المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأي الكلاميين في كيفية البعث - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

ومعنى الآية: والله وحده هو الذي أرسل الرياح لتحمل بُخار الماء إلى حيث يتكون سحابًا فتثيره وتفرقه، ويسوقه الله إلى بلد أرضه يابسة لا نبات فيها، فتحيى به الأرض بعد يبسها، كذلك بعث الناس من قبورهم يوم القيامة في السهولة واليسر.

قال أبو حيان: وقع التشبيه (1) بجهات، كما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاءُ تقبل الحياة، أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب، كذلك يجمع الله - تعالى - أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى، أو كما يسوق - سبحانه - السحاب إلى البلد الميت، يسوق عز وجل الروح والحياة إلى البدن: أهـ.

وجاء بالمعنى الأخير حديث أبي رُزَين قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك أي خلقه؟ قال: يا أبا رُزَين؛ أما مررت بوادي قومك مَحْلًا (2)، ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته في خلقه (3).

‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

اختلف علماء الكلام (علماءُ علم التوحيد) في طريقة إعادة الجسم، فقال بعضهم: إنها تكون بإعادة أجزاء المبعوث المتفرقة وضمها بعضها إلى بعض، وقال آخرون: إن الإعادة عن عدم، وقد اعترض على هذا الرأى، بأنها إذا كانت عن عدم، فهذا يؤدى إلى أن يكون البعث إيجادًا لشخص جديد لم يكلف في الدنيا، فكيف يثاب ثواب الأول أو يعاقب عقابه، وقد أجاب أصحاب هذا الرأى بأن الثواب والعقاب للروح، والجسد بدونها لا يحس بعقاب ولا بثواب.

(1) أي: تشبيه النشور.

(2)

أي: جدبا لا نبات فيه.

(3)

ابن كثير، والقرطبي.

ص: 305

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

المفردات:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} : يريد الشرف والمنعة.

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} : إلى الله يصعد الكلام الطيب من التوحيد، والذكر والدعوة إلى الحق، وقراءة الكتاب، والسنة، والمراد من صعوده قبوله.

{وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي: أن العمل الصالح يرفع قدر الكلم الطيب عند الله تعالى.

{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} : ومكر أهل السيئات يهلك ولا ينفذ.

ص: 306

{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أي: زَوّج بعضكم ببعض.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} : وما يطول عمر أحد حتى يصير معمرًا.

{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} : ولا ينقص من عمر أحدٍ غيره، بأن يعطى عمرًا ناقصًا عنه.

{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} : هذا عذب شديد العذوبة.

{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} : وهذا مالح شديد الملوحة يحرق بملوحته.

{وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} : كاللؤلؤ والمرجان.

{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} : الفلك تطلق علي السفينة الواحدة، وعلى أكثرُ منها، والمراد هنا السفن، ومعنى مواخر: جاريات تشق الماء بجريها.

التفسير

10 -

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} :

كان الكفار يتعزِّزون بالأصنام، كما قال - تعالى -:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} (1) والمنافقون يتعززون بالمشركين، كما قال - سبحانه -:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (2) فأنزل الله - تعالى - هذه الآية تخطئة لهؤلاء وأولئك، وبيانًا لأن العزة من الله لمن أطاعه، فهو الذي تطلب منه العزة بطاعته.

والصعود هو التحرك إلى أعلى، وهو لا يكون في الكلام على الحقيقة، فهو مجاز عن قبوله، والمقصود من قوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ

} قريش، حيث اجتمعوا في دار الندوة ليمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قوله - تعالى - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (3).

(1) سورة مريم: 81.

(2)

سورة النساء: 139.

(3)

سورة الأنفال، آية:30.

ص: 307

ومعنى الآية: من كان يريد الشرف الرفيع والمنعة، فليطلبها من الله بطاعته، فلله العزة جميعًا يهبها لمن يشاءُ، إليه يرتفع الكلام الطيب من التوحيد وقراءة القرآن، والأحاديث النبوية والذكر والشكر والدعوة إلى الحق ونحوها، والعمل الصالح يرفع قدر هذا الكلام الطيب عند الله - تعالى - بحيث يكون له من الأجر أعظم مما لو تجرد عن العمل الصالح، ويصح أن يعود الضمير المستتر إلى الله - تعالى - ويعود الضمير الظاهر إلى العمل، والتقدير: والعمل الصالح يرفع الله إياه ويتقبله كما صعد إليه الكلام الطيب وتقبله.

والذين يمكرون المنكرات السيئات من قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة، ومكر أولئك هو يفسد ولا يتحقق {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والآية وإن تنزلت في مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم فحكمها شامل لهم ولغيرهم، كما قال - تعالى -:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (1).

11 -

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} :

تضمنت هذه الآية أن الله - تعالى - خلق جميع البشر من تراب، وذلك إمَّا باعتبار أبيهم آدم، فقد خلقه الله من تراب، وإمّا لأنهم خلقوا من النطفة التي ترجع إلى الأغذية، والاغذية نشأَت من تراب، فهم مخلوقون جميعًا من تراب لهذا أو لذاك.

والمقصود من النطفة ماءُ الرجل الذي فيه الحيوانات المنوية وماءُ المرأة الذي فيه البويضة، وقد مرَّ بيان ذلك مستوفى في تفسير قوله - تعالى -:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} (2) فارجع إليها إن شئت.

وهذه الآية تشير إلى دليل آخر من أدلة البعث غير ما تقدم والمقصود من قوله - تعالى -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} : وما يمد في عمر أحد حتى يصير معمرًا، فسماه معمرًا باعتبار

(1) سورة فاطر: 43.

(2)

الآية: 5 من سورة الحج.

ص: 308

ما يؤول إليه، والمقصود من قوله:{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ولا ينقص من عمر أحد آخر غير المعمر، كما تقول: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر غير الدرهم الأول، وهذا هو المعروف في علوم البلاغة (بالاستخدام) وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر.

ومعنى الآية: والله خلقكم يا بني آدم من تراب ضمن خلق أبيكم آدم منه؛ أو لأنكم خلقتم من الأغذية التي منشؤُها التراب، ثم خلقكم من نُطَف أبويكم ذكرانا وإناثا ثم جعلكم أزواجًا - يتزوج الذكر منكم الأنثى - ليبقى النوع الإنساني إلى انقضاء الدنيا، وما تحمل من أنثى بعد مباشرة الزوج لها إلَاّ بعلم الله وتدبيره، وما يعطى أحد عمرا طويلًا يصير به معمرًا وما ينقص من عمر غيره، بأن يعطى عمرًا ناقصًا عن هذا المعمر إلَّا ثابتا في كتاب (1) إن ذلك على الله سهل يسير، فكذلك البعث والنشور.

