجتهدت في الدعوة فلججتم في الخصومة والعناد، فيعتذرون بما لا طائل تحته، وجاءت هذه الآية بعدها بيانًا لحكم الله عليهم وعلى غيرهم من سائر المكذبين للرسل.

والمعنى: لا أحد أشد ظلمًا، ولا أقبح افتراءً واختلافًا ممن اجترأ على مقام الأُلوهية، وكذب كل الله فادَّعى معه الشريك أو نسب له الولد، أو غير ذلك من أنواع الشرك، وَغَلَا في هذا وتجاوز مفاجئًا من غير رويَّة ولا تأَمُّل فكذَّب بالأمر الذي هو عين الحق،

ص: 567

وذات الصدق واليقين، ممَّا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى توحيد الله، والقرآن الكريم الذي هو أقوى برهان، وأصدق بيان، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

وقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} بأسلوب الاستفهام الداخل على النَّفي لينفيه تقريرٌ وتأكيدٌ للجزاء الذي ينتظر هؤلاء المكذِّين، أي: أن في جهنم مثوى لهم أي: مقامًا متسعًا ومسكنًا دائمًا خالدًا جزاء ما افتروا على الله - سبحانه - وما سارعوا إليه من تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم.

ووضع الظاهر في قوله: {لِلْكَافِرِينَ} موضع الضمير أي: (لهم) لتسجيل الكفر عليهم وتأكيد استحقاقهم للخلود فيها لا ينفكُّون عنها ولا تنفكُّ عنهم.

33 -

{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} :

الذي جاء بالصدق وصدق به هو محمَّد صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس، والمؤمنون داخلون بحكم التبعية له فهو إمامهم، ولذلك أخبر عنه بقوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . ومثل ذلك مثل دخول الجند في الأمير بالتبعية في قولك: نزل الأمير بموضع كذا، أي: نزل وتبعه جنوده، وقيل: هو على تقدير: والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، وحمل بعضهم الموصول على الجنس، والمراد به حينئذ الرسول والمؤمنون، وأُيد هذا الرأى بقراءَة ابن مسعود.

{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} :

والمعنى: ومحمد الذي جاء بالقرآن الحق، وصدق به هو ومن آمن معه - أولئك الموصوفون بما ذكر - هم المتقون أي: الذين وقوا أنفسهم من الشرك ومن مثوى المشركين.

ص: 568

34 -

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} :

هذه الآية بيان لما يستحقه المصدقون المتقون من الكرامة والمنزلة، أي: لهؤلاء المتقين المصدِّقين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ما يشاءون عند ربهم - من تكفير السيئات، والأمن من الفزع أكبر وسائر أهوال يوم القيامة، ومن خيرات الجنَّة ونعيمها، وطيب المقام فيها بعد دخولها، إلى جانب ما نالوه في الدنيا من مختلف أنواع النعم.

{ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي: ذلك الذي ذكر من حصول ما يشاءُون في الدنيا والآخرة جزاءُ المحسنين الذين أخلصوا إيمانهم وأحسنوا أعمالهم.

ووضع المحسنين موضع ضميرهم للإشادة بحسن أعمالهم، وإبراز فضلهم.

35 -

{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

قول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ

الآية} متعلق بمضمون ما قبله.

والمعنى: وعدهم الله ما يشاءُونه من دفع المضار، وقيل المسارِّ، وحسن العاقبة، ليكفِّر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الأعمال التي عملوها وخافوا عقابها (1) وليجزيهم أَكرم جزاء، ويثيبهم أوفى ثواب بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات، حيث يرفع درجة الحسن من أعمالهم إلى درجة أحسنها، ويثيبهم عليه ثواب أحسنها.

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}

المفردات:

{بِكَافٍ عَبْدَهُ} : بحافظ ومانع رسوله مِمَّا يخَوِّفُونَهُ به.

(1) وإذا كفر الله عنهم أسوأ الذي عملوه، فإنه - تعالى - يكفر عنهم ما دونه من باب أولى.

ص: 569

{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : يحذرونك ويهددونك بضرر الأصنام.

{عَزِيزٍ} : غالب لا يغالب، منيع لا يمانَع ولا ينازَع.

{انْتِقَامٍ} : عقوبة.

التفسير:

36 -

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} :

دخول همزة الاستفهام على النفى يقتضي التقرير والإثبات، وقد جاءت هذه الآية لتؤكد مضمون الآيات السابقة من توعُّد الظالمين الكذَّابين والمكذِّبين، وصدق الوعد للصادقين والمصدِّقين.

والمعنى: الله - تعالى - بقوته وقدرته حافظ رسوله، ومانعه من كل أذى يصيبه، ومن كل مؤذ يريده بسوء.

وقوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} تسفيه لما كان المشركون يُهدِّدُون به الرسول صلى الله عليه وسلم من ضرر أصنامهم. ويتوعدونه به.

روى أنَّهم كانوا يقولون له: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وتصيبك مضرتها لعيبك إياها، فنزلت الآية. وفي رواية أُخرى قالوا: "لتكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل أو جنون كما قال قوم هود له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .

وقال قتادة: مضى خالد بن الوليد إلى العُزَّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادنها: أُحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم رأسها بالفاس". وتخويفهم لخالد تخويف لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الذي وجهه إليها.

ولما كان اتخاذهم الأصنام آلهة، وتخويفهم بها وهي أحجار لا تدفع ضرًّا ولا تجلب نفعًا لنفسها فضلًا عن أن تنفع أو تضرُّ غيرها - لما كان هذا - ضلًالا منهم وإضلالًا من الله لهم لإصرارهم على الباطل، جاء قول الله - تعالى -:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}

ص: 570

أي: ومن يصرفه الله عن الهداية، ويعمى قلبه عن اتباع الحق لسوء اختياره، فهو ضال وما له من هادٍ أبدًا يهديه إلى الخير، أو يوجهه إلى الحق ونور الإيمان.

37 -

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي: ومن يوفِّقه الله إلى الهداية ويرشده إلى الحق ونور الإيمان فليس له من مضل يصرفه عن مقصده السَّويِّ، ويدفعه إلى الغواية ومسالك السوء، إذ لا راد لقضائه - تعالى - ولا معارض لإرادته. كما ينطق بذلك قوله - تعالى -:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي: أليس الله بغالب لا يغالب، منيع لا يمانع ولا ينازع، ذي انتقام وعقوبة بالغة لمن يتمرد على أمره وينهيه.

وفي هذا تسلية للرسول، وتثبيت للمؤمنين، وتأمين لهم على مسالكهم في الطاعة، ومسيرتهم في الاهتداء.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}

المفردات:

{كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} : دافعات ضره ورافعاته.

{مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} : مانعات رحمته وحابسات لها.

{حَسْبِيَ اللهُ} : كافيني في جميع أموري.

ص: 571

{مَكَانَتِكُمْ} : حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها.

