الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة يس
وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون
المناسبة بينها وبين السورة التي قبلها أَن السورة التي قبلها ذكرت النذير في قوله تعالى: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وفسر النذير بأَشرف الرسل والأَنبياءِ محمد صلى الله عليه وسلم فافتتحت سورة "يس" بالقسم على صدق رسالته، واستقامة طريقه، تبكيتًا للمشركين على إعراضهم عنه، وتكذيبهم إياه.
كما أَنها عرضت لبعض ما عرضت له السورة السابقة "فاطر" من حركات الشمس والقمر وغيرهما من الآيات الكونية.
أهداف السورة وأغراضها
ابتدأت سورة "يس" بالحديث عن صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مؤَكدة رسالته بالقسم: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ثم انتقلت إلى الحديث عن أَحوال المشركين الذين حقت عليهم اللعنة بمعارضتهم الدعوة، فرزحوا في أَغلال الشرك عماه عن الحق، لا يجدى فيهم نصح، ولا يؤَثر معهم إِرشاد أَو توجيه، وخلصت من هذا إلى الإِشارة إلى البعث الذي يلقى فيه كل إنسان عمله في إمام مبين، وكتاب محفوظ.
ثم عرضت الآيات بعد هذا إلى قصة أَصحاب القرية، وشدة مقاومتهم للرسل الذين أُرسلوا إليهم، وقوة لَدَدِهم، وسوء حوارهم معهم، وتطيرهم منهم.
كما عرضت لحوار أَهل القرية مع الرجل الصالح الذي جاءهم من أَقصى المدينة مسرعًا، يدعوهم إلى تصديق الرسل واتباعهم فيما يدعونهم إليه من الهداية التي هم عليها، ولا يبتغون على ذلك نفعًا، ولا يسأَلون أَجرًا، فأوقعوا به ما أَوقعوا مما أَعقبه الجنة والنعيم، وأَوردهم موارد الهلاك والجحيم. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} .
ثم انتقلت الآيات إلى عرض صور من مظاهر قدرة الله، ومشاهد حكمته، التي تصرف بها في ملكوت السموات والأرض، وتصنيف النبات، وتسخير الأَفلاك، وتفجير الأَنهار والبحار وتسيير الفلك لنقل الأَحمال والأَثقال، وغير هذا مما تتجلى فيه آيات القدرة، وبدائع الصنعة.
وتنتهى الآيات من هذا إلى غرض يكاد يكون المقصود الأول في سياق السورة وهو البعث ومصائر الخلق بعده، فأَصحاب الجنة في شغل فاكهون، هم وأَزواجهم في ظلال على الأَرائك متكئون، وأَهل الشرك يدفعون إلى الجحيم {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ويختم الله على أفواههم.
ثم تعود الآيات إلى مثل ما بدأت من صدق رسالة الرسول، وتنزه قوله عن اللغو لتخلص منه إلى تعداد أَلوان من القدرة تتمثل في خلق الأَنعام وتذليلها، والانتفاع بها وبخيراتها وإنتاجها، وبغير ذلك ممَّا لا يتأتَّى منه شىءٌ من آلهة المشركين المزعومة، وتأْتي في هذا على أَعظم ما تتجلى عنه قدرة الله من خلق الإِنسان من ماءٍ مهينٍ، ثم تسويته إنسانًا سويًّا، وخصمًا مبينا، وتنعى عليه نسيان أَصله، وغفلة عقله حين يستبعد العودة إلى الحياة بالبعث، وخلق العظام وهي رميم، وتقرر أَن الله الذي خلقها أَول مرة هو القادر على إحيائها، فقد عرفوا أَنه قادر على أن يجعله من الشجر الأخضر نارًا مضطرمة، وعلى خلق السموات والأرض، فلا يعجزه أَن يعيد خلق الإِنسان، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أَهون عليه؛ لأَن أَمره إذا أَراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون.
وهكذا تدور السورة في تجلية البعث في صور مختلفة تقطع على كل منكر حجته، وتؤَكد لكل عاقل حقيقته.
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}
المفردات:
{الْحَكِيمِ} : المتضمن للحكمة، أَو الناطق بها.
{صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المراد بالصراط المستقيم: ما يعم العقائد والشرائع الحقة الشريفة بكمالها.
التفسير
1 -
{يس} : يصح أن تكون هذه الكلمة من قبيل الحروف المسرودة التي ابتدأَت بمثلها سور أُخرى، مثل:(الم) و (طَسم) وأَمثالها، فيكون الكلام عنها كالكلام الذي قيل في مثيلاتها وبخاصة في أَول سورتَي "البقرة، وآل عمران" وهي على هذا خالية من الإِعراب.
ويصح أن تكون اسمًا للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه، وعليه الأَكثر، وإعرابها على هذا كإعراب سائر التراجم. فهي مرفوعة خبرًا لمبتدإِ محذوف، أَو منصوبة مفعولا به لفعل مضمر، والتقدير: هذه يس - أو اقرأ يس.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: يا إنسان في لغة "طىء" قالوا: والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه الخطاب بعده في قوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
قال الزمخشري: إن صح هذا فوجهه أَن يكون أَصله: يا أليسين، فكثر النداءُ به على أَلسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما في القسم بـ "مُ الله" في "أيمن الله".
وقال الآلوسي: وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أَن "يس" بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام وهو ظاهر قول السيد الحميرى:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة
…
على المودة إلا آل ياسينا
ولتسميته عليه الصلاة والسلام بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف.
2، 3، 4 - {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}:
قوله - تعالى -: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ابتداءُ قسم، معناه: وأُقسم بالقرآن المحكم، أو المتضمن للحكمة والناطق بها، وقوله - تعالى -:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب للقسم معناه: إنك يا مُحمد لمن المرسلين الذين أَرسلهم الله لهداية أقوامهم بدعوتهم إلى الحق، وتوجيههم إلى سبل الخير، والجملة لرد إنكار المشركين المنكرين لرسالته، المتمثل في كثير من كلامهم في مثل قولهم:{لَسْتَ مُرْسَلًا} . وفي مثل ما سبق في سورة "فاطر" مما يشعر بأَنهم في قمة العناد، من قوله - تعالى -:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} .
وفي القسم بالقرآن أَولا، ووصفه بالحكمة ثانيًا تنويه بقدره، وإشادة بشأْنه على أكمل وجه، وأَوفى بيان.
وقوله - تعالى -: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان داخل في حيز القسم، أَي: إنك يا محمد لمن المرسلين، وإنك على طريق مستقيم بالغ ذروة الكمال في الاستقامة، والبعد عن الزيغ والانحراف، قائم على العقائد الصحيحة، والشرائع الحقة الشريفة بكمالها، وتضمنها كل خير للإِنسان والإِنسانية كما يفهم من التنكير المفيد للتعظيم والتفخيم، والمقصود من هذه الآية التنويه بشأْنه صلى الله عليه وسلم وإعلاءُ قدره، وتقرير أَنه على السنة المثلى والطريق السوي، فإن أَحدا من أَهل النظر لا يجهل أَن المرسلين جميعًا على صراط مستقيم.
المفردات:
{لِتُنْذِرَ} : لتخوف وتعظ.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} : لقد ثبت ووجب القول بالعذاب.
التفسير
5، 6 - {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}:
قوله - تعالى -: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} : استئناف لإظهار فخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بالقسم به، ووصفه بالحكمة.
والمعنى: نزل هذا القرآن تنزيلا على محمد من الله العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه.
ولهذا قال الله في شأْنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعبرين عن الغلبة الكاملة، والرحمة الشاملة مزيد من التنويه بفضل القرآن الكريم، وسمو مرتبته.
وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} : تعليل للتنزيل متعلق به، أَي: نَزَّل هذا القرآن العظيم العزيزُ الرحيمُ؛ لتخوف به يا محمد قومًا لم ينذر ولم يخوف بمثله آباؤُهم الأَقربون، لتطاول مدة الفترة عليهم حتى تغشاهم الجهل. وران على قلوبهم الكدر فهم غافلون لا تستشعر قلوبهم رسالة، ولا تستشرف لرسل قبله حتى أصبحوا في الحاجة الملحة إلى من ينذرهم ويرشدهم تخويفًا من عذاب الله، وطمعًا في رحمته.
وقيل: إن المعنى لتنذر قومًا الإنذار الذي أنذر بمثله آباؤهم الأقدمون في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فنسوه وغفلوا عنه، فـ (ما) هنا في قوله:{مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} مصدرية وليست نافية.
وهناك وجه غفل عنه معظم المفسرين، وهو أن رسالة إسماعيل عليه السلام كانت للعرب العاربة، أَما العرب المستعربة الذين نشأُوا من ذرية إسماعيل فلم يأتهم رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقريش من ذريتهم.
7 -
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
أَي: والله لقد ثبت القول بعدم الإيمان على أكثر هؤلاءِ المشركين بسبب إصرارهم على الشرك، وإعراضهم عن إِجابة الرسول، وعدم تأَثرهم بالإنذار، والتذكير، وغلوهم في العتو والعناد، حتى صح فيهم قول القرآن على لسان إبليس:{وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1).
وقوله تعالى: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} متفرع على إصرارهم على الشرك، وتماديهم في العناد والمعنى: فهؤُلاء مصرون على الشرك إلى الموت، مختارون له لا ينتظر منهم امتثال، ولا يرجى، لهم إِيمان باختيارهم، ولهذا هداهم الله إليه بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة.
المفردات:
{أَغْلَالًا} : جمع غل، وهو القيد الذي يوضع في العنق، تشد به اليد إلى العنق.
(1) سورة الحجر، من الآية:39.
{مُقْمَحُونَ} : رافعو رءُوسهم، غاضُّو أَبصارهم، من: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب.
{سَدًّا} : حاجزًا ومانعًا.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} : غطينا أَبصارهم وأَعميناهم.
التفسير
8،9 - {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}:
هاتان الآيتان وما بعدهما تأكيد لمعاني الآية السابقة، وتقرير لتصميم المشركين على شركهم، وعدم إذعانهم للحق بتمثيل حالهم بحال من جعلت الأَغلال في أَعناقهم منتهية إِلى أَذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أَعناقهم نحوه، ولا يطأْطئون رءُوسهم له فهم مقمحون رافعون رءُوسَهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق، أو يلتفتون إلى جهته.
وقوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} : من تمام التمثيل وتكميله، أَي: وجعلنا مع ما ذكر من الأَغلال أَمامهم سدًّا عظيمًا، ووراءَهم سَدًّا مثله. فأَغشيناهم بذلك، وغطينا أَبصارهم فهم لا يقدرون على إبصار شيءٍ أَصلا لا من أَمامهم ولا من خلفهم.
ويصح أَن يكون تمثيلا مستقلا، فإن جعلهم بين سدين هائلين يغطي أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا، ويعطي صورة جديدة تنم عن كمال فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغيّ والجهالات محرومين من النظر والانتفاع بالأَدلة والآيات.
