الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة غافر
مكية وآياتها خمس وثمانون
تسمى هذه السورة أيضًا سورة المؤمن؛ لأن الله - تعالى - ذكر فيها قصة رجل مؤمن من آل فرعون، وتسمى سورة الطَّوْل لقوله تعالى:{ذِي الطَّوْلِ} .
وهي أُولي الحواميم السبع التي قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: "إن لكل شىءٍ لبابًا ولباب القرآن آل حم أو قال: الحواميم".
وكان يقال لهن: (العرائس) كما قال مِسْعَر بن كِدَام، رواه القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن.
وروى عن عبيد الله قال: "إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا ، فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير ويتعجب منه، إذ هبط على روضات دَمِثَاتٍ (1) فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب وأعجب، إن مثل الغيث الأول مثل عُظْم (2) القرآن. وإن مثل هؤلاءِ الروضات الدَّمثات ، مثل آل حم في القرآن" أورده البغوي (3).
مقاصد السورة
بدأت هذة السورة بوصف القرآن العظيم بأنه منزل من عند الله العزيز العليم، وأنه لا يجادل في آيات الله إلَاّ الذين كفروا.
ثم بينت أن تكذيب نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ليس أمرًا خاصا به، بل هو أمر عام لكل الأنبياء والمرسلين، وأن الله عاقب كل أولئك المكذبين.
ثم بينت أن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للمؤمنين، وأنه - تعالى - يُرى عباده آياته، ويرزقهم من السماء، وأنه رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذرهم يوم التلاقى والحساب.
(1) جمع دمثة بفتح فكسر، وهي الأرض السهلة الرخوة.
(2)
بوزن قفل، أي: أكثره.
(3)
انظر ابن كثير.
وبينت أنه - تعالى - أمر رسوله أن ينذر قومه: {يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وأنه - تعالى - يقضى بين عباده بالحق.
ثم بينت أن الله - تعالى - أهلك من قبل قريش من القرون المكذبة من هم أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض، وأن عليهم أن يمروا بأرضهم ليتعظوا بما أصابهم، ثم حكى قصة فرعون مع موسى عليه السلام وتكذيبه له ، وقصة مؤمن آل فرعون ووعظه لقومه، وطلب فرعون من هامان أن يبنى له صرحًا، لعله يبلغ أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى:{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} حيث وقى الله - تعالى - موسى سيئات ما مكر فرعون وقومه، وحاق بآل فرعون سوءُ العذاب.
ثم ذكرت أن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ووعده النصر فقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
وبينت أنه لا يستوى الكافر والمؤمن، كما لا يستوى الأعمى والبصير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله تعالى قال:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وذكرت بعض آيات الله في كونه، حيث جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا، وجعل الأرض قرارًا. والسماء بناءً، وصوَّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، وأنه خلق عباده من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم أطفالًا ثم ليبلغوا أشدهم؛ ثم ليكونوا شيوخًا، ومنهم من يتوفى - من قبل.
ثم توعدت المكذبين والمجادلين في آيات الله بالأغلال في أعناقهم ، والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون.
ثم ذكرت أن الله أرسل رسلًا من قبل نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم منهم من قصه الله عليه ومنهم من لم يقصصه عليه، وما كان لرسول أن يأتى بآية إلَاّ بإذن الله.
ثم بينت في ختامها أن الله عاقب مكذبي الرسل من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهم لما رأوا بأس الله آمنوا بالله وحده، وكفروا بما كانوا به مشركين:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُون} .
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{قَابِلِ التَّوْبِ} : قابل التوبة والرجوع عن المعاصي إلى الطاعة.
{ذِي الطَّوْلِ} : صاحب الغنى والسعة - كما قال مجاهد -.
التفسير
1، 2 - {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}:
تقدم الكلام على مثل {حم} من الحروف المقطعة التي بدئ بها بعض السور كالبقرة، وآل عمران، فارجع إليه إن شئت.
ووجه مناسبة أولها لآخر الزُّمر، أنه - تعالى - لمَّا ذكر هناك ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين، ذكر جل جلاله هنا أنه غافر الذنب وقابل التوب، ليكون ذلك استدعاءً للكافرين إلى الإيمان وترك ما هم فيه.
وبَيْنَ السورتين أوجهٌ عديدة من المناسبة، وحسبك في ذلك أنه ذُكِرَ في كلتيهما أهوال يوم القيامة، وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار، وقد فُصِّل في هذه ما لم يفصل في تلك.
وفي تناسق الدرر: وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر، تآخى المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب - انظر الآلوسي.
3 -
هذه كلها صفات للفظ للجلالة في الآية التي قبلها.
ومعني الآيتين: تنزيل القرآن كائن من الله الغالب فلا يقهر، العليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، غافر الذنب الذي سلف، وقابل التوبة في الحاضر والمستقبل، من كل من تاب عنه معاصيه من عباده، شديد العقاب لمن طغى وآثر الحياة الدنيا على مرضاة ربه، صاحب الخير الكثير، فلا يليق بعاقل أن ينصرف عن مرضاته، لا إله إلا هو إليه المرجع والمآب، فيحاسب كل امرئ على ما قدمت يداه.
وهذه الآية تفتح باب المتاب للتائبين مهما كانت ذنوبهم، وفي سعة رحمة الله يقول - سبحانه -:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) فليبادر كل عبد بالتوبة من ذنبه قبل أن يلتحق بربه بمعاصيه وآثامه؛ ليفوز بغفرانه ويتقى سوء عذابه.
وينبغى أن ينصح المؤمن التقى غيره حتى ينصلح حاله، أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذا بأس، وكان يَفِد إلى عمر بن الخطاب، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن نلان، فقالوا، يا أمير المؤمنين يتابع في الشراب - قال: فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلَاّ هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه، وأن يتوب الله عليه.
فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرؤه ويردده ويقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} قد حذرنى الله عقوبته، ووعدنى أن يغفر لي.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد:"فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النَّزْع (2)، فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زلّ زلّة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه".
(1) سورة الزمر الآية: 53.
(2)
أي: ثم تاب فأحسن التوبة.
{مَا يُجَادِلُ} : ما يخاصم.
{فَلَا يَغْرُرْكَ} : فلا يخدعك.
{تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} : تنقلهم فيها للتجارة.
{وَالْأَحْزَابُ} : الذين تحزبوا على الرسل في كل أمة.
{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي: ليبطلوه ويزيلوه به.
التفسير
4 -
الجدال: الخصام والنقاش، وهو نوعان: جدال بالباطل، وجدال بالحق، وقد سجل الله في هذه الآية الكفر على الذين يجادلون في آيات الله بالباطل، بالطعن فيها، يريدون إدحاضها، وإبطالها، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} . أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحلِّ مشكلها، واستنباط معانيها وأحكامها، ورد أهل الزيغ عنها فهو جهاد عظيم في سبيل الله.
وعندما نجادل أهل الكتاب في عقائدهم ونصوص كتبهم، نجادلهم بدون اعتداءٍ، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1).
وقد كانت قريش تجادل في القرآن غرورًا بما هم فيه من السعة والتجارة، من مكة إلى الشام وإلى اليمن وبالعكس، فأوصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يغره ولا يخدعه تقلبهم في تجارتهم في البلاد، وسلامتهم من العقاب مع كفرهم، فإنه متاع في الدنيا قليل، عاقبته الهلاك في الدنيا، ثم العذاب يوم القيامة عقوبة لهم إن بقوا على كفرهم، "إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
والمعنى الإجمالي للآية: ما يجادل في آياتنا الواضحة البيان، المؤيدة بالبرهان، إلَاّ الذين كفروا بالحق مع وضوحه، فلا يغررك أيها الرسول ولا يخدعك تقلبهم في التجارة من بلد إلى بلد، وما هم فيه من الغنى والسعة، فإن ذلك متاع قليل بعده الهلاك وسوء العقاب، كما قال تعالى في سورة آل عمران:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (2).
وكما قال في سورة لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} (3).
ثم سلى الله نبيه بما حدث للرسل قبله من أقوامهم فقال:
5 -
القوم قد يؤنث بتأويل الجماعة، وهو هنا كذلك، ولذا أُنث له الفعل في كذبت والأخذ يستعمل بمعنى الحبس والمنع تارة، وبمعنى الإهلاك تارة أُخرى.
والمعنى: كذبت قبل قريش قوم نوح والأحزاب من بعدهم - كذب هؤلاء جميعًا - رسلهم الذين دَعَوْهم إلى نبذ الأوثان، وعبادة الواحد الديان، وحاولت كل منهم حبس رسولهم ليقتلوه، وهموا بذلك، ومنهم من قتلوه، وخاصموا بالباطل من القول ليقضوا
(1) سورة العنكبوت من الآية: 46.
(2)
الآيتان: 196 - 197.
(3)
الآية: 24.
به على الحق، فأهلكتهم واستأصلتهم، فكيف كان عقابى لهولاء؟ كان عقابًا مستأصلا رادعًا لسواهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يَغْرُرْكَ تقلب قومك في البلاد وما هم فيه من الحرية والسعة، فهم أهون على الله من أولئك.
6 -
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} :
أي: ومثل قضائه على الذين تحزبوا على رسلهم من قبلك يا محمد - مثل قضائه ذلك - حقت كلمة ربك وقضاؤه بالإهلاك للمشركين من قومك - إن بقوا على كفرهم وشركهم، لأنهم أصحاب النار مثل سابقيهم، فالعلة واحدة، وهي أنهم أصحاب النار وأهلها مثلهم، لكونهم كفارًا معاندين، مهتمين بقتل نبيهم اهتمام أولئك بقتل أنبيائهم.
المفردات:
{الْعَرْشَ} العرش في اللغة: بمعنى سرير الملك، وسيأتي الكلام عليه في التفسير.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} : بساتين إقامة، من عَدَن بالمكان أقام به.
التفسير
7 -
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
…
الآية}:
يقول القرطبي: وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتًا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة.
ويقول الآلوسي: هو جسم عظيم له قوائم الكرسى، وما تحته بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة: اهـ.
وقد جاء في وصفه ووصف أجسمام حملة العرش آثار متعارضة، لا نرى داعيا لذكرها في تفسيرنا هذا.
والذي ينبغي أن نؤمن به هو أن لله عرشا عظيما هو مصدر أوامره لملائكته، ليقوموا بما يكلفون به في كون الله - تعالى -.
وإذا كان العرش هو الكرسي فإنه أكبر من السموات والأرض، كما قال تعالى في سورة البقرة:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . ولابد أن يكون تكوينه أعجب وأعظم من السموات والأرض، وأن تكون فيه الهيمنة عليها والارتباط بها، وهو حادث أوجده الله بعد أن لم يكن، فقد جاء في الحديث الصحيح:"كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء".
ويجب الإيمان بأن العرش ليس موضعا لجلوس الله - تعالى - فإنه - تعالى - ليس كالأجسام حتى يحتاج إلى مكان {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).
ولم أر حديثا صحيحا في كون العرش له قوائم، فإذا كان العرش يسع السموات، والأرض فما حاجته إلى القوائم، وعلى أي شيء يرتكز والسموات دونه كحلقة ملقاة في فلاة، إنه حينئذ يكون شأنه كشأن السموات في أنها بغير عمد ترونها، فهو مرفوع مثلها
(1) سورة الشورى من الآية: 11.
في الفضاء الكوني بقدرة الله التي ربطت بين الكون برابطة الجاذبية، وبما هو فوق مستوى العقول، فسبحان العزيز الحكيم القدير العليم.
ومن العلماء من قال: إنه غير الكرسي وإنه أعظم منه، استنادا إلى حديث أخرجه ابن مردويه بسنده عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسى بيده ما السموات السبع عند الكرسى إلَاّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسى، كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
وظاهر الآية أن الملائكة يحملون العرش حقيقة، ونحن نقول: ما المانع من أن يكون المراد من حملهم إياه كونهم الرؤساء الذين يحملون مسئولية تبليغ أوامر الله لسائر ملائكته في كونه. والله تعالى أعلم.