{يُخْزِيهِ} : يذله ويهينه. {مُقِيمٌ} : دائم لا ينقطع.

التفسير

38 -

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} :

كان المشركون مع إشراكهم، وعبادتهم الأصنام، وادعائهم قدرتها وتأثيرها يعترفون أن خالق السموات والأرض هو الله لا يمارون في ذلك، ولا يجادلون فيه، وجاءت هذه الآية توجِّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سؤالهم عن ذلك لينتزع هذا الاعتراف فيكون حجة عليهم تبهتهم وتسفه أحلامهم.

والمعنى: ولئن سألت هؤلاء المشركين المعاندين مَنْ خلق السموات والأرض، وأبدع صنعتهما وأحكم نظامهما، وسخر في السماء كواكبها، وأجرى في الأرض أنهارها، وأرسى جبالها، وأنبت أشجارها، وبثَّ فيها من كل دابَّة ليقولن: خلقهن الله لوضوح الدليل، وسنوح السبيل، وما وجدوا سوى ذلك ردًّا ولا حاروا جوابًا.

قل لهم يا محمد بعد هذا الاعتراف منهنم تسفيهًا وتبكيتًا: أفكَّرتم بعد هذا الاعتراف والإقرار فرأيتم أن آلهتكم التي تدعونها من دون الله، وتزعمون لها التسلُّط والتأثير - إن أرادني الله بضرٍّ وأذى هل هنَّ قادرات على أن تدفعه عنِّي، وتحول بينه وبينى، أو أرادني برحمة ونعمة هل هنَّ قادرات أن تمنعها مني أو تحبسها عنِّي، وعبر عن آلهتهم بصيغ المؤنث في (كَاشِفَاتُ، مُمْسِكَاتُ) لأنها مؤنثات الأسماء وهي اللَاّت والعزى ومناة.

روى أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا سألهم سكتوا فنزل قوله - تعالى -: {قُلْ حَسْبَيَ الله} أي: قل لهم أيها الصادق الأمين: حسبى الله وكافيني في جميع أموري من إصابة الخير، ودفع الشر، عليه وحده لا على أحد غيره يتوكل المتوكلون في كل أمورهم، ويعتمدون على حوله وقوته في جميع شئونهم، لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته - تعالى -.

ص: 572

39، 40 - {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}:

أي: قل لهم أيها الصادق الأمين بعد أن سجَّلوا على أنفسهم باعترافهم بقدرة الله - تعالى - السفه والعناد - قل لهم -: اعملوا على مكانتكم وحالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنت منكم، إني عامل على منهجى وطريقى التي لا تزال تزداد قوة تروع أمنكم، بنصر الله لي وتأييده إياي، إحقاقا للحق وإعلاءً لكلمته، وإذا كنتم الآن من هذا في شك فسوف تعلمون في مستقبل الأيام وعلى امتداد الزمن، وتتابع الأحداث من يأتيه عذاب يخزيه ويذلُّه في الدنيا ويهينه، ويحلُّ عليه في الآخرة عذابٌ مقيم دائم لا ينقطع، وقد صدق فيهم عذاب الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر، والذُّل والهوان يوم فتح مكَّة، وينتظرهم في الآخرة عذابٌ أفظع، ونكال أبشع لمن بقى منهم على كفره.

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)}

المفردات:

{بِالْحَقِّ} : متلبسًا بالصدق.

{بِوَكِيلٍ} : مسلَّط تجبرهم على الهداية.

التفسير:

41 -

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} :

تتجه هذه الآية إلى تقرير أمر الرسالة، وإنزال القرآن الكريم، وما يحتويه من

ص: 573

إرشادات وعظات، يُسَلي بها نبيه صلى الله عليه وسلم ويهون عليه عناد قومه ومعارضتهم فيقول - الله تعالى مخاطبا نبيَّه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أي: إنا أنزلنا عليك أيها الرسول العظيم القرآن الكريم بالحق والصدق لأجل الناس فإنه مناط مصالحهم في المعاش وفي المعاد، وإن مهمتك فيه إبلاغه للناس بأمانة وصدق، كما أنزلناه إليك ليهتدى به من يريد الله له الهداية ومجانبة الشرك والضلال، فمن أجابك إليه واهتدى به، وعمل بما فيه فلنفسه؛ لأن نفعه عائد عليها، وحسن عاقبته لها، ومن أعرض، وضل عن الانتفاع بهديه، ولم يعمل بما فيه، فإنما ضلاله على نفسه؛ لأن وبال ذلك، وسوء عاقبته حائق بها، وما أنت على الناس بوكيل ولا مسلَّط تجبرهم على الإيمان والتصديق، وتلجئهم إلى الهداية والتوفيق، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}

المفردات:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} أي: يستوفيها ويسيطر عليها.

{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} : يحفظها ولا يردُّها إلى البدن.

{وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} : يرد النفس النائمة إلى البدن عند اليقظة.

ص: 574

{أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: وقت سمَّاها الله ينتهى به عمرها.

{لَآيَاتٍ} : لَعِظِاتٍ بالغات.

التفسير:

42 -

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إن في ابن آدم نفسا وروحًا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها التنفُّس، والتحرك، فيتوفَّيان معا عند الموت، ونتوفى النفس وحدها عند النوم".

هكذا روي عن ابن عباس، ولكن الظاهر أن هذه الآية الكريمة تمثل صورتين عجيبتين من صور قدرة الله - تعالى - على الخلائق، صورة تحدث لكل حي مرة واحدة ولا تتكرر، وهي الموت عند انتهاء الأجل، وصورة تتكرر مع الحياة وتلازمها، وهي النوم في جميع حالاته وأوقاته: فهذا هو مضمون قوله - تعالى -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا

الآية}.

والمعنى: الله يستوفي الأرواح ويسيطر عليها حين موتها وحين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويقطع صلتها بالبدن، ويرد النفس الأخرى النائمة التي منعها عن التصرف وقت نومها ولم يحن أجلها - يرد تصرفها إلى بدنها فتحصل اليقظة بسبب ذلك، ويجرى ذلك عليها إلى أجل مسمى هو انتهاء عمرها.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إن في ذلك التصرف العجيب، والنمط الغريب الذي يجرى على نفوس الخلائق، ويتكرر في حاليه بينهم، وتحت أبصارهم، وأسماعهم، لآيات بالغات، وشواهد بيِّنات دالات على بليغ قدرة الله - تعالى - ودقة حكمه، القوم يتفكرون في كيفية تعلق النفس بالأبدان، وتوفِّيها عنها تارة بالكلية عند الموت، واستبقائها عند الله بين السعادة والشقاوة، وتوفِّيها تارة أخرى توفيا ظاهرا عند النوم، وإرسالها إلى البدن ليعود إلى نشاطه، حتى يحين أجلها.

ص: 575

43، 44 - {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}:

أي: بل أتخذوا: فأم هنا منقطعة تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام.