ولابن عباس في تفسير الآية رأى غير ما تقدم يرويه عنه سعيد بن جُبير، وهو أن المعنى:"وما يعمر من معمر إلَاّ كتب عمره كم هو سنة، كم هو شهرًا، كم هو يومًا، كم هو ساعة، ثم يكتب تحته، أو في كتاب آخر، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقصت سنة، حتى يستوفى أجله، فما مضى من عمره فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره" وقد شارك ابن عباس في رأيه هذا ابن جُبير وأبو مالك وحسان بن عطية والسُّدِّي، كما ذكره الآلوسي، وابن كثير ..

ولكن جعل الآية شاملة لطويل العمر وقصيره أولى من قصرها على المعمر فقط، فإن كليهما مكتوب عند الله - تعالى -.

12 -

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

(1) والمراد به: علم الله، أو اللوح المحفوظ، أو صحف الملائكة.

ص: 309

ينبهنا الله بهذه الآية إلى أنه - تعالى - مع قدرته على خلق الأشياء المتباينة طبعًا فهو قادر علي أن يجعلها مشتركة في بعض المنافع، وأن يجعل بعضها منفردًا ببعض آخر منها، والبحر في اللغة: الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا، فكل ماء مستبحر في المحيطات والبحار والبحيرات والخلجان والأنهار صغيرها وكبيرها يسمى بحرًا، والاشتراك بين الملح والعذب في هذه التسمية واضح من النص الكريم، وقد بين الله في هذه الآية أن البحرين العذب والملح نأكل منهما لحمًا طريا هو السمك بمختلف أنواعه وأحجامه، والتعبير عنه باللحم الطري للإشارة إلى لطافته وسهولة مضغه لضعف أليافه، وأنه يكاد يكون لحمًا خالصًا لقلة العظم فيه بالنسبة إلى سائر الحيوان، كما أشار بالأكل منهما إلى المسارعة في أكله قبل أن يفسد.

كما ذكر أننا نستخرج من كليهما حلية نلبسها، كاللؤلؤ والمرجان، ولكن المعروف أن ذلك لا يستخرج إلا من الملح دون العذب.

وقد أجاب النحاس عن ذلك: بأن الله جمع البحرين في اللحم الطري وأفرد أحدهما في الحلية وهو الملح، كما في قوله - تعالى -:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} والسكون في الليل، والابتغاء من فضله في النهار، وقال غير: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما، لأن في البحر الملح عيونًا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج، وقيل: من مطر السماء (1).

على أن الحلية ليس بلازم أن تكون من اللؤلؤ والمرجان، فأي مانع من اتخاذ حلية من عظام السمك الضخم في المياه العذبة الفسيحة الأطراف، كالبحيرات الاستوائية، ولهذا قال بعض قدامى العلماء: لا يبعد أن تكون الحلية من الماء العذب عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر، فتحمل ويتحلى بها.

وجاء في التفسر المنتخب للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية أن العلم أثبت وجود الحلية في الماء العذب، كما أثبته الواقع، ففي المياه العذبة بإنجلترا واسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان وغيرها توجد أنواع من أصداف اللؤلؤ من الماس والياقوت، إلى غير ذلك، فارجع إلى تعليقه في الهامش على هذه الآية؛ فإنه نفيس.

(1) انظر القرطبي.

ص: 310

ومعنى الآية: وما يستوي البحران في صفاتهما وفي منافعهما، هذا عذب شديد العذوبة سهل التناول لخلوه مما تعافه النفس، وهذا ملح شديد الملوحة لذاع لا يستساغ تناوله، ومع تباينهما في الصفة، فإنكم تأكلون من كل منهما سمكا طرى الألياف، وتستخرجون حلية تتحلون بلبسها، وترى الفلك على اختلاف أحجامها تشق ماءه وهي تجرى بكم فيه؛ لتطلبوا من فضل الله ورزقه متنقلين فيها من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ولتشكروه - تعالى - بأن تعرفوه وتعرفوا حقوقه فتؤدوها كما أمركم بها.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}

المفردات:

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} : يدخله فيه فينقص الليل ويزيد النهار.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : ذللهما وأجراهما خاضعين لمشيئته.

{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : لوقت معين، وسيأتي شرحه.

{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} : القطمير: لفافة النواة.

التفسير

13 -

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} :

ص: 311

يدخل الله - تعالى - الليل في النهار فيزيد النهار وينقص الليل، وذلك في فصلي الربيع والصيف، ويدخل النهار في الليل، فيزيد الليل وينقص النهار، وذلك في فصلي الخريف والشتاء، وأجرى الشمس والقمر خاضعين لمشيئته، كل منهما يجري في فلكه، ويرسل نوره لأجل سماه الله، وهو يوم القيامة، أو هو مدة الدورة في كليهما، فدورة القمر تستغرق شهرًا قمريًا، ودورة الشمس تستغرق سنة شمسية، ثم يعود كلاهما لابتداء دورة جديدة، ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذا النظام هو الله ربكم له وحده الملك كله، لا شريك له فيه، والذين تدعونهم آلهة غيره من الأصنام ما يملكون قشرة نواة.

14 -

{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} : إن تدعوهم يا عابديهم لتفريج كرب أو قضاء حاجة لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات، ولو سمعوا علي سبيل الفرض والتقدير ما حققوا دعاءكم لعدم قدرتهم على النفع والضر، ويوم القيامة يتبرأون من إشراككم بألسنة مقالهم يخلقها الله لهم، أو بألسنة حالهم قائلين: ما نحن آلهة وما أمرناكم بعبادتنا، وما كنتم إيانا تعبدون وإنما كنتم تعبدون هواكم.

ويحتمل أن تكون الآية عامة لمن عبد الأصنام والملائكة والبشر كعيسى عليه السلام وعدم سماع الملائكة وعيسى لهم؛ لأنهم في شغل عنهم بها هم فيه، أو لأن التي صان أسماعهم عن ذلك الدعاء لقبحه، ولو سمعوا ما استجابوا لهم.

* {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}

المفردات:

{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} أي: المحتاجون إليه.

{هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: المستغنى عما سواه بالذات، المحمود بكل لسان.

ص: 312

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} : بأن يفنيكم، ويستبدل بكم غيركم.

{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي: وما ذلك بصعب أو ممتنع علي الله.

15 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} :

والمعنى: يا أيها الناس أنتم المحتاجون في أنفسكم إيجادا وإبقاءً، وفي حركاتكم وسكناتكم وفيما يَعنّ لكم من أموركم، أو خطب يُلِمُّ بكم، وهو - سبحانه - الغني بالذات عما سواه المحمود بكل لسان، لفيضِ إنعامه عليكم بعد فقركم إليه.

وفي توجيه الخطاب لجميع الناس تغليب للحاضرين منهم على الغائبين.

