الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسئلة وأجوبة
قال ابن العربى: فإن قيل: لأَي معنى قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقد أَخبره الله أَنها زوجه؟
قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يُعْلِمْه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأَبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها، فإن قيل: كيف يأْمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه - وهذا تناقض - قلنا: بل هو صحيح لإِقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله - تعالى - يأْمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن، فليس لمخالفة الأَمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأَمر به عقلًا وحكمًا، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه.
فخر زينب بتزويج الله إياها
ولقد صح من حديث البخاري والترمذي أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأُدِلُّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تُدِل بهن: أن جدى وجدك واحد، وأنى أنكحك الله إياى من السماءِ، وأن السفير لجبريل عليه السلام تعنى سفارته بين الله تعالى - وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإِجمالى للآية: واذكر - أيها النبي - حين تقول لزيد بن حارثة الكلبي الذي أَنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق والرعاية والتبنى ومختلف فنون الإحسان، أمسك عليك زوجك زينب ولا تطلقها، واتق الله فيما تقوله عنها فلا تذمها بالكبر وإيذاء الزوج، وتخفى في نفسك أنك مأْمور بتزوجها مع أَن الله سيبديه ويظهره علنًا، وتخشى لائمة الناس لو قلت له طلقها، إذ يقولون: أمر رجلًا بطلاق امرأته، ثم تزوجها بعد أن طلقها، والله - تعالى - أحق أن تستحيى منه وتخافه فلا تأْمر زيدًا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فلما قضى زيد منها حاجة فطلقها زوجناكها بعقد شرعى لكي لا يكون على المؤمنين
ضيق في التزوج من أزواج أدعيائهم إذا طلقوهن، فالحكم بينك وبين الأُمة في ذلك سواءٌ، وكان أمر اللهِ الذي تعلقت به إرادته مفعولًا ونافذًا.
38 -
أي: ما صح ولا استقام أن يكون على النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم من ضيق فيما قسم الله له وأَحله من تزوج زينب التي طلقها زيد بن حارثة مثبناه - طلقها - باختياره، بعد أن نصحه النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك، وهذا حكم الله في الأنبياءِ قبله، لم يكن ليأْمرهم بشيءٍ في النكاح وغيره كداود وسليمان، وعليهم في ذلك حرج، وكان أَمر الله الذي يقدره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا معدل عنه.
والآية رد على من توهم من المنافقين نقصًا في تزوجه امرأَة زيد مولاه، ودعيِّهِ الذي كان قد تبناه.
39 -
قال الإِمام ابن كثير في تفسيرها: يمدح الله الذين يبلغون رسالات الله (1). إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها، ويخافونه ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أَحد عن إبلاغ رسالات الله، وكفى بالله ناصرًا ومعينًا، وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قام بأداءِ الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأَظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأَديان والشرائع، فإِنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأَمَّا هو- صلوات الله وسلامه عليه - فإِنه بعث إلى جميع الخلق - عربهم وعجمهم - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ثم وَرَّثَ مقام البلاغ عنه أُمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه
(1) يشير بذلك إلى أن الذين يبلغون منصوب على المدح، أي: أمدح الذين، ويجوز أن يكون مرفوعًا على المدح أيضا أي: هم الذين يبلغون الخ.
رضي الله عنهم - بلغوا عنه كما أَمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأَحواله، في ليله ونهاره وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم، وأرضاهم، ثم وَرثَه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يهتدى المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون.
وفي هذه الآية إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس عليه بأَس من لائِمة الناس في أمر قضاه الله لنسخ عادة التبنى.
المفردات:
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} : قرأ عاصم وحده بفتح التاء، وقرأَه منصوبًا بتقدير ولكن كان رسول الله وخاتم النيبيين، وقرأ ابن أبي عبلة وغيره بالرفع، على تقدير: ولكن هو رسولُ الله وخاتمُ، والقراءَة بفتح التاءِ على معنى أَنهم ختموا به صلى الله عليه وسلم فهو كالخاتم والطابع لهم، والقراءَة بكسر التاءِ هي قراءَة الجمهور، على معنى أَنه ختمهم أي: جاءَ آخرهم، وقيل: الفتح والكسر سواءٌ، مثل طابَع وطابِع ودانَق ودانِق، وطابَق من اللحم وطابِق (1).
التفسير
40 -
سبب نزول هذه الآية: أنه لما قال المنافقون: تزوج محمَّد امرأة ابنه أفحمهم الله بإنزالها، أي: ليس محمَّد أبا أحد من رجالكم نسبًا، ولكنه رسول الله، وخاتم النبيين، فهو أَبو أُمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءَه عليهم حرام.