والمعنى: بل أتخذ المشركون آلهة من دون الله، ومن غير إذن منه شفعاء تشفع عنده - تعالى - لهم في أمورهم الدنيوية والأُخروية.

قل لهم أيها الرسول (أولًا) تسفيهًا وتبكيتًا: أيستقيم في تفكيركم، ويصح في عقولكم أن تتخذوا أصنامكم شفعاء يشفعون لكم عند الله، وترجون عندهم ذلك، ولو كانوا لا يملكون شيئًا أصلًا، فضلًا عن أن يملكوا الشفاعة التي هي المنزلة العليا، والغاية القصوي، التي لا يرقى إليها إلَاّ الأنبياء والمرتضون. وكذلك لا يعقلون أمرا من الأمور، ولا يرجو أحد منهم الشفاعة إلَاّ المغرقون في الجهل والضلال.

وقيل لهم (ثانيًا) إثباتًا للحق وتأكيدًا: لله وحده الشفاعة جميعًا بكل صورها، وكافة أغراضها هو الذي يملكها ويملك الإذن بها إذا كان الشفيع مرتضى مأذونًا له، وأصامكم تفقد أساسًا كل مقوماتها فضلًا عن الارتضاء لها والإذن لها.

وقوله - تعالى -: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تأكيد لمضمون ما قبله وتقرير له.

والمعنى: لله وحدد ملك السموات والأرض وملك ما بث فيهما من دابة، ومن حق المالك ألا يتكلم أحد في أمر من أمور ملكه إلَاّ بإذنه، ثم إليه وحده وليس لغيره استقلالًا أو اشتراكًا ترجعون يوم القيامة، فتعلمون الأُمور على حقيقتها، وتتبينون ضلالكم وجهلكم باتخاذكم هذه الأصنام آلهة، ورجائكم في نفعها وشفاعتها فتندمون، ولات ساعة مندم.

ص: 576

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}

المفردات:

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} : دون ذكر الأصنام.

{اشْمَأَزَّتْ} : انقبضت ونفرت.

{مِنْ دُونِهِ} : من دون الله.

{يَسْتَبْشِرُونَ} : يفرحون ويسرون.

{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق.

{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم السر والعلن.

{لَافْتَدَوْا بِهِ} : لقدموه فداءً لهم من العذاب.

{بَدَا} : ظهر.

{يَحْتَسِبُونَ} : يدخل في تقديرهم وحسابهم.

ص: 577

التفسير:

45 -

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} :

تصور هذه الآية تصرفًا من تصرفات هؤلاء المشركين ناشئًا عن تماديهم في الشرك، وإيغالهم في تأليه أصنامهم، وتمثل حالين من أحوالهم القبيحة تنعكسان على وجوههم انقباضا وعبوسًا إذا سمعوا ذكر الله، وبشْرا وفرحا إذا سمعوا ذكر آلهتهم، وذلك من إيغالهم في الجهل وانحطاطهم في سفاهة العقل وسوء التفكير.

والمعنى: قد كان من حالهم في الدنيا أنه إذا ذكر الله وحده دون ذكر الأصنام انقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين، وظهر ذلك على وجوههم إنكارًا واشمئزازا، وإذا ذكر الذين من دونه من أصنامهم وآلهتهم فرادى أو مع ذكر الله - تعالى - أسرع الفرح والسرور إليهم، وظهر البشر على وجوههم، لفرط افتتانهم بآلهتهم، وتعصبهم لها، ونسيان حق الله - تعالى -.

46 -

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

هذا أمر وتوجيه من الله لرسوله بالدعاء والالتجاء إلى الله - تعالى - لما قاساه في أمر دعوة هؤلاء المشركين، ولما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد، فإنه - تعالى - هو المبدع للسموات والأرض بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها، والفاصل بين المحقين والمبطلين، وفيه تعليم للعباد أن يلجؤا إلى الله عند الشدائد.

والمعنى: قل أيها الرسول: اللهم يا فاطر السموات والأرض ومبدع صنعتهما على غير مثال سبق، يا عالم كل سر وعلانية، وكل غائب وشاهد، لا يخفى عليك شأن من الشئون أنت وحدك تحكم بين عبادك، وتقضي بينهم فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا قضاءً يحسم كل خلاف، ويخضع له كل مكابر، ويستسلم له كل عات متجبر، فيبهت بذلك كل ظالم، وينصف كل مظلوم.

ص: 578

هذا، وأصل الفطر: ابتداء الخلق وابتداعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كنت لا أدرى ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا (فطرتها) أي: ابتدأتها".

47 -

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} :

ولو كان للذين ظلموا أنفسهم بالشرك، والإسراف في العناد والمعارضة - لو كان لهم - ما في الأرض جميعًا من الخيرات، والكنوز والأموال ومثله معه، لهان عليهم أن يبذلوه افتداء لهم وخلاصًا من سوء العذاب يوم القيامة، لهول ما يشاهدون، وفظاعة - ما يلاقون - وهيهات - وفي هذا قمة الوعيد، وغاية الإقناط لهم من الخلاص والنجاة ما داموا به كافرين.

وفي قوله - تعالى -: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} : ارتفاع بالوعيد إلى أقصى ما يتمثله متمثل، أو يدخل تحت حِذْرٍ وتقدير. أي: وظهر لهم من الله من ضروب العذاب، وصور العقاب والانتقام، ما لم يخطر على بالهم، ولم يدخل في تقديرهم وحسابهم.

وهذا الوعيد غاية في التخويف والتحذير يقابلها في الترغيب والتبشير قول الله - تعالى -: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).

48 -

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} :

تمضى الآيات في ترديد الوعيد وتبديء فيه وتعيد، لتقطع الحجة على كل مكابر، وتعقد لسان كل عنيد، فيقول الله - تعالى -:{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: وظهر - للمشركين يوم القيامة حين عرضت عليهم صحائف أعمالهم، وأخذوا كتبهم بشمائلهم، وقالوا وفي عيونهم عبرة، وقلوبهم في غمرة: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا

الآية} (2) - بدا لهم يومئذ - سيئات ما عملوا في دنياهم

(1) سورة السجدة - الآية: 17.

(2)

سورة الكهف من الآية: 49.

ص: 579

وما اكتسبوا من فرطات وآثام، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: نزل وأحاط بهم من صنوف العداب وضروب العقاب ما كانوا به يستهزئون ويسخرون عند توعدهم به في الدنيا، ويستعجلون نزوله سخرية وإنكارًا، وعتوا واستكبارًا، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}

المفردات:

{مَسَّ} : أصاب وتمكن.

{خَوَّلْنَاهُ} : أعطيناه وملكناه تفضلًا.

{عَلَى عِلْمٍ} : على معرفة بوجوه الكسب، أو على استحقاق وجدارة بما عندي من العلم.

{فِتْنَةٌ} : محنة وابتلاء.

