الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة "ص
"
وجه مناسبتها لما قبلها
1 -
سورة "ص" هي كالمتمِّمة لسورة "الصافات" التي قبلها لأَنه سبحانه وتعالى ذكر فيها بعض الأَنبياءِ الذين لم يذكرهم في السورة السابقة كداود وسليمان عليهما السلام.
2 -
كذلك لما ذكر سبحانه وتعالى في سورة "الصافات" عن الكفار أَنهم قالوا: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وأَنهم كفروا بالذكر لما جاءَهم بدأَ عز وجل في سورة "ص" بالقسم بالقرآن ذي الذكر، وفَصَّل فيها ما أَجمله هناك من أَحوال كفرهم.
ومن دَقَّق النَّظر في السورتين لاحت له مناسبات أُخرى كذكر قصص الأَنبياءِ والمرسلين مع أُممهم، وكيف نصر الله الحق وأَعزَّ سلطانه، ودمر الباطل وقوَّض صولجانه.
مقدمة:
سورة "ص" مكيَّة وآياتها ثمان وثمانون آية، وهي السورة الثامنة والثلاثون من سور القرآن الكريم.
بدئت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن ذي الشَّرَف على أَنه الحقُّ لا ريب فيه، ثم ذكرت أَنَّ الَّذين كفروا ما منعهم عن الإيمان بالله، والتَّصديق برسوله إلَاّ الأَنفة والتكبُّر على الحقِّ وحب الجدل والمشاقَّة والمعاندة لرسوله.
ثم قصَّ الله فيها أخبار الأَنبياء والرسل السابقين ليكون ذلك زجرًا للكافرين والمكذبين، وتثبيتًا للرَّسول وللمؤمنين، وليصبر الرسول على تبليغ الدعوة مهما لاقى في سبيلها من أَهوال وأَذى.
وذكر الله في هذه السورة ما لم يذكره في سورة "الصَّافَّات" ذكر قِصَّة داود ذي القوَّة في الدين والدُّنيا، الأَوَّاب الذي ذَلَّل الله الجبال تسبِّح معه عند إِشراق الشمس وآخر النهار، وذلَّل له الطَّيرْ تُرَجِّعُ معه التسبيح، وقَوَّى الله ملكه وآتاه النُّبوة والفضاء في الخصومات، ثم تحدَّثت السورة عن خبر الخصم الذين تَسوَّرُوا المحراب على داود، وقضى بينهم دون تثبُّت ومراجعة لأَقوال الخصم الآخر حتى يتَّضِح له وجه الحق جليًّا، وعلم داود أن الله امتحنه بهذه القصة، فاستغفر رَبَّه، وخَرَّ راكعًا وأَناب، فغفر الله له ذلك، وله عنده زلفى وحسن مآب، ووَصَّى الله نبيَّه داود - وهي وصيَّة من الله كذلك لكل الولاة، والحكام - أن يحكموا بين الناس بالحقِّ المنزَّل من عنده، ولا يعدلوا عن ذلك فيضلُّوا عن سبيل الله؛ لأَنَّ العدل أَساس الملك، وقِوام الأمم، وأَمان الشعوب، ولقد تَوعَّد الله من ضلَّ عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الشديد، والعذاب الأَليم.
ثم بينت السورة أَنَّ مِن حكمة الله وعدله ألَاّ يُسوَّى بين المؤمنين والكافرين، وذكرت السورة أَن الله وهب لداود سليمان الكثير العبادة والإنابة، ومن أَخباره أَنه عُرض عليه بالعَشِيِّ الخيلُ فقال: إِنِّي آثرت حب الخير - أَي: الخيل - لأَنَّها عدَّة الخير، وهو الجهاد في سبيل الله، وظلَّ مشغولًا بعرضها عليه حتى غابت عن ناظريه، ثم أمر بردها عليه ليتعرف أَحوالها وأَخذ يمسح سوقها وأَعناقها رفقًا بها وحبًّا لها، وحدبًا عليها، ولقد امتحن الله سليمان لئلا يغترّ بأبَّهة الملك وعظمته فأَلقاه على كرسيِّه جسدًا بلا قُوَّة يستطيع بها تدبير الملك، فتنبَّه لهذا الامتحان فرجع إلى الله وأناب، وطلب من الله ملكًا لا ينبغي لأَحد من بعده، فسخَّر له الوهَّاب الرِّياح تجري بأَمره، كما سخَّر الشياطين وجعلها طوع مشيئته.
وعقَّبت السورة على ذلك ببيان ما أَعدَّه الله للطائعين والمتقين من ثواب وحسن مآب، وللعاصين والطاغين من عذاب وعقاب وشر مآب.
ثم صوَّرت السورة تخاصم أَهل النار وتحسرهم حينما يقولون: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} .
وفي السورة يأْمر الله رسوله أَن يقول للكافرين المشركين به: إِنَّما أَنا منذر ولست إِلهًا، وما من إله إلَاّ الله الواحد القهَّار، رب السَّموات والأرض وما بينهما، مالك جميع ذلك، ومتصرف فيه، العزيز الغفار يغفر مع عظمته وعزته. قل لهم يا محمد: إِرسال الله إِيَّاي لكم خير عظيم وشأن بليغ هام أَنتم عنه مُعْرضون غافلون، لا تفكِّرون فيه، ولولا الوحي ما كنت أَدري باختلاف الملأ الأَعلى في شأن آدم عليه السلام وخلقه وخلافته، وامتناع إبليس عن السجود له، ومحاجَّته ربه في تفضيله عليه.
وهذه القصة ذكرها الله في سورة "البَقَرة"، وفي أَول سورة "الأَعْرَافِ"، وفي سورة "الْحِجْر" وسورة "سبحان""والكَهْف" وذكرها القرآن هنا ليذكِّر الناس بما كان بين أَبيهم آدم وعدوِّه وعدُو الله إِبليس عليه اللَّعنة، وليعلموا أَن تكبُّره كان سببًا في طرده من رحمة الله إلى يوم القيامة.
وفي ختام السورة يقول الله - تعالى -: قل يا محمد لهؤُلاءِ المشركين: ما أَسأَلكم على هذا الإِبلاغ وهذا النصح أجرًا من عرض الحياة الدنيا، وما أنا من المتكلِّفين المتصنِّعين المدَّعين للنبوَّة، وما القرآن الذي نزل عليَّ إلَاّ تذكير وموعظة للعالمين، ولتعلمنَّ صحة خبره وصدق ما جاء به من وعد ووعيد، وبعث وجزاءٍ، وعلوم وآيات كونية بعد حين، عندما تُكشف الأَستار، وتُذاع الأَسرار أمام من لا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء.
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
المفردات:
{ص} : اختلف في تفسيره اختلافهم في نظيره من فواتح السُّور، فارجع إِلى ما كتبناه في صدر سورة "البقرة".
{ذِي الذِّكْرِ} : ذي الشَّرف، أَو الذكر: الموعظة.
{عِزَّةٍ} : حمية واستكبار عن الحق.
{وَشِقَاقٍ} : ومعاندة ومخالفة.
{قَرْنٍ} : يطلق مجازًا على الأمة.
{فَنَادَوْا} : فاستغاثوا وجأَروا، والنداءُ والجؤار: رفع الصوت.
{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : وليس الوقت وقت فِرارٍ وخلاص.
والمناص: التأخر والْفَوْت.
التفسير
1 -
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} :
{ص} : بالسكون على الوقف عند الجمهور؛ لأنها حرف من حروف الهجاء مسرودة على منهاج التعداد، ويقول في مثله السلف: الله أَعلم بمراده، وقد فصلنا آراءَ العلماء في مثله أَول "البقرة" وغيرها فارجع إليه، وقرأَ أُبي والحسن وغيرهما "صادِ" بكسر الدال، وأخرج ابن جرير عن الحسن: أنَّ صاد - بكسر الدال منونا - أَمْر من صَادى، أَي: عارض، ومنه الصَّدى وهو ما يعارض الصوت الأَول، ويقابله بمثله في الأَماكن الخالية.
والمعنى: عَارضِ القرآن بعملك، أَي: اعمل بأَوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أَي: اعرضه على عملك فانظر أَين عملك من القرآن.
{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر} : قسم أَقسم به ربنا عز وجل أَي: أُقسم بالقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد، وقيل: ذي الذكر: ذي الشرف والمكانة، ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإنذار، وجواب القسم
يدل عليه المقام، أَي: وحق القرآن إِنه لمُعجز، أَو إنه ليجب العمل به، وقيل: الجواب قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} .
2 -
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} :
معنى الآية مع ما قبلها كما يلي: وحق القرآن المشتمل على التذكير والعبرة إِنه ليجب الإيمان به، لكن الكافرين لم يؤمنوا، لا لخَلَل وجدوة فيه، بل لأَنَّهم في استكبار شديد عن أتباع الحق، وشقاق أَي: مخالفة لله ومعاندة ومشاقَّة لرسوله، ولذلك كفروا به.
وأَصل الشِّقاق: إِظهار المخالفة على وجه المساواة للمُخالِف، أو على وجه الفضيلة عليه، وهو مأخوذ من الشِّق أَي: كأَنه في شِق غير شِق صاحبه، فهو يترفَّع عليه بأَن يكون معه في شِق واحد، ومثله المعاداة، وهو أَن يكون أَحدهما في عُدْوَة والآخر في عُدْوَة، والتعبير بفِي في قوله تعالى:{فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} للدلالة على استغراقهم فيهما، والتنكير في (عزة وشقاق) لشدتهما.
3 -
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} :
وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أَصاب أَضْرابهم، لتخويفهم بما أهلك به الأمم المكذِّبة المستكبرة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل، وتكذيبهم الكتب المنزَّلة من السماء، وتماديهم في الشقاق والعناد والْكِبْر.
والمعنى: كثيرًا ما أَهلكنا قبلهم من أُمَّة مكذَّبة، وحين جاءهم العذاب وحلَّ بهم العقاب استغاثوا وجأَروا إلى الله بالدعاءِ والتوبة، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئًا، فليس الوقت وقت فرار من العقاب، ولا وقت هرب ونجاة من العذاب بالتَّوبة والدعاء، وما اعتبر كفار مكة بهؤُلاء، بل تمادوا في غيِّهم وفرارهم من الإيمان، وأَخرج الطَّسْتي عن ابن عباس: أَنَّ نافع بن الأزرق قال له: أَخبرني عن قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقال: ليس بحين فِرار.
وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا تقاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص، أَي: عليكم بالفرار، فلما أَتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال تعالى:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (1).
(1) وقال الفراء: النوص: التأخر، يقال: ناص عن قرته ينوص نوصا ومناصا فر وزاغ، ويقال: ناص ينوص إذا تقدم. أَضداد.
المفردات:
{عُجَابٌ} : بالغ الغاية في العجب.
{الْمَلَأُ} الأَشراف والوجوه.
{امْشُوا} : سيروا على طريقتكم وامضوا على دينكم.
{الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} : دين النصرانية.
{اخْتِلَاقٌ} : كذب وافتراء من غير سبْق مِثْل له.
{الْأَسْبَابِ} : المعارج إلى السماءِ.
التفسير
4 -
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} :
حكاية لأَباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم، أَي: عجب مشركو مكَّةَ من أَنْ جاءَهم رسول بشر من جنسهم أُميّ من نوعهم، والمراد: أَنهم عدُّوا ذلك أَمرا عجيبًا خارجًا عن احتمال الوقوع، وأَنكروه أشد الإِنكار، لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه، وأعجب العجب أَن ينكروا أن يكون الرسول من البشر، ولا ينكروا أَن يكون الإله المعبود لهم من الحجر.
وقال الكافرون: هذا ساحر يجيءُ بالكلام المموه الذي يخدع به الناس، شديد الكذب فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال، وهل ترى كفرًا أَعظم، وجهلا أبلغ من أن يسمُّوا من صدَّقه الله بوحيه، وأَيَّده بالمعجزة الدالة على صدقه ساحرًا كذابا.
وقوله - تعالى -: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} فيه وضع الظَّاهر موضع الضمير غضبًا عليهم وذمًّا لهم، وإِيذانًا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلَاّ المتوغِّلون في الكفر.
5 -
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} :
أَي: أَزعم أَن المعبود واحد لا إله إلا هو، أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى - وتعجَّبوا من ترك الشرك بالله لأنهم كانوا قد تلقَّوا عن آبائهم حُبَّ عبادة الأَوثان، وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإِفراد الإله بالوحدانية. أَعظموا ذلك، وتعجَّبوا غاية العجب وأَشده، وقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
وقيل: مدار تعجبهم عدم وفاءِ علم الإِله الواحد قدرته بالأَشياءِ الكثيرة الموجودة في هذا الكون الكبير، أَخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إنَّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إِليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أَرقَّ عليه فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا قرب عمه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أَي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أَنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول، قال: وأَكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا عم، إِنى أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: ما هي؟ وأَبيك لَنُعْطِينَّها وعشرا، قال: لَا إله إلَاّ الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أَجعل الآلهة إِلها واحدًا إن هذا لشيءٌ عجاب، وفي رواية: أَنهم قالوا: سلْنا غير هذا. فقال عليه الصلاة والسلام: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سأَلتكم غيرها، فغضبوا وقاموا غِضابًا وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأْمرك بهذا.
6 -
أَي: وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعد ما قاله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا صموده في تبليغ الرسالة، ونشر عقيدة التوحيد ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه السلام وكان فيهم: أبو جهل، والعاص بن وائل، والأَسود بن عبد المطلب ابن عبد يغوث، وعقبة بن أبي مُعيط يوصي بعضهم بعضًا - انطلقوا - وهم يتحاورون ويتفاوضون - أن سيروا على طريقتكم، وداوموا على مسيرتكم، واثبتوا على عبادة آلهتكم متحمِّلين لما تسمعونه في حقِّها من القدح.
والإشارة في {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} إلى ما وقع وشاهدوه من أَمر النبي صلى الله عليه وسلم وشدة تمسُّكه بعقيدته من التوحيد، ونفى ألوهية آلهتهم، أَي: إِنَّ هذا لشىء يراد من جهته، إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يُقَال من طرف اللسان أو أَمر يُرجَى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطوا أطماعكم بنزوله على إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم، وقال القفال: هذه عبارة تذكر للتحذير والتخويف.
وقيل في معنى الآية: إِنَّ هذا الذي يدَّعيه من أَمر التوحيد أو يقصده من أَمر الرِّياسة والترفُّع على العرب والعجم لشىء يُتَمنَّى أَو يريده كل أَحد، ولكن لا يكون لكلٍّ ما يتمناه أو يريده فاصبروا.
والمعنى: ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، ونكون له أَتباعًا، فيتحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فاحذروا أن تطيعوه.
7 -
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} :
أَي: ما سمعنا بهذا التوحيد الذي يدعونا إليه محمد في ملَّة النصارى آخر الْمِلَل، بل سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد من أَفواه النصارى؛ لأنهم كانوا يدينون بالتَّثْلِيث ويزعمون أنه الدَّين الَّذي جاء به عيسى عليه السلام، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} أَي: ما هذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد وترك عبادة الأصنام إلَاّ افتراء من غير سبق مِثْلٍ له، وكذب مصنوع اختلقه محمَّد وابتدعه.
8 -
استفهام إنكار، أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم وقالوا: أَخُصَّ محمَّد بنزول القرآن عليه من بيننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم؟ وهذا كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (1) وأمثال هذه المقالات الباطلة ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد لرسول الله والحقد عليه أن خُصَّ دونهم بالرسالة، وفاز من بينهم بالنبوة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أَي: ليس كفرهم بالقرآن عن يقين بل هم في حيرة وتردُّد وتخبُّط في شأْن ذِكْرى وهو القرآن الذي أنزلته على رسولي لميلهم إلى التَّقليد، وإِعراضهم عن الأَدلة المؤَدِّية إلى العلم بحقِّيَّته، وليس عندهم بالنسبة للقرآن ما يقطعون به من التهم، فلذا تراهم ينسبونه إلى السِّحر تارة، وإلي الاختلاق مرة أخرى {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أَي: بل إنهم لم يتحيروا ويتخبطوا إلَاّ لأَنهُمْ لم يذوقوا عذابي بعد، فاغتروا بطول الإمهال، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك، يعنى: أنهم لا يصدقون إلَاّ أَن يمسهم العذاب، فيضطروا إلى التصديق، ولن ينفعهم ذلك في حينئذ.
وفي التعبير بلمَّا دلالة على أن ذوقهم العذاب محقق وقريب الوقوع إن لم يؤمنوا.
9 -
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} :
يعني: أنهم ليسوا بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءُوا ويصرفوها عمن شاءُوا، ويتخيروا للنبوَّة بعض صناديدهم وأشرافهم، ويترفعوا بها عن محمد - عليه الصلاة
(1) سورة الزخرف، الآية:31.
والسلام - وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير العطايا المصيب بها مواقعها. الذي يقسِّمها على ما تقتضيه حكمته، يعطي - سبحانه - ما يريد لمن يريد، وفي هذا إشارة إلى أن النبوّة هبة ربَّانيَّة ومنحة إِلهيَّة ليس لأَحد من خلقه شأْن فيها.
10 -
{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} :
أَي: بل ألَهم ملك هذه الأَجرام العلويَّة، والأَجسام السفليَّة حتى يتكلموا في الأُمور الربانية، ويتحكَّموا في التدابير الإلهية التي يستأْثر بها رب العزة والكبرياء، فإن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج، وليتدرَّجوا في المراقي والمناهج التي يُتَّصل بها إلى السموات، فليدبَّروها وليتصرَّفوا فيها ويعطوا النبوة لمن شاءوا.
وقال الزمخشري ومتابعوه: أَي: فليصعدوا في المعارج والطرق التي يُتوصَّل بها إلى العرش حتى يستولوا عليه، ويدبِّروا أمر العالم وملكوت الله - تعالى - وينزلوا الوحي على محمَّد، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
ثم وعد نبيَّه النصر عليهم فقال:
11 -
{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} :
أَي: هم جند حقير مقْمُوع (1) ذليل قد انقطعت حُجَّتهم فقالوا ما قالوا، والكلام مرتبط بما قبل {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَي: هم جند حقير من الأحزاب الذين تحزَّبوا على المرسلين فاستأَصلناهم، فلا تهمنك عزتهم وشقاقهم فإني أهزم جمعهم وأسلب عزَّهم، وهذا إِيناس للرسول صلى الله عليه وسلم وقد فعل بهم هذا في يوم بدر، قال قتادة: وعدهم الله أنَّه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأْويلها يوم بدر.
(1) قمعه - كمنعه -: ضربه وقهره وذلّله، والمقموع: المقهور. اهـ: الغاموس.
و {هُنَالِكَ} : إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال الرسول، والأحزاب: الجند، كما يقال: جند من قبائل شتَّى، وقال الفرَّاء: المعنى: هم جند مغلوب، أَي: ممنوع من أن يصعد إلى السماء.
وأصل الْهَزْم: غمز الشَّيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القِثَّاء والبَطَّيخ، ومنه الهزيمة، كما يعبر عنه بالحطْم والكسر.
المفردات:
{الْأَوْتَادِ} : جمع وتِد وهو معروف.
{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} الأَيكة: الشجر الكثيف الملتف، وأصحابها هم قوم شعيب.
التفسير
12، 13 - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُوالْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)}:
استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال الطغاة العتاة، وما فعلوا من الكفر والتكذيب لرسلهم وما فُعِل بهم من العقاب تعزية للرسول وتسلية.
والمعنى: كذَّبت قبل هؤلاءِ قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأَوتاد، أَي: صاحب الملك المستقر والعرش الثابت، وأصل ذلك: أنَّ البيت من بيوت الشَّعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد، وقال الأَسْوَد بن يعْفُر:
ولقد غَنَوْا فيها بأَنعم عيشة
…
في ظل ملك ثابت الأَوتاد
أو: ذو الأبنية العظيمة والجنود الكثيرة، وقيل: ذو الأوتاد المعروفة، كان المذنبون يُعَذَّبُون عليها في عهد فرعون.
وقوم لوط وقوم شعيب أَصحاب الشجر الكثيف الملتف أُولئك الكفار المتحزِّبون على الرسل عليهم السلام كما تحزَّب عليك قومك يا محمد، ولقد كانوا أَعظم من قومك مكانة وأشدّ قوّة وأكثر أموالًا وأولادًا، فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيءٍ لمَّا جاءَ أمر ربِّك. وفي ذلك يقول سبحانه:
14 -
{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} :
استئناف جىءَ به تقرير لتكذيب الأَحزاب على أبلغ وجه، وتمهيدا لما يعقبه، ولقد
ذكر القرآن تكذيبهم على وجه الإجمال في الجملة الخبرية {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ثم جاءَ بالجملة الاستثنائية وفصله فيها بأنَّ كل واحد من الأحزاب كذَّب الرسل، لأَنهم إِذا كذَّبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا؛ لأن دعوتهم واحدة، وفي تكرير التكذيب وإِيضاحه بعد إبهامه والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا والاستثنائية ثانيا وما فيها من التوكيد أنواع من المبالغة المسجّلة عليهم استحقاق أشدِّ العقاب وأبلغه، ولذا قال:{فَحَقَّ عِقَابِ} أَي: ثبت ووقع على كلٍّ منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم، فأغرق قوم نوح، وأهلك فرعون وقومه بالغرق أيضًا، وقوم هود بالرِّيح العقيم، وثمود بالصَّيحة، وقوم لوط بالحاصب، وأَصحاب الأيكة بعذاب الظُّلة.
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)}
المفردات:
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ} : وما ينتظرون.
{فَوَاقٍ} الفَوَاقُ: الوقْتُ بين الحلبتين.
التفسير
15 -
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} :
شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم، فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه، والنظر بمعنى الانتظار، وبما أَن القوم لا ينتظرون وقوع
العقاب بهم لكفرهم برسلهم جعلوا منتظرين له لتحقق وقوعه إن بقوا على كفرهم، وذلك على سبيل المجاز، والإشارة بهؤلاء إلى كفار مكة للتَّحقير، والمراد بالصيحة الواحدة: نفخة البعث والقيامة.
والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار المجرمون من قومك الذين هم أمثال أولئك الطوائف المُهلكة في الكفر والتكذيب - ما ينتظرون - شيئا إلَاّ صيحة واحدة لا تحتاج إلى تَكْرير وترْديد، أَو مالها توقُّف مقدار فواق ناقة، والفواق: الزمن الذي بين حلبتي الحالب، ورضعتي الرَّاضع، وقيل: هل النفخة الأُولى رُوي عن أبي هريرة قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في طائفة من أصحابه، وذكر حديثا مطولًا جاء فيه: "يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلَاّ من شاء الله، ويأمره فيمدُّها ويديمها ويُطوِّلها يقول الله - تعالى -:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} اهـ: ملخصا من القرطبي.
وليس المراد أن النفخة نفسها عقاب لهم لعمومها للبرِّ والفاجر من جميع الأمم، بل المراد: أنه ليس بينهم وبين العذاب الذي يستحقونه إلَاّ هذه النفخة إن بقوا واستمروا على كفرهم، وقد لطف الله بهم ولم يستأصلهم كما فعل بكفار الأُمم السابقة إكرامًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الله تعالى -:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (1) ولأنه سبق في علم الله أَنهم سوف يسلمون، وقد مَنَّ الله عليهم بالإِسلام بعد فتح مكة.
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)}
المفردات:
{قِطَّنَا} : قسطنا ونصيبنا.
(1) سورة الأنفال: الآية 33.
التفسير
16 -
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} :
حكاية لما قالوه عند سماعهم تأخير عقابهم إلى الآخرة، أَي: قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية: يا ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا ونصيبنا من العذاب الذي تتوعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة.
وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء، كأَنهم يدعون إلى ذلك بكمال الرغبة والابتهال، والقائل - على ما رُوي عن عطاء -: النَّضر بن الحارث وهو الذي قال الله فيه: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (1) وأبو جهل - على ما رُوي عن قتادة - وعلى القولين فالباقون راضون عن هذه السخرية، فلذا جىءَ بضمير الجمع.
والقِط: القطعة من الشيء، من قَطَّه: إذا قطعه، ويقال لصحيفة الجائزة (2): قِطٌّ؛ لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسَّره بها أبو العالية والكلبي، أَي: عجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، وجاء في رواية أخرى: أَنهم أرادوا نصيبهم من الجنَّة، وروى ذلك عن قتادة وابن جبير، وذلك أَنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر وعد الله - تعالى - المؤْمنين الجنة فقالوا على سبيل الاستهزاء: عجل لنا نصيبنا منها، لنتنعم به في الدنيا. قال الفراءُ: القِطُّ في كلام العرب: الحظ والنصيب.
(1) سورة المعارج: الآية 1.
(2)
أَي: صحيفة العطاء.
المفردات:
{الْأَيْدِ} : القوَّة والبطش.
{أَوَّابٌ} : رجَّاع إلى الله، أَو مُسبِّح.
{الْعَشِيِّ} : من زوال الشمس إلى غروبها، وقال الراغب: إلى الصباح.
{الْإِشْرَاقِ} : وقت الضحى، قال ثعلب: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءَت وصَفَت، فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأُفق ولذا يقال: شَرِقت الشمس ولما تُشْرِق.
{مَحْشُورَةً} : مجموعة، أو محبوسة في الهواء.
{شَدَدْنَا مُلْكَهُ} : قوَّيناه بكل أسباب القوة.
{الْحِكْمَةَ} : النبوّة، أَو كمال العلم والعمل.
{فَصْلَ الْخِطَابِ} الخطاب هنا: بمعنى الخصام؛ لاشتماله عليه، أو لأَنه أحد أنواعه، وفصل الخطاب: التمييز بين حقه وباطله.
التفسير
17 -
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)} :
أَي: اصبر يا محمَّد على ما يقوله فيك المشركون من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية الَّتي حكى القرآن عنهم بعضها فيما سبق، كقولهم:{هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}
…
إلخ واذكر لهم قصَّة عبدنا داود عليه السلام تعظيما لأمر المعصية في نفوسهم وتنبيها لهم على قبح ما اجترءوا عليه ممَّا رموا به الرسول، فإن داود عليه السلام مع علو شأْنه وإيتائه النبوّة والملك لما ألم بما هو خلاف الأُولى رجع إلى الله واستغفره مع أنه لم يفعل معصية، فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلِّين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين.
قيل: إنَّ داود قضى بين الخصمين بسماع دعوى أحدهما دون سماع الآخر.
وقيل: المعنى اصبر على قولهم واذكر لهم قصص الأنبياءِ لتكون برهانا على صحة نبوتك. ذكره القرطبي.
{ذَا الْأَيْدِ} أَي: ذا القوة في الدين والدنيا، شديد البطش في مخالفة الله، كثير الصبر على عبادته وطاعته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}: إنه كان رجَّاعا إلى الله وطاعته في جميع أَحواله وكل أموره وشئونه، أخرج الدَّيْلمي: عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأَواب فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى" قال ابن كثير: ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يَفر إذا لَاقَى، وأنه كان أَوَّابا" والتعبير بعبدنا إظهار لشرفه بهذه الإضافة.
18 -
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} :
استئناف لبيان قصته عليه السلام ويجوز أن يكون تعليلا لقوته في الدين وأوَّابيته إلى الله عز وجل وإيثار ذكر لفظ "معه"، على "اللَاّم" في الآية الكريمة لأن تسخير الجبال له لم يكن بطريق التَّفويض بالتصرف المطلق فيها كتسخير الرِّيح لسليمان بل بطريق الاقتداء في عبادة الله - تعالى - أَي: إنَّا ذلَّلنا له الجبال وسخرناها تسبح معه آخر النهار ووقت الضحى، رُوى عن أَم هانئ بنت أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الضحى وقال: "هذه صلاة الإشراق" وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد: عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيءٌ حتى قرأْت هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وفي رواية عنه أَيضا: ما عرفت صلاة الضحى إلَاّ بهذه الآية، وللعلماء في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنِّيتها، وقد ورد فيها - كما قال الشيخ ولي الدين بن العراقي - أحاديث كثيرة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري: بلغت مبلغ التواتر، وذكر الشافعية: أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي قدَّم عليها صلاة التَّراويح، وأقلها ركعتان، لخبر البخاري: عن أبي هريرة
أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأَلَاّ يدعهما. وأدنى كمالها: أَرْبَع، فسِتٌّ، فثمانٍ.
19 -
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} :
وذلَّلنا لداود الطير وسخَّرناها مجموعة من كل صنف ومكان {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أَي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجّاع إلى التسبيح، قال ابن عباس: كان داود إذا سبَّح جاوبته الجبال، واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، فاجتماعها إليه: حشرها.
فالمعنى: وسخَّرنا الطير مجموعة إليه لتسبِّح الله معه، ويجوز أَن يكون الضمير في {كُلٌّ لَهُ} عائدا على الله - تعالى - لا على داود، والمعنى: كل من داود والجبال والطير: أَوّاب لله - تعالى -، أَي: مسبِّح مرجِّع للتسبيح.
20 -
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} :
وقوينا ملك داود بالهيبة، والنّصرة، وكثرة الجنود، ومزيد النِّعمة. قال ابن كثير: ذكر ابن جرير: عن عكرمة: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نَفَرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه السلام أَنَّه اغتصبه بقرا، فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعى بيِّنة، فأَرجأ أمرهما، فلما كان الليل أُمِر داود عليه السلام في المنام بقتل المدَّعِي، فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدَّعِي، فقال: يا نبى الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقرى؟ فقال له: إنَّ الله - تعالى - أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فقال: والله يا نبى الله إن الله لم يأْمرك بقتلى لأجل هذا الذي ادعيت عليه، وإنَّى لصادق فما ادَّعيت، ولكنى كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد، فأمر داود عليه السلام بقتله فقُتِل، قال ابن عباس: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل، وهو الذي يقول الله:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ولقد ذكر هذا الخبر الزمخشرى والآلوسى. {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} : النبوّة، أو كمال العلم وإتقان العمل، وتطلق الحكمة على إتقان الأُمور، وصاحبها حكيم {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أَي: الفصل في الخصومات وعلم القضاء، ورُوى عن علي والشَّعبى: أنه البيِّنة على من ادعى واليمين علي من أنكر، ورُوى عن أبي موسى الأشعرى أنه: أمَّا بعد، ويقول الآلوسي: والذي يترجح عندي أنَّ المراد بفصل الخطاب: علم القضاء
والفصل في الخصومات، وهو يتوقَّف على مزيد علم، ودقَّة فهم وتفهيم، وفيه تمييز بين الحق والباطل، وإيتاء الحقوق أَربابها، وهو العدل الذي هو أساس الملك. ويلائمه أتمَّ ملاءَمة قوله - تعالى - بعد ذلك:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} والله أعلم.
المفردات:
{وَهَلْ أَتَاكَ} : استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده.
{نَبَأُ} : خبر.
{الْخَصْمِ} : هو في الأصل مصدر خصمه، بمعنى خاصمه أَي: جادله، أو غلبه، ويطلق على المفرد والمثنى والجمع، والمراد به في هذه الآية: الجمع.
{تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} : تصعدوا سوره وعلوه لينزلوا إلى داود.
{الْمِحْرَابَ} في الأصل: صدر المجلس، ومنه محراب المسجد؛ لأنه في صدره، ويطلق على مكان العبادة.
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ} الفزع: انقباض يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
{بَغَى بَعْضُنَا} : جار وظلم.
{وَلَا تُشْطِطْ} : ولا تتجاوز العدل وتتخط الحق.
(وَاهْدِنَا) دُلَّنا وأرشدنا وأرشدنا.
(سَوَاء الصِّراطٍ) وانراد: الطريق السوى، وهو من إضافة الصفة للموصوف.
التفسير
ذكر - سبحانه - في الآيات السابقة أن نبى الله داود كان عبدا لله، قويا في دينه، توابا ورجاعا إلى ربه، وأنه - جل ثناؤه - سخر الجبال معه تسبح في العشى والإشراق وكذلك جمع له الطير كل يقدس الله ويعظمه، وأنه - تعالى - قوى ملكه وأعطاه القول الحق والمنطق الفصل. ثم أتى - عز علاه - بعد ذلك بتلك القصة العجيبة، وساقها في كتابه الكريم المنزل لتدل على أن الكمال المطلق لله وحده، وقدم لها بما يشوق إليها ويجذب إلى الاستماع والإصغاء لها فقال:
21 -
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} :
أي: وهل جاءك يا محمد: نبأُ هؤلاء الخصماء الذين تسلقوا سور محراب داود وعلوه، ودخلوا عليه وهو متبتل لربه منقطع لعبادة مولاه؟
22 -
فما إن دخلوا عليه حتى خاف وفزع منهم، إذ لم يأتوا البيت من بابه، ولم يمنعهم حراسه وخدمه من الدخول عليه، فظن عليه السلام أنهم يريدون به شرا، ويقصدونه بسوءٍ، ولكنهم بادروه وقالوا له: لا تخف منا فما أردنا لك كيدا، ولا أضمرنا لك شرا فشأننا وأمرنا أن أحدنا قد بغى وظلم صاجه، فجئناك ابتغاء أن تحكم بيننا بالحق والعدل، ولا تتجاوز الحد فتحيد في حكمك وتجور في قضائك، ونطلب أن ترشدنا وتدلنا على الصراط المستقيم في تلك القضية التي اختلفنا فيها.
ويبدو أن الذي كلم سيدنا داود وطلب منه الحكم بالعدل والبعد عن الجور والظلم هو ذلك الخصم الذي شعر بمرارة الظلم وفداحته، فأخرجه ذلك مَرْضيِّ القول وجميل النطق.
وكان نبى الله داود عليه السلام في احتمال خطأ الخصوم مثالا، وقدوة حسنة لكل من يحكم بين الناس عن حاكم أو محكم، فلم يبدر منه عليه السلام ما يدل على غضبه من القائل أو استهجانه لما يقول.
المفردات
(نعجة): هي أنثى الضأن، وتطلق على المرأة مجازا، لما هي عليه من السكون، والضعف.
(أكفِلْنيِهَا): أي: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، والمراد ملكنيها، أو اجعلها كِفلى، أي: نصيبى.
(وعَزَّنِي): غلبنى.
(فيِ الخْطَابِ): في المجادلة والمحاجة.
(الْخُلَطَآءٍ): الشركاء.
(فَتَنَّاه): امنحناه وابتليناه.
(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ): سأَله المغفرة، وهي الصفح.
{وَخَرَّ رَاكِعًا} سقط وهوى ساجدا.
{وَأَنَابَ} ورجع إلى الله - تعالى - بالتوبة.
{لَزُلْفَى} لَقُربةً ومَكَانَةً.
{مَآبٍ} مرجع في الآخرة.
التفسير
23 -
في الآية السابقة طوى ذلك المظلوم شكايته وأجملها، وفي هذه الآية بسطها وفصلها فقال:{إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} اختلف في المراد من قوله: (أخِى) أيريد أخاه في النسب، أم صاحبه وأخاه في الإنسانية أم شريكه وخليطه.