(1) انظر: القرطبي.
وقد أَفادت هذه الآية أَنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين خلفًا عن سلف، ولصراحة الآية لم يستطع المارقون أَن يدعوا النبوة، بل ادعى بعضهم الرسالة كالبهاءِ، وهذا إفك وكفر مبين، فإِنه إذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى؛ لأَن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإِن كل رسول نبي ولا عكس، وقد وردت الأَحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا نبى بعده، أخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لي أَسماءً: أَنا محمَّد وأَنا أحمد وأَنا الماحى الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي ولم يبق من النبوة إلَاّ الرؤيا الصالحة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزءٌ من ستة وأَربعين جزءًا من النبوة"(1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس يبقى بعدي من النبوة إلَاّ الرؤيا الصالحة": وقد روى الإِمام مسلم بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأَنبياءِ كمثل رجل بني دارًا فأَتمها وأكملها إلَاّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأَنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأَنبياءَ" ونحوه عن أبي هريرة، غير أَنه قال:"فأَنا اللبنة وأَنا خاتم النبيين"، وروى الإمام أَحمد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي" - قال أنس: فشق ذلك على الناس - قال: قال: ولكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: "رؤيا الرجل المسلم، وهي جزءٌ من أَجزاءِ النبوة".
ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أبناءٌ، فقد ولد له: إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر (2)، ولكن لم يعش له أحد منهم حتى يصير رجلًا، وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له (3).
(1) أخرجه الإِمام البخاري في كتاب التعبير.
(2)
أما إبراهيم فمن مارية القبطية، وأما الثلاثة الآخرون فمن خديجة - انظر ابن كثير.
(3)
انظر: القرطبي.
ومعنى الآية: ما كان محمَّد أبا أحد من رجالكم أُبوة نسبية، ولكنه كان رسول الله وخاتم النبيين والمرسلين، فلا حرج عليه في أن يتزوج مطلقة زيد بن حارثة؛ لأنه كان ابنا دعيا ولم يكن ابنًا نسبيًّا، ولهذا دعى إلى أبيه حارثة بعد أن صحح الله أنساب الناس:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فلهذا أَبطل بنوة الأَدعياءِ، وآثارها، وختم بمحمد نبوة ورسالات الأَنبياء والمرسلين.
المفردات:
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} : أول النهار وآخره.
{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة.
{يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} : عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.
{أَجْرًا كَرِيمًا} : أجرًا عظيمًا هو الجنة.
التفسير
41، 42 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}:
المقصود من ذكر الله - تعالى - أَن تذكر أَسماؤه وصفاته باللسان تارة وبالقلب تارة أُخرى، ومرجع الكثرة في الذكر إلى العرف.
ومن العلماءِ من عين الذكر بلفظه، قال مقاتل في تفسيرهما: هو أَن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) على كل حال، ومنهم من ضبط كثرته مع هذا النص بثلاثين مرة.
وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى ابن عباس قال: جاءَ جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمَّد قل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلَاّ الله والله أَكبر ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلى العظيم عددَ ما عَلم ورِنةَ ما عَلِم وملءَ ما عَلِم، فإِنه من قالها كتب له ست خصال، كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرًا
…
" إلى آخر الحديث.
ومعنى الآيتين: يا أَيها الذين صدقوا بالله ورسوله اذكروا الله بأَسمائه الحسنى وصفاته بألسنتكم سرًّا وجهرًا وبقلوبكم ذكرًا كثيرًا، ونزهوه سبحانه - عما لا يليق به أَول النهار وآخره، أَطهارًا ومحدثين، فإن ذلك أَفضل الزاد إلى المعاد، وتخصيص البكرة والأَصيل بالذكر ليس لقَصْر الذكر والتسبيح عليهما دون سائر الأوقات، بل لفضلهما لكونهما تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار وتلتقى فيهما.
والتسبيح نوع من الذكر، وإفراده من بين الأذكار لكونه عمدة في ذكر الله - تعالى - فما لم ينزه الله - تعالى - عما لا يليق به لا يتحقق ذكر الله تعالى.
43 -
هذه الآية استئناف في مقام التعليل للأمرين قبلها، والصلاة من الله على عباده المؤمنين رحمته لهم وبركاته عليهم، وصلاة الملائكة دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال - سبحانه - في شأْنهم:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ومن مؤمنى الإنس والجن دعاءٌ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى: الله هو الذي يصلى عليكم أيها المؤمنون فيرحمكم ويغدق نعمه وبركاته وفتوحاته عليكم، كما يصلى عليكم ويستغفر لكم ملائكته عناية بكم وإكرامًا لكم، لكي يخرجكم بذلك من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الكفر والعصيان إلى نور الإيمان والطاعة، وكان الله بالمؤمنين رحيمًا، حيث صلى الله عليهم، وكلف بالصلاة ملائكته المقربين.