{بِمُعْجِزِينَ} : بغائبين من العذاب ناجين منه.

(1) سورة النحل من الآية: 33.

ص: 580

{يَبْسُطُ} : يوسع ويزيد.

{وَيَقْدِرُ} : يضيِّق وينقص.

التفسير

49 -

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

تحكى هذه الآية لونًا من سلوك الإنسان الذي لم يتمكن من قلبه دين يهديه، ولم يتوفَّر فيه عقل يرشده، ولا تحكمه قيم أو تقيده، فتضطرب أحواله، وتختلف نزعاته، وينعكس ذلك على سلوكه.

ويتمثل سلوكه تارة في عقيدته، وتارة في أحواله وتصرفاته، فإذا أصابته ضراء أو نزل به مكروب عرف الله ولجأ إليه بالدعاء، ثم إذا كشف الله ضره، ورفع كربه نسى ما كان يدعو إليه، وعاد لما كان عليه من الزعم بأنه أوتيه على علم.

وهذه الآية التي بين أيدينا تحكى كفر الإنسان بالنعمة طغيانًا واستعلاء.

والمعنى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} أي: إذا أصاب الإنسان ضر في مال أو أهل أو عافية أو غير ذلك من الكوارث - إذا أصابه شيءٌ من ذلك - دعانا وحدنا ولجأ إلينا ولم يدع لكشف ضره، ودفع شره سوانا، ملحًّا في الدعاء، مستمرًّا في الرَّجاء، ثم إذا تجلَّينا عليه بالإجابة، وأعطيناه سؤله، وملكناه وخوَّلناه منَّا نعمة تعاظم وتعالى، وادعى لنفسه القدرة والجدارة وقال: إنما أوتت ما أوتيته على علم عندي بوجوه الكسب ومهارة في التصرف واستحقاق للنعمة، ناسيًا فضل الله عليه، وتضرعه إليه، ولم تكن مقالته

هذه عن حق أو عقل (بل هي فتنةٌ) وابتلاء ومحنة، وكفر بالنعمة، ولكن هؤلاء المذكورين لا يعلمون أن ما يجري عليهم من النعم اختبار من الله يتمحص به الشاكر والكافر، والحامد والجاحد، أوْ لا يعلمون سبل الإخلاص، ووسائل النجاة.

وفي قوله تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ} بصيغة الجمع، مع الإفراد قبله - فيه - دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس، وأن أكثره يسلك هذا السبيل.

ص: 581

وصدرت هذه الآية بالفاء دون الواو لترتبها على حال سابقة من مناقضتهم، وتعكيسهم في التسبب حيث يشمئزون إذا ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر آلهتهم مع الله أو فرادى فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره وضاقوا باسمه دون من استبشروا بذكره وهشُّوا له.

50 -

{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

أي: قد قال هذه المقالة وهي: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} الذين تقدموهم، وسبقوا أيامهم وأزمانهم، فلم تكن مقالتهم بدعًا، ولا كفرهم حدثًا - قال هذه المقالة: قارون موسى الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، فلما طلب منه أن يبتغى الدار الآخرة مع دنياه اعترافًا للمنعم، وشكرًا للنعمة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (1).

وقالها فرعون تألُّهًا وتجبُّرًا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (2) وتطاول على مقام النبوَّة فقال في شأن موسى عليه السلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (3).

وقال النمرود في محاجة إبراهيم عليه السلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (4). وهكذا كانت النعم على طول الزمن سبيلًا للإنسان إلى التجبر والطغيان. وصدق الله العظيم إذ يقول: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (5)، وقوله تعالى:{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} معناه: فما دفع عنهم ولا أفادهم ما كانوا يجمعونه في الدنيا، ويحرصون على كسبه، ما أغنى عنهم ذلك ولا دفع ما نزل بهم من العذاب، مما ينبىء عنه قوله تعالى:

51 -

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

والمعنى: فأصاب هؤلاء جزاء سيئات ما كسبوه، فأغرق الله فرعون وجنوده، وخسف بقارون وبداره الأرض، والذين أفرطوا في الظلم من هؤلاء المشركين، وأسرفوا في العباد

(1) سورة القصص من الآية: 78.

(2)

، (3) سورة الزخرف الآيتان: 51، 52.

(4)

سورة البقرة من الآية: 258.

(5)

سورة العلق الآيتان: 6، 7.

ص: 582

سيصيبهم في الآخرة جزاء سيئاتهم، وعقاب ظلمهم وإشراكهم، فوق ما أصابهم أشد إصابة في الدنيا من القحط والقتل والذل والهوان، فقد قحطوا عدة سنين، ولقوا ما لقوا من القتل والأسر يوم بدر، ومن الذُّل والهوان يوم فتح مكة، حيث دانوا للإسلام، وتحطمت كبرياؤهم.

{وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين ولا ناجين من العذاب في الآخرة كما وقع بهم في الدنيا.

52 -

{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

المعنى: أغفل هؤلاء وأولئك من المشركين والذين سبقوهم ممن أبطرتهم النعم، وأفسدهم الترف والغنى، فراحوا يتطاولون، ويتكاثرون - أغفلوا - ولم يعلموا أن المنعم على جميع خلقه مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم هو الله - تعالى - وأنه يبسط الرِّزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويضيِّق الرِّزق على من يشاء منهم، لحكمة لا يعلمها إلَاّ هو سبحانه وتعالى.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في ذلك الذي ذكر لآيات بينات وشواهد واضحات لقوم يستعدون للإيمان بالتفكر في حكمته وبديع صنعته، وكمال قدرته، فيهتدون بهديها، ويسلكون سبيل الخلاص والنجاة، وما أروع معنى، ولا أبدع نسقًا أن ينزل بعد هذه الآيات قول الله تعالى:

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ

الآية}.

ص: 583

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}

المفردات:

{أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} : تجاوزوا الحد في المعاصي فجنوا عليها.

{لَا تَقْنَطُوا} : لا تيئسوا.

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} : ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة.

{وَأَسْلِمُوا لَهُ} : أخلصوا له العمل والعبادة.

{أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} : القرآن.

{بَغْتَةً} : فجأة.

{يَا حَسْرَتَا} : يا ندامتي ويا حزني.

ص: 584

{فَرَّطْتُ} : ضيعت وقصرت.

{جَنْبِ اللَّهِ} : حقه.

{السَّاخِرِينَ} : المستهزئين بدين الله.

{كَرَّةً} : رجعة إلى الدنيا.

التفسير

53 -

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

ذكر القرآن في الآيات السابقة ما أعد الله للظالمين والمشركين من العذاب الأليم، وجاءت هذه الآية للمؤمنين المفرطين في المعاصي لبعث الأمل في نفوسهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله.

والمراد بمغفرة الذنوب: التجاوز عنها وعدم المؤاخذة بها، وهو المراد بسترها، وقيل: المراد بها محوها من الصحائف، كأن لم كن فضلًا منه - تعالى - وكرمًا.