والملائكة الذين حول العرش كثيرون لا يحصى عددهم سوى الله - تعالى - وقيل: هم سبعون ألف صف يطوفون مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صفٍّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتكبير والتهليل، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم واحد إلَاّ وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر، وقيل غير ذلك.
ولكننا نقول: إن محاولة ضبط أعدادهم من الرجم بالغيب، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (1).
والمعنى الإجمالي للآية: الملائكة الذين يحملون عرش الرحمن ويبلغون أوامر ربهم منه، والملائكة المنبثون حول العرش، ينزهون الله - تعالى - عن كل ما لا يليق به، قائمين بحمد ربهم على نعمه التي لا غاية لها، ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا قائلين في استغفارهم:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فرحمتك تتسع لذنوبهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم، فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عن معاصيهم وآثامهم، واتبعوا ما أمرتهم به من الطاعات، واحفظهم من عذاب الجحيم.
(1) سورة المدثر من الآية: 31.
8، 9 - {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}:
ومن دعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة قولهم: ربنا وأدخل الذين رجعوا عن ذنوبهم واتبعوا سبيلك، جنات عَدْن يقيمون بها هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وتجاوز عن تقصير بعضهم حتى يلحقوا في الدرجة من هم أعلى منهم من آل بيتهم، لتقر أعينهم وتستريح نفوسهم، إنك أنت العزيز الذي تنفذ مشيئته ولا ترد كلمته، الحكيم في أقواله وأفعاله، وحكمه وقضائه، وجَنِّبهم جزاء السيئات ووبالها، وما تجنبه جزاءها يوم القيامة فقد رحمته، حيث لطفت به فنجيته من عقوبتها وذلك هو الفوز العظيم الذي لا غاية وراءه.
قال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية:{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
شروع في بيان أحوال الكفرة أهل النار، إثر بيان أحوال المؤمنين أهل الجنة، فالأمور تتميز بضدها فضل يتميز.
وقد دلت الآية على أن الكافرين يمقتون أنفسهم ويبغضونها، وذلك حينما يعلمون أنهم أصحاب النار.
وقيل: إنهم يمقتونها حين يقول لهم الشيطان: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (1)، وقيل: حين دخولهم النار.
ونحن نقول: إنه لا مانع من أن يمقتوا أنفسهم في ذلك كله. والذين ينادونهم هم خزنة النار، وقيل: هم المؤمنون ليضاعفوا حسرتهم.
ومعنى الآية: إن الذين كفروا بالله ورسله، ينادون حين يمقتون أنفسهم لتسببها في عذابهم - ينادون - حينئذ من الملائكة أو من المؤمنين: لَبُغْضُ الله لكم أشد من بغضكم لأنفسكم، حين تدعون من أنبيائكم إلى الإيمان فتكفرون، مع وضوح الحجة وسطوع البرهان، فحق عقابكم لبغض الله لكم بسبب كفركم.
أفادت هذه الآية أن الكفار يسترحمون ويطلبون من الله الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا من الصالحات ما فاتهم، ويتوسلون إلى ذلك، بأنه قادر على تحقيق ما يطلبون فقد أماتهم مرتين، وأحياهم مرتين، فهم يرجون الإحياء مرة ثالثة.
والمقصود من إماتة المرة الأولى: أنه جعلهم ترابًا لا حياة فيه قبل خلق آدم منه، قال ابن مسعود: هذه الآية كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2). وبهذا قال ابن عباس والضحاك وغيرهما.
وقال السدى: أميتوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة وقيل غير ذلك.
(1) سورة إبراهيم من الآية: 22.
(2)
سورة البقرة الآية: 28.
ويرجح ابن كثير الرأى الأول ثم يقول: بل هو الصواب الذي لا شك فيه.
واستعمال الإماتة في ذلك على سبيل التجوز، والمراد: جعل الشيء لا حياة فيه، وليس على معنى صرف الحياة عنه بعد أن كانت موجودة فيه، كما تقول: ضَيَّقَ فَمَ القربة، أي جعله ضيقا، وليس على معنى أنه كان واسعًا فضيقه.
ويلخص ابن كثير مواقف الكفار في يوم القيامة فيقول: والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله في عَرَصات القيامة كما قال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (1). فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ، ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون، قال الله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (3)، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (4) وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة، وهي قولهم:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي: قدرتك عظيمة، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وأننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا:{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا للدار الدنيا، فإنك قادر على ذلك، لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا: أن لا سبيل إلى رجوعكم إلى الدنيا، وهذا الجواب ملحوظ غير ملفوظ، وقد دلت عليه الإشارة في قوله تعالى:
(1) سورة السجدة الآية: 12.
(2)
سورة الأنعام الآيتان: 27 ، 28.
(3)
سورة فاطر الآية: 37.
(4)
سورة المؤمنون الآيتان: 107 - 108.
فهذه الآية تعليل للمنع من إجابتهم، المطوى بين الآيتين، أي: ذلكم المنع بسبب أن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه، بل تجحده وتنفيه، فأنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدنيا، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . انتهى بتصرف.
{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} : فهو الحكم العدل في خلقه، ولا حُكم يوم القيامة لسواه، وقد حكم للمؤمنين بالجنة هم فيها خالدون، وحكم على الكافرين بالنار هم فيها لا يخرجون.
الخطاب هنا لجميع البشر، فآيات الله مرئية لعباده جميعا، وحجته قائمة عليهم.
والمعنى: الله هو الذي يريكم آياته الدالة عليه في السموات والأرض، من الذرة إلى المجرة، وهو الذي يطعمكم ويسقيكم، حيث ينزل لكم من السماء أمطارا هي السبب الأول في أرزاقكم، فمنها تشربون، وبها تروون زروعكم وبساتينكم، فيخرج لكم بفضله أنواعا مختلفة من الطعام والفاكهة العجيبة الشأن، الكثيرة الألوان - صيفا وشتاءً: - وكلها تستقى بماء واحد، ويفضل الله بعضها على بعض في المذاق والغذاء والدواء، وما يتذكر ويتعظ إلا من يرجع إلى الله عن طاعة نفسه الأمارة بالسوء، والشيطان الذي يفسد على الناس عقولهم، وأفكارهم، ويرجع عن تقليد الآباء في عقائدهم، فهذا هو المنيب إلى الله، الراجع إليه من الصوارف عن الهدى.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}
الخطاب هنا للمؤمنين، والمراد من دعاء الله: عبادته.
والمعنى: فاعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فهو الذي يستحق العبادة وحده، ولو كره الكافرون.
أخرج الإِمام أحمد بسنده إلى أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن مِدْرسى المكى قال: "كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شى قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دُبُرَ كل صلاة" أي: يرفع صوته بهن عقب كل صلاة.
المفردات:
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} : عَلِيّ القدر جليل الشأن في ذاته وفي صفاته.
{ذُو الْعَرْشِ} : صاحبه وخالقه لا عن حاجة إليه.
{يُلْقِي الرُّوحَ} : ينزل الوحى.
{يَوْمَ التَّلَاقِ} : يوم يلتقى الخلق بالخالق، والمخلوقون بعضهم ببعض في زحام القيامة.
{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} : ظاهرون لا يخفى على الله منهم شيء.
التفسير
15 -
أمر الله في الآية السابقة أن يدعو المؤمنون ربهم مخلصين له الدين، وجاءت هذه الآية لتبين رفعة قدر الله تعالى في ذاته وفي صفاته وفي سماواته وفي عرشه، وأنه تعالى هو صاحب الشأن في الوحى، يلقيه على من يشاء من عباده الخيرة.
وإطلاق اسم الروح على الوحى، لأنه للأرواح بمنزلة الروح للأبدان، فكما تحيى الأبدان بالروح، تحيى الأرواح بالوحى، فهي بدونه في حكم الميتة.
ومن العلماء من فسر الروح بالقرآن، لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (1) ومنهم من فسره بجبريل، لقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} (2) وكلها معان متقاربة، بل متلازمة.
ويوم التلاقى هو يوم القيامة، حيث يلتقى المخلوق بخالقه للحساب والجزاء، ويلتقى جميع البشر بعضهم ببعض في موقف الحساب والقضاء، وهو يوم عصيب على العصاة والكافرين، فلهذا كان من أهم أغراض الوحى لجميع الأنبياء إنذار أممهم أهوال هذا اليوم ليجتنبوها بالإيمان والطاعة.
والمعنى الإجمالي للآية: هو الله رفيع القدر في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي سماواته، وجميع كائناته، صاحب العرش المحيط بهذا الكون، ينزل الوحى من أمره على
(1) سورة الشورى من الآية: 52.
(2)
سورة الشعراء الآية: 193 ومن الآية: 194.
من يختاره من عباده الأكرمين ، ليخوف الناس من يوم قيام الناس لرب العالمين، وتلاقيهم معه للحساب والجزاء، حتى يجتنبوا الموبقات، ويفعلوا المنجيات من الطاعات.
16 -
هذه الآية لزيادة توضيح المخاوف في يوم "التَّلاق" ولفظ "يوم" هنا بدل من {يَوْمَ التَّلَاقِ} في الآية السابقة، وقد بينت هذه الآية أن الخلائق يومئذ ظاهرون لله، فلا يخفى على الله منهم شيء مما عملوه في الدنيا، فقد أحاط بكل شيء علمًا، كما أنهم ظاهرون بعضهم لبعض، حيث زالت الجبال والتلال، واستوت الأرض فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتا، ولا يوجد ملجأ يختفى فيه أحد عن الله أو عن غريمه.
وقد كان في الدنيا ملوك ملكهم الله على عباده، وجعل لهم الحكم في رعاياهم، وقد زال سلطانهم في الآخرة، وأصبحوا مسئولين كسائر رعاياهم، بل أشد منهم، فإن الملك يومئذ لله الواحد القهار.
وفي هذا اليوم العصيب يسأل من قتل الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجاب من جهة الخلائق: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .
قال القرطبي نقلًا عن النحاس: وأصح ما قيل فيه، ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله عز وجل عليها، فيؤمر منادٍ ينادى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورًا وتلذذًا، ويقوله الكافرون غمًّا وانقيادا، وخضوعًا"، ثم قال: والقول صحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل.
والمعنى الإجمالي للآية مَعَ ما قبلها مما يرتبط بها: يلقى الله الوحى من أمره على من يختاره من عباده لتبليغ رسالته، لينذر يوم التلاقى، يوم جميع الناس ظاهرون لعلم الله، لا يغيب عنه شيء من أفعالهم وذواتهم وصفاتهم، ظاهرون بعضهم لبعض، أولهم وآخرهم لا يحجب بعضهم عن بعض حجاب، فقد سويت الأرض، وأزيل منها الجبال والهضاب، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وحينئذ يسأل الملائكة في هذا اليوم العصيب والمحشر الرهيب:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب الخلائق مؤمنهم وكافرهم: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} .
17 -
بعد ما يقر الخلائق بأن الملك يوم القيامة لله الواحد القهار، يجابون من قبل الله على ألسنة الملائكة: اليوم تجزى كل نفس بما كسبته في دنياها، الحسنة بعشر أمثالها إلى ما شاء الله، والسيئة بمثلها، لا ظلم اليوم في محكمة العدل الإلهى، ولا بطء في صدور الأحكام، إن الله سريع الحساب، لا يشغله حساب أحد عن حساب آخر، ولا حساب أمة عن حساب أخرى، فإنه - تعالى - ليس محتاجا إلى تذكر أعمال العباد أو الاطلاع عليها في كتب أعمالهم ، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم في ساعة واحدة، فكل واحد منهم يتلقى كتاب عمله، ويرى فيه حسناته وسيئاته والحكم الذي صدر له أو عليه ، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (1) كما أنه تعالى ليس محتاجا إلى شهود {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2). نسأل الله الأمان في ذلك اليوم الرهيب.