16 -

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} :

أي: إن يشأ يذهبكم - أيها العصاة - بإفنائكم وإبدالكم بخلق أطوع منكم وأزكى، ليسوا على طبيعتكم، بل مستمرون على طاعته وتوحيده، أو بأن يأتي بعالم غيركم لا تعرفونه، فإن غناه في الأزل بذاته لا بكم.

وتفسير "الجديد" بما ذكر مروى عن ابن عباس، وجملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} تقرير وتأكيد لاستغنانه - عن رجل - عنهم.

17 -

{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} :

المعنى: أن إذهابهم والإتيان بخلق جديد ليس علي الله بصعب أو متعذر، فهو - سبحانه - القادر المتصرف إذا أراد شيئًا قال: كن، فيكون.

ص: 313

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}

المفردات:

{وَلَا تَزِرُ} أي: ولا تحمل، والوزر: الإثم والثِّقْل، يقال: وزر يزر من باب وعد، إذا حمل الإثم أو الثِّقل.

{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} أي: وإن تدع نفس أثقلها الإثم إلى حِملها - بكسر الحاء - وهو في الأصل ما يحمل على الظهر ثم استعير للمعاني نحو: الذنوب والآثام.

والجمع أحمال وحمول، وهو من باب ضرب.

{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي: ومن يصلح حاله فإن ثمرة صلاحه تعود إليه، يقال: زكا يزكو إذا صلح، وزكيته بالتثقيل: نسبته إلى الزكاة وهي الصلاح والطهر.

{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب.

التفسير

18 -

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ

}:

روى أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين: اكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليَّ وِزْركم، فنزلت.

ص: 314

والمعنى: ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى يوم القيامة، بل كل نفس تحمل إثمها الذي اقترفته، فلا تؤاخذ نفس بما لا تقترفه كما يفعل جبابرة الدنيا من أحذ الجار بجاره، والمولى بوليه.

وأما قوله - تعالى -: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} فهو وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله من أوزارهم فليس فيه شىءٌ من أوزار غيرهم، والمراد بأثقالهم: ما كان بمباشرتهم، وبما معها: ما كان بسببهم.

والمعنى: وإن تدع نفس مثقلة بحملها من الذنوب إنسانًا ليتحمل عنها بعض أوزارها لم تُجب يحمل شيء منه، ولو كان المدعو ذا قربى من الداعي كأب أو ولد أو أخ، إذ كل مشغول بنفسه كما قال - تعالى -:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (1).

وروى عن عكرمة: أن الرجل يأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول له: ألم أكن بك بارًّا، وعليك مشفقًا، وإليك محسنًا، وأنت ترى ما أنا فيه؟ فهب لي حسنة من حسناتك، أو تحمل عني سيئة. فيقول: إن الذي سألتني يسير ولكنى أخاف مما تخاف منه، وإن الأب يقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحوا من هذا، ثم تلا عكرمة:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .

وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تَلْقَى ولدها فتقول: يا ولدى، ألم يكن بطنى لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ ألم يكن حجرى لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بني، قد أثقلتنى ذنوب فاحمل عني منها ذنبًا واحدا، فيقول: إليك عني يا أماه فإني بذني عنك مشغول.

{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} استئناف مسوق لبيان من يتعظ بها ذكر، أي: إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الذين يخشون ربهم غائبين

(1) سورة عبس، الآيات: 34، 35، 36، 37.

ص: 315

عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، وأقاموا الصلاة بأركانها وشروطها، بقلوب واعية، وأفئدة ذاكرة، فإنما ينتفع بإنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل الكفر والعناد، فلا تحزن على إعراضهم عنك وصدهم غيرهم عن دعوتك.

{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي: ومن تطهير من الأوزار والمعاصي بالإيمان والتوبة والعمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لاقتصار نفع عمله عليها، كما أن من تدنس بالمعاصي والإعراض عن دعوة الرسول لا يتدنس إلا عليها.

وهذه الجملة فيها حث على تطهير النفس وتزكيتها.

{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: وإلى الله المرجع والمآب لا إلى غيره، وهو وعد للطائع بحسن العاقبة، ووعيد للعاصي بسوء الخاتمة.

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}

المفردات:

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : مثل للكافر والمؤمن. {ولَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} : مثل للباطل والحق. {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} : مثل للثواب والعقاب، والحرور: الريح الحارة كالسموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، نقل ذلك عن الفراء، وقال الأخفش: الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل.

ص: 316

19 -

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : عطف على قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} ،

والأعمى والبصير: مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدى وغيرهما، أي: لا يستوي الكافر الذي يماثل الأعمى في عدم الاهتداء إلى الطريق الموصلة للغاية، لا يستوي مع المؤمن الذي يماثل البصير، في أنه يضع الأمور في نصابها، ويرى الضار والنافع، ولا تلتبس عليه السبل، ولا تخفى عليه المقاصد والغايات، فيهتدى إلى خالقه ولا يشرك به غيره.

وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف، إشارة إلى أن الكافر موجود قبل البعثة والدعوة إلي الإيمان، فالاستبصار يأتي بعد ضده.

20 -

{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} :

أي: ولا يستوى الباطل المشبه للظلمات، ولا الحق المماثل للنور، إذ الظلمات تدعو إلى الحيرة شأن الباطل، والنور يهدى إلى الطريق القويم، شأن الحق.

وجمع الظلمات مع إفراد النور، لتعدد فنون الباطل، مع اتحاد سبل الحق، وقدمت الظلمات على النور؛ لأنها عدم والنور وجود، والعدم مقدم على الوجود.

21 -

{وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} :

أي: ولا يستوى الثواب المشبه للظل في أنه داع إلى الراحة والنعيم، مع العقاب الذي يماثل الحرور، وهي الريح الحارة، وهي ريح تلفح الوجوه وتكاد تمسك الأنفاس.

وتكرير لفظ {لَا} .. بين المتقابلين للتأكيد.

22 -

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} :

تمثيل للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة بالأحياء، وللكافرين الذين استكبروا وأصروا علي كفرهم بالأموات.

ص: 317

{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يسمع من يشاءُ من أوليائه الذين خلقهم لجنته سماع تدبر وقبول لآياته.

{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: إنك لا تسمع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، وأبطل حواسهم فأَصبحوا كالأَموات، وكما أَنك لا تسمع الأموات الذين توسدوا القبور، فكذلك لا تسمع من مات قلبه من هؤُلاءِ المشركين الذين كتبت عليهم الشقاوة والجملة ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأَموات، وإشباع في إِقناطه عليه السلام من إيمانهم، حيث علم - سبحانه - من يدخل في الإِسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدي سبحانه من يشاءُ هدايته، وأَما أَنت فخفي عليك أَمرهم، فلا تحرص على إِيمان قوم مخذولين رضوا بالباطل وأَصروا عليه.