وعقب ذلك بأن سجل على أخيه تجاوزه تلك الأخوة فلم يقنع هذا الأخ بما أفاء الله عليه من نعمة اتسعت وجلت وعظمت حيث كان {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} بل ينفس على أخيه ما لديه من تلك النعمة في أدنى صورها وهي (نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) يريد أن يستأثر لنفسه ويضمها إلى ملكه بعد أن تملكته الأثَرة واستلم لضراوة حب الذات، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث يقول:(لو أن لابن آدم ودايا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولا يملأُ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب) طلب صاحب التسع والتسعين من أخيه الذي ليس له إلا واحدة أن ينزل له عنها، وأن يعطيه إياها، وكان صاحب التسع والتسعين أقوى في سوق حجته والإدلاء بها في فطانة وبلاغة فغلب شريكه وأخاه وأفحمه في الجدال والمخاصمة فواساه نبي الله داود عليه السلام وسلاه بما جاء في قوله - تعالى -:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} بين نبى الله داود وأكد له أن كثيرا من الشركاء والخلطاءِ يبغى ويظلم بعضهم بعضا ولا ينجو من هذا الخلق الجائر والحيف القاسط إلا الذين آمنوا بربهم وعلموا أنه يحاسبهم
على أعمالهم ويجازيهم عليها، وهم مع إيمانهم هنا قد عملوا الأعمال المرضية والأفعال الصالحة التي تحفظ عليهم إيمانهم من أن يتسرب إليه وهن، أو يصيبه ضعف، وزيادة في مواساة هذا المظلوم بين له عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء المؤمنين الصالحين في قلة قليلة {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي: ليس شأنك مع خليطك بالأمر الذي لا يماثله أمر، بل أنه جرى على أكثر ما يفعله الخلطاء من غبن وجور. {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} علم داود عليه السلام بدلائل لاحت له أن الله قد امتحنه وابتلاه وظهر له أنه فعل أمرا كان أولى به وأجدر ألا يفعله؛ فهو نبي ورسول، فطلب من الله أن يغفر ذنبه ويصفح عنه وهوى ساجدًا وخاشعًا لعظمة ربه معترفًا بذنبه منيبًا لبارئه وخالقه {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} فقبل الله منه عليه السلام توبته وإن له عند ربه لمنزلة ومكانة يزلفه بها ويدنيه من رحمته، وإن له مآبا حسنًا ومرجعًا كريما في الآخرة عند مليك مقتدر.
وقد مضت الآيات السابقة دون ما إشارة إلى الذنب الذي وقع فيه داود فاستغفر ربه منه، وقد كثر الكلام حول هذا الموضوع، وتعددت الآثار الواردة فيه، ومنها:
ما قيل من أن نبي الله داود رأى امرأة أحد جنوده فوقعت من نفسه فأرسل إلى قائده أن يقع هذا الجندي على التابوت، وكان من يقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ففتح الله على يدي هذا الجندى وسلم من القتل فرده مرة أخرى وثالثة حتى قتل، فم يحزن عليه، وتزوج امرأته.
وهذه الرواية عليها مسحة اليهود النين دأبوا على النيل من الأنبياء والحط من شأْنهم فإن ما ينسب إلى نبى الله داود يقبح أن ينسب إلى بعض المعروفين بالصلاح من آحاد الناس وعامتهم، فكيف يسوغ أن ينسب إلى أحد الأَنبياء كداود عليه السلام فعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه - قال:"من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة" وهو حد القذف في حق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كما روى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة
على ما في كتاب الله فالتماس خلافها كذب واختلاق، فقال عمر رضي الله عنه: لَسَمَاعى هذا الكلام أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس.
وقيل: أن نبى الله داود خطب على خِطْبة أخيه فآثره أولياءُ المرأة على الآخر، وكان ذلك جائزا في شرعه، وهذا أيضًا غير لانق بإنسان صاحب مروءَة فما بالك بالأنبياء صلى الله عليهم وسلم -؟.
وقيل: إن داود عليه السلام احتجب عن رعيته متبتلا منقطعا لعبادة ربه فعوتب في ذلك لأنه ترك أمر رعيته دون القيام على شأْنهم.
قال الإِمام ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء، ويومًا للاشتغال بخواص أموره، ويومًا يجمع فيه بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، ففاجئوه في غير يوم القضاء ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه.
وقيل: إن داود عليه السلام تعجل ورمى بالظلم ذلك الذي سأل نعجة أخيه إلى نعاجه دون تثبت أو شهادة شهود، ودون أن يسمع قول المدعى عليه.
ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله - تعالى - عقبها وصية لداود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
ونحن نرى صحة هذا الرأى. والله أعلم.
وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليه الصلاة والسلام داود وغيره منزهون عن الوقوع في صغائر الذنوب مبرأون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، كالذى قيل في الرأى الأخير أو الذي قبله.
وهذا هو الحق الأبلج والسبيل المستقيم .. وما ذهب إليه هؤلاء المحققون من الأئمة رضي الله عنهم هو ما تطمئن إليه القلوب وتنشرح له الصدور، لأن أقصى ما يتصور حدوثه من الأنبياء هو أن يفعلوا خلاف الأولى بمقامهم - عليهم الصلاة والسلام.
المفردات:
{جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} : استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة لمن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق.
{سَبِيلِ اللَّهِ} : طريق الله الحق وصراطه المستقيم.
{نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} : من النسيان، وهو إما أن يكون ضد الذكر والحفظ، أو يكون بمعنى الترك العمد.
التفسير
26 -
…
الآية:
نبه الله سبحانه وتعالى نبيه داود عليه السلام إلى شرف مسئوليته وخطر وعظم رسالته فقال له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، أي: إنا أقمناك خليفة عنا في الأرض، أو جعلناك خليفة فيها لمن كان قبلك من الأنبياء والرسل تسوس وترعى عباد الله فيها، وتبلغهم ما أنزل إليك من ربك وتقوم على شأنهم، فاقض بينهم بالحق والعدل ولا تمل أو تحد عن ذلك فتتبع هوى نفسك، فإن اتباع الهوى والميل إلى شهوة النفس يبعدك عن طريق الله السوى وسبيله المستقيم.
وللتنبيه على شناعة الضلال عن سبيل الله وتناهيه في القبح قال له عقب ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
أي: أن الدين يزلون عن السبيل الحق وصراطه ويعدلون عنه لهم عذاب شديد الإيلام؛ لأنهم نسوا يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة، فعصوا الله وتركوا طاعته فكان لهم هذا العذاب الأليم والعقاب الشديد.
هذا، وتوجيه الله - تعالى - أنبياءه ورسله بالأمر والنهي والإرشاد والنصح لا يقدح أبدا في عصمتهم ولا ينال من رسالتهم، فإن النبوة والرسالة لا تنافى دوام التذكير من الله - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - أن الحساب والجزاء حق وعدل ونظام يقوم عليه أمر الدنيا وصلاحها واستقامة حالها فقال:
المفردات
(بَاطِلًا) عبثا ولعبا دون حكمة.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي: فعذاب يأْتيهم من النار.
(كَالْفُجَّارِ): جمع فاجر، وهو من ينبعث وينطلق في المعاصي.
التفسير
27 -
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) أي: أنشأْنا السماء والأرض وما فيهما من مخلوقات لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله - ما خلقنا ذلك - خلقًا باطلا خاليا
من الغرض الصحيح والحكمة البالغة، ولكن خلقناها جميعًا للحق المبين، وذلك بأن أنشأْنا فيها نفوسا وأودعناها العقل والتمييز، ومنحناها التمكين، وأبعدنا عنها العلل، وعرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف بعد أن أرسلنا إليها الرسل حتى لا تكون لهم حجة على الله، وأعددنا لها عاقبة وجزاء، حسب أعمالها. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: خلقها باطلا وعبثا هو ما يظنه هؤلاء الكفار. في حين أنهم يقرون ويعترفون أن الله هو خالق السموات والأرض مصداقًا لقوله - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لأن إنكارهم البعث والثواب والعقاب يؤدى إلى أنهما خلقت عبثًا، وأن هذا الخلق قد خلا من الحكمة، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفَّه الخالق وظهر منه أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، فكأنه غير مقر بذلك {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي: فعذاب شديد وهلاك يأتيهم من قبل النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت لهم بسبب كفرهم.
28 -
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} :
بعد أن قرر - جل شأنه - أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم عبثًا انتقل - سبحانه - إلى تقرير ذلك وتحقيقه بإنكار التسوية بين الصالحين والمفسدين، أي: بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة الذين يعيشون في الأرض فسادا؟ أنقصر وجودهم جميعًا على الحياة الدنيا دون بعث أو حساب؟ إن التسوية بينهما تنافى الحكمة وتخالف العدل .... فيتعين إذًا البعث، والجزاء لرفع المصلحين إلى الدرجات العلى ورد المفسدين المضلين إلى الدركات السفلى في جهنم وساءَت مصيرا.
ثم جاء قوله - تعالى -: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} انتقالا إلى ما هو أظهر وأوضح في استحالة التسوية بين الفريقين المذكورين، أي: بل أنجعل المتقين كأولئك الذين انبعثوا وانطلقوا في المعاصي لا يردهم وازع من نفوسهم ولا خوف من ربهم؟ أيسوى الله بينهم دون جزاء حسن لمن اتقى، وعذاب مقيم لمن كفر وفجر، إن التسوية بين الفريقين أمر تأْباه الحكمة وينافى العدل. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
29 -
أي: هذا القرآن الكريم كتاب أنزلناه إليك كثير الخير عظيم المنافع الدينية
والدنيوية لا تنفك عنه البركة ولا يزايله الخير، أنزلناه إليك ليتفكر هؤُلاء وغيرهم في آياته، وما تشتمل عليه من أمر ونهي، وإرشاد وهداية، وقصص حق، ووعد ووعيد إنهم لو تدبروا لوقفوا على ما فيها من المعانى الفائقة، والتأويلات اللائقة، والدلالات الواضحة، ويتعظ ذوو العقول الزاكية الخالصة من شوائب الزيغ والضلال.
فلو تفكر هؤلاء وتذكروا أو استحضروا ما هو مغروس في فطرهم لعلموا أن البعث والحساب والجزاء حق، ولكنهم غفلوا وعموا وصموا.
وفي الآية تعريض بأن هؤلاء الكفرة ليسوا من أهل التدبير ولا من أهل العقول.
المفرادات:
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} : أعطيناه ومنحناه إياه.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} : كلمة {نِعْمَ} تدل على المدح والثناء.
{أَوَّابٌ} : رجَّاع، أي: كثير الرجوج بالتوبة إلى الله، أو كثير الرجوع إلى تسبيح الله.
{بِالْعَشِيِّ} العشي: من زوال الشمس عن كبد السماء إلى آخر النهار، وقيل إلى آخر الليل.
{الصَّافِنَاتُ} جمع صافن، وهو الذي يرفع إحدى يديه ويقف على مقدم حافرها، وقيل: هو الذي يجمع ببن يديه ويسويهما.
{الْجِيَادُ} : جمع جواد، وهو الذي يسرع في مشيه إسراعا جيدا.
{حُبَّ الْخَيْرِ} أي: حب الخيل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
{فَطَفِقَ مَسْحًا} : فجعل يمسح مسحا.
التفسير
30 -
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
…
}:
تشير هذه الآية إلى قصة سليمان بن داود عليه السلام.
ومعنى الآية: وأعطينا داود ابنه سليمان وورثناه إياه، وكان سليمان حقيقًا بتلك المنزلة وجديرا بهذه الوراثة المباركة، فقد أثنى عليه ربه فقال:{نِعْمَ الْعَبْدُ} ، فوصَفَةُ بالْعُبُودِيَّة، والعبودية من أشرف الصفات وأسمى النعوت، فقد نعت بها سيد الخلق رسولنا صلى الله عليه وسلم قال - تعالى -:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (1)، وقال صلى الله عليه وسلم "أفلا أكون عبدًا شكورًا" كما وصف سيلمان بأنه عليه السلام كان كثير الرجوع إلى ربه يتوب إليه ممَّا عساه أن يكون قد بدر منه من فعل غير الأولى، أو أنه كان يكثر الرجوع إلى تسبيح الله وتنزيهه.
31 -
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} :
أي: اذكر يا محمد ما كان من أمر سلمان في استعراضه الخيل في منتصف النهار، تلك الخيل التي وصفت بالصفون والجودة فجمعت بين وصفين محمودين، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في موقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها.
(1) سور الإسراء: من الآية 1.
وقد عرضت على سليمان عليه السلام ليعلم ويقف على مدى قدرتها وقوتها وحسن تدريبها على خوض المعارك التي يتطلبها صاحب رسالة وملك، فيغزو بها أعداءه ويؤمن حدوده ويبعث الرعب في قلوب من تحدثهم أنفسهم أن يعتدوا على ملكه.
32 -
{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي: فقال: إني آثرت حب الخير بسبب ما هو مذكور ومسطر في كتاب ربِّي وهو التوراة من مدح ربط الخيل وإمساكها على الثغور والحدود في مواجهة الأعداء فذكر عليه السلام أنه لا يحبها لأجل زينة الدنيا وزخرفها ونصيب النفس وحظها وشهواتها، وإنما أحبها لأمر الله - تعالى - وإعزاز دينه.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: حتى غابت عن بصره عليه السلام.
33 -
{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} :
أمر سليمان عليه السلام الرائضين للخيل والقائمين على شأنها أن يردوها ويعيدوها إليه، فلما عدت جعل يمسح سوقها وأعناقها تشريفًا وإعزازًا لها وشفقة عليها وإظهارًا لمكانتها، إذ هي من أعظم ما يساعد المجاهد ويعاونه في دفع عدوه والانتصار عليه، وقد أبدى عليه السلام كمال التواضع في مباشرة ذلك الأمر بنفسه. وهكذا يضرب الأنبياء الأمثال لأقوامهم وأتباعم ليتأَسوا بهم.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}
المفردات:
{فَتَنَّا} : ابتلينا وامتحنا.
{جَسَدًا} : جسد إنسان.
{أَنَابَ} : رجع إلى ربه.
التفسير
34 -
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
…
} الآية:
خير ما ورد في تفسير هذه القصة ما قاله رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأْتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة جاءت بشقِّ رجل، والذي نفس محمَّد بيده لوقال: إن شاءَ الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" فكانت هذه فتنة سليمان إذ أنه لم يقل: إن شاء الله. وهذا هو الصحيح الذي جاء به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة.
أما ما ورد من أنه ولد له ابن فقالت الجن والشياطين: أن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق سليمان عليه السلام منهم، فجعل ابنه وظئره (حاضنته) في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقى هذا الابن علي كرسيه ميتا، تنبيها إلى أن الحذر لا ينجى من القدر، وعوقب على ترك التوكل على الله، فهذا خبر غير موثوق به ولا تطمئن إليه النفس؛ لأن تسخير الريح كان بعد الفتنة.
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} :
أي: وقدم هذا الشق إلى سليمان وطرح على كرسيه فألقى الله في روعه وقذف في قلبه أنه قد فتن وامتحن وابتلى ووقف على سبب ذلك فكان أن أناب إلى الله ورجع إلى ربه تائبا مستغفرا عن هذه الزلة التي فرطت منه، وهي أنه قد نسى أن يتجه إلى ربه في منحه تلك الذرية التي تعينه على الجهاد في سبيل الله "بأن يقول: إن شاء الله".
وجاء العطف (بثم) في قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَنَابَ} التي تدل على التراخي والبعد لأنه لم يقع الاستغفار عقب حدوث الزلة، فإن سليمان عليه السلام لم يعلم الداعى إلى الاستغفار والإنابة عقب ما وقع منه من ترك قوله: إن شاء الله إلا بعد أن وضعت له إحدى نسائه شق رجل، وكان بين طوافه على نسائه وتركه ذكر المشيئة وبين إلقاء الشق على كرسيه زمن طويل، فناسب أن يعطف بثم، وهذا بخلاف قصة - داود عليه السلام -
فقد جاء العطف فيها بالفاء التي تدل على الفورية وسرعة المبادرة؛ لأنه علم أن الله قد فتنه وابتلاه، ومن فور علمه استغفر وأناب لأن اللائق في هذا المقام المسارعة إلى الإنابة.
المفردات:
{لَا يَنْبَغِي} لا يتيسر.
{مِنْ بَعْدِي} : من دونى.
التفسير
بين - سبحانه - إنابة سليمان ورجوعه إلى ربه بقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} دعا سليمان ربه أن يغفر له ويصفح عنه ولا يعاقبه أو يحاسبه على ما بدر منه من ترك ما هو أولى به أن يفعله، وقدم عليه السلام الاستغفار - وإن كان مقصودًا لذاته - ليكون وسيلة إلى طلب الملك، فمن كمال العبودية أن يقدم الإنسان الاعتراف بالذنب والاستغفار منه ليمحى أثره ويكون دعاؤه أرجى للقبول، ثم طلب عليه السلام من ربه أن يمنحه ملكا عظيما لا يدانيه ملك أحد غيره، ولا يسلب منه ويعطى لسواه، وقد طلب سليمان ذلك عن ربه واستوهبه إياه، لتكون استجابة الله له أمارة على قبول إنابته وعلامة على غفران الله ما تركه من النطق بقوله: إن شاءَ الله عندما أحب أن تأتى نساؤه بفرسان يجاهدون في سبيل الله كما مر بيانه.
وقيل: إن سليمان عليه السلام لم يطلب من ربه هذا الطلب إلا بعد أن أمره الله بطلبه لأنه - سبحانه - علم أنه لا يستطيع أن يضطلع بهذا الملك ويقوم على تصريف
أمره وسياسته وتدبير شأنه أحد غير سليمان، فكان أن امتثل سليمان وطلبه من ربه فاستجاب له ومنحه إياه.
وجاء قوله - تعالى -: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} اعترافا مؤكدا من سليمان بأن الله - جل علاه - هو وحده صاحب العطاء الواسع الكثير وليس ذلك لأحد سواه.
المفردات:
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} : فذللناها ويسرناها له.
{رُخَاءً} : لينَة طيبة لا تتزعزع ولا تضطرب، وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه.
{حَيْثُ أَصَابَ} : حيث قصد وأراد.
{الْأَصْفَادِ} : جمع صفد، وهو ما يُوثق به الأسير من قيد أو غل.
{مُقَرَّنِينَ} : مجموعين في قيد واحد يضمهم.
{فَامْنُنْ} : فانعم على من شئت.
{أَمْسِكْ} : احبس وامنع من شئت.
التفسير
36 -
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} :
في هذه الآية الكريمة دلالة على أنه - سبحانه - استجاب لسليمان فور الفراغ من
دعائه فجاء قوله - تعالى -: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب، أي أن الله - تعالى - ذلل ويسر له الريح فور دعائه تطيع أمره ولا تتأبى عليه فتسير وتجرى بأمره حيث يريد ويقصد سيرا لينا لا اضطراب فيه ولا اهتزاز وذلك مع شدة سرعتها، وعصفها في جريها، ففد جمع الله له فيها بين اللين وسرعة الجرح، وهما لا يجتمعان غالبا؛ لأن السير الشديد يكون معه الاضطراب والتزعزع عادة.
37، 38 - {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}:
وسخر الله له الشياطين وهم مردة الجن وعتاتهم سخر له بعضهم في أعماله، فبنوا له ما شاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وسخر له بعضا آخر يغوص في البحار يجلبون له ما استتر فيها من كريم ما تحتويه من اللؤلؤ والمرجان، وسلطه الله على من يرى أنه مدمِّر ومؤذ فقرن وجمع بعضهم ببعض في أصفاد وقيود، أو أحكم قيد كل واحد منهم على حدة اتقاءَ شرهم ومنعا لضررهم.
39 -
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} :
وقال له ربه - عقب تسخير الشياطين له تفضلا عليه -: هذا عطاؤنا ومنحتنا إليك أطلقنا فيه يديك، فامنح من شئت وامنع من أردت، فلا نسألك عن ذلك ولا نحاسبك عليه، أنت في خيار من أمر هؤلاء الشياطين فأمسك من شئت في خدمتك، وقيد من أردت من المردة في أصفادك، وأطلق سراح من تحب، فلا عتاب ولا تثريب عليك، يقول الله ذلك وهو يعلم حسن تصرفه فيما فوضه إليه.
40 -
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} :
أي: وإن لسليمان عندنا لقربى، وكرامة عظيمة مع ما أنعمنا به عليه من الملك العظيم، وله حسن مرجع ومأوى في الجنة، فله عز الدنيا وسعادة الآخرة؛ لاستحقاقه ذلك عند ربه.
المفردات:
{بِنُصْبٍ} : بمشقة وتعب.
{وَعَذَابٍ} : وضر وألم.
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض: الدفع القوي، أي: ادفع واضرب برجلك الأرض ضريا شديدا قويا.
{وَذِكْرَى} : وتنبيها وتذكيرا.
{لِأُولِي الْأَلْبَابِ} : لأصحاب العقول الرشيدة.
{ضِغْثًا} : حزمة من حشيش أو نحوه.
{وَلَا تَحْنَثْ} الحنث: الخلف في الحلف وعدم الوفاء به.
التفسير
41 -
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} :
أي: واذكر - يا محمد - قصة أيوب وابتلاء الله له بالمرض والمشقة والألم، ليكون عليه السلام مثالا كريما يحتذيه ويتأسى به كل من تصيبه مصيبة في نفسه أو ولده أو ماله لينال جزاء الصابرين الذين وعدهم الله بالجزاء العظيم بقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (1).
أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك لتكون عونا لك على الصبر على مما تلاقيه وتكابده من هؤلاء الضالين المعاندين المشركين - اذكر - أن الشيطان قد وسوس له ليثنيه عن يقينه وينال من طمأنينة قلبه بما يلح في الوسوسة ودعوة أيوب إلى القنوط واليأس من رحمة وبه، وكان هذا الأمر قاسيا وشديدا على أيوب مع مرضه وعلته، فضلا عن تسلط الشيطان على أتباعه حتى فتن بعضهم في دينه، ورده إلى الكفر بعد أن غرس في نفوسهم أن الأنبياء لا يبتلون ولا يمرضون، وأن أيوب ما دام قد أصابه المرض ومسه الضر فليس بني ولا رسول، كما تسلط ذلك اللعين على آخرين حتى قالوا: ما ابتلى الله أيوب إلا لذنب أصاب أو جريمة اقترف، فكان أيوب يعاني من مشقة تسلط الشيطان عليه بالوسوسة بالقنوط من رحمة الله، كما يعاني ويتألم لفتنة أتباعه وتفرقهم عنه وتشككهم في رسالته.
وكان أيوب عليه السلام في قمة الأدب مع ربه فجاء هنا حكاية عنه قوله - تعالى -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وجاء فى سورة الأنبياء قوله - تعالى - {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) فلم يزد عليه السلام أن نادى ربه وبسط شكاته فحسب، وفوض أمره إلى ربه راضيا بما يقضيه فيه، وما يقَدَّر عليه، فلطف به - سبحانه - واستجاب إلى ما تتوق إليه نفسه ويطمئن به قلبه من أن يذهب مرضه الذي أتعبه ونال من جسمه وحط من قوته، وأن يصرف الشيطان عنه وإن كان لا ينال من عقيدة الأنبياء ولا من عباد الله الصالحين.
42 -
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} :
أمره - تعالى - أن يضرب الأرض برجله ضربا قويا بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فامتثل وضربها فنبعت عين، فقال له - سبحانه -:{هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فاغتسل عليه السلام فذهب سقمه وصح بدنه وشرب فأطفأَ ظمأَه.
(1) سورة: البقرة، الآية:157.
(2)
سورة الأنبياء، من الآية:83.
43 -
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} :
وبعد أن اكتملت له العافية من الله عليه وهب له ما كان قد تفرق عنه من ولده، وبارك له فيهم فضاعفهم له وأعطاه كثير المال وجليل الخير، وكل ذلك كان من رحمة الله وفضله عليه إذ سلط الله عليه البلاء فصبر، ثم أزال عنه ما نزل به ووصله بالآلاء والنعماء، وذلك تنبيها لذوى العقول الرشيدة والبصائر النافذة والقلوب السليمة على أن من صبر ظفر ونال الجزاء الحسن.
44 -
أبطأت امرأة أيوب عليه السلام وهو في مسيس الحاجة إليها، فقد أنهكته العلة وقعد به المرض وألح عليه الشيطان في نفسه وتابعيه، فأَقسم إن شفاه الله وأبرأه ليضربنَّها مائة جلدة، وكان البرْءُ والشفاء والمنة العظيمة بالعافية والرضا من ربه، فكيف يضربها وهي التي رافقته في رحلة مرضه وقاست ما قاست من حزنها عليه، واعتصار قلبها لما كان يكابده من العلة وعانت من تفرق الولد والأهل وذهاب المال، وأيوب عليه السلام يعرف لها ما قامت به نحوه وما عانت من أجله، ولهذا كان يود ويرجو مخرجا من هذه اليمين التي التزم أمام ربه أن يبر ولا يحنث فيها، فكان أن جعل الله له مخرجا منه يرضى ربه ولا يضر زوجه، فقال له:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} أمره جل جلاله أن يتحلل من قسمه بأهون شيءٍ عليه وعليها، وذلك بأن يعمد إلى حزمة من حشيش أو ريحان أو نحوهما تضم مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة، ويكون بذلك قد وفى بقسمه ولم يؤْذ زوجه الوفية له في مرضه.
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} :
إنا علمنا أيوب صابرا محتسبا حابسا نفسه على إرادة ربه، لم يستطع الشيطان أن يزعزع ثقته بربه أو يقلل من اعتماده عليه - سبحانه.
وقد يقال: كيف يوصف أيوب بالصبر وقد شكا؟
والجواب: أن أيوب شكا إلى الله ولم يشك لأحد سواه، وأن أيوب لجأ إلى الحبيب من العدو، فضلا على أن الشكوى إلى الله ليست منقصة ولا نزولا بالهمة، فإن الله - سبحانه - يحب أن يُدعى ويُسأَل، ونبى الله يعقوب خاطب ربه وشكا إليه:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوبَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (1) وهذا لا يقدح في الصبر.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} : أيوب فقد تناهى في الكمالات وتسامى في الدرجات {إِنَّهُ أَوَّابٌ} : أي: إنه رجاع إلى ربه منيب إليه، لسانه رطب بذكره، وقلبه عامر بالتفكر فيه والتعظيم له والخوف منه.
للمفردات:
{أُولِي الْأَيْدِي} : أصحاب الأعمال العظيمة في طاعة الله.
{وَالْأَبْصَارِ} أي: والبصائر النافذة في معرفته.
{أَخْلَصْنَاهُمْ} : جعلناهم خالصين.
(1) سورة يوسف من الآية: 86.
{بِخَالِصَةٍ} : بخصلة وصفة خالصة لا شوب فيها ولا كدورة هي:
{ذِكْرَى الدَّارِ} : تذكر الدار الآخرة، أو التذكير بها، أو الثناء الجميل عليه في الدنيا.
{الْمُصْطَفَيْنَ} : جمع مصطفى، وهو المختار من بنى جنسه.
التفسير
45 -
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} :
أضافهم إليه - سبحانه - بالعبودية - فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} وذلك تشريف لهم وإعلاءٌ لشأْنهم.
واذكر أيها - الرسول - لقومك أو تذكر أنت إبراهيم وإسحاق ويعقوب - اذكر هؤلاء.
{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} أي: أصحاب الأعمال الطيبة والبصائر النيرة، فقد استعمل - سبحانه - حواسهم في طاعته: فألسنتهم رطبة بذكره، وجوارحهم مشغولة بعبادته، فكان الله سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، وذلك مع أفئدة بصيرة، وعقول رشيدة، وقلوب سليمة يملؤُها ويعمرها التفكير في الله سبحانه وتعالى فقد جمع الله لهم كمال العمل له، مع عظيم معرفته.
وجاء التعبير عن الأعمال الظاهرة بالأيدى؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها فيقال: هذا مما عملت أيديهم، أو هذا ما قدمت يداه، وإن كان هذا العمل لا يتأتى فيه الباشرة بالأيدى.
46 -
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} :
أي: إن الله قد أخلصهم له ونقاهم من كل شوب وكدورة تنال من مكانتهم، وجملهم بتلك الخصلة الطيبة والخلة الحسنة، وهي تذكرهم الدار الآخرة، يعملون لها ويسعون من أجلها، وكان نصيبهم من الدنيا هو عمل الخير وخير العمل الذي يقدمون به على ربهم،
ويقبلون بصحبته إلى مولاهم، أو أخلصهم وميزهم بتذكرهم الدار الآخرة، أو أنه - تعالى - أبقى لهم الثناء الحميد في الدنيا، وتقبل دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1).
أو أنهم يذكِّرون الناس بالآخرة ويحثونهم على التجافى عن الدنيا والبعد عن الإغراق في طلبها.
47 -
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} :
أي: وإن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام عند الله لمن الذين اجتباهم واختارهم - سبحانه - فكانوا من صفوة وخيار رسله وأفضل أنبيائه.
المفردات:
{هَذَا ذِكْرٌ} : شرف عظيم وذكر جميل يذكرون به دائمًا.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} : بساتين إقامة دائمة.
{مُتَّكِئِينَ} : مسندين ظهورهم أو جنوبهم إلى شيء معتمدين عليه في حال قعودهم.
(1) سورة الشعراء، الآية:84.
التفسير
48 -
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} :
واذكر - يا محمَّد - أو تذكر أنت هؤلاء الرسل الذين صبروا وصابروا وأبلوا بلاءً حسنًا في أداء رسالة ربهم، وتحملوا سفه قومهم وجهلهم حتى يُهتدى ويكونوا مثلا صالحة يتأسى بهم سواهم.
وكلهم من الصفوة الكرام البررة الذين انتخبهم ربهم واختارهم.
وقد أفرد - سبحانه - إسماعيل وفصل ذكره عن ذكر أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق للإشعار بعراقته وأصالته في الصبر الذي هو المراد فقد صبر إسماعيل على الذبح لولا أن الله فداه بذِبْحٍ عظيم.
والحكمة من ذكر أو تذكر هؤلاءٍ تبدو فيما يأْتي:
أ - أما إبراهيم عليه السلام فقد صبر وصابر على إيذاء قومه له فلم يداهنهم على كفرهم، أو تلن قناته أو تضعف عزيمته عندما عزموا على تحريقه وإلقائه في النار ثم ألقوه فيها فكانت عليه بردا وسلامًا.
2 -
وأما إسحاق عليه السلام فقد صبر على طمع قومه وجشعهم فكان يحفر الآبار ليسقى دوابه ويروى زرعه، فيأْتى هؤُلاء العصاة أكلة السحت والحرام فيأْخذونها منه فيتركها لهم ويحفر غيرها وهكذا، ثم ما عاناه من تقدم السنن ووهن العظم وفقد البصر.
3 -
وأما يعقوب عليه السلام فقد تأسى عن فقد أحب أبنائه إليه وأدناهم إلى قلبه، فكان منه الصبر الجميل، والاستعانة بالله على ما أصابه قال - تعالى -:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) ثم ابتلى بأخذ ابنه الثاني شقيق يوسف بدعوى أنه سرق فاشتعل حزنه وتضاعف ألمه على يوسف، ولكنه كان كبير الرَّجاء عظيم الأمل في رحمة
(1) سورة يوسف، من الآية:18.
ربه أن يرد الله إليه ابنيه قال - تعالى -: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (1) ولم يتسرب اليأس والقنوط إلى قلبه بل كان ينهى أولاده عنه، قال - تعالى -:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)} (2).
هذه المكابدة أذهبت بصر يعقوب {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} (3) إلى أن جمع الله بينه وبين أولاده ورد عليه بصره.
4 -
وأما إسماعيل عليه السلام فقد صبر على الذبح وقال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (4) كما كان مثالا للطاعة والبر بأبيه.
5 -
وأما اليسع عليه السلام فقد استخلفه إلياس - علية السلام - على بني إسرائيل فصبر على جهلهم وسفاهتهم وظلمهم وكفرهم، ثم كان جزاء الله له أن اصطفاه رسولًا.
6 -
وأما ذو الكفل عليه السلام فهو عند الجمهور نبى مرسل وكان من شأْنه أنه جابه الظلم وتصدى لهؤلاء الفجرة الذين طاردوا عددًا كبيرًا من أنبياء بني إسرائيل وتعقبوهم ليقتلوهم فكفلهم ذو الكفل وآواهم غير مبال بعسف الظالمين وكيدهم، كذا قيل، ولعله اسم له والأسماء لا تعلل.
49 -
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} :
{هَذَا} : إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسن هؤلاء الأنبياء والدالة على مناقبهم العظيمة {ذِكْرٌ} أي: شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبدًا، أو هو إشارة إلى القرآن لقوله تعالى -:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (5) وهو مشتمل على أنباء الأنبياء عليهم السلام وعن ابن عباس رضي الله عنهما هذا ذكر من مضى من الأنبياء.
(1) سورة يوسف، من الآية:83.
(2)
سورة، يوسف، من الآية:87.
(3)
سورة يوسف، من الآية:84.
(4)
سورة الصافات، من الآية:102.
(5)
سورة الحجر: من الآية: 9.
بعد أن بين - سبحانه - في الآيات السابقة أن الحكمة تقتضى عدم التسوية بين المتقين والفجار، جاءت هذه الجملة موضحة نعيم المتقين في الآخرة، وسيأتي في الآية التالية بيان هذا النعيم.
50 -
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} أي: بساتين إقامة فتحت لهم فيها الأبواب تهيئة وإعدادًا وإكرامًا لهم يدخلونها على أعز حال وأجمل هيئة {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (1).
51 -
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} :
أي: معتمدين فيها على أرائك، أو وسائد من ديباج وإستبرق والأرائك: السور المنجدة المزينة، وهذه هي جلسة المطمئن الآمن والفرح المسرور، وهم في هذه الحالة من الحبور يطلبون من ربهم أن يمدهم ويعطيهم من ألوان الفاكهة وأصناف الشراب فيستجيب لهم الله ويعطيهم ما طلبوا {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} (2).
المفردات:
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} الطرف: العين، ولا يجمع كما هنا لأنه في الأصل مصدر، ومن استعماله مفردًا مع الجمع قوله - تعالى -:{لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} . والقصر: الحبس، أي: حابسات عيونهن على أزواجهن، وسيأتى مزيد بيان له في التفسير.
(1) سورة الزمر، من الآية:73.
(2)
سورة يس، الآية:57.
{أَتْرَابٌ} أي: لِدَات على سِنٍّ واحدة، تشبيهًا لهن في التساوى والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر، وهي جمع ترب، وسيأتى لذلك مزيد بيان.
{مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي: ليس له انقطاع أبدا.
التفسير
52 -
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} :
لا يزال الكلام متصلًا في نعيم المتقين، فهذه الآية تبين أن لهؤلاء المتقين في الجنة زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى سواهم، أو قاصرات أبصار أزواجهن عليهن، فلا ينظرون إلى سواهن لجمالهن الفائق، وهؤلاء الزوجات أتراب أي: متساويات في السن، فكلهن شباب وليس بينهن عجوز، وذلك يستدعى محبة بعضهن لبعض، وفي ذلك راحة لأزواجهن، فإن تباغض الضرائر بسبب الفوارق في الحسن بينهن ينغص عيش الأزواج، فلذا تشابهن في الحسن والطباع، حتى تصفو الحياة في الجنة، وقيل: إن التساوى بينهن وبين أزواجهن، وذلك أشمل وأكمل، وأبعث على قصر الزوجات أبصارهن على أزواجهن.