وقيل: الآيتان في بني مخزوم، وذلك أَن أَبا جهل حلف لئن رأَى محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه، فأَتاه وهو يصلي، ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده انثنت إِلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأَخبرهم.
والأولى أَن تبقى الآية على عمومها متممة لسياق الآيات قبلها وبعدها، ولا مانع أَن يكون أَبو جهل ضمن ما اشتملت عليهم من المشركين الذين حق القول على أَكثرهم، وتكون الآية من قوله - تعالى -:
10 -
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
بيانًا لشأنهم بطريق التصريح إثر بيانه بطريق التمثيل، أَي: ويستوي عند هؤُلاء المشركين المصرين على الكفر إنذارك إياهم وعدم إنذارك فقد اختاروا لأَنفسهم، وحق عليهم العذاب والنكال.
وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} استئناف مؤكد لما قبله، موضح لإجمال ما فيه الاستواءِ.
المفردات:
{تُنْذِرُ} : تخوف وتبلغ. (الذِّكْرَ): القرآن.
{خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أَي: خاف عقاب الله قبل حلوله، أَو من غير أَن يراه، أَو خافه في سريرته، ولم يغتر برحمته.
{نُحْيِ الْمَوْتَى} : نبعثهم من موتهم يوم القيامة للحساب.
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} : ونكتب ما أَسلفوا من أَعمال صالحة وغير صالحة.
{وَآثَارَهُمْ} : أعمالهم التي تبقى بعد موتهم.
{أَحْصَيْنَاهُ} : بيناه وحفظناه، وأَصل الإحصاء العد للحفظ.
{إِمَامٍ مُبِينٍ} : أَصل عظيم، مظهر لما كان وسيكون، وهو اللوح المحفوظ.
التفسير
11 -
لما قررت الآية السابقة أَن إنذار الرسول وعدمه سواء فيمن أَصر على تنكب طريق الصواب ناسب أَن تجىءَ هذه الآية لتجلية حقيقة من ينتفع بأُسلوب التذكير من القلوب اللينة، والنفوس الخصبة التي تحسن اتباع القرآن خشية من الرحمن، وجاءت الآية بعدها لبيان أَن الله هو الذي يحيي موات القلوب، كما يحيي الموتى، وذلك حين يجىءُ أَوان الهداية، وقد حدث ذلك عند فتح مكة.
والمعنى: إِنما يجدى الإِنذار، ويؤْتى ثماره، ويتحقق نفعه، وتظهر آثاره مع من اتبع القرآن وتدبره، وأَدام فكره ونظره فيه، وتأَمل معانيه، ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان، وخشي الرحمن بالغيب، فخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله، أَو خشى الرحمن وهو غائب عنه، أَو خشي الرحمن وتحاشى معصيته في سريرته، كما يتحاشاها في علانيته وجلوته، فمن كان هذا حاله، وذاك سلوكه، فهو حري أَن يبشره بمغفرة واسعة؛ وأَجر كريم عظيم، لا يقادر قدره، ولا يخضع للتقدير حَزْره.
12 -
تنتهي الآيات السابقة كلها بهذه الآية تذييلا عامًا ينتظم المصممين على الكفر، والمنتفعين بالإنذار والتخويف ترهيبًا وترغيبا، ووعيدًا ووعدًا، وإيذانًا بأَن الله الذي سوف يحيى موتاهم عند البعث، سيحيى موات قلوبهم حينما يجىءُ أَوان هدايتهم، وقد تم ذلك في السنة الثامنة من الهجرة حيث أَسلموا جميعًا عند فتح مكة.
والمعنى: إنا نحن - وحدنا دون غيرنا - القادرون على أَن نحيى الموتي جميعًا المؤْمنين منهم والكافرين، المصدقين بالبعث منهم والمكذبين، ونبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاءِ، ونكتب ونثبت ما قدموا وأَسلفوا من الأَعمال الصالحة وغير الصالحة، ونحفظها لهم، ونثبت آثارهم التي يبقى بعد موتهم ثوابها من الحسنات: من علم علَّموه،
أَو كتاب ألَّفوه، أَو نبع أَجروه، أَو أَرض وقفوا غلتها على الفقراء والمعوزين، أَو غير ذلك من نواحي البر ووجوه الخير، كما نثبت آثارهم السيئة التي يبقى بعد موتهم شرها وضرها من القوانين الظالمة التي سنوها، والعادات القبيحة التي اعتادوها واعتادها الناس تبعًا لهم، والمظالم التي ارتكبوها، وغير ذلك من ضروب الشر، وأَلوان الفساد والمنكر.
أَخرح ابن أَبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَنَّ سنة حسنة فله أَجْرُها وأَجرُ مَن عمل بها من بعده من غير أَن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ سنةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووزر مَن عمل بها من بعده لا ينقص من أَوزارهم شيئًا، ثم تلا:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .
وفسر بعضهم الآثار بالخُطى إِلى المساجد، مستظهرين على ذلك مما أَخرجه عبد الرزاق وابن جرير، وابن المنذر، والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدرى - قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأَرادوا أَن ينتقلوا إِلى قرب المسجد فأَنزل الله - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} : فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية فتركوا".
والأَظهر أَن تحمل الآثار على ما يعم الخطى إِلى المساجد، وغير ذلك من الأَعمال الصالحة والطالحة ويترجح ذلك بأمور:
1 -
أَن الآية تذييل عام لكل ما سبقها من آيات.
2 -
أَن السورة مكية، واعتبار هذه الآية في بني سلمة يجعلها مدنية بين آيات السورة كلها.
3 -
أَن قصارى ما يفيده الخبر اعتبار الخطى إِلى المساجد من الآثار التي يبقى ثوابها بعد موت صاحبها، وتعميم ذلك خير من تخصيصه.
وقوله - تعالى -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} معناه: وكل شيء من الأعمال كائنا ما كان قليلًا أَو كثيرًا، عظيمًا أَو صغيرًا، نافعًا أَو ضارًّا، بيناه وحفظناه في إمام مبين، وأَصل عظيم الشأْن مظهرًا لما كان وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ الذي يؤْتم به ويقتدى، ويتبع ولا يخالف.
المفردات:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} : ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أُخرى مثلها كما في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا
…
} الآية، وتارة أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إِلى تطبيقها بنظيرة لها.
{الْقَرْيَةِ} قيل: إنها إنطاكية {فَعَزَّزْنَا} : قوينا ودعمنا.
{الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : التبليغ الواضح.
التفسير
13، 14 - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}:
انتقلت الآيات إلى قصة أصحاب القرية وحوارهم مع الرسل الذين أَرسلهم الله تأْييدًا لعيسى، كما أرسل هارون تأْييدًا لموسى عليه السلام وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفا للمشركين من مغبة إصرارهم على العناد والكفر.
والمعنى: واجعل يا رسول الله أَصحاب قرية إِنطاكية مثلا لهؤُلاء المشركين، وطبق حال أُمتك وسلوكهم معك ومثِّلْه بحالهم من الغلو في الكفر، والإصرار على تكذيب الرسل، وما انتهى إِليه أَمرهم من الهلاك، طبق هذا وقِسْهُ حتى يدركوا عاقبة سوء فعلهم، ومآل كفرهم وعنادهم.
ومعنى {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أَي: وقت أَن جاءَ أَهلها المرسلون الذين أَرسلهم الله تأييدًا لعيسى عليه السلام يدعون إِلى توحيد الله، واختصاصه بالعبادة، وترك عبادة غيره.
وقوله - تعالى -: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} : تفصيل للإجمال في قوله: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} .
ومعنى {إِذْ أَرْسَلْنَا} أَي: وقت أَن أرسلنا إليهم رسولين هما: "يحيى، وبولس" - على ما قيل - وقوله تعالى -: {فَكَذَّبُوهُمَا} يشير إِلى إيجاز في الأُسلوب مفاده: فأَتياهم فدعواهم إِلى الحق فكذبوهما فعززناهما وقويناهما برسول ثالث هو "شمعون" - على ما قيل - فقال ثلاثتهم لأَهل القرية: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ندعوكم لعبادة الله دون غيره من الآلهة العاجزة التي لا تنفع ولا تضر، وجاء قولهم:{إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} : مؤكدا يناسب حالهم وتكذيبهم للرسولين الأَولين.
15 -
أَي: قال أَصحاب القرية إنكارًا لقول الرسل لهم: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} : ما أَنتم في أَية حال من أَحوالكم إلا بشر منا ومثلنا فأَنى لكم مزية موجبة لاختصاصكم بهذه الدعوة، والارتفاع إِلى مستوى القيادة علينا والدعوة لنا.
ثم يتدرجون في الإِنكار عليهم وتكذيبَهم بإِثبات البشرية لهم، فينكرون أَن يكون الله - تعالى - قد أَنزل شيئًا مما يدعونهم إِليه من الوحي والرسالة، ثم يترقون من ذلك إِلى تكذيبهم تكذيبًا مباشرًا صريحًا بقولهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بأُسلوب يحصرهم في إطار الكذب والاختلاق، ويسجل عليهم التمادي فيه.
16 -
أَي: قال الرسل لأَهل القرية: ربنا وحده يعلم حقيقة رسالتنا، وصدق دعوتنا، ويعلم إنا إليكم لمرسلون لتبليغكم الرسالة، ودعوتكم إِلى التوحيد، يردون بذلك تكذيب أهل القرية ويسفهون قولهم بإشارات ثلاث:
أَولا: بإِسناد علم الرسالة إِلى الله - تعالى - ردا على قولهم: {مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} وهو أسلوب جرى مجرى القسم مع ما فيه من تخويفهم، وتحذيرهم معارضة علم الله.
ثانيا: بإعادة القول بتأْكيد إرسالم إليهم مع اختصاص الله بعلمه، وأَنهم لا ينكرونه إلا عنادا ومكابرة.
ثالثا: ببيان أَن مهمتهم تبليغ الرسالة تبليغا واضحًا بالآيات الشاهدة على صدقه، وأنهم بهذا التبليغ قد خرجوا عن عهدته، فلا مؤَاخذة لهم من جهة الله - تعالى - سواءٌ صدقوا أَو كذبوا.
المفردات:
{تَطَيَّرْنَا} : تشاءَمنا، وأَصل التطير: التفاؤُل والتشاؤُم بالطير.
{لَنَرْجُمَنَّكُمْ} : لنرمينكم بالحجارة حتى تموتوا.
{لَيَمَسَّنَّكُمْ} : ليصيبنكم.
{أَلِيمٌ} : موجع.
{طَائِرُكُمْ} : سبب شؤمكم.
{مُسْرِفُونَ} : مجاوزون الحد في العصيان مستمرون عليه.
التفسير
18 -
تطور حوار أَهل القرية مع الرسل من مجرد التكذيب والإِنكار إِلى الشتم والتهديد، والتوعد المقترن بالقسم، قالوا لما ضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وانسدت أَمامهم أَساليب الجدل - قالوا - للرسل جريا على عادة الجهال: إنا تشاءَمنا بوجودكم، وضقنا من قولكم، ثم أَتبعوا ذلك قولهم توعدا مؤَكدا بالقسم، والله لئن لم ترجعوا عن دعوتكم، وتمسكوا عن مقالتكم، لنرمينكم بالحجارة وليصيبنكم منا عذاب أليم، وإيذاءٌ موجع لا يقادر قدره.
قيل: إن سبب التطير انقطاع المطر عنهم، أَو انتشار الجذام فيهم - والله أَعلم بصحة ذلك - ورد عليهم الرسل، قالوا: طائركم وتشاؤُمكم ملازم لكم، نابع من قبح أعمالكم، وسوء عقيدتكم، وما فعلنا معكم ما يقتضي تشاؤُما، أَو يثير ضيقا، سوى أَن ذكرناكم وخوفناكم عذاب ربكم، ودعوناكم لما فيه سلامتكم وسعادتكم، وليس في ذلك ما يقتضي تشاؤُما، بل أنتم قوم مسرفون ومتجاوزون الحد في الظلم والعتو، ممعنون في الشرك تعيشون فيه وتقيمون عليه، والمصائب التي حاقت بكم من سوء أَعمالكم.
المفردات:
{أَقْصَى الْمَدِينَةِ} : أَبعد مكان فيها.
{رَجُلٌ} قيل: هو حبيب النجار.
{يَسْعَى} : يعدو مسرعا في عدوه ومشيه.
التفسير
20 -
انتقلت الآيات من حوار أهل القرية مع الرسل إِلى حوار بين رجل من أَهل القرية وقومه تنويعا في أُسلوب التأْسية، وتوسيعا في صور التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأَصحابه.
والمعنى: وجاءَ من أَبعد موضع في المدينة رجل من أَهلها يسرع في عدوه، ويجد في سيره إثر تورط قومه في تهديد الرسل، وارتفاع أصواتهم بتوعدهم، ينصحهم حرصا على هدايتهم، وخوفا على الرسل منهم، قال بنداء يتأَلف به قلوبهم:{يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أَي: صدقوا وأَجيبوا المرسلين الذين أَرسلهم الله لدعوتكم وهدايتكم، وتحريركم من الشرك، وعبادة الأَوثان.
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أَي: أَجيبوا دعاء من لا يبتغون من وراء دعوتكم أَجرا ولا يطلبون على إجابتها نفعا ولا كسبا، وإنما يقومون بها امتثالا لأَمر الله، ورجاءً في هدايتكم وإرشادكم إِلى ما فيه استقامة دنياكم، وسعادة آخرتكم، وحسبكم في صدقهم وتصديقكم لهم أنهم يدعونكم لما هم مهتدون إليه، طامعون أَن يكون لكم من الخير والهداية ما يرجونه لأَنفسهم دون أَن يطلبوا على ذلك أَجرا، وذلك دليل على صدقهم.
قال وهب: كان حبيب مجذوما ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة، وكان يدعوهم لعلهم يرحمونه، ويكشفون ضره، فما استجابوا له: فلما أَبصر الرسل دعوه إِلى عبادة الله، فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب!!! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟؟ فقالوا: نعم، ربنا على ما يشاءُ قدير!! وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر، ودعوا ربهم فكشف الله عنه كأن لم يكن به بأس، فآمن وأقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق من كسبه، فأَطعم عياله نصفا، وتصدق بنصف. فلما هم قومه بقتل الرسل جاءَ فنصحهم - والله أعلم بصحة هذا الخبر.
المفردات:
{فَطَرَنِي} : خلقني وابتدأ وجودي، من: فطر البئر إذا ابتدأَ حفرها.
{تُرْجَعُونَ} : تردون من الموت إِلى الحياة بالبعث.
التفسير
22 -
هذه الآيات وما بعدها استمرار من الرجل في حوار قومه مع التلطف والملاينة في إرشادهم بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، حيث أَراهم أَنه اختار لهم ما اختار لها مع التعريض بهم والتقريع لهم على ترك عبادة خالقهم إِلى عبادة غيره.
والمعنى: وأَي شيء أَصابني؟ وأَي سفه خالط عقلي حتى أُمسك عن عبادة ربي الذي ابتدأ خلقي، وابتدع وجودي ووجودكم، وله مرجعي ومرجعكم نرجع إليه بالبعث فيجازينا بأعمالنا خيرا وثوابا أَو شرا وعقابا؟
ومعنى قوله - تعالى - حكايته عنه: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
…
} إِلى آخر الآية أيستقيم لي ويتأَتى في عقلى أَن أَتخذ من دون الله آلهة غيره، أَعبدهم وأَدين لهم، إن يردني سبحانه وتعالى بضر، ويقدره علي؛ لا تغني شفاعتهم عني شيئا من النفع، ولا تقدر أَن تخلصني
وتنقذني مما أَراده لي وقدره علي بالنصرة والمظاهرة، إني إذا فعلت ذلك لفي ضلال مبين وهلاك أَكيد؛ لأن إِشراك ما ليس من شأْنه جلب النفع، ولا دفع الضر، بالخالق القادر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره، سفه بين وضلال واضح.
التفسير
25 -
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} :
الخطاب في هذه الآية يحتمل أَن يكون من الرجل للرسل بعد أَن نصح قومه بما نصحهم به، فهموا بقتله، فأسرع نحو الرسل قائلا:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} وأَكده لإظهار صدوره عنه بكمال الرغبة، وصادق اليقين، وأضاف الرب إِلى ضميرهم لزيادة التقدير كأنه قال: بربكم الذي أَرسلكم إِلينا والذي تدعوننا إِلى الإيمان به.
ومعنى {فَاسْمَعُونِ} : فاسمعوا إيماني، وسجلوه علي، واشهدوا لي به عند ربكم وربي. ويحتمل أَن يكون الخطاب من الرجل لقومه شافههم به إظهارا للتصلب في الدين،
وعدم المبالاة بهم، وإضافة الرب إِلى ضميرهم لبطلان ما هم عليه من اتخاذ الأَصنام أَربابا، ويقال: إنهم قتلوه بعد أَن وقف في صف الرسل وقفة متينة.
26 -
اشتملت الآيتان على جوابين عن سؤَالين مقدرين:
الأَول: كيف كان لقاؤه ربه بعد هذا التمسك بالدين، وقتل قومه له؟؟.
والجواب: قيل له: ادخل الجنة جزاءً موفورًا على صدق إِيمانك، وسخائك بروحك ويكون ذلك تبشيرًا له بدخولها، ووعدا له بها وأنه من أَهلها.
الثاني: فماذا قال بعد نيله تلك الكرامة، وتلقيه هذه البشرى؟؟.
والجواب: تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالرجوع عن الكفر، والدخول في الإيمان إِشفاقًا على قومه أَو ليعلموا أَنهم كانوا على خطأ عظيم في أَمره وأَمرهم، وأَن عداوتهم له لم تكسبه إلا سعادة ونعيما.
ومعنى {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} : يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي بإيماني به وتركي عبادة الأَصنام وأَنه أَعقبني بذلك هذا الفوز العظيم، والمراد تعظيم رحمته، وتفخيم مغفرته تعالى.
وبالجملة فقد تمنى الرجل أَن يعلم قومه حاله، وعاقبة أمره لقاءَ إِيمانه، وصدق يقينه وتصلبه في دينه، وسخائه بروحه فداءً لعقيدته، وانتصارًا لرسله حتى استحق أَن يكون من جملة المكرمين من الله المبشرين بجنته، الموعودين بنعيمه في حظيرة قدسه، ودار أُنسه، ومستقر رحمته.
المفردات:
{صَيْحَةً} : صوتا قويا.
{خَامِدُونَ} : ميتون خامدون كما تخمد النار.
التفسير
28 -
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنه جاءَ رجل من أَقصى المدينة (مدينة أَنطاكية على ما ذكره كثير من المفسرين) - جاء - يسعى ليحث قومه على اتباع المرسلين الذين لا يطلبون أَجرا على إرشادهم ونصحهم وهم مهتدون، فلما نصحهم، وثَبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه فقيل له - من عند الله جزاءً على إيمانه، وحسن دعوته إِلى الله -: ادخل الجنة فدخلها، فلما شاهد ما شاهد من إكرام الله له قال:{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ليؤْمنوا كما آمنت، وهكذا: نصح هذا الرجل المؤمن قومه في حياته بقوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وتمنى أَن يعرفوا حُسْنَ جزائه بعد مماته ليؤْمنوا وذلك بقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فما أعظم هذا الرجل، فقد كان حريصا على هداية قومه حيا وميتا.
وفي قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} : يخبر الله - تعالى - أَنه انتقم من قومه بعد قتلهم إيّاه، غضبا منه عليهم، لأَنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، ويذكر عز وجل أَنه ما أَنزل على قومه ملائكة لإهلاكهم، بل كان الأمر أيسر من ذلك، ومعنى قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أَي: وما ينبغي في حكمتنا أَن ننزل في إهلاك قوم هذا الرجل - الذي يسميه كثير من المفسرين حبيبا - ما ينبغي في حكمتنا أَن ننزل جندا من السماء؛ لأَن الله - تعالى - أَجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض بناءً على ما اقتضته الحكمة، ألا ترى إِلى قوله - تعالى -:{فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} (1) وكأنه أَشار بقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا} . {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} إِلى أَن إنزال الجنود من السماء من عظائم الأُمور ولا يليق إِنزالها إلا من أَجلك يا محمد، كما حدث في غزوتي بدر والخندق انتصارا لك من قومك، وما كان ينبغي أَن نفعل ذلك من أجل غيرك.
29 -
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} :
أَي: ما كان إهلاكهم وعقوبتهم إلا بصيحة واحدة أَرسلناها عليهم فإذا هم ساكنون سكون الميت كالنار الخامدة، وفي ذلك تحقير لهم وتقليل لشأنهم، روى أَن الله - تعالي - بعث عليهم جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا، ذكره الآلوسي وغيره، وفي التعبير بإذا الفجائية في قوله - تعالى -:{فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ما يشير إِلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة.
ولقد ذكر بعض المفسرين أَن هذه القرية التي أَهلك الله أَهلها (أنطاكية) كما تقدم ذكره، ويرى ابن كثير أَنَّ أهل (أنطاكية)(2) كانوا أَول أَهل بلد آمن بالمسيح
(1) سورة العنكبوت، من الآية:40.
(2)
أنطاكية في القاموس بدون تشديد الياء وفي هامشه بتشديدها.
- عليه السلام ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأَربعة التي فيها "بطارقة" وهي: 1 - القدس 2 - أنطاكية 3 - الإسكندرية 4 - روما
فعلى هذا يتبين أَن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أُخرى غير أَنطاكية المعروفة كما قال بذلك غير واحد من السلف. اهـ ابن كثير.
المفردات:
{يَا حَسْرَةً} الحسرة: الغم والندم.
{الْقُرُونِ} : جمع قرن والمراد بهم: القوم المقترنون في زمن واحد.
التفسير
30 -
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} :
نداء للحسرة تنزل بهم كأنما قيل لها: تَعالى يا حسرة فهذه من أَحوالك التي حقك أَن تحضري فيها، وهي حال استهزائِهم بالرسل الذين جاءُوهم ليخرجوهم من الظلمات إِلى النور.
والمعنى: أنهم أَحقاءُ بأَن يتحسر عليهم المتحسرون عن الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ويجوز أَن يكون من الله على سبيل المجاز لتهويل ما جنوه على أنفسهم وفرط إِنكاره له؛ لأَنهم ما يأْتيهم رسول من الرسل إلا كانوا به يستهزئون، ومنه يسخرون، وبما جاءَهم
به من الحق يكذبون ويجحدون، والحسرة كما قال الراغب: الغم على ما فات والندم عليه، والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أَوَليا.
31 -
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} :
أَي: أَلم يعلموا فيتعظوا بمن أَهلك الله قبلهم من القرون الماضية والأُمم السابقة المكذبين للرسل وهم كثيرون، أَلم يروا كيف قضينا أَنهم إليهم لا يرجعون، وليس لهم في هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأَمر كما زعم كثير من جهلتهم من قولهم:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (1) وهم القائلون بالدور من الدهرية وغيرهم من الذين يعتقدون أَنهم يعودون إِلى الدنيا كما كانوا فيها، يحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه قيل له يوما: إن قوما يزعمون أَن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن: نكحنا نساءَه وقسمنا ميراثه، أَما تقرءُون:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} .
32 -
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} :
بيان لرجوع الكل إِلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إِلى الدنيا، أَي: ما كل الأُمم السابقة واللاحقة إلا مجموعون لدينا مقهورون على الحضور إلينا يوم القيامة فنجازيهم بأَعمالهم كلها خيرها وشرها، وهذا كقوله - تعالى -:{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (2)، وفي الآية دليل على أَن المهُلَك عقابا لا يترك بل يعذب في الآخرة على كفره فوق ما ناله من عقاب في الدنيا.
(1) سورة (المؤمنون) الآية: 37.
(2)
سورة هود، من الآية:111.
المفردات:
{الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} : المجْدبة.
{فَجَّرْنَا} : شققنا.
{الْأَزْوَاجَ} : الأَنواع والأَصناف، وقال قتادة: الذكر والأُنثى.
التفسير
33 -
أَي: ودلالة قوية لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه للموتى، الأَرض الجدباءُ تراها ميتة هامدة لا شيءَ فيها من النبات، فهذا أَنزلنا عليها الماءَ اهتزت وربت وأَنبتت وأَخرجنا منها حبا فمنه يأْكلون.
وتقديم لفظ (منه) في قوله - تعالى -: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} للدلالة على أَن الحَبَّ هو الشيءُ الذي يرتبط به معظم العيش، فكأَنه لا مأْكول سواه، فإذا قلَّ الماءُ جاءَ القحط ووقع الضرر، وإذا فقد جاءَ الهلاك ونزل البلاءُ.
34 -
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} :
وأَنشأْنا في الأَرض جنات - حدائق - وبساتين من: نخيل وأعناب وغيرهما، وخصهما
بالذكر لأنهما غذاءٌ ودواءٌ وفاكهة، وشققنا فيها من عيون الماء ما ينبت الشجر، ويخرج الزهر وينضج الثمر.
والجنات: جمع جنة - وهي كما قال الراغب - الجنة - كل بستان ذي شجر يستر بأَشجاره الأَرض، وقد تسمى الأَشجار الساترة جنة، من الجَنِّ وهو الستر.
35 -
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} :
أَي: وجعلنا فيها جنات ليأكلوا مما خلق الله فيها من الثمر، وليأْكلوا من الذي عملوه وصنعوه بأَيديهم، والمراد به: ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما، وقال الزمخشري: وما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إِلى أَن بلغ الثمر منتهاه، وإِبَّان أَكله، يعني أَن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم.
ويجوز أَن تكون (ما) نافية في قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} والمعنى: وما عملت الثمر أيديهم فهو من خلق الله، وأثر ذلك عن ابن عباس والضحاك وغيرهما.
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم الكثيرة، وحث ودعوة إِلى شكر المتفضل، ويكون الشكر بالتوحيد، والعبادة، وحسن الثناء على الله، والاعتراف بآلائه.
36 -
استئناف مسوق لاستعظام ما ذكر في الآيات الكريمة قبلها من بديع آثار قدرته، وأَسرار حكمته، وروائع نعمائه، الموجبة لشكره، والمقصود من قوله: {سُبْحَانَ
…
} تنزيه الله - تعالى - عن كل نقص وتخصيصه بالعبادة، والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه.
والمعنى: تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأَشياءَ كلها على سنن: الذكورة والأُنوثة من النبات والإِنسان ومما لا يعلم الناس، قال - تعالى -:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1).
(1) سورة الذاريات، الآية:49.
فهو - سبحانه - جعل قانون الذكورة والأُنوثة في مخلوقاته كلها، سواءٌ في ذلك النباتات والحيوانات والبشر، وفيما لا يعلمه الناس من الأَحياء غير المنظورة من أَزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إِلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أَن يخلق الله على هذا النحو من الخلائق ما لم يجعل للبشر طريقا إِلى العلم به، لأَنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إِلى ذلك العلم، ولو كانت بهم إليه حاجة لأَعلمهم بما لا يعلمون قال - تعالى -:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1).
وفي الإِعلام بكثرة أنواع ما خلق - ما علموه وما جهلوه - ما يدل على عظم قدرته واتساع ملكه.
وقال الراغب: (الأَزواج): جمع زوج، ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أَو مضادا، وكل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا أَو مماثلًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض. اهـ: آلوسي.
المفردات:
{نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} : ننزع من مكانه الضوءَ ونزيله ونفصله فيظلم.
(1) سورة النحل، من الآية:8.
{لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} : لحد معين من فلكها تنتهي إليه في آخر السنة، وسيأْتي تفصيل أكثر.
{قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} : قدرنا سيره في منازل ومسافات، والمنازل جمع منزل، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة.
{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} العرجون القديم: أَصل شمراخ النخل القديم وهو اليابس الذي دق وانحنى واصفر.
{ذَلِكَ} قال الراغب: مجرى الكواكب.
{يَسْبَحُونَ} : يسيرون ويدورون.
التفسير
37 -
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} :
بيان لقدرته سبحانه وتعالى الباهرة في الزمان بعد ما بينها في المكان، أَي: وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته: الليل ننزع ونفصل عنه النهار الساتر له، ونكشف ونزيل الضوءَ عن مكانه، فإِذا الناس داخلون في الظلام المشتمل عليهم من كل جانب، المحيط بهم من كل جهة.
38 -
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :
أَي: وآية أُخرى لهم الشمس تجرى لمستقر لها، أَي: لحد لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، أَو لمُنتهَى لها من المشارق والمغارب فذلك حدها، ومستقرها؛ لأَنها لا تعدوه، أَو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب، وقيل: مستقرها: أَجلها الذي أَقر الله عليه أمرها في جريها فتستقر وينقطع جريها وهو يوم القيامة.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذلك الجري على هذا التقدير والحساب الدقيق الذي تَكل الفِطَنُ عن استخراجه وتتحير الأَفهام في استنباطه ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علمه بكل معلوم.
39 -
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} :
والقمر جعلناه بتدبير محكم وتنظيم دقيق منازل، يبدو أَول الشهر ضئيلا، ثم يزداد نوره حتى يكتمل بدرا، ثم يأْخذ في النقصان في أَواخر سيره حتى يعود في مرآه كأَصل الشمراخ إذا قدُم فدق وانحنى واصفر.
40 -
إن الله - تعالى - قسم لكل واحد من الليل والنهار قسما من الزمان، وضرب لهما حدا معلومًا، ودبَّر أَمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس التي هي آية النهار أَي: لا يصح ولا يستقيم لها أَن تدرك القمر الذي هو آية الليل فتجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه، فتجعل الليل نهارًا، ولا الليل بظلامه غالب النهار فيجعله ليلًا.
وكل واحد من الشمس والقمر في مجراه الذي حدده الله له يسيران فيه كالسابح في الماء، ويدوران حسب النظام الذي وضعه الله، ولا يزال الأَمر على هذا الترتيب إِلى نهاية العالم حيث تطلع الشمس من مغربها في آخر الزمان، وجعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؛ لأَن الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر فكانت الشمس جديرة بأَن توصف بالإِدراك لتباطؤ سيرها عن سير القمر، والقمر خليقًا بأَن يوصف بالسبق لسرعة سيره في رأي العين.
المفردات:
{ذُرِّيَّتَهُمْ} : أولادهم، وقال الطبري: من نجا من ذرية آدم، وسيأْتي بيان ذلك.
{الْمَشْحُونِ} : المملوءِ.
{فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} : فلا مغيث لهم من الغرق.
التفسير
41 -
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} :
وآية أُخرى لهم أنا حملنا بني الإنسان في السفن المملوءَة بهم الموقرة بأَمتعتهم وبأَرزاقهم قيل: المراد بالفلك المشحون: سفينة نوح عليه السلام ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها أَنه حمل فيها آباءَهم الأَقدمين وفي أَصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم؛ لأَنه أَبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أَعقابهم إِلى يوم القيامة في سفينة نوح عليه السلام قال الإِمام: يحتمل عندي أَن تخصيص ذريتهم بالذكر لأَن الموجودين المخاطبين من أَهل مكة بهذا كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم، أَي: لم يكن العمل حملا لهم وإنَّما كان حملا لما في أَصلابهم من المؤمنين - ذكره الآلوسي - والآية تحتمل العبرة والنعمة والإِنذار.
42 -
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} :
وخلقنا لهم من مثل الفلك ما يركبون عليه وهي الإبل فإِنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسيرة، وإطلاق السفائن عليها شائع معروف في اللغة كما قيل:"سفائن بَرٍّ والسرابُ بحارها"، وفسره مجاهد بكل ما يركب، وقيل: هي السفن والزوارق التي كانت بعد سفينة نوح - قال النحاس: وهو أصحها لأَنه متصل الإِسناد عن ابن عباس. اهـ: قرطبي.
43 -
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} :
وإن نشأْ إِغراقهم في الماءِ بما اكتسبت أَيديهم، وبما اجترحوا من سيئات، وعملوا من موبقات، مع ما حملناهم فيه من الفلك فلا مغيث لهم يحفظهم مما نزل بهم ولا هم ينجون من الغرق بعد وقوعه.
44 -
{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} :
أي: لا يغاثون ولا ينفذون لشيءٍ من الأَشياءِ إِلا لرحمة عظيمة من قبلنا، داعية إِلى
الإِغاثة والإِنقاذ وتمتيع بالحياة إِلى زمان قدر فيه انتهاء آجالهم، حسبما تقتضيه الحكمة ومن هنا أَخذ أَبو الطيب قوله:
ولم أُسلم لكي أَبقى ولكن
…
سلمت من الحِمام إِلى الحِمام (1).
فنحن لا نغرقهم إلا رحمة منا بهم لنمتعهم إِلى أجل قدرناه لهم.
المفردات:
{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} : خافوا واحذروا مثل عذاب الأُمم التي قبلكم.
{وَمَا خَلْفَكُمْ} : عذاب الآخرة، وقيل:{مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} : ما تقدم من ذنوبكم.
{وَمَا خَلْفَكُمْ} : ما يأْتي منها.
التفسير
45 -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :
بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها ولا يتأَملون فيها، أَي: وإِذا قيل لأَهل مكة بطريق الإِنذار بما نزل فيهم من الآيات: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أَي: احذروا مثل عذاب الأُمم التي قبلكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} أَي: عذاب الآخرة الذي أَعده الله لكم لسوء أَعمالكم وإصراركم على كفركم {لَعَلَّكُمْ
(1) الحمام - بكسر الحاء -: الموت.
{تُرْحَمُونَ} أَي: لكي يرحمكم ربكم أن اتقيتموه فتنجوا من العذاب، وجواب (إذا قيل لهُمْ
…
) تقديره: أعرضوا، ويدل على هذا الجواب قوله - تعالى -:
46 -
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} :
أَي: وما تأْتيهم من حجة وعلامة على التوحيد وصدق الرسل إلا كانوا عنها معرضين لا يتأَملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها لأن دأبهم الإِعراض عن كل آية وموعظة.
والمراد بالآيات: إِما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنعه - تعالى - وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإِيمان بها، وإيتاؤها: نزول الوحي بها، أَي: ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء، وإمَّا ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغرائب المصنوعات، وإيتاؤها: ظهورها لهم، أَي: وما تظهر لهم من آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شئونه - تعالى - الشاهدة بوحدانيته - سبحانه - وتفرده بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إِلى الإيمان به عز وجل.
47 -
الآية الكريمة لذمِّ الكفار على ترك الشفقة على خلق الله إثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إِشارة إِلى أَنهم أَخلوا بجميع التكاليف؛ لأَنها كلها ترجع إِلى أمرين: التعظيم لله، والشفقة على خلقه - سبحانه -.
والمعنى: وإِذا أُمر الكفار بالإِنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحتاجين من المسلمين قال الذين كفروا لمن أَمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أَمروهم به: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أَي: هؤلاء الذين أَمرتمونا بالإِنفاق عليهم لو شاءَ الله لأَغناهم ولأَطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئَةَ الله - تعالى - فيهم فلا نطعمهم تحقيقًا لمشيئة الله، ما أَنتم في أَمركم لنا بإِطعامهم إلا في ضلال واضح، حيث تأْمروننا بما يخالف مشيئة الله، وقيل:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : قول الله لهم وهو رأْي ابن جرير،
وقيل: كلام المؤمنين للرد على الكافرين وآرائهم الضالة وأقيستهم الفاسدة؛ لأَن الله يطعم بأَسباب: منها حث الأَغنياءِ على إِطعام الفقراءِ وتوفيقهم له، وذلك لحكمة غابت عن عقولهم، وهي نشر المودة والرحمة والتعاون والعدل الاجتماعي.
ولقد نزلت الآية الكريمة في مشركي قريش حين قال فقراءُ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَعطونا مما زعمتم من أَموالكم أَنها لله، يعنون قوله - تعالى -:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} (1) فحرموهم وقالوا: لو شاءَ الله لأَطعمكم.
وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقرهم الله ونطعمهم نحن؟ وعن الحسن وأبي خالد أَن الآية نزلت في اليهود أُمروا بالإِنفاق فقالوا ذلك، والظاهر أَنها في كفار مكة كما يقدم.
المفردات:
{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} : يعنون وعد البعث.
{صَيْحَةً وَاحِدَةً} : نفخة الموت بها يموت جميع الناس، يحدثها إسرافيل في الصور.
{تَأْخُذُهُمْ} : تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون.
{يَخِصِّمُونَ} : يختصمون ويتنازعون في أُمورهم غافلين عنها.
(1) سورة الأنعام، أول الآية:136.
التفسير
48 -
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} :
ويقول المشركون للرسول والمؤمنين - استبعادا للبعث وإنكارا له واستهزاءً بالمؤمنين -: متى يقع هذا الذي وعدتمونا به ويتحقق؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدوننا به فأَخبرونا بذلك، يقولون ذلك لأنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالَّة عليه والآمرة بالإيمان باللهِ وبالبعث.
49 -
{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} :
جواب من الله - تعالى - أَي: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة عظيمة وهي النفخة الأُولى في الصور التي يموت بها الناس، ولأَن الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأَنهم منتظرون لها تهكما بهم {تَأْخُذُهُمْ} أَي: تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون وهم يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله - تعالى -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (1) أَخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتَقُومَنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثَوْبَهُما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطْوِيانِه، ولتقومنَّ الساعةُ والرجل يليط (2) حوضه فلا يُسْقَى منه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطْعمُه، ولتقومن الساعة وقد رفع أُكلَتَهُ (3) إِلى فمه فلا يطعمها" إ هـ: آلوسى.
50 -
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} :
فلا يستطيعون لسرعة ما نزل بهم توصية على ما يملكون ولا أَن يوصوا بشيءٍ في أمورهم لأَن الأَمر أَهم من ذلك، ولا إِلى أَهلهم ومنازلهم يرجعون إذا كانوا في خارج ديارهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ووجدوا، ويرجعون إلى الله عز وجل لا إِلى غيره - سبحانه -.
(1) سورة الزخرف، الآية:66.
(2)
يليط حوضه: يطينه واللياط - ككتاب -: الجص.
(3)
أكلته - بالضم -: اللقمة، - وبالفتح -: للمرة من الأكل.
المفردات:
{الصُّورِ} : القرن، وحقيقة الصور وكيفية النفخ مما استأثر الله بعلمه.
{الْأَجْدَاثِ} : القبور، جمع جدث.
{يَنْسِلُونَ} : يسرعون.
{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} : من أَيقظنا من منامنا؟
التفسير
51 -
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} :
ونفخ في الصور نفخة البعث فإِذا الأَموات من القبور إِلى ربهم ومالك أَمرهم يسرعون بطريق الإِجبار لقوله - تعالى -: {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (1) وذكر الرب للإِشارة إِلى إِسراعهم بعد الإِساءَة إِلى من أَحسن إِليهم وربَّاهم بنعمه على موائد كرمه.
52 -
قال المبعوثون من القبور بعضهم لبعض: يا هلاكنا وعذابنا، أَو يا قومنا انظروا أَهوال ما ينتظرنا وتعجبوا منه {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟} أَي: من أَيقظنا من منامنا، وفيه تشبيه الموت بالرقاد لعدم ظهور الفعل في كل، وقيل: سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا
(1) سورة يس من الآية: 32.
يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدوه، فكأن ذلك مرقدٌ بالنسبة لهم، فقد روى أنهم إذا عاينوا جهنم وشاهدوا ما فيها من ألوان العذاب وأنواع النكال الذي لا يخطر على بال، يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جنبها فيقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ فيأْتيهم جواب سؤالهم: هذا يومُ البعث الذي وعد الرحمن عباده وصدق المرسلون فيما أَخبروا به عنه، وروى عن ابن عباس: أَن الله - تعالى - يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإِذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا ذلك - ويقول ابن عباس: نقول، وهو - على ما قيل - جواب من قبل الله، وقيل: من جهة الملائكة، وقال قتادة ومجاهد: من قبل المؤمنين، وقال ابن زيد: هذا الجواب من قبل الكفار على أَنهم أَجابوا أَنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليهم السلام أَو أَجاب بعضهم بعضا به، وكان الظاهر أَن يجابوا بذكر الباعث؛ لأَنه هو الذي سألوا عنه، بأَن يقال: الرحمن، أَو الله بعثكم، لكن عدل عنه إِلى ما ذكر تذكيرًا بكفرهم وتقريعا لهم عنه، مع تضمنه الإِشارة إِلى الباعث، وذكر غير واحد: أَنه من الأُسلوب الحكيم، على أَن المعنى: لا تسأَلوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن، وإنما الذي يهمكم أَن تسأَلوا: ما هذا البعث ذو الأَهوال العظيمة والشدائد؟ وفيه من تقريعهم ما فيه.
53 -
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} :
أَي: ما كانت النفخة التي حكيت آنفا لدعوتهم للخروج من قبورهم إلا صيحة واحدة حدثت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور فإِذا هم مجموعون عندنا، وفي محل حكمنا محضرون لفصل الحساب من غير لبث طرفة عين، وفيه من تهوين أَمر البعث والحشر والإِيذان باستغنائهما عن الأَسباب ما لا يخفى.
54 -
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} :
فاليوم الحاضر أَو المعهود وهو يوم القيامة الدال عليه نفخ الصور، لا تنقص نفس من النفوس - برَّةً كانت أَو فاجرة - أَجر شيء مما عملته، ولا تلقون إلا جزاءَ ما كنتم تعملون من خير وشر، وهذا حكاية عما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعًا لهم.
واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين، إخبارا من الله - تعالى - عما لأهل المحشر على العموم، كما يشير إليه تنكير نفس، واختاره السكاكي.
المفردات:
{شُغُلٍ} : نعيم عظيم يلهيهم عما سواه.
{فَاكِهُونَ} : متلذذون أو فرحون أو متعجبون مما هم فيه.
{الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة، وهي - كما في الصحاح -: سرير منجد مزين في قبة أو بيت.
{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} : لهم ما يطلبون، أي: يتمنون.
{وَامْتَازُوا} : تميزوا وانفردوا عن المؤمنين.
التفسير
55 -
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} :
إخبارٌ لنا بما يكون يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أُعد لهم من الثواب والعقاب، فأصحاب الجنة اليوم في شغل، والشغل هو الشأن الذي يشغل المرء ويصده عما سواه من شئون، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءَة،
والمراد هنا الأول، وتنكيره للتعظيم، كأَنه شغل لا يدرك كُنْهُه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما سواه، وما ظنك بشغل مَنْ سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الخير الكثير والنعيم المقيم، وتمتع بتلك الملاذ التي أعدها الله للمرتَضَيْنَ من عباده، ثوابا لهم على أَعمالهم مع كرامة وتعظيم.
وعن ابن كيسان: الشغل: التزاور وضيافة الله. {فَاكِهُونَ} متلذذون فرحون معجبون بما أكرمهم الله به، والفاكِهُ والفَكِهُ: المتنعم المتلذذ، ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ بها، وكذلك الفكاهة التي هي المِزاحة.
56 -
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} :
استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من مشاركة أزواجهم لهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاءِ على الأرائك تحت الظلال، فهم وأزواجهم في ظلال، جمع ظُلَّة أو ظِلّ، وفسر الإِمام الظل بالوقاية عن مظان الألم، ولأهل الجنة من ظل الله - تعالى - ما يقيهم كل سوء وألم، والجمع (في ظلال) باعتبار ما لكل واحد منهم من ذلك، أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاية.
ويجوز حمل الظلال على القوة والمنعة، كما يجوز حمله على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوها، ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه ، فقد جاء في الكتاب وصح في السنة: أَن فيها غرفًا، وجاءَ فيها أيضًا ما هو ظاهر في أَن فيها شجرًا يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة شجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلها مائة عام لا يقطعها، فاقرءُوا إن شئتم: (وظِلٍّ ممدودٍ) "(1).
وابن الأثير يقول: في ظلها في ذراها وناحيتها، وهذا الرأي لدفع أنها تظلُّ من الشمس لأنه لا شمس في الجنة، والقول في الآراء السابقة كذلك في أنها لا تظل من الشمس، إذ لا شمس فيها.
(1) سورة الواقعة، الآية:30.
{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُون} : على السرر المنجدة المزينة بالستور متكئون، والظاهر أن المراد بالأزواج: أزواجهم المؤْمنات كن لهم في الدنيا، وقيل: أزواجهم اللاتي زوجهم الله - تعالى - إياهن من الحور العين، كما يجوز أن يكون المراد بأزواجهم أَشكالهم في الإحسان، وأَمثالهم في الإيمان.
57 -
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُون} :
بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسمية والروحية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأُنس ومحافل المتعة تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة.
والمعنى: لهم في الجنة فاكهة كثيرة من خير أنواعها ، لا مقطوعة ولا ممنوعة، مذلَّلة لهم إن شاءُوا أكلوا، وإن شاءُوا أمسكوا، ولهم فيها كل ما يطلبونه ويتمنونه.
58 -
{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} :
أي: سلام يقال لهم قولًا من جهة رب رحيم، أي: يسلم عليهم الله جل جلاله بلا وسيط تعظيمًا لهم، فقد أخرج ابن ماجة وجماعة عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما أهلُ الجنةِ في نعيمٍ إذ سطع لهم نورُ فرفعوا رءُوسَهم فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهلَ الجنةِ وذلك قول الله - تعالى -: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم".
وقيل: يسلم عليهم عن طريق الملائكة لقوله - تعالى -: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (1) .. وروى ذلك عن ابن عباس، يقول الآلوسي: وعلى الأَول الأكثرون، وأَقول: لا منافاة، فالله سبحانه وتعالى يسلم عليهم والملائكة كذلك.
(1) سورة الرعد، من الآيتين: 23، 24.
59 -
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} :
يقول الله عز وجل مخبرًا عما يؤُول إليه حال الكفار يوم القيامة من أَمره لهم أن يمتازوا بمعنى يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، يقول لهم: انفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة أَيها المجرمون الآثمون، فإنكم واردون غير موردهم، وذلك حين يحشر المؤْمنون ويسار بهم إلى الجنة، ونحوه قوله - تعالى -:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (1).
المفردات:
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} : ألم أوصِكم.
{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} : ألا تطيعوه في معصيتي.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} : إنه لكم عدو واضح العداوة.
{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} : هذا العهد طريق لا عوج فيه.
{جِبِلًّا كَثِيرًا} : خلقًا كثيرًا، وقال الراغب: الجبل: الجماعة العظيمة، وقال غيره: الجبل: الأُمة، وهي مَعَان متقاربة.
(1) سورة الروم، الآية:14.
التفسير
60 -
هذه الآية من جملة ما يقال لبني آدم الذين تركوا عبادة الله طاعة للشيطان، وذلك بطريق التقريع والتبكيت والإلزام بين الأمر بالامتياز {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون} والأمر بمقاساة جهنم {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
والعهد بمعنى الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد به هنا: مختلف الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله - تعالى - الزاجرة عن عبادة غيره، التي أَبلغها الرسل إلى بني آدم، ومن ذلك قوله - تعالى -:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} . فكأَن العهد مستعار لإقامة البراهين والحجج.
وفسره بعض المفسرين بالميثاق المأخوذ علي بني آدم في عالم الذر في قوله - سبحانه -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
والمراد بعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم من معصية الله، عبر عنها بعبادته لزيادة التنفير منها، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها، فالتجوز في النسبة.
ومعنى الآية: أَلم أوصكم يا بني آدم أن لا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من المعاصي ، لأنه لكم عدو مبين واضح العداوة، فقد أَخرج أبويكم من الجنة، فلماذا أَطعتموه حتى أصبحتم بطاعته مجرمين كافرين مستحقين للخلود في النار.
61 -
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} :
معطوف على (أن لا تعبدوا الشيطان) داخل معه في العهد، أي: أَلم أعهد إليكم بأَن لا تعبدوا الشيطان وبعبادتي وحدي، فهذا العهد صراط مستقيم لا عوج فيه، فلماذا تنكرتم لعهدي، وخالفتم وصيتي فاتبعتم الشيطان وأطعتموه، وتركتم عبادتي، وعبدتم آلهة أشركتموها معي؟.
62 -
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} :
استئناف مسُوق لتشديد التوبيخ والتقريع، ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم إثر بيان نقضهم للعهد، والخطاب لمتأَخريهم ومنهم كفار مكة.
والمعنى: ولقد أضل الشيطان منكم - يا بني آدم - أُممًا كثيرة، أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم، أو أفلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلًا، فلذلك كفرتم ككفرهم واستحققتم العذاب مثلهم.
المفردات:
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} : ادخلوها اليوم وقاسوا سعيرها.
{نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} : نمنعها من الكلام.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} : كلام دلالة أو نطق.
التفسير
63 -
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} :
هذا كلام مستأنفٌ تقوله خزنة جهنم لأهل النار عند إشرافهم على شفير جهنم بعد انتهاء التوبيخ والإلزام.
والمعنى: هذه - التي ترونها - جهنم التي كنتم في الدنيا توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلغين عنهم إن اتبعتم الشيطان فيما يزينه لكم من الكفر والمعاصي كقوله - تعالى -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} .
4 -
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون} :
اصلوها: أمر تحقير وإهانة لأهل النار، والمعنى: ادخلوا جهنم في هذا اليوم وقاسوا ألوان العذاب فيها بسبب ما كنتم مستمرين عليه من الكفر والمعاصي في الدنيا.
65 -
الأفواه: جمع فوه، وهو الفم، والختم عليها كناية عن منعها من الكلام، وتوفيقًا بين هذه الآية وبين آية سورة النور {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) أن يوم القيامة مواقف، ففي موقف تخرس الألسنة، وفي آخر تتكلم.
أخرج أحمد ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له أنس في قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مم ضَحِكْتُ"؟ قلنا: لا يا رسول الله، قال: "من مخاطبةِ العبدِ ربَّه يقول: يا رب أَلم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أُجيز عليَّ شاهدًا إلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بُعْدًا لكُنَّ، فعنكن كنت أناضل، وشهادة الأَيدي والأرجل عليهم دلالتها على أفعالها، وظهور آثار معاصيها عليها، وقيل: ذلك على الحقيقة، بأن ينطقها الله فتتكلم وتشهد، وهذا هو ظاهر الآية والحديث.
(1) الآية، 24.
المفردات:
{لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} : لمحوناها وأزلنا معالمها.
{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} : فسارعوا إلى الطريق.
{فَأَنَّى يُبْصِرُون} : فكيف يبصرون.
{لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} : لَغَيَّرنا صوَرتهم في مكانهم الذي يوجدون به.
{نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} : نرجعه فيه من القوة إلى الضعف ونحو ذلك.
التفسير
66 -
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} :
هذه الآية والتي بعدها مسوقتان لبيان أن الكافرين في هذه الدنيا تحت سلطان الله، وأنه لو شاءَ عقابهم فيها بطمس الأَعين والمسخ لفعل، لكنه لم يشأ إمهالًا لهم، وتوسيعًا لفرص التوبة.
والطمس لغة: إزالة الأَثر، والمراد من طمس أعينهم: إزالة معالمها بحيث لا يكون لها فتحة تبصر منها، ويجوز أن يراد به: إذهاب البصر مع بقاء العين مفتوحة.
والمعنى: ولو نشاء طمس أَعين الكافرين في الدنيا بأَن نُزيل معالمها فتصبغ ممسوحة، أَو نحبس ضوءَها فلا تبصر، فابتدروا بعد ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه قبل الطمس ليسلكوه فلا يستطيعون، فكيف يبصرون وقد طمست أَبصارهم، وأزيلت معالمها، أَو حبس
ضوءُها فلا تنكشف لهم المرئيات، لو نشاءُ ذلك لفعلناه، لكننا لم نفعل لنفسح لهم مجال التوبة.
67 -
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} :
المراد بالمسخ تغيير الصورة على أي وجه يشاؤه الله - تعالى - مع - إبطال القوى، لقوله بعد ذلك:{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُون} .
وتحديد المسخ بقلبهم قردة وخَنازير أو حجارة - كما جاء في بعض الآراء - يعتبر تضييقًا للواسع لم يرد به دليل صحيح.
والمعنى: ولو نشاء مسخهم بتغيير صورهم على أي وجه مع إبطال قواهم ، لفعلنا ذلك فورًا بدون عناءٍ، بحيث يجمدون في أماكنهم، فلا يستطيعون بعد ما فعلناه بههم مضيًّا إلى الأمام إقبالا، ولا يرجعون إلى الخلف إدبارا، لكنه تعالى لم يفعل ذلك لعدم تعلق مشيئته به، توسعة لمجال التوبة أمامهم.
والمقصود الأساسي من الآيتين بيان استحقاقهم طمس الأعين والمسخ في الدنيا بسبب كفرهم ونقضهم عهد الله، وعدم اتعاظهم بعقاب من سبقهم، ولولا أنه تعالى شاءَ استبقاءَهم وإمهالهم رحمة بهم - لعلهم يرجعون - لأَنجز فيهم ما يستحقونه، وعبر بقوله:"ولا يرجعون" بدل "ولا رجوعًا" المناسب لقوله (مضيا) مراعاة لفواصل الآيات.
68 -
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} :
هذه الآية جاءَت للاستدلال بما تضمنته على قدرته - تعالى - على تنفيذ ما تهددهم به من الطمس والمسخ لو تعلقت بهما مشيئته.
واعلم أن من سنن الله - سبحانه - أَنه جعل الإنسان في نشأته ينمو جسميًّا وعقليا نموًّا مطردًا، وتزداد بذلك معالم صورته حسنًا، وقوته اقتدارًا، حتى يصل إلى حد أراده الله لتمام خلقه، فيبدأ كل شيء فيه يتناقص، حتى يذبل بعد تفتح وازدهار، ويضعف بعد قوة واقتدار، ويخمد عقله بعد اتقاد وإضاءة، وتتضاءَل صورته بعد حسن وجمال، فذلك هو تنكيسه الذي استفيد من قوله تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} .
قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأَيام جِدَّتَهُ
…
وخانه ثقتاه السمع والبصر
وعن سفيان أن التنكيس يبدأُ من سن الثمانين، والحق أنه يختلف باختلاف تكوين كل إنسان، والعوارض التي تمر عليه حسب مشيئة الله - تعالى - وقد يكون للوراثة بعض التأثير في ذلك.
ومعنى الآية: ومن نطل عمره نَقْلِبْه في الخلق والصورة والقوة على عكس ما كان عليه في نشأَته، أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على تنكيس خلق الإنسان فهو قادر على طمس أعينهم ومسخهم في أماكنهم في هذه الدنيا، وأن الله - تعالى - لم يفعل ذلك لعدم تعلق مشيئته به.
المفردات:
{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} : ما يصح الشعر له ولا يصح منه.
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} : ما القرآن إلا تذكير ووعظ وإرشاد.
{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} : وكتاب مقروء واضح يُقْرأ للاعتبار.
{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} : ويثبت القول بالعذاب ويجب على الكافرين.
التفسير
69 -
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} :
لما جاءَهم محمَّد صلى الله عليه وسلم بالقرآن زعموا أن محمد شاعر، وأَن القرآن الذي أَيده لله به شعر، فأنزل الله هذه الآية لإبطال ما زعموه من الأَمرين، فإن نفي تعليم الشعر لمحمد يستتبع نفي أن القرآن شعر، وأَن الذي جاء به شاعر.
والمعنى: وما علمنا محمدًا الشعر قبل أن يقول ما قال، حتى يصح زعمكم أن محمدًا شاعر وما جاء به شعر، وليس القرآن من قبيل الشعر لا وزنا ولا غرضًا ولا تكوينًا، فالشعر متكلف مصنوع، ومبني على خيالات وأَغراض واهية، وتصورات ومبالغات مخالفة للواقع، حتى قالوا: أَعذب للشعر أكذبه، وله أَوزان معينة وقواف ثابتة، أما القرآن فليس له أوزان الشعر ولا خيالاته الواهية، ولا أغراضه الهزيلة، ولا يعرف الأكاذيب التي تصور الباطل حقًّا والحق باطلا ، ولا يعرف المبالغات التي تجعل من الحبة قبة، ومن القليل كثيرًا، بل نظم فريد لا عهد للبشر بمثله، ولا يستطيعون أن يحاكوه، اشتمل على العقائد النظيفة ذات البراهين العقلية، والأدلة الكونية، كما اشتمل على الأحكام المنظمة لشئون الخلق، المعلمة لحقوق الخالق، الموصلة إلى سعادة الدارين، وعلى الأخلاق العالية، والحكم السديدة، فأَين الثرى من الثريا، وإِذا انتفى أن يكون شعرًا انتفى أن يكون من جاء به شاعرا؛ لأنهم وصفوه بالشاعر من أجله {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: وما ينبغي الشعر لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يليق به، ولا يستقيم له عقلا؛ لأَنه كما قال ابن الحاجب: لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاءَ به من قبل نفسه، وأنه جاء من تلك القوة.
وقال غيره في معنى {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} : وما يصح الشعر له؛ لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ، ولأن من أحسنه المبالغة والانحراف في الوصف ، وغالبه يميل إلى الكذب، فلا يليق بمحمد والذي عرف بالصدق منذ صباه.
وقد حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض عبارات قابلة لأوزان الشعر، مثل قوله يوم حنين:"أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب" وهذا لا يجعل صاحبه شاعرًا؛ لأنه كلام يرد على الخاطر من غير قصد إلى الشعر، كما يحدث لكثير من الناس.
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} : أي: ما القرآن إلا وعظ وتذكير من الله تعالى، لخلقه ليسيروا على المنهج المستقيم، وكتاب سماوي يقرأ ليعمل به، واضح أنه من عند الله - تعالى - بما يشتمل عليه من ألوان الإعجاز، فأين هو ممَّا افترى عليه من الوصف بكونه شعرًا ومن جاءَ به شاعرا.
70 -
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} :
المراد بمن كان حيًّا: العاقل الفهم، فإن الغافل كالميت فلا ينفعه إنذاره، والمراد من القول: الوعيد بالعذاب، ومعنى قوله:{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أنه يجب ويثبت عليهم لكفرهم ومعنى الآية: لينذر القرآن أو الرسول بالقرآن من كان ذا عقل وفهم فإنه هو الذي ينفعه الإنذار، أما الغافل الجهول الذي يشبه الميت فهو بمعزل عن الاستفادة بإنذاره، ويثبت القول المتضمن للوعيد، ويجب على هؤلاء الغافلين المصرين على الكفر لعدم انتفاعهم بالإنذار والتخويف.
المفردات:
{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} : مما خلقنا ولم يخلقه غيرنا.
{أَنْعَامًا} : هي الأزواج الثمانية: من الإبل اثنين الذكر والأُنثى، ومن كل من البقر والغنم والمعز اثنين كذلك.
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} : جعلناها مذللة منقادة لهم.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: فمنها مركوبهم، فعول بمعنى مفعول كحلوب بمعنى محلوب، وهو مما لا يقاس.
التفسير
71 -
هذه الآية استئناف مسوق لإنكار عدم اتعاظهم بما يرون من خلق الله للأنعام، وتسخيرها وخيراتها لهم، وبيان عدم شكرهم له على ذلك بالإيمان والعمل الصالح، مع التعجب من
هذا الكفر مع قيام الأَدلة على وجوب الإيمان، فالهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف ، والتقدير: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يقينيًّا مشابهًا للرؤية البصرية.
والمقصود من قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} مما حدثناه بذاتنا من غير مدخل فيه لغيرنا لا خلقا ولا كسبا، فالكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، فليس لله أيد على الحقيقة قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتعبير بذلك للإيذان بعظم خلقها ومنافعها، فإن صفة العظيم عظيمة، ومعنى الآية: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يشبه الرؤية بالبصر أن الله خلق لأجلهم مما أحدثه بنفسه بغير شريك أنعامًا ذات خلق بديع، ومنظر جميل، ومنافع عديدة يحتاجون إليها فهم لها مالكون بتمليكنا، مختصون بها لا يزاحمهم فيها مزاحم.
ويجوز أن يكون المعنى: فهم للتصرف فيها مالكون، يسخرونها ويضبطونها وينتفعون بلحومها وألبانها وأصوافها وأوبارها، وهذا الوجه يناسب معنى الآيتين التاليتين فكأَنهما شرح لملكيتهم لها، والاقتصار على الأنعام لعظم منافعها خصوصًا للعرب الذين كانوا أول من خوطبوا بالدعوة.
72 -
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} :
أي: وجعلناها لهم مذللة منقادة لما يريدونه منها، فبعضها ركوبهم - أي: مركوبهم - كالإبل، وبعضها يأكلون منها، والأكل منها عام، يتناول الأكل من ذات لحومها، والأكل من أثمانها وأثمان ألبانها وأوبارها وأشعارها وجلودها إذا باعوها، كما يقال: فلان يأكل من كسب يده.
وإنما قال: {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} ، ولم يقل: ومنها مأكولهم على نحو سابقتها؛ ليفيد الاستمرار التجددي الذي يستفاد من الفعل المضارع، فإن الأكل يتجدد على الدوام، بخلاف الركوب فإنه في بعض الأحيان، ولأن بعضها هو الذي يركب، بخلاف الأكل فإنه عام لها، ولذا غير الأُسلوب، وقيل: إنه غُيِّر رعاية للفاصلة.
73 -
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} :
ولهم في الأَنعام بقسميها منافع غير الركوب والأكل، فمن جلودها تصنع الحقائب والنعال والسروج وسائر المصالح المرتبطة بها ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها يتخذ الناس اللباس والفراش والأَثاث وسائر المتاع، ومن عظامها يتخذ ما يُكَرَّر به الدبس ليكون سكرا أبيض، وعلاج لين العظام بما يستخلص منها، ومن ألبانها يشربون إلى غير ذلك من المنافع، أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون الله - تعالى - الذي أَنعم عليهم بها، بأَن يخصوه وحده بالعبادة؟.
المفردات:
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.
{جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} : جند معدون لحفظهم، أو محضرون في النار.
التفسير
74 -
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} :
أي: واتخذ أُولئك المشركون من غير الله القادر المنعم آلهة يعبدونها معه - سبحانه - راجين أن ينصروا بها في دنياهم بإنقاذهم من الشدائد، وفي أخراهم بالشفاعة لهم عند الله، وهذا خطأٌ بيِّن، فإن من لا يستطيع دفع المكروه عن نفسه، لا يستطيع دفعه عن سواه، ولذا قال - سبحانه - مستأنفًا ردًّا عليهم:
75 -
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} :
أي: لا تقدر آلهة المشركين علي نصرهم ، والحال أن هؤلاء المشركين جند مهيأون لحفظها ووقايتها، فكيف يعبدونها ويستنصرون بها؟!.
ويجوز أَن يكون المعنى: والآلهة المزعومة جند محضرون لتعذيب المشركين يوم الدين، إذ تكون وقودا للنار التي يعذبون بها، أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارًا لعجزهم، وإقناطا للمشركين من شفاعتهم، وكلاهما معنى جيد.
والتعبير عن الآلهة في المعنيين الأخيرين بالجند، وكذا ذكر اللام الدالة على المنفعة في "لهم" للتهكم بالمشركين الذين يستنصرون بهم، فإنهم وقود لعذابهم أو شهود عليهم، وكلاهما مباين لما أَملوه فيهم من أَن يكونوا جنود نصرة ومنفعة لهم.
76 -
{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} :
هذه الآية لتسلية الرسول وتسرية الحزن عنه بسبب إشراكهم باللهِ، وقولهم على الله وعلى رسوله ما لا يليق، وقد ختمت بإنذارهم على مقالتهم.
ومعنى الآية: إذا كان حالهم مع ربهم - سبحانه - ما علمته يا محمد من الإشراك، فلا تحزن لقولهم في الله بالإلحاد، وفيك بالتكذيب والتهجين، فإننا نعلم ما يسرون وما يظهرون من الجرائم فنجازيهم عليها حتى لا يستوي المحسن والمسيءُ، والعلم بما ذكر مجاز أو كناية عن الجزاء عليه، فالجزاءُ على الذنب من مقتضيات علم العادل الحكيم.
المفردات:
{مِنْ نُطْفَةٍ} : من منِيٍّ، أُطلقت عليه لأنه ينطف، أي: يصب في الرحم، من النطف وهو الصب.
{خَصِيمٌ مُبِينٌ} : شديد الخصومة واضحها.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي: جعل لنا مثلًا ونظيرًا من الخلق.
{وَهِيَ رَمِيمٌ} : وهي بالنية أشد البلى، وهي فعيل بمعنى فاعل من رمَّ إذا بلى، ولم يؤنث مع المؤنث لأنه أُلحق بالأسماء الجامدة لغلبة استعماله دون موصوف، وقيل: هو اسم مفعول من رممته بمعنى أبليته، وهو إذا كان كذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث كقتيل.
التفسير
77 -
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} :
بعد ما بين بطلان شركهم، وأقام الدليل على أنه - تعالى - هو المستحق للعبادة وحده، أتبع ذلك إقامة البرهان على أَن البعث حق ردا على إنكارهم له.
والهمزة في {أَوَلَمْ} للإنكار والتعجب، والواو لعطف ما بعدها على جملة مقدرة أي: أغفل ولم ير الإنسان.
والمعنى: أغفل الإنسان المنكر للبعث، ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة حقيرة ليس بينها وبين خلقه العظيم مناسبة تذكر، فإذا هو شديد الخصومة، واضح الجدال، إذ ينكر البعث مع أنه في قضايا العقل أيسر من الابتداء، وإن كان كلاهما في اليسر عند الله سواءٌ.
واعلم أن الإنسان مخلوق من منيّ الرجل، وماء المرأة جميعًا، فإن للمرأة ماءً كماء الرجل مع فارق سنذكره بعده، سألت امرأَة النبي صلى الله عليه وسلم:"هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ " قال: "نعم إذا رأت الماء".
وفي ماءِ الرجل حيوانات منوية لا تحصى لكثرتها، ولا ترى إلَاّ بالمجهر لصغرها، وفي ماء المرأة بويضة وحيدة تفرزها كل دورة طهر بعد الحيض، فإذا التقى الرجل بالمرأة لقاء جنسيًّا
في طهرها، وأخرجا ماءَهما عند اللقاء، وأراد الله الحمل، لقحت بويضة المرأَة بحيوان من مني الرجل في قناة واصلة من مبيضها إلى الرحم، يسميها الطب الحديث "القناة الفالوبية" نسبة إلى مكتشفها، ثم تنحدر البويضة بعد تلقيحها بأَربعة أيام إلى الرحم بعد انقسامها إلى عديد من الخلايا، فتستقر في قرار مكين من جدار الرحم حيث تتطور إلى إنسان سوي، فتبارك الله أحسن الخالقين. (انظر تفصيل ذلك في مثله في صدر سورتي الحج والمؤمنون).
وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس قال: "جاءَ العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتَّه بيده فقال: يا محمد أيجمع الله هذا بعد ما رمَّ؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يتحييك ثم يدخلك نار جهنم"، فنزلت الآيات:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ .... } إلى آخر السورة.
والقصة متفقة في جميع الروايات ، وإن اختلفت فيمن خاصم الرسول، فعن مجاهد، والسدي، وعكرمة وغيرهم أنه أُبيّ بن خلف الذي قتله الرسول في أُحد بحربة، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: غيرهما.
78 -
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} :
هذه الآية معطوفة على الجملة المنفية في الآية قبلها، أي: أولم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة، ففاجأ بالخصومة وضرب لنا مثلًا.
والمعنى: وجعل لله نظيرا من الخلق، إذ قاس قدرته على قدرتهم، فنفى قدرته على أن يبعث الخلائق، ونسى خلق الله له من نطفة، إذ قال - وهو يضرب المثل لله بطريق الإنكار والنفي العام -:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ أي: شديدة البلى، يريد أنه لا يستطيع أحد أن يحييها، فأدرج المولى مع الخلائق في هذا النفي العام، وبهذا سواه بالخلائق في العجز عن إعادة الحياة للعظم الرميم وجعله مثلهم، فهذا هو معنى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} .
ومن العلماء من فسر المثل بالأمر الغريب، والمعنى عليه: وأورد في شأننا أمرًا غريبًا يشبه المثل في غرابته، وهو إنكار إحيائنا للعظم الرميم، والمعنى السابق أظهر.
79 -
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ
…
} الآية:
أمر من الله لرسوله أن يجيب على سؤال هذا المعاند، مرشدًا إلى سبيل معرفة الحق. والمعنى: قل له أيها الرسول: يحيي هذه العظام بعد أن تبلى أشد البلى - يحييها - الذي أبدعها أول مرة ورباها، وذلك بأن يحيي الجسد كله والعظام في جملته، فتجرى فيها الحياة لجريانها فيه، وتصبح صلبة مترابطة، بعد أن كانت هشة متفتتة، وذلك أيسر في القياس من بدء خلقها، فذلك من القياس الأولوي، وكان الفارابي يقول: وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله - تعالى -: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (وهو الله تعالى، أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئًا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيًا، فيلزم أن الله عز وجل قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيًا). إ هـ.
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} : وهو بكل مخلوق واسع العلم، ولهذا يعلم من كل إنسان صفاته التي كان عليها في الدنيا، وتفاصيل أجزائه وأوضاعها بعضها من بعض، فيعيد كل ذلك على النمط الذي كان عليه، على حد قوله - تعالى -:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (1).
80 -
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} :
المراد من الشجر الأخضر على المشهور نوعان: (أحدهما) المرخُ، (والثاني) العَفَار (بفتح العين)، وإخراج النار منهما على ما قاله العلامة أبو السعود: بأن تقطع منهما عُصيَّتَين مثل السواكين، وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أُنثى، فتقدح النار بإذن الله - تعالى - وقيل: المراد من الشجر العموم، لصلاحية كل الأشجار للاتقاد، وفي المثَل: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثرا من النار، من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير، وإرادة المرخ والعفار أَنسب بالمقام، ويقول صاحب المختار: واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثرا منها كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، ويقال: لأنهما يسرعان الوَرْىَ، فشُبِّهَا بمن يُكْثِر العطاء طلبًا للمجد.
وأجاز بعضهم - جمعًا بين الرأيين - أن يكون المعنى: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا بالفعل بقدح المرخ بالعفار، فإذا أنتم من الشجر الأخضر المذكور توقدون النار في سواه.
(1) الأعراف، من الآية:29.
ووجه الاستدلال على البعث بذلك: أن من قدر على إخراج النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء المضاد لها، فهو أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضا طريًّا فبلى ويبس.
المفردات:
{بَلَى} : حرف يجاب به بعد النفي لتحويل النفي إلى إثبات.
{بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} اليد: كناية عن القدرة، والملكوت مبالغة في الملك، كالرحموت في الرحمة، والرهبوت في الرهبة، ومعناه: الملك التام.
التفسير
81 -
هذه الآية استئناف من جهة الله - تعالى - لتأييد ما كلف الرسول بتبليغه، وهو:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}
…
الآيتين. والهمزة للإنكار والنفي، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والمعنى: أليس الذي أنشأها أول مرة، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا وليس الذي خلق السموات والأرض - مع كبرهما وعظم شأنهما - بقادر على أن يخلقهم ومثلهم ويبعثهم من قبورهم مع صغرهم، وحقارة شأنه، بل هو قادر وهو الخلاق الكثير الخلق ، العليم الواسع العلم، فلا يعجز عن بعثهم.
82 -
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} :
ذهب معظم السلف إلى أن الله حين يريد أن يخلق شيئًا يصدر في شأنه أمرًا كلاميا هو قوله: {كُنْ} حسب النص {فَيَكُونُ} .
والمعنى على هذا الرأي: ما شأن الله تعالى، أو ما أمره إذا أراد إيجاد شيء إلا أن يقول له: كُن فيكون ويحدث استجابة لأمر الله.
وذهب بعض المحققين إلى أنه لا قول أصلًا، المراد بما جاء في الآية تمثيل قدرة الله في تحقيق مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع، في سرعة حصول المراد من غير امتناع ولا توقف، ورجح هذا بأن الأمر الكلامي لا يوجه إلى معدوم، بل إلى موجود.
والمعنى على هذا: ما شأْنه - تعالى - إذا أَراد إيجاد شيء إلَاّ أَن ينفذه فورا في الحين الذي حدده له.
83 -
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :
المعنى: إذا كان قد تحقق ما تقدم بيانه من عظيم قدرة الله - تعالى - وأنه إذا أراد شيئًا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} فتنزيهًا للذي في قدرته الملك التام لكل شيء عمّا نسبوه إليه من عدم قدرته على بعث الخلائق، وإليه ترجعون جميعًا - مؤمنين وكافرين - لا إلى غيره، فيثيب المؤمنين، ويعاقب المنكرين.
واعلم أن الرجوع يوم القيامة سيكون للأرواح والأَجسام على الوجه الذي كانت عليه في الدنيا، ليكون الحساب والجزاءُ لهما جميعًا.
فإن قيل: إنَّ الأجساد تلاشت وتداخلت في تكوين غيرها بعد أن عادت إلى عناصرها الأُولى من تراب وهواءٍ وماءٍ، فقد دخلت في تكوين النبات والحيوان والإنسان، فكيف يمكن إرجاع الأَجساد بعد أن تداخلت في تكوين غيرها.
فالجواب: أن المهم في البعث هو الروح، فهو المسئول الأول عن الأَعمال، وهو الذي يشعر بالنعيم والعذاب، ولولاه لما كان تكليف ولا جزاءٌ، والله تعالى يخلق عند البعث جسدًا
لكل روح يشبه صاحبه تمام الشبه، وينشئه من العدم أو من الكون على مثاله تمامًا، ليمكن التمايز بين الناس حتى يستطيع أصحاب الظلامات تمييز غرمائهم عن غيرهم، ولا يقال: إن الجسد الذي ينال الجزاءَ على هذا ليس هو الذي أطاع أَو عصى، بل غيره، لأَن الجزاءَ في الحقيقة للروح لا للجسد، والروح هو بعينه لم يتغير.
وقيل: يجمع الله الأَجزاء المتفرقة، ويعيدها كما كانت قبل الموت، وينفخ فيها الروح، والنفس تميل إلى الرأْي الأول، لما قلناه من تداخل عناصره بعد تحلله في مخلوقات أخرى ومكلفين آخرين، ويشير إلى الرأيين المذكورين صاحب الجوهرة بقوله:
وقل يعاد الجسم بالتحقيق
…
عن عدم وقيل عن تفريق