23 -

{إِنْ أَنتَ إلَّا نَذِيرٌ} :

أي: ما أَنت إلا منذر بتبليغ رسالة ربك، فإن كان المنذر ممن أراد الله له الهداية وفق ما علم - سبحانه - عن طبيعته، وحسن اختياره، سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله، وطبع على قلبه لإِصراره على الكفر ضل وغوى، فلا تحزن عليهم، لأنه ليس عليك من أمر هدايتهم أو ضلالهم سوى التبليغ والإِنذار، وأَما الاهتداء فليس من وظائفك ولا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم لسوء اختيارهم، وخبث نفوسم.

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}

المفردات:

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: محقين بإرسالك، أَو إرسالا مصحوبا بالحق

ص: 318

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} أي: ما من أمة مضى فيها نذير من نبي أو عالم يقال: مضى يمضي مضيا: خلا.

{وَبِالزُّبُرِ} أي: الكتب: جمع زبور، فعول من الزبر بمعنى الكتابة، والزبور كتاب داود عليه السلام {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من الأَخذ: بمعنى الإِيقاع بالشخص وإنزال العقوبة به.

{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكان إنكاري عليهم شديدا بليغا.

التفسير

24 -

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} :

المعنى: إنا أرسلناك - أيها النبي - محقين بإرسالك لتكون بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق، وما من أمة من الأُمم التي وجدت في الأزمنة السابقة إلا سلف فيها نذير من نبى أَو عالم، قام بما كلف به من نذارة أَو بشارة، والاكتفاء بقوله:"نذير" للعلم بأَن النذارة قرينة البشارة، ولا سيما أنهما اقترنتا في صدر الآية.

25 -

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.

والمعنى: وإن أصر هؤلاء المكذبون من كفار قريش على تكذيبهم إيَّاك، فلا تبال بهم، ولا تعبأْ بإِعراضهم؛ لأَنه قد كذب الذين من قبلهم من الأُمم الفانية التي اتبعت هواها، وقد جاءتهم رسلهم بالمعجزات الباهرة، والآيات والبراهين البيِّنة، والشرائع الموضحة الدالة على نبوتهم، وصدق دعوتهم، كما جاءتهم الصحف الإلهية كصحف إبراهيم، وبالكتاب الذي يشع نورًا وحكمة كالتوراة والإنجيل - على إرادة التفصيل -، يعني: أَن بمعنى الرسل جاءَ بالبينات لقوم، وبعضهم جاء بالزبر لآخرين، وبعض جاءَ بالكتاب المنير لغيرهم، لا على معنى إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر، ويلاحظ أن البينات بمعنى الدلائل أو الشرائع جاءت لجميعهم.

ص: 319

26 -

{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} :

أي: ومع ما جاءهم به رسلهم من المعجزات والكتب استمروا على تكذيبهم، فأَمهلهم الله ثم عاقبهم بأَنواع العقوبة التي تركتهم أثرًا بعد عين لكفرهم {كَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} الاستفهام للتهويل والتعظيم، والمعنى: فكان إنكاري عليهم عظيمًا بليغًا استأْصلهم حتى لم تبق لهم باقية.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}

المفردات:

{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} الجدد: الطرائق المختلفة في ألوان الجبال، جمع جُدة - بضم الجيم - وهي الطريقة.

{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} : جمع غربيب، وهو الذي أَبعد في السواد، وأغرب فيه، ومنه الغراب، والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه لون الغراب: أسود غربيب، ولفظ "سود" بدل من غرابيب وليس توكيدًا؛ لأَن توكيد الكلمات لا يتقدم عليها. إهـ: قرطبي نقلًا عن القاموس.

{وَالدَّوَابّ} : جمع دابة، وهي ما دب من الحيوان، وغلب على ما يركب، ويقع على المذكر أيضًا: قاموس.

ص: 320

التفسير

27 -

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا

} الآية.

استئناف مسوق لتقرير ما أشعر به قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} من عظيم قدرته عز وجل وقال أبو حيان: هو لتقرير وحدانيته تعالى - بأدلة سماوية وأرضية إثر تقريرها بأمثال ضربها عز وجل والاستفهام للتقرير، والرؤية قلبية.

والمعنى: ألم ينته إلى علمك قدرة الله البالغة فيما ذكر، وفي خلقه الأَشياءَ المختلفة من شيءٍ واحد وهو الماء الذي أَنزله من السماءِ، فأَخرج به ثمرات مختلفًا أَلوانها من أصفر، وأحمر، وأخضر، وأبيض، أو يراد باختلاف الأَلوان اختلاف الأنواع، فيختلف كل نوع بتعدد أصنافه.

وقوله - تعالى -: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} : إما عطف على ما قبله بحسب المعنى، أَو حال، أي: وبعض الجبال ذو جدد بمعنى طرائق يخالف لون بعضها لون البعض الآخر، حيث نجد منها طريقة بيضاء، ومنها طريقة حمراءُ، ومن الجبال ما اتحد لونه، وهو الأَسود شديد السواد، وقيل: عطف على بيض فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بالجبال الملونة، والغربيب تأكيد للأسود بحسب المعنى، فيقال: أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأَغرب، وقد جاءَ في الآية على التقديم والتأْخير، أَي: سود غرابيب، كما قال الفراءُ، فيعرب بدلا كما تقدم.

وفي تلك الجبال التي تختلف أَلوانها آيات واضحة على كمال قدرة الله، وعظيم صنعه، تنزهت أسماؤه عن الشريك والنظير، وعلا علوًّا كبيرًا.

28 -

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ

} الآية.

المعنى: وبعض الناس والدواب والأَنعام مختلف ألوانه كذلك، أي: اختلافا كاختلاف الثمرات والجبال، ففيهم الأَحمر والأبيض والأسود، وقوله:"كَذلِكَ" من تمام ما قبله والوقف عليه حسن بإِجماع أهل الأَداءِ، وهذا الاختلاف في الأَلوان دليل على صانع مختار - جل شأْنه -.

ص: 321

وقوله - سبحانه -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} تكملة لقوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} بتعيين من يخشى الله عز وجل من الناس، بعد بيان اختلاف طبقاتهم، وتباين مراتبهم، أي: إنما يخشاه بالغيب العلماءُ الذين علموه بصفاته فعظموه، ومن ازداد علمًا به ازداد منه خوفًا، وأَحق الناس بخشية الله هم العلماءُ الذين عرفوا أسرار اختلاف هذه الموجودات مع أَنها من أَصل واحد، ومَنْ عِلْمُه به أَقل كان آمنا لجهله وسوء نظره فيما وراء هذه الحياة؛ لأَن مدار الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه، كما قال عليه الصلاة والسلام:"أنا أخشاكم لله وأَتْقاكم له"، وقال الربيع بن أَنس: من لم يخش الله فليس بعالم، وقال مجاهد: إنما العالم من خشى الله عز وجل وأسند الدارمى أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}) وحيث كان الكفار بمعزل عن هذه المعرفة لم يفد إنذارهم بالكلية إلَاّ من ألقى السمع وهو شهيد.