وجاء في وصفهن في سورة الصافات قوله - تعالى -: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (1). ومعنى (عين): واسعات العيون حسانها، ومفرده عيناء، وقد شبهن ببيض النعامة تكنها النعامة بريشها من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء (2)، وجاء في وصفهن أنهن في سن ثلاث وثلاثين سنة، والآية في الزوجات الآدميات كما قال ابن عباس:
(1) سورة الصفات، الآيتان: 48 - 49.
(2)
وقال ابن عباس وغيره: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي.
53 -
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} :
أي: هذا الجزاءُ الذي وعدتم به - أيها المتقون - في يوم الحساب، فاللام في قوله:{لِيَوْمِ الْحِسَابِ} بمعنى في، ويصح أن تكون للتعليل، أي: هذا ما وعدتم به لأجل يوم الحساب.
54 -
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} :
إن هذا الذي ذكر من ألوان النعم وأصناف الكرم لرزقنا الذي أعطيناكموه ماله من انقطاع أبدًا، وفيه دليل على أن نعيم الجنة أبدى لا نهاية له.
المفردات:
{لِلطَّاغِينَ} : المراد بهم الكفار.
{لَشَرَّ مَآبٍ} : لقبح مرجع.
{الْمِهَادُ} : الفراش وزنا ومعنى.
{حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} : الحميم: الماءُ الشديد الحرارة، والغساق: عصارة أهل النار، وعن ابن عباس أنه الزمهرير، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر.
{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} : وعذاب آخر من مثله أصناف.
{فَوْجٌ} : جمع كثير.
{مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} أي: داخل معكم.
{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} : دعاءٌ من المتبوعين على أتباعهم.
{صَالُوا النَّارِ} أي: داخلون فيها.
{فَبِئْسَ الْقَرَارُ} : فبئس المقر جهنم.
التفسير
55، 56 - {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}:
لما ذكر الله فيما تقدم نعيم المتقين في الجنة، عقبه بذكر ما للطاغين من سوء المصير، ولفظ {هَذَا} خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر هذا، أو مبتدأ خبره محذوف أي: هذا كما ذكر. قال ابن الأنبارى: "هذا" وقف حسن، ثم تبتدئ: وإن للطاغين، وهم الذين كذبوا الرسل، وقال الجبائي - من المعتزلة: المراد بهم أصحاب الكبائر، سواء أكانوا كفارًا أم لا، وأهل السنة على أن هذه الآيات في الكفار، وهو رأى ابن عباس.
ومعنى الآيتين: الأمر هذا الذي ذكر في جزاء المتقين، وإن للطغاة الذين كذبوا الرسل لَشَرَّ مرجع يئوبون إليه: جهنم يدخلونها ويقاسون لهيبها، فبئس الفراش جهنم.
57، 58 - {هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}:
الحميم: الماء الشديد الحرارة، قال - تعالى -:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (1) والغساق: صديد أهل النار يسيل من أجسادهم، وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلَاّ الله، وقيل: هو البارد المنتن والمقصود من لفظ: "آخَرُ" عذاب الزمهرير كما فسره ابن مسعود.
ولكن ابن عباس يفسر الغساق بالزمهرير، وعليه يكون معنى:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} : وعذاب آخر من شكل الغساق أو من شكل ما ذكر أصناف.
(1) سورة محمَّد: من آية 15.
والمعنى: العذاب هذا فليذوقوه، منه حميم شديد الحرارة، ومنه غساق صديد أهل النار، أو الزمهرير ولهم عذاب آخَر من شكل هذا العذاب في الشدة والفظاعة أصناف وأجناس.
59، 60 - {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوالنَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}:
الاقتحام: الدخول في شدة، والآيتان حكايته لما يقوله أهل النار بعضهم لبعض، من التلاعن والتكذيب. كما قال - تعالى - {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (1).
تقول طائفة الرؤساء التي تدخل قبل طائفة الأتباع - نقول - إذا لحقوا بهم مع الخزنة من الزبانية: هذا فوج داخل معكم لا مرحبًا (2) بهم، إنهم داخلون النار معنا لأنهم كفروا مثلنا، فيرد الأتباع قائلين لرؤسائهم: بل أنتم أحق بما قلتم فلا مرحبًا بكم، لأنكم ضالون مضلون، فأنتم قدمتم العذاب لنا بإغوائنا وإغرائنا على العقائد الزائغة، والأعمال القبيحة، فبئس المقر والمنزل جهنم التي نصلاها سويا.
61 -
{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} :
أي: يقول الأتباع أيضًا: يا ربنا من تسبب في عذابنا وقدمه إلينا فزده في النار عذابًا مضاعفًا، وقد جاء مثل ذلك في سورة الأعراف، وذلك في قوله تعالى:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} (3).
(1) سورة الأعراف: من الآية 38.
(2)
لا سعة لهم ولا نريد لقاءهم، والرحب - بضم الراء وفتحها: السعة، كمرحبا، تقول: مرحبا أو رحبا وأهلا، أي: أتيت سعة وأهلا فاستأنس ولا تستوحش، بخلاف (لا مرحبا) فإنها على العكس، وهي تشير إلى أنهم لا يريدون لقاءهم فصدورهم لا تتسع لهم؛ لأنهم صالوا النار مثلهم فلا منفعة في لقائهم تقتضى الترحيب بهم.
(3)
سورة الأعراف، من الآية:38.
المفردات
{سِخْرِيًّا} : مسخورًا ومُسْتهزَأً بهم.
{زَاغَتْ} : مالت.
{تَخَاصُمُ} أي: تنازع.
التفسير
62 -
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} :
أي: وقال الطاغون الكافرون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر: ماذا جرى لنا، حيث لا نرى معنا في النار رجالًا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار الأراذل الذين لا خير فيهم ولا منفعة لهم، يعنون بذلك فقراء المؤمنين، وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم لهم في الدين.
واستظهر بعضهم أن الضمير في "قَالُوا" عائد على أتباع الرؤساء، فإن الكلام متصل بمقالهم عن الرؤساء، وكانوا - أيضًا - يسخرون من فقراء المؤمنين تبعًا لرؤسائهم.
وقيل: إن الضمير راجع إلى صناديد قريش: كأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهما، والرجال الذين كانوا يسخرون منهم، هم عمار بن ياسر، وصهيب، وسلمان الفارسي، وخبَّاب بن الأرت، وبلال ونحوهم رضي الله عنهم على ما روى عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، والصواب: أن ذلك التحسر والتندم عام في جميع الكفار، السابقين، واللاحقين، فهم يتندمون على ما حدث منهم في فقراء جميع الأديان، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
63 -
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} :
الهمزة في {أَتَّخَذْنَاهُمْ} للاستفهام الإنكارى المصحوب بالتعجب، والكلام في هذه الآية موصول بتعجبهم في الآية السابقة بقولهم:{مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} أي: ماذا جرى لنا حيث لا نرى معنا في النار رجالا كنا نعدهم من الأشرار لفقرهم ومخالفتهم لنا في الدين، أتخذناهم مسخورًا بهم في دنيانا وهم على حق فلذلك لا نراهم معنا في النار؟ أم مالت عنهم أبصارنا وهم في النار فلا نراهم فيها؟.
64 -
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ (1) أَهْلِ النَّارِ} :
أي: أن ذلك الذي حُكِي عن الكفار - متبوعين وتابعين - لحق تخاصم أهل النار وتنازعهم، فلابد من حصوله يوم القيامة في جهنم.
المفردات
{الْقَهَّارُ} : الغالب.
{الْعَزِيزُ} : الغالب.
(1) تخاصم أهل النار: خبر ثان للفظ (إن) أما الخبر الأول فهو لفظ (لحق).
{نَبَأٌ عَظِيمٌ} : خبر عظيم.
{بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} : جماعة الملائكة اختصموا مع إبليس في شأن آدم، وسنبين الآراء في ذلك.
التفسير
بعد أن بين الله حظوة المتقين عند ربهم يوم الدين، وشقاء الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين، أمر الله نبيه أن يبين للمشركين أن مهمته فيهم هي الإنذار والبلاغ، وأنه لا ينبغي مغنمًا منهم ولا أجرًا، وأنه لا يوجد إله لهم سوى الله الواحد القهّار، فلا وجه لعبادتهم سواه، فالله هو الغالب الذي لا يقهر، وهو رب السموات السبع والأرض، وما بينهما من الكواكب التي هي زينة للسماء الدنيا، ومن الشهب والهواء والقوى الكونية التي بين السماء والأرض، وهو العزيز الغالب لمن ناوأه في أُلوهيته، الغفار لمن تاب من كفره، وأناب إلى ربه، مع عزته وقهره.
وفي هذه الأوصاف التي وُصِفَ الله بها في الآيتين تقرير لتوحيده - تعالى - ووعد للمؤمنين ووعيد للمشركين على نحو ما بيناه.
67 -
قل - أيها الرسول - للمشركين: ما أخبرتكم به من أنني نذير لكم مِنْ عقوبة من هذه صفاته من أنه - تعالى - إله واحد قهار، رب السموات والأرض عزيز - قل لهم -: ما أخبرتكم به من ذلك خبر عظيم أنتم عنه معرضون لا يحرك همتكم، لتمادى غفلتكم وجهالتكم، فإن اليقظ العاقل لا يعرض عن مثله، وقد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على توحيد الله فما مرَّ من صفاته التي لا تمارون فيها وهو وحيد في الاتصاف بها، وأما على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم -
فهو ما أخبرهم به من أن الملأ الأعلى اختصموا في شأن آدم، وما كان له من علم بذلك إلَاّ بطريق الوحى لأنه أُمي لا يقرأ ولا يكتب وهو من أمة أمية، فلولا أنه نبي ما كان له أن يعرف ذلك، وسيأتى بيان اختصام الملأ الأعلى.
وروى عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، أن الضمير في قوله:{هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} راجع إلى القرآن، ويدخل فيه ما ذكر في الرأى السابق دخولًا أوليًّا، واختار هذا الرأى بعض الأجلة، ويرشحه ما جاء في أول السورة من قوله - تعالى -:{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} .
وعلى أي حال فالكلام بجملته تحسير للمشركين، وتنبيه على مكان الخطأ منهم، وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة.
والمراد بالملأ الأعلى: الملائكة وآدم وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، فالعلو حِسِّيٌّ، وكان اختصامهم وتقاولهم في شأن السجود لآدم، وسيأتي بيان ذلك قريبًا في قصة آدم.
70 -
{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
إن: نافية بمعنى ما، أي: ما يوحى إليَّ حال الملأِ الأعلى، وما يوحى إليَّ من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم - ما يوحى إليَّ ذلك - إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى.
ويصح أن يعود الضمير في (يوحى) إلى القرآن الكريم الذي اشتمل على ما تقدم وأعجز البُلغاء ببلاغَتِه وغيرها من فنون إعجازه.
المفردات:
{لِلْمَلَائِكَةِ} : هم أجسام نورانية قادرة على التشكل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
{بَشَرًا مِنْ طِينٍ} : هو آدم عليه السلام.
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} : هذا في البلاغة يسمى تمثيلًا، فلم يكن هناك نفخ، ولا منفوخ، والمقصود: منحته الحياة ببث الروح فيه، وإضافة الروح إلى الله من إضافة المملوك إلى مالكه، كقلمى وكتابى، وليس من إضافة الجزء إلى الكل، وسيأتى إيضاح أكثر في التفسير.
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي: فاسقطوا له ساجدين تحية له.
التفسير
71 -
شروع في بيان الاختصام والتقاول الذي جرى بين الملأ الأعلى، فهو بدل من "إذ يختصمون" بدل كل من كل، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة لأنه بمعنى القول الذي قالوه بشأن خلقه آدم، وهو قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (1). وقد قالوا ذلك بعد قوله - تعالى - لهم: {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} : راجع القصة في تفسيرنا لها في سورة البقرة.