44 -
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} :
أصل التحية: أن يقول المرءُ لغيره: حياك الله، أي: جعل لك حياة، ويقال: حيَّا فلان فلانًا تحية إذا قال له حياك الله، ثم جعل كل دعاء عند اللقاء تحية؛ لكونه غير خارج في مضمونه عن طلب الحياة.
والهاءُ في يلقونه ضمير عائد على الله - تعالى - والمراد من لقائه - تعالى - حضور موت العبد، روى عن ابن مسعود أنه قال:"إذا جاءَ ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام" وقيل: المراد به خروجهم من قبورهم، فيسلم عليهم الملائكة ويبشرونهم بالجنة، وقيل ذلك عند دخولهم الجنة، كما قال تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وقيل: إن الذي يحييهم عند دخولهم الجنة هو الله تعالى - إذ يقول: "سلام عليكم عبادى. أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون، فيقولون بأجمعهم: يا ربنا إنا راضون كل الرضا" وروى أن الله - تعالى - يقول: "السلام عليكم، مرحبًا بعبادى المؤمنين الذين أرضونى في دار الدنيا باتباع أمرى".
والآية الكريمة تتسع لكل تلك المعانى، ولا حرج على فضل الله في اجتماعها.
ومعنى الآية: تحية المؤمنين من الله وملائكته يوم يخرجون من دنياهم، ويوم ينشرون ويحشرون لربهم ويوم يدخلون جنة ثوابهم: سلام عليكم، وقد هيأ الله - تعالى - لهم أجرًا عظيمًا لا غاية وراءَه.
المفردات:
{شَاهِدًا} : على من بعثت إليهم.
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} : بتيسيره ومعونته.
التفسير
45، 46 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}:
اشتملت هاتان الآيتان على خمسة أوصاف للنبي صلى الله عليه وسلم: {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ولقد وصف في التوراة بمثل هذه الصفات وبغيرها من الصفات التي تتجلى فيه صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام أحمد بسنده عن عطاء بن يسار قال: (لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أَخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزًا للأُميين، أَنت عبدي ورسولى، سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأَسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأَن يقولوا: (لا إلهَ إلَاّ الله، فيفتح به أعينا عميًا وآذانًا صما وقلوبًا غُلفًا).
ورواه البخاري بسنده عنه، وعن عبد الله بن سلام في كتاب البيوع، وروى ابن أَبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه الذي كان يهوديًا وأسلم، قال وهب بن منبه:(إن الله أَوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: شعياءُ أَن قم في قومك بني إسرائيل فإنى منطق لسانك بوحى، وأَبعث أُميًّا من الأُميين، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صَخَّابٍ في الأَسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أَبعثه مبشرًا ونذيرًا، لا يقول الخنا: أَفتح به أَعينًا كُمْهًا (1) وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، أُسدده كل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأَجعل السكوت لباسه،
(1) الكمه - بضم فسكون -: جمع الأكمه وهو الأعمى، والمراد (أعينا عميا).
والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإِسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأُعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين أُمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأستنقذ به فئامًا (1) من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أُمته خير أُمة أُخرجت للناس، يأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءَت به رسلى، ألْهِمُهُم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قيامًا وقعودًا، ويقاتلون في سبيل الله صفوفًا وزحوفًا، ويخرجون من ديارهم ابتغاءَ مرضاتي ألوفًا، يُطهِّرون الوجوه والأطراف، ويَشُدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أُمته من بعده يهدون بالحق وبه ويعدلون أُعِزُّ مَنْ نصرهم، وأُؤيد من دعا لهم، وأَجعل دائرة السوءِ على من خالفهم أو بَغَى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئًا مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأَولهم، ذلك فضلى أُوتيه من أشاءُ وأنا ذو الفضل العظيم) أخرجه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليمانى.
وقد اشتملت هذه الآية على خمسة من أَسمائه صلى الله عليه وسلم وقد سماه الله رءُوفًا رحيما، ويقول القرطبي: قال صلى الله عليه وسلم، فيما روى عنه الثقات العدول -:"لي خمسة أَسماءٍ: أنا محمَّد وأَحمد وأَنا الماحي الذي يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى وأنا العاقب" ثم يقول القرطبي: "وقد ذكر القاضى أبو بكر بن العربى في أحكامه في تفسير هذه الآية من أسماءِ النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسما" اهـ.
(1) الفئام - ككتاب -: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه.