الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
53 -
في هذه الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أي: إن هداية هؤلاء الذين عميت بصائرهم، وماتت قلوبهم ليست لك يا محمَّد، بل هي إلى الله - تعالى - فإنه - سبحانه - بقدرته يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، وليس ذلك لأَحد سواه، فلا يَسُوْك إعراضهم عنك، ولا تذهبْ نفسك عليهم حسرات؛ لأنك لا تسمع مواعظ الله إلَاّ المؤمنين الذين استمعوا إلى أدلة التوحيد، مع استعدادهم للهداية التي خُلقت أسبابها فيهم، فهؤلاء المؤمنون خاضعون مستجيبون منقادون لأوامر الله - سبحانه.
خاتمة:
قال الآلوسي: نُقل عن العلامة ابن الهمام أَنه قال: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع، استدلالًا بقوله - تعالى -:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ونحوها من قوله - تعالى -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1) ولذا لم يقولوا بتلقين القبر، وحكى السفاريني في البحور الزاخرة: أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى، ووافقتها طائفة من العلماء على ذلك، ورجَّحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير الطبري، وكذا ذكره ابن قتيبة وغيره، واحتجوا بما في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر وظهر عليهم - يعني: مشركي مكة - رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش فأُلقوا في طَوِيٍّ، أي: بئر من أطواء بدر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم، يا أبا جهل بن هشام، يا أُمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؛ فإني قد وجدت ما وعد ربي حقًّا. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا روح لها؟
(1) وقالوا: إن الأصل عدم التأويل، والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق خلافه، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون.
فقال: "والذي نفس محمَّد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" زاد في رواية لمسلم عن أنس: "ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" إلى غير ذلك من الأدلة.
وأجابوا عن الآية: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} التي احتج بها أصحاب الرأي الأول". فقال السهيلي: إنها كقوله - تعالى -: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} : إن الله - تعالى - هو الذي يسمع ويهدي، وقال بعض الأجلة: لا تسمعهم إلَاّ أن يشاء الله - تعالى - أو لا تسمعهم سماعًا ينفعهم وقد ينفى الشيءُ لانتفاء فائدته، وثمرته. انتهى ما ذكره الآلوسي بتصرف، ومن أراد المزيد فليرجع إليه عقب تفسير الآية (53) من سورة الروم، والله الموفق.
المفردات:
{خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} : ابتدأكم ضعفاء، وقيل: خلقكم من أصْل ضعيف، وهو النُّطفة.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} : حين بلوغكم الحلم والشبيبة فتلك حال القوة.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} : ثم ردَّكم إلى أصل حالكم من الضعف بالشيخوخة والهرم.
التفسير
54 -
نبه الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى بعض دلائل قوته ومظاهر قدرته وعظمته ونعمته، وفي هذه الآية يشير إلى دليل آخر في نفس العبد على قدرته - تعالى - ليتدبره كما قال - تعالى -:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (1).
وهذا الدليل هو تَنَقُّل الإنسان في أطوار مختلفة، من طور الضعف حين خلقه من النطفة بتحويلها وتطويرها، وإخراجه من بطن أمه ضعيفًا واهن القوى، ثم إمداده بالقوّة بعد الضعف، حيث يشتد قليلًا قليلًا حتى يصير شابًا قويّ البنيان، ثم يتحول إلى طور الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمَّة، وتتغيَّر الصفات الظاهرة والباطنة.
يفعل الله ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، ومن جملة هذا ما ذكر من التَّقَلُّب بين الضَّعف والقوَّة، والشَّيبة، وهو العلم بتدبير خلقه القدير على إيجاد ما يريد.
وهذا التَّرديد في الأحوال المختلفة والتغيبر من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع القدير، العلم، الحكيم.
(1) سورة الذاريات الآية: 21.
المفردات:
{السَّاعَةُ} : القيامة، صارت علمًا لها بالغلبة، كالنَّجم للثريا.
{غَيْرَ سَاعَةٍ} : قطعة من الزمان قليلة.
{كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (1) أي: مثل ذلك الصرف كانت تصرفهم الشياطين عن الحق إلى الباطل في الدنيا.
{فِي كِتَابِ اللَّهِ} : في اللَّوح المحفوظ، أو في علم الله وقضائه.
{وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (2): ولا هم يُطْلَبُ منهم إزالة عَتْب الله، أي: غضبه عليهم - وإزالته - بالتوبة والطاعة، من قولهم: استعتبني فلان فأَعتبته، أي: استرضاني فأَرضيته وتركت عتبى.
التفسير
55 -
يخبر الله - تعالى - عن جهل الكفار في الدُّنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون فيهم جهل عظيم أيضًا.
فمنه: حلفهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصدهم بذلك عدم قيام الحجَّة عليهم، وأنهم لم يُنْظَروا حتى يصلحوا أمرهم، أو عَدُّوا مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها، والكثير الذي لا ينفع قليل، والكلام على هذا تَحَسُّر على إضاعتهم أيام حياتهم، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}: أي مِثْل ذلك الصَّرف عن الحق إلى الباطل وعن الصِّدق إلى الكذب كانت تصرفهم الشياطين في الدُّنيا، والغَرضُ من سوق الآية وصف المجرمين بالتمادى في الكذب والإصرار على الباطل، وهذا يناسب المعنى الأول.
(1) إفك: كضرب وعلم، إفكا - بالكسر والفتح -: كذب، وأفكه، يأفكه، أفكا: صرفه وقلبه - قاموس ج 3 ص 292.
(2)
العتبى - بالضم -: الرضا، واستعتبه: أعطاه العتبى، كأعتبه، وطلب إليه العتبى، اهـ: قاموس ج 1 ص 100.
56 -
فيردّ عليهم الذين آتاهم الله العلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: لقد مكثتم في الدنيا فترة كافية للعمل الصالح، ولكنكم كفرتم، فسجلت أعمالكم في كتبه المسجلة لها إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث الذي أَنكرتموه، ولكنكم كنتم تجهلون أنه حق، فتستعجلون به استهزاءً، وفي الآية دليل على فضل العلماء وعظيم قدرهم.
57 -
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} :
أي: فيوم إذْ يقع ما تقدم من خيف الكفار وقَوْلِ أُولي العلم لهم، وذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين - فيومئذ - لا ينفع الَّذِين كفروا اعتذارهم عمَّا فعلوه من إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرُّسل، ولا يُقَال لهم: أرْضُوا ربكم بتوبة وطاعة، كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا؛ لفوات أوان العمل.
والآية الكريمة إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم ولا ينجيهم من النار الاعتذار ولا يمنحون الرضا، بسبب كفرهم ومعاصيهم.
المفردات:
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : ولقد بيّنا لهم في القرآن من كل صفة، كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ، وَضَرْبُ المثل: ذكره وبيانه.
{مُبْطِلُونَ} : أصحاب أباطيل وَمُزوِّرون.
{يَطْبَعُ} : يختم.
{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} : ولا يحملنَّك على الخِفَّة والقلق.
{الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} : لا يصدِّقون بالبعث، ولا يؤمنون بالله ورسوله إيمانًا حقًّا.
التفسير
58 -
أي: ولقد بينا للناس في هذا القرآن الحقَّ ووضَّحناه وضربنا لهم فيه الأَمثال ليستبينوا الحق ويتَّبعوه، وقصصنا عليهم من كل صفة عجيبة الشأن كصفة الكفار للمبعوثين يوم القيامة، وما يقولون وما يُقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يُسْمَع من استعتابهم، ولئن أتيتهم بآية من الآيات، أو بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها أو غيرها ليقولَنَّ الذين كفروا لك وللمؤمنين الذين اتَّبعوك: إن أنتم إلَاّ أصحاب أباطيل مُزَوِّرون، وذلك لشدَّة عُتُوِّهم وعنادهم وقساوة قلوبهم.
59 -
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} :
أي: مثل ذلك الختم يختم الله - تعالى - على قلوب الجهلة الذين لا يطلبون العلم، ولا يتحرّون الحق، بل يصرون على خرافات اعتقدوها، وتُرَّهات ابتدعوها، فإن الجهل يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المُحِق.
قال العلامة الزمخشري في الكشاف: ومعنى طبع الله، أي: منع الألطاف التي ينشرح لها الصدر حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها مَنْ عَلِم أنها لا تُجْدي عليه، ولا تُغْنِي عنه، فكأنَّه قال: كذلك تقسو وتصدأُ قلوب الجهلة حتى يُسَمُّوا المُحِقِّين مُبطلين وهم أعْرَقُ خلق الله في تلك الصِّفة. اهـ: باختصار ج 3 ص 209.
60 -
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} :
أي: إذا علمت حالهم، وطبع الله - تعالى - على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السَّيئة، إن وعد الله حق، وقد وعدك عز وجل بالنَّصر وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق، ولا بدَّ من إنجازه والوفاء به، لأَن وعْدَه سبحانه وتعالى لا يتخلَّف ولا يحملنك على القلق وعدم الصبر الذين لا يؤمنون بدعوتك، بل كذَّبوا بها وآذوك بأباطيلهم وهم شاكُّون ضَالُّون لا يُسْتَبعدُ أمثال ذلك منهم.
وفي الآية من إرشاده - تعالى - لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وتعليمه - سبحانه - له كيف يتلقَّى المكاره بالصبر انتظارًا للفرج، ما لا يخفى.