المفردات:
{يَوْمَ الْآزِفَةِ} : يوم القيامة، سمى بالآزفة لقربه، من أزف الشيء يأزَفُ أزَفًا إذا قرب، فهو من باب تعب.
{كَاظِمِينَ} : كاتمين مع الضيق.
(1) سورة الإسراء الآيتان: 13، 14.
(2)
سورة النور الآية: 24.
{حَمِيمٍ} : قريب يهتم لأمرهم.
{خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} : هي النظرة الخفية إلى ما يعاب في العلانية.
التفسير
18 -
يأمر الله نبيه في هذه الآية بأن ينذر قومه المشركين ويخوفهم من يوم القيامة المسمى: بالآزفة لقربه، فإن ما بقى من عمر الدنيا بالنسبة إلى ما مضى منه قليل جدًا، وقد ظهرت أشراطها وعلاماتها فضلا عن أن كل آت قريب.
ونظير هذه الآية: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} (1) أي: قربت الساعة، وقد وصف الله يوم الآزفة بأن القلوب تصل فيه إلى الحناجر ، وهذا على سبيل المجاز، مثل قوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2).
وتراهم في هذه الشدة كاظمين كاتمين لغمهم وكربهم، لا يتكلمون إلَاّ بإذن الله، وليس لهم شفيع يطاع، فقد منع الله الشفاعة للكفار ، قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (3) فلا شفيع لهم في هذا اليوم حتى يطاع.
والمعنى الإجمالي للآية: وخوِّف المشركين - أيها الرسول - من يوم الساعة القريبة. حيث يشتد فيه الأمر حتى كأن القلوب تبلغ الحناجر كاظمين كاتمين لهمومهم وأحزانهم وكروبهم، ليس للظالمين في ذلك اليوم صديق يشفق عليهم، ولا شفيع مأذون له حتى يطاع وتقبل شفاعته.
(1) سورة النجم الآية: 57.
(2)
سورة الأحزاب من الآية: 10.
(3)
سورة الأنبياء من الآية: 28.
19 -
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} :
أي: يعلم الأعين الخائنة، قال ابن عباس: هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسَّس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها.
وقال مجاهد: "هي مسارقة الأعين إلى ما نهى الله عنه" وهذا أشمل، وكما يعلم الله خائنة الأعين، يعلم ما تخفيه صدور الناظرين: هل يزنون لو خلوا بها أو لا.
20 -
والله يجازى من نظر إلى المحارم ومن لم ينطر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش ومن عزف قلبه عنها.
والأوثان التي يعبدونها من دون الله لا تقضى بشى؛ لأنها لا تعلم شيئا ولا تملك، إن الله هو السميع لأقوال خلقه البصير بأعمالهم، فيجازيهم حسب أعمالهم.
المفردات:
{عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: آخر أمرهم، وعاقبة كل شيء آخره.
{وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} أي: ما يبقى بعدهم كالقلاع والحصون. والمفرد: أثر مثل: سبب وأسباب.
{مِنْ وَاقٍ} : من مانع يمنع عنهم عذاب الله.
{بِالْبَيِّنَاتِ} أي: المعجزات الواضحات.
التفسير
21 -
المعنى: أقعد الكفرة المكذبون برسالتك ولم يسيروا في الأرض فينظروا ما آل إليه حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأمثالهم. كانوا هم أشد منهم قوة وتمكنا في التصرفات، وأقوى آثارًا في الأرض مثل: القلاع الحصينة، والمدائن القوية، وقد حكى الله عن قوم منهم: أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا مما لا يقدر عليه هؤلاء كما قال تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (1) ومع هذه القوة العظيمة، والبأس الشديد لم يتركوا يمرحون، بل حقت عليهم كلمة الله، فأخذهم أخذا وبيلًا. تركهم أثرًا بعد عين، وما كان لهم واق من الله يمنع عنهم العذاب الذي حل بهم، ويقيهم منه، وأريد بذلك التنبيه على عجز شركائهم عن إنقاذهم من الهلاك.
22 -
أي: سبب ذلك الأخذ البالغ الغاية في الشدة أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات البينة، والأحكام الواضحة التي تنير لهم طريق الحق. فقابلوهم ريثما أتوهم بالإعراض والكفر. فأهلكهم الله، ودمَّر عليهم بسبب ما صنعوا؛ لأنه - سبحانه - متمكن مما يريده غاية التمكن قادر عليه.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} : لمن كذب برسله وآياته.
(1) سورة الأحقاف، جزء من الآية 26.
المفردات:
{بِآيَاتِنَا} : جمع آية وهي للعجزة.
{وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} المراد بالسلطان هنا: الحجة الواضحة والبرهان البيِّن.
{وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: وما مكرهم إلَاّ في خسران.
{أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي: أن يغير عبادتكم لي بعبادتكم لغيرى.
{إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: جعلته معاذًا لي ولكم، بمعنى: اعتصمت به، يقال: استعذت بالله وعذت به معاذا وعياذًا: اعتصمت.
التفسير
23 -
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :
في ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى. تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن تكذيب من كذبه من قومه. وبشارة له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى
لموسى بن عمران. فإن الله أرسله بالمعجزات البينة والدلائل الواضحة، والحجج القاهرة فكذبوه فأغرقهم الله.
والمراد بالسلطان المبين: ما أريد بالآيات، ونُزِّل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين.
وحكى الطبرسى أن المراد بالآيات: حجج التوحيد. وبالسلطان المبين: المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام التي أرسل بها.
24 -
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} :
فرعون ملك القبط بالديار المصرية وهامان وزيره في مملكته، وقارون قيل: هو الذي كان من قوم موسى. وقيل: غيره، وكان مقدم جيوش فرعون. وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع.
{فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} : يعنون أن موسى عليه السلام ساحر فيما أظهره من المعجزات التي حملوها على السحر. كذاب في دعواه أن الله أرسله، قالوا ذلك لما عجزوا عن معارضته.
25 -
لم يكترث موسى عليه السلام بقولهم عنه: ساحر كذاب، ومضى في تبليغ رسالة ربه بالبرهان القاطع الدال على أن الله - تعالى - أرسله إليهم، وحينما عجزوا عن معارضته دفعهم العجز عن المعارضة والغيظ الذي تمتليء به قلوبهم إلى الانتقام ممن آمن به، حيث قالوا:{اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} أي: اصنعوا بهم ما كنتم تفعلونه من قتل أبنائهم وترك نسائهم أحياء كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام وتأييده، فالأمر بالقتل والاستحياء حدث من فرعون مرتين، المرة الأولى كانت قبل ميلاد موسى عليه السلام لأجل الاحتراز من وجود من يقتل فرعون بعد أن أخبره الكهنة والمنجمون بأن أحد بني إسرائيل سوف يسلبه ملكه، أو كان غرضه إذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الأمرين، والمرة الثانية كانت بعد إرسال موسى عليه السلام إليه وإيمان من آمن معه كما يقول
قتادة؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى عليه السلام فلما بعث الله موسى أعاد القتل علي بني إسرائيل غيظًا وحنقا، وزعمًا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته ظنًّا منه أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكه على يده، وقد شغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر، فأغرق الله فرعون وجنوده وهذا معنى قوله تعالى:{وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: إلا في خسران وهلاك لا يغنى عنهم شيئًا، وهذه الجملة جىء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بطلان ما أظهروه من الوعيد، واضمحلاله بالمرة، والإظهار في موضع الإضمار حيث لم يقل وما كيدهم لذمهم بالكفر، والإشعار بعلة الحكم.
26 -
وقال فرعون لقومه: اتركونى أقتل موسى، وكان فرعون إذا هَمَّ بقتل موسى عليه السلام كَفُّوه بقولهم: ليس هذا مما تخافه فهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله. وإنك لو قتلته أدخلت على الناس الشبهة، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، وعدلت إلى المقارعة بالسيف، ولكنه كان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء. فكيف لا يقتل من أحسّ أنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه. ولكنه مع ذلك كان يخشى إذا همَّ بقتله أن يعاجل بالهلاك، فقوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى
…
الآية} كان تمويهًا على قومه، وإيهاما بأنهم هم الذين يكفونه - وماكان يكفه في واقع الأمر إلَاّ ما تمتلىء به نفسه من هول وفزع وقوله:{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} تجلد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه أي: لا يهولنكم ما يذكر عن ربه فإنه لا حقيقة له، وأنا ربكم الأعلى .. قال ذلك استهانة بموسى حسب ظاهره .. كما يقال: ادع ناصرك فإنى منتقم منك. أما بحسب باطنه فكانت ترتعد فرائصه. ويضيق صدره. وتتلاحق أنفاسه خوفًا من دعاء موسى لربه، ثم يقول تبريرًا لما زعم أنه يريد قتله، للتمويه على أتباعه:
{إِنِّي أَخَافُ} إن لم أقتله {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي: أن يغير ما أنتم عليه - وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام التي أمرهم بنحتها وعبادتها لتكون لهم شفعاء عنده كما كان كفار مكة يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
{أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} كما أنى أخاف أن يظهر في أرضكم الفساد إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية، بأن يُحيل أمنكم إلى اضطراب وتناحر، فتتعطل المزارع والمكاسب، ويهلك الناس قتلًا وضياعًا، وقال قتادة: عنى بالفساد طاعة الله - تعالى - فأراد أن الفساد في الأرض بظهور طاعة الله.
27 -
أي: وقال موسى عليه السلام لقومه بعد ما تردد على لسان فرعون من حديث قتله: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} . والخطاب في قوله: {وَرَبِّكُمْ} لمن آمن بموسى أي: اعتصمت بالله ربي وربكم واستعذت به ويؤيده قوله تعالى في سورة الأعراف: {قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (1) وليس الخطاب لفرعون وقومه، فإن فرعون ومن معه لا يعترفون بربوبيته - تعالى - وفي قوله:{رَبِّي وَرَبِّكُمْ} بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه. ويعتصموا به اعتصامه، فإن في تظاهر النفوس تأثيرًا قويًا في استجلاب الإجابة وصدّر عليه السلام كلامه بإن تأكيدا ، وتنبيها على أن السبب المؤكد في دفع الشدة هو العياذ بالله - تعالى - ولم يُسَمِّ موسى فرعون حين استعاذ بالله ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة بقوله:{مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} لتعميم الاستعاذة والإشعار بعدة الجرأة على الله - تعالى - ، وأراد بالتكبر الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة صاحبه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم بالجزاء، ليكون أدل وأدل على أنه بلغ الغاية في الطغيان، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة. فقد استكمل القسوة والجرأة على الله - تيعالى - ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها.
(1) سورة الأعراف من الآية: 128.
المفردات:
{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي: من أهله وأقاربه.
{يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} أي: يخفيه ويستره عن فرعون وقومه.
{جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالآيات التسع الدالة على صدقه.
{يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: إن لم ينزل بكم كل الذي يعدكم به، بل بعضه هلكتم.
ووعد يستعمل في الخير والشر وهو في الخير أكثر، ويتعدى بنفسه وبالباء. وقالوا: أوعده خيرا وشرا بالألف أيضًا وهو في الشر أكثر.
{مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} : وهو الذي جاوز القصد وجانب الاعتدال في أموره.