وتقديم لفظ الجلالة وتأْخير العلماء يؤذن أن الذين يخشون الله من عباده العلماءُ دون غيرهم، وقرئ برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء، ويكون المعنى: إنما يعظم الله من عباده العلماء ويجلهم، فالخشية مستعارة للتعظيم؛ لأَن المعظَّم يكون مهيبًا.

{إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} : تعليل لوجوب الخشية لدلالة العزة على كمال القدرة على عقوبة العصاة وقهرهم، ودلالة المغفرة على إثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب حقه أن يُخشى، ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلَاّ القادر على العقوبة.

وفي بعض الآثار: نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - وقد ظهرت عليه هذه الخشية حتى عرفت فيه.

ص: 322

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}

المفردات:

{يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} : يقرءونه، وفعله: تلاه يتلوه تلاوة، ويقال: تلوت الرجل أتلوه تُلُوًّا على فُعُول: تبعته، فأَنا له تالٍ، وتِلْو وزن حِمْل.

{لَنْ تَبُورَ} : لن تهلك. يقال: بار يبور بُورًا - بالضم - هلك. أو لن تكسد، يقال: بار الشيءُ بَوْرا - بالفتح -: كسد؛ لأَنه إذا ترك صار غير منتفع به فأشبه الهالك من هذا الوجه، فالمعنيان متقاربان.

التفسير

29 -

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} :

المراد من الذين يتلون كتاب الله، الذين يداومون على قراءَته حتى صارت لهم سمة وعنوانًا، والمقصود بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عطاء: هم المؤمنون أي: عامَّةً وهو الأرجح، ويدخل فيهم الأصحاب دخولًا أوليًّا، وهم مع مداومتهم على تلاوته يعملون به، فتلك صفتهم.

وقيل: معنى يتلون كتاب الله: يتبعونه فيعملون بما فيه، بجعل يتلو من تلاه إذا تبعه، واختار بعضهم المعنى المتبادر حيث إنه - سبحانه - لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها عمل اللسان والجوارح والعبادة المالية.

ص: 323

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} أي: لا يقنعون بتلاوته عن حلاوة العمل بما دعا إليه، فيقيمون الصلاة فرضًا ونفلًا، وينفقون ممَّا آتاهم الله كيفما تيسر لهم الإنفاق في السر أو العلانية، وقيل: السر في الإنفاق المسنون، والعلانية في الإنفاق المفروض.

وكون الإِنفاق ممَّا رزقوا إشارة إلى أَنهم لم يُسْرِفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط، فمِنْ للتبعيض، ومقام المدح يشعر بأَنهم تحروا الحلال الطيب.

{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أَي: يرجون بما قدموا من الطاعات معاملة مع الله لنيل ربح الثواب، فالتجارة مجاز عن ذلك، وهذه تجارة لن تهلك ولن تكسد، وجملة {لَنْ تَبُورَ} صفة لتجارة جىءَ بها للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران؛ لأَنها اشتراءُ باقٍ بفان، وفيه إِشعار بأَنهم لا يقطعون برواج تجارتهم عند الله، بل يأْتون ما أَتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أَلَاّ يقبلها الله منهم.

30 -

{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} :

قوله - سبحانه -: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلق بـ {لَنْ تَبُورَ} أَي: لن تبور ليوفيهم أُجور ما قدموا من الطاعات والأعمال الصالحة، ويزيدهم عليه من خزائن فضله، وفيض إنعامه. {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}: تعليل لما قبله من التوفية والزيادة، أي: غفور للذنوب، شكور يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.

ص: 324

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}

المفردات:

{مِنَ الْكِتَابِ} أي: القرآن.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} أَي: جعلنا القرآن ميراثًا منك لأُمتك التي اخترناها على سائر الأُمم.

{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} : بأَن رجحت سيئاته على حسناته.

{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} : بأن تساوت حسناته مع سيئاته.

{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} : بأَن رجحت حسناته على سيئاته.

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} : الأَساور: جمع أسورة جمع سوار، فهي جمع جمع، وهو ما يلبس في المعصم، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب.

ص: 325

{الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أَي: أزال جنس الحزن الشامل لأَحزان الدنيا والآخرة.

{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أَي: تعب ومشقة، يقال: نَصِب كفرح إذا تعب وأَعيا.

{وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أَي: إعياءٌ وكلال من التعب، يقال: لغب لَغْبًا ولغوبًا، كمنع: أَعيا أَشد الإِعياء.

التفسير

31 -

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} :

المعنى: والقرآن الذي أَوحيناه إليك - أَيها النبي - هو الحق مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية، بمعنى أنه لا ينفك عن التصديق لها وموافقته إِيَّاها في العقائد وأُصول الأَحكام، وهو - سبحانه - محيط ببواطن أمور عباده وظواهرهم، فَعِلمكَ وأَبصر أَحوالك، ورآك أهلًا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي اشتمل على سائر الكتب.

32 -

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} :

المعنى: نحن أَوحينا إليك القرآن الكريم ثم قضينا بتوريثه منك الذين اصطفيناهم من عبادنا، وهم - كما قال ابن عباس وغيره -: أُمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ممن يسير سيرتهم إلى يوم القيامة، أَو أُمته بأَسرهم، فإن الله اصطفاهم على سائر الأُمم وجعلهم أُمة وَسَطًا، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أَفضل رسله - عليهم الصلاة والسلام - وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله - تعالى -:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} (1) والتعبير عن الإِيراث بلفظ الماضي لتحقق وقوعه، ولأَنهم ورثوه أزلًا في علم الله.

(1) سورة الأعراف من الآية: 169.

ص: 326

{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} : الفاءُ للتفصيل، أَي: ظالم لها بالتقصير وهو المرجأُ لأَمر الله.

{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} : يتردد بين العمل بالقرآن ومخالفته.

{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَي: مقبل عليها، حريص على تحصيلها قبل غيره، بعلم الله وتوفيقه.

وفي قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأْخذها.

وخلاصة القول إن الظالم لنفسه: مَن رجحت سيئاته على حسناته، والمقتصد: مَن استوت سيئاته وحسناته، والسابق: مَن سبقت حسناته على سيئاته - كما تقدم في المفردات - وكلهم من أهل الجنة مآلًا بعد عفو الله، وقد روى عن عمر رضي الله عنه قال - وهو على المنبر -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون، وأمَّا الكافرون فصفتهم بعد هذا، وهو قوله - تعالى -:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وكون الطبقات الثلاث من أَهل الإِيمان هو ما عليه الجمهور.

وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرة أَفراده، وأَن المقتصدين قليل بالنظر إليهم، والسابقين أقل من القليل، وقيل: قدم الظالم لئلا ييأَس من رحمة الله، وأَخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعين توسيط المقتصد.

{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . أَي: ما تقدم من توريث الكتاب، والاصطفاء، هو الفضل الذي لا يعادله فضل في سموه، وعلو منزلته عند الله. وقيل: الإشارة إلى السبق في الخيرات، وهو الفضل الذي لا ينال إلَاّ بتوفيق الله وتأييده.

33 -

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} :

يخبر الله أن مأْوى هؤلاء المصطفين من عباده الجنة، وهم الظالم لنفسه، والمقتصد،

ص: 327

والسابق؛ لأَن الدخول ميراث، والميراث يستحقه العاق والبار إذا كان نسبهم صحيحًا، وهؤلاء قد صح نسبهم إلى الإِسلام بالإيمان، غير أن الظالم يحبس يوم القيامة ويُردع ويقرع ثم يدخل هؤلاء جميعًا الجنة، يحلون فيها بعض أَساور هن ذهب، ويحلون لؤلؤا كذلك.

{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أَي: حرير محض، وتغيير الأُسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريرا، للإِيذان بأَن ثبوت اللباس لهم أَمر محقق غنى عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج إلى البيان ماذا يلبسون؟ بخلاف الأَساور واللؤْلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان تحليتهم بها مقصودًا بالذات، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان صفة اللباس، وهذا الحرير محظور عليهم في الدنيا، فكان لهم في الآخرة، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وقال: هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".

34 -

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} :

المعنى: ويقول الذين ظلموا أنفسهم بعمل ما يؤاخذون به - بعد أَن يتلقاهم الله برحمته -: الحمد لله الذي أذهب عنا جنس الحزن المنتظم لجميع أَحزان الدين والدنيا والآخرة إن ربنا يغفر الجنايات وإن كثرت، شكور بقبول الطاعات وإن قلت.

أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال في ذلك: "غفر لنا العظيم من ذنوبنا، وشكر القليل من أَعمالنا".

35 -

{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} :

هذا من تتمة كلام الذين حمدوا الله وأثنوا عليه، أَي يقولون: الحمد لله الذي أَعطانا دار الإِقامة في الجنة التي لا انتقال بعدها من فضله ومنته وكرمه، فإن العمل وإن كان سببًا لدخول الجنة في الجملة، لكن سببيته بفضل الله، إذ ليس هناك استحقاق ذاتي، ومن علم أَن العمل متناه زائل، وثواب الله دائم لا يزول لم يشك في أَن الله ما أَحل من أَحل دار الإِقامة إلَّا بمحض فضله - سبحانه - كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لن يدخل أحدًا منكم عملُه الجنةَ. قالوا: ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إلَاّ أَن يتغمدَنى اللهُ برحمةٍ منه وفضل".

ص: 328

{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أَي: لا يمسنا في الجنة تعب ومشقة، ولا يلحقنا فيها كلال وفتور، واللغوب وإن كان نتيجة النصب إلَّا أَنه ضم إليه بالعطف، وتكرير الفعل للمبالغة في بيان انتفاءِ كل منهما، قاله جمع من الأَجلة.

وفرق بعضهم بين النصَب واللغوب فقال: النصب: التعب الجسماني، واللغوب: التعب النفساني.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)}

المفردات:

{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} : لا يحكم عليهم بموت ثان فتحصل لهم الاستراحة.

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أَي: يستغيثون في النار بصوت عال، والصراخ: الصوت المرتفع.

{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أَي: أَو لم نعمركم عمرًا يتذكر فيه من أَراد التذكر والتفكر، وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأْنه.

{وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} : الرسول أَو المشيب، أَو العقل، أَو موت الأَقارب، أَو كل أُولئك.

ص: 329

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : بخفاياها من النزوات والميول، وعبر عنها بذات الصدور لملازمتها لها.

التفسير

36 -

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} :

لما ذكر - سبحانه - أَهل الجنة وأَحوالهم ومقالتهم، ذكر أهل النار وأَحوالهم ومقالتهم.

والمعنى: أَن أَهل النار يعذبون عذابًا مستمرًّا بحيث لا يقضى عليهم بموت ثان فيستريحوا بذلك من عذابها مثل قوله - تعالى -: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} . {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} . {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ، وهذا لا ينافى تعذيبهم بالزمهرير ونحوه، ومثل هذا الجزاء البالغ الشدة يجازى كل كفور مبالغ في الكفر، لا بجزاءِ أَخف منه وأَيسر.

37 -

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} :

المعنى: أَن الكفار يستغيثون في النار بصوت عال؛ لأَن المستغيث يصيح عاليًا وبه فسره هنا قتادة. ويقولون تحسرا وألمًا على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، يقولون: ربنا أَخرجنا من النار إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر، ونطع بدل المعصية. وعن ابن عباس: أرادوا بالعمل الصالح: لَا إِلهَ إِلَاّ الله {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} جواب من قبل الله - تعالى - وتوبيخ لهم. أَي: أَلم نمهلكم ونعمركم عمرًا يتمكن فيه المكلف من التذكر والتفكر وإن قصر؛ لأَن الحق واضح يستوى في إدراكه من طال عمره ومن قصر، إلَاّ أن التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد جاءَ فيه ما أخرجه الإِمام أحمد والبخارى والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم -: "أَعذر الله تعالى إلى امرىءٍ أَخر عمره حتى بلغ ستين سنة". {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} : يحذركم،

ص: 330

والمراد به جنس النذير، فيشمل العقل والأنبياء وكتبهم، ويؤيده أنه قرئ:"وَجَاءَكُمُ النُّذُرُ" بصيغة الجمع.

وعن ابن عباس، وعكرمة، وسفيان بن عيينة، ووكيع، والحسين بن الفضل، والفراء، والطبرى: هو الشيب، وفي الأَثر:"ما من شعرة تهيض إلَّا قالت لأُختها: استعدى فقد قرب الموت".

{فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الفاءُ في قوله: {فَذُوقُوا} ، لترتيب الأَمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجىءِ النذير، أَي: فذوقوا العذاب؛ لأَنه معد للظالمين أَمثالكم وليس لكم ناصر ولا معين، والمراد بالظلم هنا الكفر، وأَفادت الجملة استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب.

38 -

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

أَي: أَنه - سبحانه - يعلم كل غيب في السموات والأَرض، فلا تخفى عليه أَحوالهم التي اقتضت الحكمة أَن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار، ولو أَجابهم وأَعادهم إلى الدنيا لعادوا لما نهاهم عنه:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لما قبله؛ لأَنه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد علم عز وجل كل غيب في العالم.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)}

المفردات:

{خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} أَي: جعلكم خلفًا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، ترثون ما بأَيديهم من مال وجاه، والخلف: التالي للمتقدم، والخلائف: جمع خليفة، وهو مطرد في فعيلة.

ص: 331

{إِلَّا مَقْتًا} : بغضا وغضبًا.