واستظهر بعضُ المفسرين إطلاق المغفرة للتائبين وغيرهم، بدليل قوله - تعالى -:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فهو ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك، ويشهد للإطلاق أمور:

الأول: نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلَّة وهي أنسب بحال المعاصي إذا لم يتب، واقتضاؤها لرحمة ظاهر.

(1) سورة النساء من الآية: 48.

ص: 585

الثاني: الاختصاص الذي تُشعر به الإضافة إلى ضميره - تعالى - فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه.

الثالث: إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوى على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها، وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره.

الرابع: وضع الاسم الجليل في موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا شىء آخر من توبة وغيرها.

الخامس: تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فشمل الذنب الذي تعقبه التوبة والذي لا تعقبه التوبة.

السادس: التأكيد بلفظ (جميعًا).

السابع: التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب، أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة.

الثامن: حذف معمول الغفور فإن حذف المعمول يفيد العموم، إلى غير ذلك مما قالوه.

وقال آخرون: إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مُقَيَّدَة بالتوبة، فإطلاقها هنا يحمل على التقييد بها، لأن المطلق يحمل على المقيد ما لم ينسخ، ولا نسخ في عقاب المؤمن المذنب، وأيدوا ذلك بقوله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} فإنه عطف على {لَا تَقْنَطُوا} كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه - تعالى - وأخلصوا له عز وجل.

وقال بعض أجلة المحققين: إن قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأول: الكفار لمكان القرب وسبب النزول.

فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمَّد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهًا آخر، وقتل النَّفس التي حرم الله، لم يُغْفَرْ له، فكيف نُهَاجر ونسلم؟ وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله - تعالى - {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

الآية}.

ص: 586

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت الآيات في عياش ابن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا (1) فكنا نقول: لا يقبل الله - تعالى - من هؤلاء صرفًا ولا عدلًا أبدًا: أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه!! فنزلت هذه الآيات، وكان عمر رضي الله عنه كاتبًا فكتبها بيده، ثم كتب بها إلى عياش، وإلى الوليد، وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.

وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآيات الثلاث: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} إلى {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} بالمدينة في وحشيٍّ قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه.

وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بنزول هذه الآية، أخرج الإِمام أحمد في سنده وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية".

وأصل الإسراف: الإفراط في صرف المال، ثم استعمل فيما ذكر مجازًا، وقال الراغب: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وهو ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا.

54 -

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} :

حث الله تبارك وتعالى عباده على المسارعة إلى التوبة فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلى آخر الآية - أي: وارجعوا أيها المسرفون على أنفسهم إلى ربكم ومالك أمركم بالإعراض عن معاصيه، والندم عليها، وأسلموا له بالإخلاص في طاعته، والامتثال لأمره، والخضوع له بالعبادة، والإقرار بوحدانيته، قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا ينصركم أحد من الله ويدفع عنكم عذابه.

ولقد فرق بعض العلماء بين الإنابة والتوبة: بأن التائب قد يرجع من خوف العقوبة، والمنيب يرجع استحياء لكرمه - تعالى - وذكر الإخلاص بعد الإنابة ليعلم العبد أن نجاته بفضل الإخلاص لله في توبته.

(1) أي: رجعوا عن الإسلام.

ص: 587

55 -

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} :

أي: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وهو القرآن، أو العزائم دون الرخص، وقال ابن زيد: يعني المحكمات وكِلُوا المتشابه إلى علمه.

ولعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة من قبل أن يجيئكم العذاب فجأة وعلى غير استعداد، وأنتم لا تشعرون، أي: لا تعلمون أصلًا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه عنكم.

56 -

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} :

أي: أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم كراهة أن تقول نفس آثمة مذنبة: يا ندامتى ويا حسرتي وأسفى على ما ضيعت وتصرف في جنب الله أي: في حق الله - تعالى - حال أن كنت من المستهزئين بكتابه ودينه ورسله.

قال الراغب: أصل الجنب الجارحة، ثم استعير للناحية والجهة - والمراد هنا: الجهة مجازًا، والكلام على تقدير مضاف أي: في جنب طاعة - الله أو في حقه - تعالى - أي: ما يحق له - سبحانه - ويلزم وهو طاعته - عز رجل - والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها؛ لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى.

وتنكير (نفس) في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} للتكثير بقرينة المقام، ويجوز أن يكون تنكيرها للتبغيض؛ لأن القائل بعض الأنفس، واستظهره أبو حيان.

57 -

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} :

أو تقول تلك النفس المذنبة: لو أن الله هداني بالإرشاد والدلائل المؤصلة، لكنت من الذين وقوا أنفسهم من عذاب الله وعقابه بالإيمان والعمل الصالح، وفسر أبو حيان الهداية بخلق الاهتداء.

58 -

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

أو تقول تلك النفس المذنبة حين تشاهد العذاب وتعاين أهواله وشدائده: ليت لي رجعة إلى الحياة الدنيا فأكون من المحسنين في العقيدة والعمل، المؤمنين العاملين بما نزل، وهكذا

ص: 588

يتمنون في الآخرة الرجوع إلى الدنيا مرة ثانية ليحسنوا، ولقد كانوا فيها فما أحسنوا، بل أساءوا إلى خالقهم بعبادة غيره وعدم طاعته. ولذا جاء قوله - تعالى -:

59 -

{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :

جوابًا من الله عز وجل لما تضمنه قول القائل: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} من نفي أن يكون الله قد هداه - أي: بلى أيها النادم على ما كان منه في الحياة الدنيا المتمني الرجوع إليها لتكون من المحسنين فيها - بلى - قد جاءتك آياتي وتعاليمى على لسان رسلى، وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الكافرين بها والجاحدين لها، وآثرت الكفر على الإيمان والضلالة على الهدى.

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}

المفردات:

{كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} : وصفوه بما لا يليق به.

{وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} : حقيقة أو لما يعلوها من الكآبة.

{مَثْوًى} : مأوى ومقامًا.

{بِمَفَازَتِهِمْ} : بفوزهم وظفرهم ببغيتهم.

التفسير:

60 -

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} :

المراد بالذين كذبوا على الله: كل من افترى على الله ووصفه بما لا يليق به - سبحانه -

ص: 589

نفيًا أو إثباتًا، بأن نزهه - سبحانه - عمَّا يجب أن يضاف إليه، أو نسب إليه ما يجب تنزيهه سبحانه وتعالى عنه {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة، ويجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لما يعلو وجوههم من الكآبة، ويلحقها من الهم والحزن، ويظهر عليها من آثار الجهل بالله عز وجل في هذا اليوم العصيب.

والظاهر أن الرؤية بصرية؛ لأن ذلك أبلغ في التشهير بهم وبيان قبح حالهم، والخطاب للرسول، أو لكل من تتأتى منه الرؤية {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: أن في جهنم مقرًّا ومقامًا للمتكبرين الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها، والانقياد لها.

61 -

{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} :

أي: وينجي لله الذين جعلوا لهم وقاية من عذاب الله بالتوحيد وفعل الطاعات - ينجيهم - بمفازتهم من العذاب لاختيارهم الهدى على الضلال {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أي: لا ينالهم من أذى جهنم شيءٌ، وهذا وما بعده بيان للمفازة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هم آمنون من كل فزع، ناجون من كل شر، نائلون كل خير، أو المعنى: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من متاع الدنيا أو ذهاب نعيم كانوا يؤملونه في الآخرة.

والمفازة مَفْعَلَةٌ من الفوز مصدر ميمي، أو اسم مكان من فاز به: ظفر، أو من فاز منه: نجا.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له: لا تُرَعْ فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنى به، فإذا كثر ذلك عليه قال: فما أحسنك فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعنَّ عنك فهي التي قال الله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ذكره القرطبي.

ص: 590

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}

المفردات:

{مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مفاتيحها، وهو كناية عن ملكه لهما وتصرفه فيهما.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : القرآن أو حجج الله وبراهينه.

{لَئِنْ أَشْرَكْتَ} أي: على سبيل الفرض.

{لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} : ليبطلن وليفسدن.

التفسير

62 -

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} :

الله خالق كل شيءٍ من خير وشر وإيمان وكفر، لكن لا بالجبر، بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما. فالآية رادة على المعتزلة (1) ردًّا ظاهرًا {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يتولى التصرف

(1) فإنهم يقولون: إن العبد يخلق أفعاله الاختيارية بقوة أودعها الله فيه، مستندين إلى نحو قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقوله:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} . وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ولذا يكون الثواب والعقاب على عمل العبد الذي كسبه باختياره، وخلقه بإرادته مستعملا القوة الربانية التي أودعها الله فيه صالحة للخير والشر، فأحسن استعمالها في الخير وأساء استعمالها في الشر.

ص: 591

فيهما كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة، ولك أن تقول: إنه - تعالى - يتولى حفظ كل شيءٍ خلقه، فيكون ذلك إشارة إلى احتياج الأشياء إليه - تعالى - في بقائها، كما أنها محتاجة إليه عز وجل في وجودها؛ فهو ربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره، وقهره وكلاءته.

63 -

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مفاتيحها كما قال ابن عباس، والحسن، وقتادة وغيرهم و (مَقَالِيدُ) قيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع مقليد أو مقلاد، أي: مفتاح.

ومقاليد السموات والأرض مجاز عن كونه مالك أمرهما ومتصرفًا فيهما لعلاقة اللزوم، أو كناية عن القدرة والحفظ، قال البيضاوى: كناية عن قدرته - تعالى - وحفظه لها، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والقهر لمكان اللام والتقديم، ولم يقل: ويهلك الذين كفروا بخسرانهم كما قال سبحانه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ

} الآية للإشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله - تعالى - فلذا جعل نجاتهم مسندة إليه - تعالى - حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال، بخلاف هلاك الكفرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال. ولذا لم يسند له - تعالى - على طريقة القرآن من إسناد الخير لله؛ لأنه أصل كل خير، ومنبع كل فضل، وإسناد الشر للناس بما كسبت أيديهم.

64 -

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} :

أي: أبعد هذه الآيات الواضحات القاضية بعبادته - تعالى - وحده، تأمروننى أن أعبد غير الله - تعالى - فقد قالوا له صلى الله عليه وسلم: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وذلك لفرط جهالتهم، ولذا نودوا بعنوان الجهل.

ص: 592

65 -

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

ولقد أُوحِيَ إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لئن أشركت بالله شيئًا على سبيل الفرض ليحبطن عملك ويبطلن ويفسدن ولتكونن من الخاسرين.

وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} على التوحيد مع أن الموحى إليهم جماعة؛ لأنه على تأويل أُوحى إليك وإلى كل واحد من الرسل قبلك {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ

} الآية.

وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} عبر بهذا الكلام مع علمه - تعالى - بأن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؛ لأنه كلام على سبيل الفرض لبيان شناعة الشرك بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه.

ومذهب الشافعي: أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت، وترك التقييد هنا اعتمادًا على التصريح به في قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1). ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بسبب حبوط العمل.

66 -

{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت فاعلًا فاعبد الله وأخلص له العبادة وحده لا شريك له، وكن من الشاكرين إنعام الله عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر، ومنه أن جعلك سيد ولد آدم، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أُمته، فأمره بعبادة الله وشكره - تعالى - وحده أمر لأُمته تبعا له.

(1) سورة البقرة من الآية رقم: 217.

ص: 593

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}

المفردات:

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حين أشركوا به غيره.

{قَبْضَتُهُ} القَبْضَةُ: المرَّةُ من القبض، وتطلق على المقدار المقبوض، كالقُبْضَةِ بضم القاف أي: أنها ملكه وفي مقدوره.

{مَطْوِيَّاتٌ} : مجموعات.

{بِيَمِينِهِ} : بقدرته.

التفسير

67 -

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه والقادر على كل شيءٍ، والمالك لكل شيءٍ، وكل شيءٍ تحت قبضته وقدرته.

ويقول الزمخشرى في كتابه (الكشاف) في معنى هذه الآية وهو يمثل رأى الخلف: "لما كان العظيم إذا عرفه الإنسان حق معرفته، وقدره في نفسه حق قدره، وعظمه حق تعظيمه، قيل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} على معنى وما عظموه حق تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل والتمثيل فقال:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} والغرض من هذا الكلام إذا

ص: 594

أخذته كما هو بجملته وموضوعه تصوير عظمته لا غير، وكذلك حكم ما يروي مثل ذلك من الأحاديث .. ثم قال: والخلاصة هي الدلالة على القوة الباهرة: وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكنهها الأوهام هيئة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى - الوقوف عليه إلَّا إجراء العبادة في مثل هذه الطريقة من التخييل والتمثيل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله - تعالى - في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} المراد بالأرض: الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان قوله: {جَمِيعًا} ، وقوله:{وَالسَّمَاوَاتُ} ، ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم فهو مقتض للمبالغة.

{قَبْضَتُهُ} القبضة: المرة من القبض، والقبضة - بالضم - المقدار المقبوض بالكف، ويقال - أيضًا -: أعطنى قَبْضَةً من كذا، يريد معنى (القُبْضَة) تسمية بالمصدر، وكلا المعنيين محتمل، والمعنى: أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلَاّ قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضةً بكف واحدة (1)، وإذا أريد معنى القُبْضة - بضم القاف - فظاهر؛ لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} من الطى الذي هو ضد النشر، أي: مجموعات. كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} وَعَادَة طاوي السجل أن يطوي بيمينه، والمراد من قبضته ملكه بلا ممانع ولا منازع، وبيمينه بقدرته {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: ما أبرأ من هذه قدرته وعظمتُه ومما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء، فسبحان للتعجب. اهـ كشاف بتصرف (ج 3 ص 356،355).