التفسير
28 -
ذكر بعض المفسرين أن اسم هذا الرجل حبيب، وقيل: شمعان قاله السهيلى، وهو أصح ما قيل فيه، وهو قبطى من أهل فرعون وأقاربه آمن بموسى سرًّا. قال السدى: وهو
الذي نجا مع موسى عليه السلام وهذا الرجل هو المراد بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى
…
الآية} (1) وهو قول مقاتل، وقال ابن عباس: لم يكن مؤمن من آل فرعون غيره وغير امرأة فرعون، ولم يتعرض له فرعون بسوءٍ؛ لأنه كان ابن عمه وصاحب شرطته كما قال الآلوسي، أو لأنه كان يكتم إيمانه عن فرعون وملئه دون موسى عليه السلام ومن اتبعه - قال هذا الرجل المؤمن لقومه -:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: أتقصدون قتله كراهة أن يقول: ربي الله وحده من غير رَوِيَّة منكم في أمره، وقد جاءكم بالمعجزات الظاهرة الشاهدة على صدقه، والأدلة الكثيرة، وهذا استنكار من ذلك الرجل عظيم، وتبكيت لهم شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة. وما لكم من شيء تأخذونه عليه إلَاّ كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: {رَبِّيَ اللَّهُ} والحال أنه قد جاءكم بالبينات التي عاينتموها وشاهدتموها لا بينة واحدة جاءكم بها من عند ربكم الإله الحق. وهذا استدراج لهم إلى الاعتراف واستنزال لهم عن رتبة المكابرة. ثم أخذهم بالاحتجاج فقال:
{وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولم يكن ذلك لشك في رسالته وصدقه، ولكن تلطفًا في كفِّهم أي: لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله:
{وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: وإن يكن موسى رسولًا صادقًا، يصبكم بعض العذاب الذي يتوعدكم به إن لم يصبكم كله إلَاّ إذا تعرضتم له بسوءٍ وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة بعض ما يتوعدهم به أفاد أنه مهلك مخوف، فما بالهم إذا أصابهم كله، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولهذا قدَّم احتمال كونه كاذبًا، وقيل: المراد بصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا. وهو بعض ما يعدهم، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالًا عندهم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} : استئناف قصد به احتجاج آخر ذو وجهين:
أحدهما: أنه لو كان مسرفًا كذابا لما هداه الله إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيها: أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به
(1) سورة القصص، من الآية:20.
المعنى الأول، وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم. وفيه تعريض بفرعون بأنه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعائه الربوبية لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج الحياة.
المفردات:
{ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين فيها.
{مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} : من عذابه.
{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلَاّ بما أرى لنفسى.
{إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: طريق الصلاح والصواب، وهو خلاف سبيل الغى والضلال.
{يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} : يطلق القوم على الرجال ليس فيهم امرأة. والواحد: رجل أو امرؤ من غير لفظه.
{مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} : يعني أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على الأنبياءِ.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي: مثل جزاء ما دأبوا عليه واعتادوه من الكفر وإيذاء الرسل.
{يَوْمَ التَّنَادِ} أي: يوم القيامة وسمى بذلك؛ لأنه ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة، أو يتصايحون فيه بالويل والثبور.
التفسير
29 -
هذا من قول مؤمن آل فرعون، وفي قوله:{يَا قَوْمِ} دليل على أنه قبطى، ولذلك أضافهم إلى نفسه ليكون أقرب إلى قبول وعظه حيث قال:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين على بني إسرائيل في أرض مصر لا يستطيع أحد أن يقاومكم فيها في هذا الوقت. فاشكروا الله على ذلك وآمنوا.
وكون المراد بالأرض: أرض مصر قول السدى وغيره.
{فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} قال ذلك تحذيرًا لهم من نقم الله إن كان موسى صادقًا، أي: فلا تفسدوا أمركم، ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتله، فإن العذاب إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، والاستفهام إنكارى. وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه معهم فيما يسوءهم من مجىء بأس الله - تعالى - تطييبا لنفوسهم، وإيذانًا بأنه مُناصح لهم ساع في تحصيل ما يُجْدِيهم، ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه، وعندما سمع فرعون ذلك الذي نصحهم به قال:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلَاّ بالذي أراه وأسْتَصْوبه لنفسي من قتله، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: وما أهديكم بهذا الرأى من قتل موسى والإيمان بي إلا سبيل الصلاح والصواب. وما أُعلمكم إلا ما أعلم. ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر. يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول.
ولقد كذب حيث كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد ، ولولاه ما استشار أحدا أبدا.
30 -
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} :
زادهم من الوعظ والتخويف وقد قوى الله - تعالى - نفسه ، وثبت قلبه، فلم يرهب فرعون، ولم يعبأ به، وأتى بنوع آخر من التهديد والتحذير فقال:{يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ .. } الآية. أي: إني أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بالسوء أن يحل بكم مثل ما حلّ بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية في أيامهم بمعنى وقائعهم التي أُذيقوا فيها وبال أمرهم، والظاهر جمع اليوم؛ لأن كل حزب يومًا ولكنه أغنى عنه إضافته إلى الأحزاب مع التفسير بما بعده في قوله تعالى:
31 -
أي: إني أخاف أن يحل بكم مثل جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي: عادتهم الدائمة من الكفر وتكذيب الرسل وسائر المعاصي.
{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} المراد بهم قوم لوط {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} فلا يعاقب بغير ذنب ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام، يعنى أن عذابهم وتدميرهم كان عدلا؛ لأنهم استحقوا ذلك بأعمالهم، وهو أسلوب بلغ الغاية في البلاغة لنفى الظلم عنه - تعالى - حيث جعل المنفى فيه إرادة الظلم، ومن كان بعيدًا عن إرادة الظلم لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد.
32 -
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} :
خوفهم العذاب الأخروي بعد تحويفهم بالعذاب الدنيوى. وأفصح عن إيمانه إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق، ويوم التناد هو: يوم القيامة. سمى بذلك؛ لأنه ينادى فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة، أو يتصايحون فيه بالويل والثبور، أو لتنادى أهل الجنة وأهل النار فينادى أصحاب النار أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة أصحاب النار، كما جاء في سورة الأعراف، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.
وقرئ: {يَوْمَ التَّنَادِ} بتشديد الدال، من ندَّ البعير: إذا هرب، أي: يوم الهرب والفرار قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ .. الآيات} (1)، وفي الحديث:"إن للناس جولة يوم القيامة يندّون (2) يظنون أنهم يجدون مهربا" وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هربًا فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلَاّ وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب.
33 -
أي: أن يوم التناد هو اليوم الذي تولون فيه عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، أو فارين - منها إذا سمعوا زفيرها ولا ينفعهم الهرب - كما روى عن الضحاك آنفا - ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطًا بقوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي: من دافع ومانع يعصمكم في فراركم من عذاب الله. وقال قتادة: ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: ومن خلق الله في قلبه الضلالة وفق اختياره فما له أحد يهديه طريق النجاة أصلًا، وكأن الرجل المؤمن يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك، ووبخهم على تكذيب الرسل السابقين فقال:
(1) سورة عبس الآيات: 34 ، 35.
(2)
أي: يهربون.
المفردات:
{حَتَّى إِذَا هَلَكَ} أي: مات، يقال: هلك الشيء هلكًا وهلاكًا وهلوكًا ومهلكًا، بفتح الميم، وأما لامها فمثلثة، والاسم: الهُلْكُ مثل قُفْل.
{مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: مشرك مرتاب بمعنى: شاك في وحدانيته - تعالى -.
{بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} : أي: بغير حجة وبرهان.
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} أي: عظم جدالهم بغضًا عند الله.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله وختم على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يختم على كل قلب متكبر جبار حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق.
التفسير
34 -
قيل: إن هذا من قول موسى عليه السلام وقيل: هو من تمام ونمط مؤمن آل فرعون. ذكَّرهم قديم عتوهم على نبيهم: يوسف بن يعقوب (1) بعثه الله رسولًا إلى القبط من قبل موسى. وأيده بالآيات الظاهرة الدالة على صدقه، وقال ابن جريج: أيده بالبينات وهي: الرؤيا، كذلك قال، والله أعلم بهذه البينات التي أيده الله بها.
{فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} من الدين أي: أسلافكم كانوا في شك، فنسب ما للآباء إليهم، لاشتراكهم في الضلال والتكذيب، وقد دعاهم إلى عبادة الله وحده فقال:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (2). واستمر يدعوهم إلى دين التوحيد حتى {إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} ضموا إلى الشك في رسالته تكذيب رسالة من بعده.
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: مثل هذا الإضلال الشديد يضل الله من هو مسرف في العصيان شاك فيما تشهد به البينات، لتعصبهم لدينهم، والإمعان في التقليد.
(1) وقيل: غيره.
(2)
سورة يوسف من الآية: 39.
35 -
قال الزجاج: المراد بالذين يجادلون: كل مسرف مرتاب وهم يجادلون في الله بغير حجة صالحة للتمسك بها لا نقلية أتتهم من جهته - تعالى - على أيدى الرسل عليهم السلام ولا عقلية استنبطوها من الكون.
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا من كلام مؤمن آل فرعون، وقيل: ابتداءُ خطاب من الله - تعالى - وهو تقرير لما أشعر به الكلام السابق من ذمهم، وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، أي: كبر بُغْضًا جدالهم في آيات الله بغير حجة - كبر بغضًا عند الله وعند المؤمنين.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين، فكذلك يطبع على قلب كل متكبر جبار، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق، وقرئ بتنوين قلب، فما بعده صِفته. ووصف القلب بالتكبر والتجبر؛ لأنه منبعهما.
المفردات:
{ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: بناءً عاليًا كالقصر، من صَرَحَ الشيءُ: إذا ظهر.
{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: طرقها وأبوابها جمع سبب وهو كل ما يتوصل به إلى الشيء.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: وما مكره واحتياله في إبطال آيات الله لموسى إلَاّ في خسران وهلاك، يقال: تبَّ الله فلانا أي: أهلكه، وتبت يداه أي: هلكت أو خسرت.
التفسير
36 -
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} :
لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه لم يُخفه عنهم، وإن لم يصح ثبَّتهم على دينهم، لذلك أمر وزيره هامان ببناء الصرح فقال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: قصرًا عاليًا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن بَعُد {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} رجاء أن أبلغ الأسباب أي: الطرق كما روى عن السدى، وقال قتادة: هي الأبواب وهي: جمع سبب ويطلق على ما يتوصل به، والمراد بها كما قال - سبحانه -:
37 -
أي: لعلى أبلغ طرقها وأبوابها. وفي إبهام الأسباب ثم بيانها تفخيم لشأنها، وتشويق للسامع إلى معرفتها.
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي: فأنظر إليه. وأراد بذلك أن يعلم الناس بفساد رأى موسى وقوله: إني رسول من رب السموات - أن يعلم الناس - أنه إذا كان رسولًا منه فهو ممن يصل إليه. وذلك بالصعود إلى السماء وهو محال لا يقوى عليه الإنسان، ومنشأ ذلك جهله بالله - تعالى - وكيفية استنبائه، وزعمه أنه - سبحانه - مستقر في السماء، وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره وهو عز وجل منزه عن صفات المحدثين والأجسام ولا يحتاج رسله الكرام إلى ما يحتاج إليه رسل الملوك، وهذا منه نفى لرسالة موسى من الله - تعالى - ولا تعرض فيه لنفى الصانع المرسِل له:{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يحتمل أن يكون عنى به أن موسى كاذب في دعوي الرسالة أو أن يكون عنى به أنه كاذب في ادعاء أن له إلها غيره كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله.
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي: ومثل ذلك التزيين البليغ زين لفرعون عمله السىء فانهمك فيه انهماكا قويًّا لا يرعوى عنه بأى حال، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي: عن سبيل الهدى والرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله - تعالى - ولم يفعل - سبحانه - كلا من التزيين والصد إلَاّ لأن فرعون طلبه بلسان استعداده، واقتضى ذلك سوء اختياره:
الحجازيان ، والشامى، وأبو عمر وصَدَّ: بالبناء للفاعل وهو: ضمير فرعون. على أن المعنى، وصد فرعونُ الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات ويؤيده:
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: وما مكره في إبطال آيات موسى إلَاّ في خسارة وهلاك.
المفردات:
{أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: أدلكم على طريق الهدى وهي الجنة.
{إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي: يُمتع فيها قليلًا ثم تنقطع وتزول.
{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي: دار الاستقرار والخلود.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أي: من عمل خطيئة في الدنيا فلا يجزى في الآخرة إلَاّ بما يعادلها.
{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير وموازنة، بل أضعافا مضاعفة.
التفسير
38 -
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} :
هذا من تمام ما قاله مؤمن أهل فرعون أي: اقتدوا بي في الدين أهدكم سبيلًا يبلغكم المقصود وهو دخول الجنة، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي والضلال.
39 -
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} :
أي: إن هذه الحياة الدنيا تَمتُّعٌ أو مُتمَتَّعٌ به يسيرٌ لسرعة زوالها، أجْمل لهم القول أولًا حيث قال:{اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ثم فصل فافتتح بذم الدنيا، وتصغير شأنها؛ لأن الإخلاد إليها رأس كل شر، ومنه تتشعب فنون ما يؤدى إلى سخط الله - تعالى - ثم ثنى بتعظيم الآخرة فقال:{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} لأنها الحياة الباقية وهي دار الاستقرار والخلود ودوام ما فيها.
40 -
ذكر الله في الآية الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عمَّا يتلف وينشط لما يُزلف فقال - سبحانه -:
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أي: من عمل خطيئة في الدنيا تعدى بها حدود الله فلا يجزئ في الآخرة إلَاّ بما يماثلها عدلًا من الله - جل شأنه -.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن مصدق بالله - جل شأنه - بقلبه، ومؤمن بالأنبياء عليهم السلام فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير تقدير وموازنة بالعمل. بل أضعافًا مضاعفة. تفضلًا منه - تعالي - ورحمة، وفي تقسيم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والإشعار بالشمول، والآية تفيد أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه.
وبعد أن قدم هذا المؤمن حديثه لقومه ناصحًا وموجهًا بذكر الدنيا وبيان أنها دار متاع وأنها لا تغنى عن المرء شيئًا يوم الجزاء ، لما تدعو إليه من شر وفساد، ثم بين أن التعلق بالآخرة، والتفانى في الإقبال عليها سبب السعادة والنعيم، لأنها دار الخلود والدوام - بعد هذا الحديث - كرر نداء قومه إيقاظًا لهم من سنة الغفلة واعتناء بالمنادى إليه ومبالغة في توبيخهم على تثاقلهم عن الاستماع لنصحه، كما تبين ذلك الآيات القادمة.
المفردات:
{أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} : أدعوكم إلى السلامة من العذاب بإيمانكم.
{النَّارِ} : العذاب بالنار، والمراد أسبابه من الشرك والغيّ والمعاصي.
{الْعَزِيزِ} : الغالب القاهر.
{الْغَفَّارِ} : واسع المغفرة.
{لَا جَرَمَ} : لا رد وإبطال لدعوتهم الرسول إلى عبادة الأوثان، وجرم فعل ماض بمعنى حقَّ وثبت، كما في قول الشاعر:
ولقد طعنتُ أبا عبيدَة طعنةً
…
جَرَمتْ فزارةُ بعدها أنْ يغضبوا
أي: حَقَّ لفزارة أن يغضبوا بعد هذه الطعنة.
وفاعل جرم في الآية مصدر مؤول من أن وما دخلت عليه، أي: حقَّ وثبت كون ما تدعوننى إلى عبادته لا يصح أن يدعى لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال الفراء: معنى {لَا جَرَمَ} في الآية: لا بد ولا محالة، وعلى هذا تكون "بُدّ" اسم لا النافية للجنس، وخبرها مصدر مؤول مما بعدها ، وهذا هو معناها الأصلى، فلمَّا كثر
استعمالها صارت بمنزلة "حقًّا" فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب عن القسم، ألا ترى أنهم يقولون: لَا جَرَم لآتيتك. انتهى كلام الفراء بتصرف.
{مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} : مرجعنا إلى الله بالموت.
{الْمُسْرِفِينَ} : المشركين، وكل من غلب شره خيره فهو مسرف.
التفسير
41 -
{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} :
هذه الآية الكريمة من كتاب الله نداء من جملة النداءات التي تكررت في هذه السورة، وهيمنت على جوها، وتنوعت بها أساليب التنبيه، وألوان التحذير والتخويف، تذكر بالنعم وتحذر من وقوع النقم. كما في قوله - تعالى -:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} .
كنا تحذر من الفتن المهلكة والعقوبات المدمرة التي وقعت بالأمم السابقة فأبادتها كما في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} .
أو تذكر بيوم القيامة وما يحتويه من أهوال وشدائد، كما في قوله:{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} أو تنبه الي أن الدنيا متاع سريع الزوال، وأن الآخرة هي دار الدوام والاستقرار. كما في قوله:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .
كما تنعى على الكافرين والمشركين انتكاس الطبع، وسوء السلوك. إيقاظا لهم من سنة الغفلة، واهتمامًا بالمنادى، ومبالغة في توبيخهم على ما قابلوا به دعوته.
واقترن النداء في الآية بالعطف لأنه للموازنة بين الدعوتين: دعوته لهم إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم له إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وذلك لتحقيق أنه هاد وأنهم مضلون، وأن ما عليه هو الهدى، وما هم عليه هو الضلال.
والمعنى: ويا قوم إني لأعجب من أمركم، فأخبرونى كيف هذه الحال التي أنتم معى عليها؟ أدعوكم إلى الخير، ومسالك النجاة ونعيم الجنة، وتدعوننى إلى الهلاك، ومهاوى الجحيم.
وفي ندائهم بيا قوم وتكرار ذلك مع كل نداء مزيد من التلطف معهم. والإشفاق عليهم، والتحنن في دعوتهم إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم، لانتزاع شفقتهم وطاعتهم حتى ينزلوا على نصحه، ويستجيبوا لدعوته، ولا يتهموه كما فعل إبراهيم عليه السلام في نصح أبيه، حيث ناداه متلطفًا بقوله:{يَا أَبَتِ} .
42 -
هذه الآية تفسير وبيان للآية السابقة ، أي: تدعوننى لأُنكر وحدانية ربي، وأشرك به آلهة أخرى باطلة زائفة لم يقم دليل على ألوهيتها.
{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} معناه: وأنا أدعوكم إلى عبادة الإله القادر الغالب على أمره، الغفار لذنوب التائبين.
وخص هذان الوصفان: {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} لاقتضائهما جميع الصفات ، لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء من الله، فإنهما مناسبان لحالهم.
43 -
لفظ (لا) في قوله: {لَا جَرَمَ} رد لما دعاه إليه قومه، وجرم بمعنى حق، وتقدم باقى الكلام عليها في المفردات.
والمعنى: حقَّ وثبت بطلان ما تدعوننى إلى عبادته من الأصنام، فليس لها دعوة ترجى في الدنيا ولا في الآخرة، فهي لا تضر ولا تنفع، وأن مرجعنا إلى الله الذي أدعوكم إلى عبادته وأن المسرفين بعبادة غيره هم أصحاب النار لا ينفكون عنها، ولا يخفف عنهم من عذابها.
المفردات:
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي} : أردّ أمرى وأسلمه إلى الله ليعصمنى.
{فَوَقَاهُ} : حفظه ونجاه.
{حَاقَ} : نزل ولزم وأحاط.
{سُوءُ الْعَذَابِ} : العذاب السىء من الغرق والنار، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.
{السَّاعَةُ} : القيامة.
التفسير
44 -
هذا آخر ما يقوله الناصح بعد أن يستكمل كل أساليب النصح، ويستجمع جميع عبارات التحذير والتخويف، يقول ذلك إعذارًا لنفسه، وتهديدًا مُغَلَّفًا بأسلوب النصح والإشفاق.
والمعنى: فسيذكر بعضكم لبعض عند مواجهة العذاب ومجابهة الحساب يوم القيامة ما دعوتكم إليه ونصحتكم به ، وحذرتكم مخالفته، فلم يكن منكم إلا الإسراف في العناد، والإصرار على الكفر، والإفحاش في التهديد، ولم يكن لي بعد هذا إلَاّ أن أرد أمرى إلى الله،
وأسلم نفسى إليه، يحفظنى من كيدكم، ويقينى من سيئاتكم، إنَّه بصيرٌ بالعباد مطلع على أحوالهم التي من جملتها حالى وحالكم، لا يغيب عنه شأن، ولا تخفى عليه خافية.
45 -
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} :
الضمير في قوله - تعالى -: {فَوَقَاهُ} لموسى عليه السلام.
والمعنى: فَوَقَى الله موسى ومن معه، وحفظه من فرعون وبطشه، وردّ كيده ومكره إلى نحره، وأنزل به وبقومه العذاب البالغ أقصى درجات السوء في الدنيا بالموت غرقا، وفي الآخرة بالنار إحراقا، وتلك عقبى الظالمين، ومثوى المتكبرين المتجبرين، ولم يصرح باسم فرعون امتهانا له، وإشعارًا بأصالته في المسئولية.
46 -
هذا كلام مستأنف مرتب على سؤال تقديره: كيف حال آل فرعون بعد غرقهم؟ فقيل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا. . .} الآية.
وفي هذه العبارة غاية التهكم بهم وامتهانهم، حيث بدَّلهم الله باسترواحهم بأنفاس الصباح الندية، وأنْسَام العِشاء الرخية - بدلهم بذلك - العَرْضَ على النار غدوًّا وعشيًّا في قبورهم ما دامت الدنيا حتى إذا قامت القيامة قال الله لخزنة جهنم: أدخلوا فرعون وآله المتجبرين أشد العذاب في جهنم في مقابل شدة جبروتهم.
وتحديد الوقتين لأنهما الوقتان المعتادان للاسترواح والراحة عند أهل الترف، فيكون ذلك أنكى في التهكم والسخرية، وأجلى في تصوير العذاب والامتهان، ويكون ما بين الوقتين متروكًا لأمر الله - تعالى - يجرى عليهم عذابًا آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يراد بذكر الوقت التأبيد ما دامت الدنيا جريًا على الأُسلوب العربي في التعبير أحيانًا عن جميع الوقت بذكر الطرفين كما في قول الخنساء:
يذكِّرُنى طُلُوع الشَّمس صَخْرًا
…
وأذكُرُه بِكُلّ مَغِيبِ شَمْس
ومثل هذا في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} أي: دائما في كل وقت.
والظاهر هو المعنى الأول، وهو عرضهم على النار في وقتى الصباح والمساء، فهو المناسب لحديث الصحيحين البخاري ومسلم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة". ومن أجل ذلك قيل بعذاب البرزخ.
المفردات:
{يَتَحَاجُّونَ} : يحاجّ بعضهم بعضا ويتخاصمون.
{الضُّعَفَاءُ} : الأتباع.
{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : للمتبوعين والسادة.
{تَبَعًا} : جمع تابع كخدم وخادم - أو على تقدير: ذوى تبع.
{مُغْنُونَ} : حاملون أو دافعون.
{حَكَمَ} : قضى وفصل.
التفسير
47 -
المعنى: واذكر يأيها الرسول لقومك فيما تذكر لهم من أحوال هؤلاء المشركين، وما يجرى عليهم من أجل شركهم وعنادهم - اذكر - إذ يتخاصمون في النار ويحاج بعضهم بعضًا بعد دخولها واصطلاء جحيمها، فيقول الأتباع الضعفاء المغلوبون للسادة القادة الذين استكبروا عليهم وسخروهم لمصالحهم وفتنوهم في دينهم - يقولون لهم - متهكمين شامتين: إنكم كنتم تستعلون علينا في الدنيا وتزعمون لأنفسكم السلطان، والغلبة والقهر، وإنا كنا لكم تبعًا فيما تدعوننا إليه، وتأمروننا به، فهل أنتم حاملون عنَّا الآن أو دافعون بعض ما نعانيه من هول النار وعذابها بسبب طاعتنا لكم واتباع أمركم؟
48 -
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} :
أي: قال السادة الذين استكبروا جوابًا للضعفاء الأتباع الذين سألوهم تهكمًا أن يحملوا عنهم أو يدفعوا بعضًا من العذاب الذي هم فيه فيه - قال الذين استكبروا:
{إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي: نحن وأنتم في النار سواء، فكيف نغنى عنكم ونحن لا نقدر أن ندفع عن أنفسنا شيئا من العذاب.