{إِلَّا خَسَارًا} : هلاكًا وضلَالًا.

التفسير

39 -

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} :

الخطاب في الآية قيل: عام، واستظهره في البحر، وقيل: لأهل مكة.

والمعنى: أنه - سبحانه - أَلقى إِليكم مقاليد التصرف في الأَرض والانتفاع بما فيها من خيرات جمة، وأَباح لكم منافعها المتعددة، وجعلكم تخلفون من قبلكم من الأُمم، وأَورثكم ما بأَيديهم من متع الدنيا، لتشكروه بالتوحيد والطاعة، أَو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأُمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فلم تتعظوا بحالهم، وما حل بهم من الهلاك، فمنْ جحد منكم، وكفر بهذه النعمة العظيمة، وغمطها حقها، ولم يعتبر بما حل بالسابق من الأمم فعليه وبال كفره لا يتعداه إلى غيره، وكل نفس بما كسبت رهينة، ثم بين - سبحانه - وبال كفرهم بقوله:{وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} أَي: أن عاقبة كفرهم هي مقت الله الشديد، وخسار الآخرة الذي ما بعده شر ولا إذلال.

وجملة {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ} إلى آخر الآية بيان وتفسير لقوله - تعالى -: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ولزيادة تفصيله نزل منزلة المغاير له فعطف عليه.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)}

ص: 332

المفردات:

{أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} أَي: أخبروني عن آلهتكم الذين أشركتموهم في العبادة.

{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أَي: نصيب في خلقها.

{فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أَي: حجة ظاهرة.

{بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أَي: أباطيل تغر، وهي قول الرؤساء للأَتباع: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم إلى الله عز وجل.

التفسير

40 -

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} :

الآية عند الكثير في عبدة الأَصنام، وقيل: في غير عبادة الله عز وجل صنمًا كان أَو ملكا أَو غيرهما.

والمعنى: قل - أَيها الرسول تبكيتًا للمشركين وإنكارًا عليهم -: أَخبروني عن شركائكم الذين أَشركتموهم في العبادة، ودعوتموهم آلهتكم من دون الله:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أَي: أَخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة أَرونى أَي جزءٍ خلقوا من الأَرض، واستبدوا بخلقه دون الله حتى استحقوا الأُلوهية والشركة، ثم أَضرب عن ذلك فقال:{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أَي: بل أَلهم شرك مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة في الأُلوهية {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} : أَم بمعنى بل والهمزة، أَي: بل أآتيناهم كتابًا ينطق بأَنا اتخذناهم شركاءَ فهم على حجة واضحة من ذلك الكتاب المنزل عليهم بأن لهم شركة معه - سبحانه - خلقًا وبقاءً وتصرفا، حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم. وليس الأَمر كذلك فهم لا يملكون من قطمير، وفي هذا رد على من عبد غيره؛ لأَنهم لا يجدون في كتاب من الكتب السماوية أَن الله عز وجل أمر أَن يعبد غيره فهم لا يجدون تبريرا لما صنعوا، وفيه إيماءٌ إِلى أَن الشرك أَمر خطير سلكوه من غير دليل، ولا بد في إِثباته من تعاضد الدلائل، وهو ضرب من المستحيل.

ص: 333

وأُسندت الشركة إليهم في قوله - تعالى -: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} أَي: آلهتكم لأَنهم هم الذين جعلوهم شركاء لله - تعالى - واعتقدوهم كذلك من غير أَن يكون له أَصل ما قطعًا.

وقيل: الإِضافة حقيقية؛ لأَنهم جعلوهم شركاءَ لأَنفسهم فيما يملكونه، أَو جعلهم الله شركاءَ لهم في النار كما قال - سبحانه -:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} .

ولما تقرر نفى أَنواع الحجج فيما ذكر أضرب عنه بذكر ما حملهم على الشرك فقال - سبحانه -: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أَي: إن الذي حملهم على الشرك هو تغرير الأَسلاف للأَخلاف، وإِضلال الرؤساء للأَتباع بأَنهم شفعاءُ لهم عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه، وما هو إلَاّ أباطيل اقترفوها للتغرير والتمويه.

* {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}

المفردات:

{يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : بحفظهما كراهة زوالهما، أو يمنعهما، فالإِمساك مجاز عن الحفظ أَو المنع.

{أَنْ تَزُولَا} : أن تنهدَّا وتضمحلا.

التفسير

41 -

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} :

قررت الآية السابقة أن الآلهة التي اتخذها المشركون شركاءَ لله، أَو عبدوها من دونه، عاجزة عن خلق شيءٍ من الأَرض والسماء استقلالًا أَو مشاركة، وجاءَت هذه الآية بعدها

ص: 334

استئنافا يقرر قبح الشرك، ويصور قدرة الله - تعالى - الواضحة بذكر عظمته في حفظ السموات والأرض.

والمعنى: إن من مظاهر قدرة الله - تعالى - الجلية التي لا تنكرها عين، ولا يجحدها عقل، إمساك الله السموات والأَرض وحفظهما ومنعهما أن تنهدًّا، أَو تغيرا مسيرتهما زمانًا أو مكانًا؛ فإِن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ يحفظه، ولا يكون ذلك إلَاّ دائم الوجود - سبحانه - {وَلَئِنْ زَالَتَا} أَي: ولئن أَشرفتا على الزوال بشرك هؤلاء المشركين - ما أَمسكهما من أَحد بعد الله كائنا من كان، أَو بعد زوالهما.

وقوله - تعالى -: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} معناه: إن الله - تعالى - عظيم الحلم واسع العفو، ومن جملة ذلك حلمه - تعالى - على المشركين، وتوبته على من تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضى لتعجيل العقوبة لهم، وعدم إِمساك السموات والأَرض، وتخريب العالم الذي هم فيه، وكانتا جديرتين أن تهدا هدًّا؛ لشؤم معصيتهم كما في قوله - تعالى -:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (1).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل مقبل من الشام: "من لقيت؟ قال: كعبًا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السموات على منكب ملك قال: كذب كعبٌ، أَما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأَ هذه الآية:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}

(1) سورة مريم الآية: 90.

ص: 335

المفردات:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : حلفوا وبالغوا في الحلف واجتهدوا أَن يأْتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

{نَذِيرٌ} : نبي يبلغهم ويخوفهم.

{أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} : أَهدى من كل واحدة من أُمة اليهود، والنصارى وغيرهم، فإحدى بمعنى واحدة، وأُريد بها العموم وإن كانت في الإِثبات لا تعم إلَاّ لاقتضاءِ المقام، أَو المعنى: أهدى من أُمة يقال فيها: إحدى الأُمم بمعنى واحدتها، تفضيلًا على غيرها من الأُمم، كما يقال: واحد قومه، وواحد عصره، وقيل المعنى: أهدى من بعض الأُمم والبعض المبهم قد يقصد به التعظيم، وإِحدى مثله.