وقال الآلوسي في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أصل القدر: اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة، قيل المعنى: وما وصفوه تعالى حق صفاته، بل وصفوه بأنه خلق الخلق عبثًا، وأنه لا يبعث الخلق؛ لأنه لا يقدر على ذلك، وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصُّور الآتي، وضمير الجمع في {وَمَا قَدَرُوا} لكفار قريش كما روى عن ابن عباس، وقيل: الضمير لليهود فقد تكلموا في صفات الله وجلاله فألحدوا وجسَّموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت الآية ردًّا عليهم.

(1) هذا إذا أريد بلفظ قبضة - بفتح القاف - المعنى المصدري.

ص: 595

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} المفردات:

{الصُّورِ} لغة: البوق، والمراد به القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وهو من عالم الغيب لا يعلم كنهه إلَاّ الله.

{فَصَعِقَ} : مات.

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} : أضاءت.

{بِنُورِ رَبِّهَا} : نوره سبحانه حين يتجلى لفصل القضاء، وقيل: بما يقيمه في الأرض من الحق والعدل.

{الْكِتَابُ} : صحائف الأعمال.

{بِالْحَقِّ} : بالعدل.

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي: أعطيت جزاء ذلك كاملًا.

التفسير

68 -

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} :

يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن شدائد يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات

ص: 596

العظيمة والأهوال الجسيمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي نفخة الصعق، والمشهور أن النافخ فيه ملك واحد، وأنه إسرافيل، بل حكى القرطبي الإجماع على ذلك، وهذه النفخة هي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلَاّ من شاء الله، قال الإمام الآلوسي: لم يرد في تعيين المستثنى - إلَاّ من شاء الله - خبر صحيح. انتهى.

ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولًا وهو الباقي آخرًا بالديمومة والبقاء، ويقول:{لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ (1) ثم يجيب نفسه فيقول: {لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء وحكمت بالفناء على كل شيء، ثم يحيى أول من يحيى إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة أُخرى، وهي نفخة البعث، قال تعالى:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي: فإذا هم قائمون من قبورهم أحياء بعد أن كانوا عظامًا ورفاتًا ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، وقيل: ينظرون، أي: ينتظرون ما يؤمرون به أو ينظرون ماذا يفعل بهم. قال - جل شأنه -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (3).

69 -

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: أضاءت الأرض بنور خالقها ومالكها، والمراد بالأرض: أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة، وذلك يوم القيامة إذا تجلى الحق جل جلاله لفصل القضاء، وعن الحسن والسدى: تفسير نور الرب بالعدل وهو من باب الاستعارة، وقد استعير لذلك بالقرآن في مواضع متعددة منه، أي: وأشرقت الأرض بما يقيمه ربها فيها من الحق والعدل ويبسطه - سبحانه - من القسطاس في الحساب، ووزن الحسنات والسيئات، واختار الزمخشرى هذا الرأى وحقق "أَوَّلًا" تلك الاستعارة. بتكررها في القرآن العظيم، وحققها ثانيًا، بإضافة النور إلى اسمه - تعالى - لأنه - سبحانه -

(1، 2) سورة غافر من الآية: 16.

(3)

سورة الروم الآية: 25.

ص: 597

الحق العدل، "وعيَّنها ثالثًا" بإضافة اسمه - تعالى - (رَبٌّ) إلى الأرض "ربها" لأن العدل هو الذي تزين به الأرض، "ورابعًا" بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجئ بالنبيبين والشهداء والقضاء بالحق؛ لأنه كله تفصيل الحق، "وأيدها خامسًا" بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، "وسادسًا" بقوله صلى الله عليه وسلم:"الظلم ظلمات يوم القيامة" فإنه يقتضي أن يكون العدل نورًا، "وسابعًا" بأنه ختم الآية بنفي الظلم.

وقال الآلوسي: ولعل الأوفق ما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} إشارة إلى تجليه عز وجل على خلقه يوم القيامة لفصل القضاء، وقد يعبر عنه بالإتيان، وقد صرح به في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1). ولا يبعد أن يكون هذا النور الوارد في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام يخفض قِسْطَهُ ويرفعه، ويُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور". {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: وضعت صحائف الأعمال بأيدى الملائكة للحساب، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} لِيُسألوا هل بلغوا أممهم، وقيل: ليحضروا حسابهم، {وَالشُّهَدَاءِ} أي: جميع الشهداء من الملائكة. وأمة محمَّد والجوارح والمكان.

وأيًّا ما كان فالشهداء جمع شاهد {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: وقضى بين العباد بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب أو زيادة عقاب، على ما جرى به وعده - تعالى - لعباده، على أن الظلم لا يتصور في حقه تعالى، فإن الأمر كله له عز وجل وهو أحكم الحاكمين قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا (2)

} الآية.

70 -

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} :

أي: وأعطيت كل نفس جزاء عملها من خير أو شر كاملًا غير منقوص، وهو - سبحانه - أعلم بفعلهم فلا يفوته شيءٌ من أعمالهم.

(1) سورة البقرة من الآية: 210.

(2)

سورة الأنبياء من الآية: 47.

ص: 598

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}

المفردات:

{زُمَرًا} : جماعات متفرقة متتابعة.

{حَقَّتْ} : وجبت وثبتت.

{مَثْوًى} : مأوى ومسكن.

التفسير

71 -

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} :

بدأت الآية الكريمة تفصيل توفية كل نفس ما عملت بيانًا لكيفيتها، ويخبر الله فيها عن حال الكفار وكيف يساقون إلى النار، والسُّوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج، وهو الغالب، ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا، أي: سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجًا متفرقة متتابعة بعضها في أثَر بعض مرتبة حسب ترتيب طبقاتهم في الضلال والكفر والفساد: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ليدخلوها، وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة، فهي كسائر أبواب السجون، لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها،

ص: 599

فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي: وقال لهم حراسها وزبانيتها الغلاظ الشداد على سبيل التقريع والتوبيخ والتنكيل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ؟ سفراء عن الله من نوعكم تفهمون ما ينبئونكم به، ويسهل عليكم مراجعتهم والأخذ عنهم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} أي: يقرءون عليكم آيات ربكم المنزلة لمصلحتكم في القرآن وغيره، ويقيمون عليكم الحجج والبراهين الدالة على صحة ما دعوكم إليه وأمروكم به ونهوكم عنه {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ويخوفونكم ويحذرونكم لقاء عذاب يومكم هذا، وهو وقت دخولكم النار؛ لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته.