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أي: إن الله القادر على الحكم المالك لكل شيء قد قضى وفصل بين العباد، فأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وقدَّر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه، ولا يتحمله عنه غيره.
المفردات:
{خَزَنَةِ جَهَنَّمَ} : القُوام على تعذيب أهلها.
{بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزات والآيات.
{بَلَى} : نعم جاءونا.
{ضَلَالٍ} : بطلان وضياع.
{الْأَشْهَادُ} : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، والمراد: الأنبياء والحفظة.
{اللَّعْنَةُ} : الإبعاد والطرد من رحمة الله.
التفسير
49 -
المعنى: وقال الذين انتهى أمرهم بدخول النار من الضعفاء والمستكبرين جميعا حين استقروا في الجحيم ، ولفَّهم اليأس ، وضاقت بهم الحيل ، وأعيتهم العلل - قالوا - لخزنة
جهنم القُوام بتعذيب أهل النار: ادعوا ربكم يخفف عنَّا شيئًا من هذا العذاب الذي نعانيه، أو يدفع عنًا يومًا من أيام العذاب لعلنا نسترد به قوتنا، ونجمع فيه طاقتنا، فيقوى احتمالنا له، وصبرنا عليه.
وهو قول يمثل أقصى درجات المهانة والذل، فإنه ليس أذل على النفس، ولا أشد وقعًا من أن تبتغى الرحمة من القائم على تعذيبها، أو ترجو الإشفاق من جلادها، ولهذا اقتصروا في طلبهم على تخفيف قدر يسير، أو وقت قصير.
50 -
المعنى: قال خزنة جهنم لأهل النار الذين طلبوا منهم الدعاة بتخفيف العذاب عنهم - قالوا لهم - إلزاما وتوبيخًا على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة: ألم تُنَبَّهوا إلى هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة، والآيات البينة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما ينطق بذلك - قوله تعالى -:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} (1) أي: قال أهل النار لخزنة جهنم: نعم جاءونا ودعونا ونصحونا وأعذروا بالحجج والبراهين فعارضناهم وكذبناهم.
{قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: قال خزنة جهنم لهم إمعانا في التوبيخ والتيئيس: إذ كان هذا شأنكم فادعوا أنتم؛ فإن الدعاء مِنَّا مستحيل لمن يفعل فعلكم وما دعاؤكم مهما تضرعتم وطال دعاؤكم إلا في بطلان وضياع.
ووضع الكافرين موضع ضميرهم بيانًا لمقتضيات البطلان، وقصد التوبيخ والامتهان، وقوله - تعالى -:
{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} : يحتمل أن يكون من جملة الكلام القول على لسان الخزنة، وأن يكون من كلام الله - تعالى - إخبارًا منه لرسوله صلى الله عليه وسلم
(1) سورة الزمر من الآية: 71.
51 -
هذه الآية استئناف كلام مسوق من جهة الله - تعالى - لبيان ما أصاب الكفرة من العذاب المحكى، وهو فرع من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم الذين يؤمنون بهم، ويصدقون دعوتهم في الحياة الدنيا وننتقم لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبى.
{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} : ويوم القيامة عند جمع الأولين والآخرين، وشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ، وأداءِ الأمانة على وجهها، وعلى الكفرة بالتكذيب والجحود والعناد.
ونصرهم في الدنيا واقع لا شك فيه ولا سبيل إلى تخلفه، وقد يتأخر حدوثه بعض الوقت لحكمة يعلمها الله - تعالى -.
52 -
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} :
المعنى: أنَّ يوم يقوم الأشهاد هو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، أي: يوم لا يكون للظالمين معذرة أصلا يعتذرون بها لانقطاع حجتهم، ونفاد حيلتهم، أو يوم يعتذر الظالمون فلا تقبل منهم معذرة ولا تدفع عنهم من العذاب قليلًا أو كثيرًا، وتكون لهم اللَّعنة، والطرد من رحمة الله، ولهم الدار التي يسوؤهم عذابها ويشقيهم المقام فيها. وهي جهنم.
المفردات:
{الْهُدَى} : ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع.
{الْكِتَابَ} : التوراة.
{الْأَلْبَابِ} : العقول، جمع لُبّ.
{يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} : يخاصمون فيها بالباطل ويجحدون.
{سُلْطَانٍ} : برهان وحجة.
التفسير
53 -
جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة بمثابة تمثيل لنصرة الله - تعالى - لأنبيائه؛ لأن تأييدهم بالمعجزات وإنزال الكتب عليهم نوع من نصر الله لهم، بجانب كونه هدى وذكرى لأقوامهم.
والمعنى: ولقد كان من جملة نصرنا لرسلنا وصدق وعدنا لهم أن آتينا موسى ما يهتدى به من المعجزات الهادية إلى الحق، وأورثنا قومه بني إسرائيل التوراة هداية وتذكرة أو هاديًا ومذكرًا لذوى العقول السليمة والأفهام الخالصة من شوائب الوهم، والصافية من غيوم الشكوك والأهواء.
55 -
المراد من ذنبه - صل الله عليه وسلم - ما خافه به الأولى بالنسبة لمقامه، وإن لم يكن ذنبًا في حقه وحق غيره في الواقع (1).
والمعنى: إذا علمت ذلك - أيها الرسول - وسمعت ما قصصناه عليك من أن نصرة الرسل تكفل بها الله ووعد بها، فأخْلِدْ إلى الصبر على أذى قومك فإن العاقبة لك، وما سبق به
(1) وقيل: أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار تعبدى لرفع درجاته وهضم نفسه، وليصير الاستغفار سنة أمته.
الوعد من نصرتك، وإعلاء كلمتك حق وصدق فانتظره ولا تستعجله، وأقبل على التقوى، واستدرك ما حدث منك مما يخالف الأولى بالنسبة لك - استدركه - بالاستغفار ودم على عبادة ربك تسبيحًا وتحميدا وثناء عليه بالعشى "آخر النهار"، والإبكار "الدخول في الصباح" بخاصة، أو في جميع الأوقات، والمراد من التسبيح والتحميد معناهما المعروف، وقيل: المراد بهما الصلاة، فعن قتادة: ركعتان بكرة - صبحا - وركعتان عشيًّا - عصرًا - لأن الواجب بمكة كان ذلك. وبنحوه قال الحسن: ركعتان بكرة وركعتان عشيًا، وحكى في البحر عن ابن عباس أن المراد الصلوات الخمس.
56 -
المعنى: إن الذين من شأنهم أن يخاصموا في آيات الله البينات، وبراهينه الواضحات ويجحدونها من غير أن يقوم جدلهم فيها على علم، أو يستند إلى برهان ودليل، لا يفعلون ذلك عن رأى سديد، وليس في صدورهم من ذلك إلا كبرٌ على الحق، وتعظُّم عن التعلُّم، ما هم ببالغى هذا الكِبْر الذي يُدْفَعُ به الحق، أو ما هم ببالغى ما أرادوه من جدلهم من إبطال آيات الله، لأن الله - تعالى - أذلهم، وجعل لك الغلبة عليهم فاستسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا.
قوله - تعالى -: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم وأمر له أن يلتجىء إلى الله من كيد من يحسده، ودفع من يبغى عليه.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي: إن الله - تعالى - هو عظيم السمع لأقوالهم وجدالهم، واسع العلم بأحوالهم وأفعالهم.
المفردات:
{الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : الغافل والمستبصر.
{السَّاعَةَ} : القيامة.
{لَا رَيْبَ فِيهَا} : لا شك في وقوعها وحدوثها.
{دَاخِرِينَ} : صاغرين أذلاء.
التفسير
57 -
لما كان البعث من مواضع جدلهم الواسع ، ومكابرتهم الزائفة ناسب أن تأتى هذه الآية بعد آية الجدل تحقيقًا للحق ، وتبيينًا لأشهر ما يجادلون فيه جهلًا وعنادًا من غير اعتماد على علم أو استنادٍ إلى برهان ، على منهاج قوله - تعالى - {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (1).
(1) سورة يس من الآية 81.
والمعنى: لخلق السموات والأرض على اتساعهما، وامتداد طولهما وعرضهما، وحكمة نظامهما وما يحتويان من كائنات عظيمة، وما يختلف عليهما من تغاير أطوار، وتباين أحوال، وما يقع فيهما أو عنهما من أحداث - لخلق هذا كله - أكبر وأعظم من خلقه - تعالى - الناس، لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة والأحداث الهائلة كلا شيء، والمراد: أن من قدر على خلق ذلك فهو - سبحانه - على خلق ما لا يعد شيئًا بالنسبة إليه بدءًا وإعادة أقدر وأقدر، وقوله - تعالى -:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولكن أكثر الناس من الكفرة والمشركين لا يعلمون شيئًا من هذا، ولا يتدبرونه تدبرًا يهديهم إلى الحق، ويردهم إلى الإيمان والتصديق، فهو الذي تقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرًا ولكنهم لا يفقهون.
58 -
نفت الآية السابقة العلم عمّن عطل عقله، وجمد فكره فلم ينظر في آيات الله نظرة تأمل، ولم يعمق التفكير في قدرته الظاهرة في مخلوقاته، وجاءت هذه الآية تبرز هذا المعنى بالقياس بين الأعمى والبصير، وبين المحسن والمسىء، ليستبين الحق من الباطل.
والمعنى: وما يستوى الأعمى الذي لا يبصر مباهج الحياة ووشيها وجمالها، ولا يعرف عدوه من صديقه، ما يستوى هذا الأعمى مع البصير الذي له عينان تجولان في أرجاء الكون، وتنطبع على ناظريهما آياته، ويشاهد بهما البساتين وزهورها وثمارها، ويتمتع بصفحات الجمال في كل الكائنات علويها وسفليها، ويرى صديقه فيلاقيه، ويبصر عدوه فيتقيه، وإذا كان هذان لا يستويان في الاستفادة من آيات الحياة الدنيا والشعور بجمالها وجلالها، والاستمتاع بها، فالأعمى محروم والبصير يتقلب في النعيم، وإذا كان هذان لا يستويان فمثلهما المؤمن الذي يعمل الصالحات في دنياه، فينعم في الدنيا بحياته ويخلد في الجنة بعد مماته، فلا يستوى مطلقًا مع الكافر المسىء إلى نفسه وإلي ربه في حياته، الخالد في النار بعد مماته {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} فلا تدركون الحقائق على وجهها.
وفي الآية لمحات:
1 -
عدل عن التقابل الظاهر في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} فلم يقل: والمحسن والمسئ كما في قوله: الأعمى والبصير، إشارة إلى أن المؤمن أصل في الإحسان وعَلَمٌ له.
2 -
قدم الأعمى لمناسبة العمى ما قبله من نفى العلم، وقدم الذين آمنوا بعد عكس ما قبله لمجاورة البصير وشرفه، على أن الافتنان في الأسلوب قد يقتضي طرقًا أخرى، فيقدم ما يناسب الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله - تعالى -:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (1) أو يؤخر المتقابلان كما في قوله - تعالى -:
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (2).
3 -
وأعيدت (لا) مع المسيء تذكيرا للنفى، لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولإظهار المقصود بالنفى من الفرق بين المحسن والمسىء.
59 -
{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} :
أي: إن القيامة آتية واقعة لا شك في حدوثها، ولا ريب في وقوعها البتة، لوضوح ظواهرها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها ولكن أكثر الناس من الكفار والمعاندين لا يؤمنون بحدوثها، ولا يصدقون بوقوعها لقصور أنظارهم، واستيلاء الأوهام على عقولهم.
60 -
هذه الآية الكريمة توجيه من الله عز وجل لخلقه أن يضرعوا إليه بالدعاء، ويجأروا له بالرجاء، تعظيما لقدرته واعترافا بعجزهم وحاجتهم إلى عطائه وفضله.
(1) سورة فاطر الآيات: 19، 20، 21.
(2)
سورة هود من الآية: 24.
والمعنى: وقال ربكم ادعونى، أي: أعبدونى، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن الكريم، ويدل عليه قوله - تعالى -:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} والاستجابة: الإثابة، وفي تفسير مجاهد:"اعبدونى أثبكم" وعن الحسن وقد سئل عنها: "اعملوا وأبشروا فإنه حقٌّ على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله "وعن الثورى أنه قيل له: ادع الله - تعالى - فقال: "ترك الذنوب هو الدعاء" وفي الحديث: "إذا شَغَل عبدي طاعتى عن الدعاء أعطيته أفضل ما أعطى السائلين".
وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يراد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويراد بعبادتى دعائى لأن الدعاء باب من أبواب العبادة، ومن أفضل أبوابها، يصدق ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه:"أفضل العبادة الدعاء".
وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلَاّ نبيًّا مرسلًا، كان يقول كل نبى:"أنت شاهدى على خلقى" وقال لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) وكان يقول: "ما عليك من حرج" وقال لنا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (2) وكان يقول: "ادعنى أستجب لك" وقال لنا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3).
وعن ابن عباس: "وحدونى أغفر لكم" وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد.
وقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي. . .} الآية، معناه: إن الذين يستعلون عن عبادتى ويتعاظمون على توحيدى وطاعتى أو على دعائى والتضرع إليّ سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين لا يغنى عنهم تكبرهم من دخولها ولا يدفع عنهم من عذابها.
(1) سورة البقرة من الآية: 143.
(2)
سورة المائدة من الآية: 6.
(3)
سورة غافر من الآية: 60.
المفردات:
{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} : لتخلدوا فيه إلى السكون والراحة.
{مُبْصِرًا} : مضيئًا صالحا للحركة والعمل.
{تُؤْفَكُونَ} : تصرفون عن عبادة الله.
{يَجْحَدُونَ} : ينكرون ويكذبون.
التفسير
61 -
تنتقل الآيات إلى بيان فضل الله على عباده بتنظيم أوقاتهم بين الراحة والسكون، وبين العمل والحركة.
والمعنى: الله - سبحانه - هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتخلدوا فيه إلى الراحة والسكون استجماما من مشاق العمل والسعى، وجعل النهار مبصرا مضيئا، ليعين على السعى والعمل في تحصيل الأرزاق وإنجاز الأعمال، وتوفير أسباب الحياة والعيش، إن الله لذو فضل على الناس جميعًا: مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، بتدبير أحوالهم، وتنظيم أوقاتهم، ولكن أكثر الناس لا يؤدون حق الشكر لهذه النعم لجهلهم بالمنعم وإغفالهم النظر في نعمه.
62 -
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :
أي: ذلكم المتصف بالصفات المذكورة: هو الله وهو وبكم وهو خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فهذه جملة من الأخبار مترادفة تعزِّز اللاحقة منها السابقة عليها وتقررها، وتؤكد اتصافه - تعالى - بها واستحقاقه لها، ليحسن بعدها موقع {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون عن عبادة من هذا شأنه، وتلك صفاته، وهذه أياديه وفضائله.
63 -
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :
أي: مثل ذلك الإفك العجيب والصرف الغريب عن الحق يصرف كل من جحد بآيات الله وأنكرها مع آثارها الظاهرة وشواهدها الباهرة.
المفردات
{قَرَارًا} : مسكنًا ومستقرا تستقرون فيه. {بِنَاءً} : سقفا وقبة مضروبة عليكم.
{الطَّيِّبَاتِ} : الحلائل أو المستلذات من المطعم والمشرب والملبس وغيرها.
التفسير
64 -
تمضى هذه الآية في تعداد آيات الله - تعالى - وبيان فضله المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان في الآيات السابقة.
والمعنى: الله سبحانه وتعالى الخالق البارئ الذي لا يعجزه نظام، ولا يشغله شأن عن شأن: واسع القدرة، بديع الصنعة، ومن مظاهر قدرته ، وبدائع صنعته أن جعل لكم الأرض مستقرا تستقرون فيها، وتعيشون عليها، وتسعون في مناكبها، وجعل السماء لكم سقفا محفوظًا وقبةً مضروبة تدفئكم شمسها، وتهديكم نجومها، ويمطركم سحابها، وصوركم فأحسن صوركم حيث خلق كل واحد منكم منتصب القامة متناسب الأعضاء مهيأً لمزاولة الصنائع، واكتساب المعارف والكمالات، وزاد فضله فيكم وتضاعفت نعمه عليكم فرزقكم من الحلال الطيب ما تستلذون به مطعما ومشربا فاستحق بهذا كله التنزيه والتأليه، فتنزه الله - تعالى - رب العالمين، ومالك جميع الخلائق والمخلوقين، فالكل في ملكوته مفتقر إليه في وجوده وسائر أحواله.
65 -
أي: هو المتفرد بالحياة الذاتية لا إله إلا هو، إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته عز وجل فادعوه واعبدوه وحده لاختصاصه بما يوجب ذلك - ادعوه - مخلصين والدين من الشرك الخفى والجلى، حامدين له معترفين بربوبيته الكاملة المستأهلة لدوام الحمد والثناء.
وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من الكلام المقول على لسان المأمورين بالعبادة.
أخرج ابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال:"من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين" وذلك قوله - تعالى -: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .... } .
المفردات:
(الْبَيِّنَاتُ): البراهين والآيات الواضحات التي تدل على التوحيد.
(أُسْلِمَ): أنقاد وأخلص (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ): خلق أباكم آدم منه.
(نُطْفَة): مَنِيٍّ.
(عَلَقَةٍ): دم غليظ.
(أَشُدَّكُمْ): كمال عقلكم وقوتكم.
(أَجَلًا مُسَمًّى): يوم القيامة، أو يوم الموت.
(قَضَى أَمْرًا): أراد إبراز أمر إلى الوجود.
(فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): يوجد عقب الأمر بالتكوين.
التفسير
66 -
هذه الآية مرتبطة بما قبلها، فقد ذكر القرآن في الآيات السابقة أن الله خالق كل شيء، ثم بين بعض آلائه ونعمه على خلقه حيث جعل لهم الأرض قرارا، والسماء بناء، وصورهم فأحسن صورهم، ورزقهم من الطيبات، ثم ذكر بعض صفاته الجليلة وأنه حى لا إله إلا هو، فتوجهوا إليه وحده بالعبادة والحمد، فالحمد كله حق ثابت ومقرر لله رب العالمين.
وجاءت هذه الآية لتبين أن الله المتصف بهذه الكمالات أمر رسوله أن يبلِّغ الناس أنه نهى عن عبادة غير الله الذي سبقت صفاته وأمرَ أن ينقادوا ويخلصوا لله رب العالمين فقال:
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. } إلخ:
أي: قل يا محمد لهؤلاء الشركين وكانوا قد دعوه إلى دين آبائه - قل لهم يا محمد -: نهانى الله الحى القيوم الذي لا إله غيره عن أن أعبُدَ غير الله، وأمرت أن أَذل وأخضع وأنقاد له - تعالى - وأُخلص له عز وجل دينى لأنه رب العوالم كلها المستحق وحده للعبادة دون سواه.
67 -
الله وحده الذي خلقكم من تراب، ثم من مَنِيٍّ، ثم من قطعة عالقة بجدار الرحم فيها الخطوط الأُولى للتخليق، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم ينسأ أعماركم ويؤخرها لتبلغوا أشدكم من الكمال والقوة، ثم يمد في آجالكم لتكونوا شيوخا، هو وحده الذي يقلبكم في هذه الأطوار، وعن أمره وتدبيره يكون ذلك كله.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأَشد أو قبله.
جعلكم الله على هذا النظام وخلقكم على هذا النمط لتبلغوا، وقتا مسمى عنده وهو يوم البعث، وقيل: يوم الموت ولكى تعقلوا ما في هذا التنقل في الأطوار المختلفة من فنون الحِكَم والعِبر والدلالة على أنه - تعالى - قادر على بعثكم، وقال القرطبي:
{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ذلك فتعلموا أنه لا إله غيره.
68 -
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} :
هو الذي يحيى الأموات ويميت الأَحياء، أو الذي يفعل الإحياءَ والإماتة المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أَحد سواه، فإذا أراد إبراز أَمر من الأمور إلى الوجود فإنما يقول له: كن فيكون، من غير توقف على شيءٍ من الأَشباه أصلا، فهو - سبحانه - لا يُخَالَف ولا يُمانَع ولا يُعجزه شىءٌ، ما شاء كان لا محالة من غير كلفة ولا معاناة.
ويقول الزمخشرى - في موقع جملة: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} مما قبلها - يقول: جعل هذا نتيجة لقدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من أَفعاله الدالة على أَن مقدورا لا يمتنع عليه كأَنه قال: فلذلك الاقتدار إذا قضى أمرا كان أَهون عليه وأيسره.
وقال العلامة الآلوسي: وهذا عند الْخَلَف تمثيل لتأْثير قدرته - تعالى - في المقدورات عند تعلق إرادته - سبحانه - بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور [الآلوسي ص 84].
المفردات:
{أَنَّى يُصْرَفُونَ} : كيف تصرف عقولهم عن النظر في الآيات.
{بِالْكِتَابِ} : بالقرآن. {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} : من الكتب أو الشرائع.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : عقوبة تكذيبهم. وهذا وعيد لهم.
{الْأَغْلَالُ} : القيود تجمع الأَيدى إلى الأَعناق.
{يسحبون} : يجرون.
{الْحَمِيمِ} : الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة.
{يُسْجَرُونَ} : توقد بهم النار أو تمُلأ.
{ضَلُّوا عَنَّا} : غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم.
{تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ} : تبطرون ودون تفكير في الآخرة.
{تَمْرَحُونَ} : تتوسعون في الفرح والبطر، وقيل المرح: الفخر والخيلاء.
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} : فَقَبُح مقر المتكبرين جهنم.
التفسير
69 -
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} :
تعجيبٌ من أَحوالهم القبيحة وآرائهم الفاسده ، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وبسائر الكتب والشرائع ، وترتيب الوعيد على ذلك.
والمعنى: انظر يا محمد إلى هؤُلاء المجادلين في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها إلى الضلال مع صدقها ووضوحها مما يدعو إلى الإقبال عليها، والإعراض عما سواها.
70، 71، 72، 73، 74 - {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُومِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}:
الذين كذبوا بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب والشرائع وجادلوا فيها فسوف يعلمون عاقبة ما ارتكبوا من الجدال، ووبال ما اجترحوا من التكذيب عند مشاهدة عقوبة ذلك، وجزاءَه حيث تكون الأَغلال والسلاسل في أعناقهم والزبانية يجرونهم بها في الماء الشديد الحرارة، ثم بعد ذلك في النار يسجرون، أي: يطرحون فيها فيكونون وقودا لها.
قال مجاهد: يقال: سجرت التنور أي: أوقدته، وسجرته: ملأْته.
والمراد بهذا وما قبله ردع المجادلين في آيات الله، والمكذبين برسله وكتبه وتخويفهم، برسم هذه الصورة الرهيبة المفزعة التي تقشعر من سماع وصفها الأَبدان، وتذوب لفائف القلوب.
{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ثم يقال لهم - تقريعا وتوبيخا -: أين معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله؟!
{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي: قال الكافرون: غابوا عنا، من ضلَّت دابتُه: إذا لم يعرف مكانها.
وهذا لا ينافى ما يشعر بأَن آلهتهم مقرونون بهم في النار كما ورد في مواضع أُخري من القرآن، لأَن للنار طبقات ولهم فيها مواقف، فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم.
{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} قال الكافرون: بل تبين لنا اليوم أنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئًا يعتد به، وهو إضراب منهم عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم، أو ليست بنافعة، إلى أنها ليست شيئًا يعتد به، وفي ذلك اعتراف بخطئهم
وندم على قبح فعلهم حيث لا ينفع ذلك قال الآلوسي: وجعل الجلبى هذه الآية كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} : (1) يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم.
وهكذا لا يكتفى بهذا العذاب الجسدى الذي سبقت صورته البشعة، بل يضم إليه عذاب نفسى وهو سؤالهم على سبيل التقريع والتأنيب: أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل نفعكم هؤلاء الشركاء؟ فأجابوا: {ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُومِنْ قَبْلُ شَيْئًا} .
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي: مثل ذلك الإضلال يضل الله - تعالى - في الدنيا الكافرين حتى إنهم يدعون فيها ما يتبين لهم في الآخرة أنهم ليسوا بشىء.
75 -
{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} :
تقول الملائكة للكافرين: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه - المذكور فيما سبق من سحبهم بالسلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار، وتوبيخهم بالسؤال - ذلكم - جزاء ما كنتم تفرحرن في الأرض بغير ما يستحق الفرح، وتظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأَتباع والصحة وتنكرون البعث والتوحيد، وبما كنتم تبطرون وتأشرون (2) حتى نسيتم لذلك الآخرة، واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث:"الله تعالى يبغض البَذِخِينَ الفَرحين، ويحب كل قلب حزين" ذكره الآلوسي والقرطبى.
والعدول في الآية إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ؛ لأن ذم المرء في وجهه أبلغ في التوبيخ.
76 -
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} :
أي: ادخلوا أبواب جهنم مُقدَّرا لكم الخلود فيها، فبئس المنزل والمأْوى الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه.
وكان مقتضى النظم الجليل حيث صُدِّر بلفظ (ادخلوا) أن يقال: فبئس مدخَلُ المتكبرين، ليتجاوب الصدر والعجز كما تقول: زرت بيت الله فنعم المزار، وصلِّ
(1) سورة الأنعام من الآية: 23.
(2)
البطر والأشر: قلة احتمال النعمة وعدم الشكر عليها.
في المسجد الحرام فنعم المصلى، وأجاب عن ذلك الآلوسي فقال: لما كان الدخول القيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى.
وأجاب عن ذلك الزمخشرى في كشافه فقال: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.
المفردات:
{حَقٌّ} : كائن لا محالة.
{بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} : أَي بعض الذي نعدهم من العذاب بالقتل أَو الأَسر لهم في حياتك، وجواب الشرط في (فإمَّا) تقديره: فذاك.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَي: نميتنك قبل ذلك، أي: قبل تعذيبهم.
{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} : فإلينا وحدنا يرجعون يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم.
{بِآيَةٍ} : بمعجزة.
{أَمْرُ اللَّهِ} قال الطبرى: قضاؤه، وقال الزمخشرى: أمْر الله القيامة، وهما متقاربان.
{بِالْحَقِّ} : بالعدل. {الْمُبْطِلُونَ} : أهل الباطل.
التفسير
77 -
يأْمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه: فإن الله سينجز له ما وعده به من النصر والظفر على قومه، وجعل العاقبة له ولمن اتبعه في الدنيا والآخرة.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} به من العذاب في الدنيا فذاك، وذلك وقع، فإن الله قد أقر عينه من كبرائهم وعظمائهم، أبيد بعضهم يوم بدر، وأسر بعض آخر ثم فتح الله عليه مكة، سائر جزيرة العرب في حياته.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} (1) أَي: أَو نميتنَّك قبل ذلك، أَي: قبل أن تنتصر عليهم وننتقم منهم.
{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أَي: فإلينا لا إلى غيرنا يرجعون يوم القيامة فنجازيهم على أعمالهم ونعذبهم أشد العذاب.
فإن قيل: إن الله - تعالى - يعلم أَنه سينصره في حياته، فلماذا لم يصرح بنصره على القطع؟
فالجواب: أَن أهل مكة كانوا يتمنون موت النبي صلى الله عليه وسلم ويسعون فيه، فالله رد عليهم بذلك مجاراة لهم ليفهمهم أن موت محمد لا يعفيهم من العذاب الموعود.
78 -
في هذه الآية رد على قريش في طلبهم من الرسول آيات غير التي أَتاهم بها، فبينت أن مجىء الآيات في عهد جميع الرسل لله وحده، وخسر المعاندون.
والمعنى: وقد أرسلنا رسلا كثيرين، ذوى شأن عظيم من قبل إرسالك، منهم من جئناك بأَخبارهم وأوحينا إليك قصصهم مع قومهم كيف كذبوهم، ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة وذلك كنوح وبراهيم وموسى عليهم السلام.
(1) معطوف على نرينك داخل معه في حيز الشرط، ومؤكد مثله بنون التوكيد، وهو شبيه بالواجب، لوقوعه بعد إن الشرطية المدغمة في (ما) الزائدة، تقوية التأكيد، وليست نافية.
ومنهم من لم نقصصهم عليك وهم كثيرون ، أخرج الإِمام أحمد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم عدة الأنبياء؟ قال:"مائة أَلف وأَربعة وعشرون ألفًا، الرسل عن ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جما غفيرا".
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أن يأْتي بمعجزة إلا أَن يأْذن الله، فالمعجزات: وهي الآيات الدالات على صدق الرسل: على تشعب فنونها واختلاف أنواعا عطايا من الله - تعالى - قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم، ليس لهم اختيار في الإتيان بها، أو تحقيق المقترح منها؛ لأَن الرسل عباد مربوبون له - تعالى - لا يأْتون بشىء من تلقاء أنفسهم، أو خضوعًا لاقتراح قومهم.
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} : وهو قضاؤه بالعذاب في الدنيا أو الآخرة يوم القيامة {قُضِيَ بِالْحَقِّ} أَي: فصل بينهم بالعدل بإنجاء المحق وإِثابته وإِهلاك المبطل.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي: خسر المبطلون في هذا الوقت - وهو وقت مجىء أمر الله - والمراد بالمبطلين: أهل الباطل على الإطلاق المتمسكون به، فيدخل فيهم المفترون على الله والمعاندون والمقترحون للآيات دخولا أَوليا.
المفردات:
{الْأَنْعَامَ} : الإِبل خاصة، وقيل: الإِبل والبقر والغنم والمعز.
{حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} : أَمْرًا ذا بال تهتمون به.
{آيَاتِهِ} : دلائل قدرته ووحدانيته في الآفاق وفي أنفسكم.
{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} : لا تقدرون على إنكار شيء منها إلا أن تعاندوا وتكابروا.
التفسير
79 -
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} :
المراد بالأنعام الإِبل خاصة ، وعممها بعضهم لتشمل الإِبل والبقر، والغنم، والمعز.
يقول الله - سبحانه - مُمتنًّا على عباده بما خلق لهم: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} أي: خلقها {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} : تفصيل لما دل عليه الكلام السابق إجمالا ، وتعليل لجعلها وخلقها، أي: خلق لكم - سبحانه - الإبل وسائر الأنعام لتركبوا بعضها وتأْكلوا بعضها.
80 -
ولكم فيها منافع كثيرة غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والأشعار والجلود.
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي: ولتبلغوا عليها أمرا ذا بال تهتمون به، وذلك كجر الأَثقال وحملها من بلد إلى بلد، وعلى الإبل التي هي نوع من الأَنعام في البر، وعلى السفن في البحر تُحْملون أنتم وأمتعتكم، والمراد من ركوبها والأكل منها والحمل عليها والمنافع الأُخرى تعلقها بالمجموع لا بالجميع، فليس كل واحد من الأنعام يجتمع فيه الركوب والأَكل والحمل وغيرها؛ لأن المراد أن هذه المنافع موزعة بينها، فمنها ما يجمع فيه المنافع كلها كالإبل ومنها ما يكون فيه بعضها كالغنم.
81 -
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} :
ويريكم الله حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم، ودلائله على كمال شئونه وقدرته ووحدانيته، فأي آية من هذه الآيات الباهرات تنكرون حتى أشركتم به؟ فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكاره من له عقل، وأنتم لا تنكرون أن ذلك من فضل الله كل عباده، ولكنكم مع ذلك تعبدون غيره، وهو لا يقدر على خلق ذبابة. {فَأَيَّ} للاستفهام
التوبيخي، وإِضافة الآيات إلى الاسم الجليل بدل ضميره في قوله - تعالى -:{آيَاتِ اللَّهِ} لتربية المهابة، وتهويل إنكار آياته في صورة عبادتكم لغيره.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
المفردات:
{آثَارًا فِي الْأَرْضِ} : قصورهم ومصانعهم فيها.
{الْبَيِّنَاتِ} : المعجزات والشرائع الواضحات.
{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} : فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا.
{أحَاقَ} : أحاط أونزل.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} : فلما عاينوا شدة عذابنا.
{وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنون {بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} : الأصنام وسائر آلهتهم الباطلة.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} : وهلك في مكان نزول العذاب الكافرون.
التفسير
82 -
أَي: أقَعدوا فلم يسيروا في الأرض، فيروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ممن سبقهم من الأمم المكذبة للرسل منذ الأزمنة الماضية، وماذا حل بهم من العذاب الشديد والهلاك والتدمير، ولقد كانوا أكثر منهم عددا ومالا وأشد منهم قوة وبأْسًا وآثارًا في الأرض من قصور ومصانع فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، ولا رد عنهم من بأْسه وعذابه ما كسبوه من قوة وسلطان وما جمعوه من أموال.
83 -
فحين جاءَت هذه الأُمَم رسلُهُم بالشرائع والمعجزات والآيات الواضحات لم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا عليهم، بل فرحت هذه الأمم بما عندهم من علوم الدنيا واستهزأوا بعلم الله الذي جاء به الأنبياءُ، كما قال - تعالى -:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (1) فنزل بهم من بأس الله ما لا قبل لهم به، وأحاط بهم العذاب الذي أَخبرهم به المرسلون وكانوا يستهزئون ويسخرون منه ويستبعدون وقوعه.
وقيل: المراد بما عندهم من العلم: علم الفلاسفة الذي فرحوا به وأقبلوا عليه، وتركوا من أجله هدى السماء الذي جاء به الأنبياءُ، والزمان متشابه، فقد رأَينا في هذا الزمان من ترك وحى الله وشريعته فرحا بما أصاب من فضلات هؤُلاء الفلاسفة.
84 -
فلما رأَت تلك الأُمم عقابنا الذي أوعدتهم به الرسل، وعاينوا عذابنا الشديد الذي نزل بهم قالوا: صدقنا بالله وحده، وأنكرنا الأصنام، وجحدنا الآلهة الباطلة التي كنا
(1) سورة الروم، الآية:7.
مشركين بسبب عبادتنا لها، وهكذا وحدوا الله عز وجل وأفردوه بالعبادة وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تُقَال العثرات ولا تنفع المعذرة.
85 -
أَي: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا الشديد، وخسر الكافرون وهلكوا وقت وقوع العذاب، والحكمة الإلهية قضت ألَاّ يقبل ذلك الإيمان؛ لأن الله سن سنة قد سبقت في عباده، ألا يقبل الإيمان حين نزول العذاب، ومثل هذا ما حدث لفرعون، فلقد حكى القرآن عنه أنه قال - حين أدركه الغرق -:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فرد الله عليه فقال: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (2) ولم يقبل الله من فرعون هذا الإيمان الذي اضطر إليه حين أَدركه الغرق، وتلك التوبة التي كانت حين حضره الموت، ومات كافرا مهانا، وأمضى الله فيه سنته، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(1) سورة يونس، من الآية 90.
(2)
سورة يونس الآية، 91 وبعض الآية 92.