{نُفُورًا} : تباعدا عن الحق وهربًا منه.

{اسْتِكْبَارًا} : تعاليًا وعتوا عن الإيمان.

{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} : مكر العمل السىءِ وهو الشرك، وخداع الضعفاءِ، وردهم عن الإيمان والكيد لرسول الله، وأَصل التركيب: استكبارًا في الأَرض، وأَن مكروا المكر السيىء، ثم أُقيم المصدر مقام أَن والفعل وأضمر فيه الفاعل، وأضيف إلى ما كان صفته.

{وَلَا يَحِيقُ} : ولا يحيط، من حاق بالشيء إِذا أَحاط به، من باب باع، وقال الراغب: أَي: لا يصيب ولا ينزل.

{سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} : طريقة الأَولين وسيرتهم، أَي: سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم.

{تَبْدِيلًا} : وَضْع غير العذاب موضع العذاب.

{تَحْوِيلًا} : نقل العذاب من المكذبين إلي غيرهم.

التفسير

42 -

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} :

ص: 336

بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن أَهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أَتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أَتانا رسول لنكونن أَهدى من إِحدى الأُمم، ثم كان منهم بَعْدُ ما كان، فأَنزل الله هذه الآية.

والمعنى: حلف مشركو مكة، وبالغوا في الحلف، واجتهدوا أَن يأْتوا به على أَبلغ ما في وسعهم من جهد، لئن جاءهم رسول كما جاءَ اليهود والنصارى يدعوهم إلى عبادة الله ليكونن في تصديقه واتباعه أَهدى من كل أُمة من اليهود ومن النصارى، ومن أَية أُمة بلغت من الطاعة والهداية وحسن الاتباع أَن يقال فيها واحدة الأُمم تفضيلا لها على غيرها، فلما جاءهم نذير أَكرم نذير، وهو أَشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم النذير أو مجيئه إلا نفورا وتباعدًا عن الحق، وهربًا من الإِيمان به.

43 -

{اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} :

ترتبط هذه الآية بالآية التي قبلها وتُتِم معناها، والمعنى: ما زادهم الرسول أَو مجيئه إلا تباعدًا عن الحق استكبارًا منهم، وتجبرا في الأَرض واستعلاء وإمعانًا في الشرك، ومكر العمل السيىءِ الذي يتفننون في تبييته، ويدينون به، ويندفعون فيه من الخداع والصد عن الإيمان والكيد لرسول الله، وإلحاق الأَذى به وبأَصحابه؛ ظانين أَن ذلك سيرد الدعوة، ويضعف شوكة الرسول وصحبه، جاهلين أن وبال مكرهم سينزل بهم، ويذهب بكبريائهم، ويذل استعلاءَهم وعنادهم، ولا يحيط المكر السيءُ ولا ينزل عقابه إلا بأَهله الذين دبَّروه وبيتوه، ومن أَمثال العرب:"من حفر لأخيه جُبًّا وقع فيه منكبا" وعن كعب أنه قال لابن عباس: قرأْت في التوراة: "من حفر مَغْواةً وقع فيها" قال: وَجَدْتُ ذلك في كتاب الله، فقرأَ الآية.

وفي الخبر: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإن الله - تعالى - يقول:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} : ولَا تبغوا ولا تعينوا باغيا، فإن الله - تعالى - يقول:{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقد حاق مكر هؤُلاء بهم يوم بدر، والأُمور بعواقبها ووراءَ الدنيا الآخرة، وصدق قول الله - تعالي -:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أَي: ما ينتظرون إلا سنة الله - تعالى - فيهم

ص: 337

بتعذيب مكذبيهم، فلن تجد لسنة الله تبديلا بأن يضع موضع العذاب غير العذاب، ولن تجد لسنة الله تحويلا بأن ينقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم؛ فالله عادل لا يضع الشيء في غير موضعه.

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}

المفردات:

{لِيُعْجِزَهُ} : ليمنعه بالقهر والغلبة. {كَسَبُوا} : فعلوا من السيئات {دَابَّةٍ} : حيوان يدب على الأرض، وقيل: المراد الإنس والجن.

التفسير

44 -

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} :

ذكرت الآية السابقة جريان سنة الله - تعالى - على المكذبين من الأمم السابقة بإنزال العذاب بهم وإهلاكهم.

وجاءَت هذه الآية استشهادا وتأْكيدًا لهذا المعنى، وتنويعًا في المحاجَّة بما لا يستطيعون دفعه، ولا يتأَتى منهم إنكاره.

ص: 338

والمعنى: أقَعَد هؤُلاءِ المشركون في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض، ولم يتنقلوا بين ربوعها فينظروا نظر اعتبار وتأَمل بما يشاهدونه في مسايرهم، كيف كان عاقبة المكذبين من قبلهم من الأُمم السابقة من آثار الدمار، وعلامات الهلاك والخراب عقوبة لهم على معارضة أَنبيائهم وتكذيبهم، وقد كانت هذه الأُمم أَشد منهم قوة، وأَطول أَعمارًا، وأَوسع نعمة، فلم تغن عنهم قوة، ولم يمنعهم طول أَعمار، ولم تدفع عنهم نعمهم من عذاب الله شيئًا، وما كان الله ليمنعه عن مراده أَي شيءٍ في السموات ولا في الأَرض، إنه - جلت قدرته - عليم لا يغيب عن علمه شيءٌ، قدير لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب.

45 -

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} :

كان المشركون من شدة عنادهم، وفساد عقائدهم يتعجلون العذاب الذي يتوعدهم الله به، فأخبر الله - تعالى - في هذه الآية وفي مثيلاتها من الآيات التي تعرض لذكر العذاب وتتوعد به، أَن للعذاب أَجلا مضروبا هو يوم القيامة.

والمعنى: ولو يؤاخذ الله الناس جميعًا، ويعاقبهم بما كسبوا من السيئات، ويعجل لهم العذاب في الدنيا كما فعل بأَسلافهم، ما ترك ولا أَبقى على ظهر الأَرض من دابة تدب، أو نسمة تدرج من إنسان وجن وحيوان، قال - تعالى -:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1).

قال ابن مسعود: "كاد الجُعْل أَن يعذب في جحره بذنب ابن آدم" فالمراد بالدابة على هذا عموم المخلوقات، وقيل: إن المراد بالدابة المكلفون من الإِنس، ويؤَيده ذكر (الناس) وقوله - تعالى -:{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} بضمير العقلاءِ العائد إِلى الناس.

ويوم القيامة هو الأَجل المضروب لبقاءِ نوعهم. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أَي: فإذا حل يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى بصير بأحوالهم فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم، إن شرا فشر، وإن خيرا فخير، ولا يظلم ربك أَحدا.

(1) سورة الأنفال الآية: 25.

ص: 339