وقد شاع استعمال اليوم والأيام في أوقات الشدة والمحنة، وقيل: المراد يه يوم القيامة لاشتماله على هذا الوقت.

واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع؛ لأنهم وبّخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم، ولو كان قبح الكفر معلومًا بالعقل دون الشرع لقيل: ألم تعلموا بما أودع الله فيكم من العقل قبح كفركم، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المسندة إليها عن ذلك.

ولمن قال بوجوب الإيمان عقلًا أن يقول: إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ؛ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والأنكار، ولأن معرفة الله تجب أولًا بالعقل، ثم يتلوها الإيمان برسله {قَالُوا بَلَى} أي: قال الكافرون مقرين معترفين: قد أتانا رسل ربنا، وتلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: وجبت وثبتت كلمة الله - تعالى - المقتضية للعذاب على الكافرين. وهذا الكلام منهم اعتراف لا اعتذار، والمراد بكلمة العذاب: كلام الله الذي حكم عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم، أو قوله تعالى لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (1). ووضع الكافرين موضع ضميرهم للايماء إلى عِلِّيَّة استحقاقهم العذاب، والزُّمَر جمع زمرة وهي الجماعة كما تقدم في المفردات.

72 -

{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} :

أي: قيل لهم يوم القيامة: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، أي: ماكثين فيها لا خروج

(1) سورة ص من الآية: 85.

ص: 600

لكم منها ولا زوال لكم عنها، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة، وترك ذكرهم للعلم بهم ممَّا قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم، ولم يذكر، لأن المقصود ذكر هذا القول الذي يبعث في النفوس الخوف والرعب من غير نظر إلى قائله، وقال بعض الأجلة: أبهم القائل لتهويل المقول {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: قَبُحَ وساء مكان الكافرين جهنم لتكبرهم، وفي التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين لهم - عليهم الصلاة والسلام - وهو في معنى التعليل بالكفر، لأنه سبب كفرهم، ولا ينافى التعليل قبل ذلك بثبوت كلمة العذاب عليهم؛ لأن حكمه وقضاءه عليهم بدخول النار بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له - سبحانه - في الأزل، وكذا قوله عز وجل: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ

الآية}. فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافى التعليل بآخر.

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)}

المفردات:

{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : أمان عظيم عليكم.

{طِبْتُمْ} : طهرتم من دنس المعاصي وطاب مثواكم.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : كُلُّ الثناء لله وحده.

{صَدَقَنَا وَعْدَهُ} : حققه بالبعث والجنة.

{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} : ملَّكنا أرض الجنة.

ص: 601

التفسير

73 -

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} :

هذا إخبار من الله عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون بلطف وتكريم إلى الجنة زمرًا، أي: جماعة بعد جماعة متتابعة، المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أمثالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف يناسبه.

والمراد بالسوق هنا: الحث على السير بالإسراع إلى الإكرام، بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام، كما أنه للمشاكلة أيضًا.

وقوله - سبحانه -: {إِلَى الْجَنَّةِ} يدفع إيهام الإهانة، على أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله أحب الله لقاءهم، فلذا حثوا على دخول دار الكرامة.

واختار الزمخشرى أن المراد بسوقهم سوق مراكبهم؛ لأنهم لا يذهب بهم إلَاّ راكبين، وتعقب بأن كون جميع المتقين لا يذهب بهم إلَاّ راكبين يحتاج إلى دليل، بل ورد العكس، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويركب أخرى وتَسْفَعُهُ النار مرة (1) فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله - تعالى شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: أي رب أَدْنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، فأشرب من مائها، فيقول الله تعالى: يا بن آدم لعلى إن أعطيتكها سألتنى غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أَلَاّ يسأَله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه). اهـ: آلوسى.

{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} حتى إذا بلغوها وقد فتحت لهم أبوابها كما قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (2). ويدل ذلك على تقديم الفتح، كأَن

(1) أي: تلفحه وتصيبه إصابة يسيرة إذا مر بها.

(2)

سورة ص الآية: 50.

ص: 602

حراس الجنة فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم، كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أي: قال لهم حفظتها وحراسها: أمان عظيم عليكم طهرتم في الدنيا من فعل المعاصي وكرمتم في الآخرة بما نلتم من النعيم والكرامة، وقوله تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} عطف على فتحت أبوابها وجواب إذا مقدر أي: حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب وتلقى الملائكة لهم بالسلام - حتى إذا كان هذا - سعدوا وفرحوا بقدر ما يلقون من نعيم وإكرام، وإذا حذف الجواب في مقام التكريم والإنعام ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل.

واستدل المعتزلة بقوله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي، على أن أحدًا لا يدخل الجنة إلَاّ وهو طيب طاهر من المعاصي، إما لأَنه لم يفعل شيئًا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا، أما من لم يتب عن معاصيه فلاحظ له في دخولها.

ورد بأنه وإن دل على أن أحدًا لا يدخلها إلَاّ وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة، وقد يكون بالعفو عن أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة.

74 -

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} :

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} عطف على: {قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أو على الجواب المقدر أي: دخلوها، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} .

والمعنى: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يفولون عند ذلك: الثناء لله وحده الذي حقق لنا ما سبق إن وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أرض الجنة التي أقاموا فيها واتخذوها مقرًّا ومتبوأ، وإيراثُها تمليكها وتمكينهم من التمتع فيها تمكين الوارث فيما يرثه، وقيل: ورثوها من أهل النار، فإن كل منهم مكانًا في الجنة كتب له بشرط الإيمان، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء}

ص: 603

أي: ينزل ويسكن كلٌّ منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} من كلام الداخلين عند الأكثر، والمخصوص بالمدح مقدر، أي: فنعم أجر العاملين هذا الأَجر أو الجنة، ولم يقولوا: فنعم أجرنا، بل قالوا: فنعم أجر العاملين للتعريض بأَهل النار أنهم غير عاملين، وقال مقاتل: هو من كلام الله، أي: قال الله: فنعم أجر العاملين هذا الأجر العظيم الذي نلتموه.

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}

المفردات:

{حَافِّينَ} : محيطين محدقين.

{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} : فصل بين الخلائق بالعدل.

التفسير

75 -

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

لما ذكر الله حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه أنزل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد محيطون به من كل جانب، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ، ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل في قضايا الخلق وقضى الأمر وحكم بالعدل، ولهذا قال عز وجل:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: حكم بين الخلائق بالعمل، ثم قال:{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: نطق الكون جميعه: الحمد لله رب العالمين الذي عدل في

ص: 604

حكمه، قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) واختتم بالحمد في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

قيل: إنهم يحمدونه إظهارًا للرضا والتسليم، وقال ابن عطية: هذا الحمد خَتْمٌ للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء، أي: إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد الله عند تمام حكمه وكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خاتمة المجلس في العلم.

(1) سورة الأنعام الآية: 1.

ص: 605