والاختصام وقع بينهم، وبين إبليس وآدم عليه السلام وهم الذين عُبِّر عنهم بالملإ الأعلى في الآية السابقة؛ لأنهم كانوا في الجنة وقت الاختصام، فالمقصود من العلو علو المكان لا علو المكانة والمنزلة، وقد يقال: إن إبليس كانت له منزلة عليا لعبادته قبل أن
(1) سورة البقرة، من الآية:30.
يطرده الله من الجنة لكبريائه وإبائه تنفيذ أمر الله بالسجود لآدم، فقد كان يعبد الله - تعالى - مع الملائكة قبل غضب الله عليه، والاختصام الذي وقع من إبليس قوله لله تعالى:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (1).
وما ترتب على طرده من الجنة، من وعيده لآدم وذريته بالإغواء فيما حكاه الله - تعالى - في سورة الأعراف بقوله:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} إلى غير ذلك من سائر قصته.
والاختصام الذي وقع من آدم هو إنباء الملائكة بأسماء المسميات المختلفة التي علمه الله إياها، بعد أن عجزت الملائكة عن معرفتها بقولهم:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2).
ويلخص ابن كثير قصة آدم مع الملائكة وإبليس تعليقا على ما جاء في هذه الآيات بشأنها فيقول ما يلي:
هذه القصة ذكرها الله - تعالى - في سورة "البقرة" وفي أول "الأعراف"، وفي سورة "الحجر، وسبحان، والكهف" وها هنا، وهي أن الله - سبحانه - أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه - سبحانه - سيخلق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته أن يسجدوا له إكرامًا له وإعظامًا واحترامًا لأمر الله عز وجل فامتثل الملائكة سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسًا، بل كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته، فاستنكف عن السجود لآم، وخاصم ربه عز وجل فيه، وادعى أنه خير منه، فإنه مخلوق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله وكفر بذلك، فأبعده الله وأرغم أنفه، وطرده عن باب رحمته ومحلِّ أنسه وحضرةِ قدسه، وسماه إبليس إعلامًا له بأنه قد أبلس - أي: يئس - من
(1) سورة الإسراء، من الآية:61.
(2)
سورة البقرة، من الآية:32.
الرحمة، وأنزله من السماء مذمومًا مدحورًا إلى الأرض، فسأل الله النَّظِرَةَ إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} كما قال {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (1) وهؤلاء المستثنون في الآية الأخرى، وهي قوله - تعالى -:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (2). انتهى مع تصرف يسير.
وقال البيضاوى: أن قصة آدم اختصرت في هذه السورة اكتفاء بما مر في سورة البقرة، واقتصارًا على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام ومن - الجائز أن تكون مقاولة الله - تعالى - إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر الملأ الأعلى بما يعم الله والملائكة. انتهى بتصرف يسير.
وإضافة الروح إلى الله - تعالى - في قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} من إضافة المملوك إلى مالكه، وليس المقصود أنه جزء من روح الله تعالى، بل المقصود تشريف الروح التي أفاضها الله على آدم وخلقها له، وقد كفر النصارى في تفسير إضافة روح عيسى إلى الله - تعالى - في كتبهم، بأنه جزء من روح الله، فوصفوه بأنه ابن الله لذلك، ثم تمادوا وتطاودوا فجعلوه هو الله - تعالى - وهم يجادلون المسلمين فيما جاء بالقرآن من نحو قوله - تعالى -:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} (3). وقد ضلوا بذلك سواء السبيل، فإن معنى الآية: فنفخنا فيها مبتدئين النفخ من روحنا وهو جبريل عليه السلام بدليل قوله - تعالى -: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (4)، وهو الذي سماه الله في القرآن الروح الأمين في قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (5).
(1) سورة الإسراء، من الآية:62.
(2)
سورة الإسراء: آية: 65.
(3)
سورة الأنبياء، من الآية:91.
(4)
سورة مريم، من الآية:17.
(5)
سورة الشعراء، الآيتان: 193 - 194.
ثم يقال لهم: لو كان الأمر كما زعمتم في الآية لوجب عليكم اعتقاد أن آدم جزء من روح الله، حيث جاء فيه هنا:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} . ووجب أن لا تقصروا بنوة الله على عيسى وحده، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
واعلم أن كل شيء في هذا الكون مضاف إلى الله، فالسماء سماء الله والأرض أرض الله، وروح الإنسان روح الله، أي: مملوكة له، وداخلة تحت أمره، فمتى يعقل هؤلاء الكافرون؟.
ومعنى هذه الآيات إجمالًا مع ما قبلها: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون في شأن آدم، إذ قال ربك - أيها الرسول - للملائكة: إني خالق بشرًا من طين، فإذا عدلت خلقته وصورته، وأحييته بخلق الروح فيه فخروا له ساجدين تحية وتبجيلًا وامتثالًا لأمر الله - تعالى -.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلَاّ إبليس تعاظم وصار من الكافرين، باستنكاره أمْر الله - تعالى - واستكباره على المطاوعة.
قد يقول قائل: إن الأمر بالسجود لآدم كان موجهًا إلى الملائكة، فكيف يعاقب إبليس على عدم السجود له وهو غير مأمور به؟.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنه كان موجودًا بين الملائكة وليس منهم فإذا كان أشرف منه قد أُمر بالسجود لآدم فإن عليه أن يسجد له مثلهم من باب أولى.
وثانيهما: أن من ينزل على قوم فلابد أن يخضع لتكاليفهم وقوانينهم، وإلَّا فإنه يستحق الطرد؛ لأنه مستوطن غير صالح للاستيطان.
المفردات:
{إمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي: لمن خلقته بنفسي من غير توسط أب ولا أم.
{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} : أتكبرت من غير استحقاق أم كنت ممن علا واستحق التفوق، وللكلام بقية في التفسير.
{رَجِيمٌ} : مطرودٌ من الرحمة.
التفسير
75 -
معلوم أنه - تعالى - لا يشبهه شيء لقوله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فالتعبير باليدين في خلق آدم ليس مرادًا الحقيقة عند أهل التأويل من الخلف، فهو عندهم كما قال الآلوسي: تمثيل لكون آدم عليه السلام معتنى بخلقه، فإن من شأن المعتنى به أن يُعْمل باليدين، والمقصود أنه خلقه بنفسه من غير توسط أب ولا أم، وجعله جسمًا صغيرًا انطوى فيه العالم الأكبر، وكونه أهلًا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره من مزايا الآدمية، وعند بعض آخر من أهل التأويل: أن اليد مجاز عن القدرة، والتثنية للتأكيد على مزيد عناية الله بخلفه، حيث طوى فيه العالم الأكبر. انتهى بتصرف يسير.
وقال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريمًا له، وإن كان خالق كل شيء، وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئًا بيده إلَاّ على سبيل الإعظام والتكريم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأْكيد والصلة أي: لما خلقت أنا (1)، ثم قال القرطبي: وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي بالحمل الثقيل يدان، ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلَاّ بالقدرة بالإجماع، وقال الشاعر:
تحملت مِن عفراء ما ليس لي به
…
ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : لما خلقت بغير واسطة. انتهى كلام القرطبي بتصرف يسير.
ومعنى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} أتكبرت من غير استحاق، أم كنت مستحقًّا للعلو فائقًا فيه؟ وقيل معناه: أحدث لك الاستكبار، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، فالتقابل على الأول باعتبار الاستحقاق وعدمه، وعلى الثاني باعتبار الحدوث والعدم، ولذا قيل: أم كنت دون أم أنت (2).
والمعنى الإجمالي للآية: قال الله - تعالى - لإبليس على لسان ملك: أي شيء منعك من أن تسجد لمن خلقته بنفسي بغير توسط أب وأم، عناية بخلق من طويت فيه العالم الأكبر، أتكبرت من غير استحقاق؟ أم كنت مستحقا للعلو فائفًا فيه؟.
76 -
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} :
هذا جواب الاستفهام الأخير {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (3) يعني أنه من العالمين حقيقة، وليس متصنعًا للعلو، فهو مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار - في نظره - أشرف من الطين وأعلى منه، فكيف يسجد الأعلى للأدنى.
(1) ومثل له بقوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) أي ويبقى ربك.
(2)
انظر الألوسي.
(3)
وهو في نفس الوقت متضمن للجواب على الاستفهام الأول "ما منعك أن تسجد".
78، 77 - {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}:
قال الله لإبليس ردًّا على كبريائه على آدم، وتكبره على تنفيذ أمر خالقه: اخرج من الجنة التي أنت فيها، أو من صورة المتقين التي كنت فيها إلى صورة العصاة الممقوتين، فإنك مطرود من كل خير، فالرجم كناية عن الطرد؛ لأن المطرود يرجم بالحجارة، أو: اخرج منها فإنك شيطان يرجم بالشهب، أو: الرجم كناية عن الذلة، وهذا وجه حسن، ليوافق قوله - تعالى - في سورة الأعراف:{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} : (1) وإن عليك إبعادى عن الرحمة إلى يوم الجزاء والعقوبة حيث تلقى يومئذ عاقبة طردك من رحمتى.
ويرى ابن عباس: أن الجنة التي كان فيها روضة في عدن وليست جنة الخلد، وبهذا الرأي أخذ كثير من العلماء (2). وعلى هذا يكون المراد من إخراجه منها: إخراجه من صورة المتقين إلى صورة المردة العصاة، ويدل على ذلك أنه وسوس لآدم فيها حتى حمله على الأكل من الشجرة، والله أعلم.
المفردات:
{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} : رب فأمهلنى.
{يُبْعَثُونَ} : آدم وذريته.
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} : إلى يوم الوقت الذي عينته لفناءِ الخلق.
(1) سورة الأعراف من الآية: 13.
(2)
حيث قالوا: إنها جنة في الأرض، بدليل أن آدم لما خلق من تراب الأرض لم يرد أنه رفع إلى جنة السماء.
التفسير
79 -
أراد إبليس اللعين أن لا يموت؛ بأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث، فلم يجبه الله إلى ذلك، وأخره إلى الوقت المعلوم لله - تعالى - وحده، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخر إليه تهاونا به، وإمهالًا له. والمعنى: قال إبليس: رب فأخرنى إلى يوم يبعث فيه الخلائق للحساب والجزاء، يريد بذلك الحصول على وعد ببقائه دون أن يلحقه الموت الذي قضى به على سواه، قال الله له: إنك من جملة المؤخرين الذين قضيت أزلا بتأخير موتهم إلى يوم الوقت المعلوم لي وحدى، لحكمة أردتها، وهذا اليوم هو يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها الخلائق.
المفردات:
{فَبِعِزَّتِكَ} : فبسلطانك وقهرك {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} : لأغرينهم بالمعاصى.
التفسير
82، 83 - {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}:
قال إبليس لما سمع وعيده باللعنة إلى يوم الدين: إذا كان عقابي ما ذكر فبسلطانك وقهرك لأُزينن المعاصي لآدم وذريته أجمعين، إلَاّ عبادك منهم الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الغواية، فلن يتأثروا بغوايتي.
84 -
قال الله متوعدًا إبليس: فالأمر الثابت ولا أقول سوى الحق. والله لأملأن جهنم من جنسك وممن تبعك من ذرية آدم أجمعين.
المفردات:
{مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} : من المتصنعين.
{ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} : تذكير ووعظ لهم.
التفسير
86 -
قل أيها الرسول لأمتك: ما أسألكم على تبليغ القرآن والوحى أي أجر حتى تكذبونى من أجله، فلم أطلب الملك، ولا الزعامة، ولا المال حتى تبتعدوا عني، وتناوئونى، وما أنا من المتصنعين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالى فأنتحل النبوة وأتقول القرآن، فما عرفتموه من سيرتى قبل النبوة يشهد لي بالصدق فيما دعوتكم إليه، ما القرآن إلا تذكير ووعظ للعالمين من الإنس والجن، والله لتعلمن نبأه من الصدق بعد حين، حين ينتشر الإسلام ويدخل الناس فيه أفواجًا، وعندما تموتون وحين تبعثون، حيث تندمون ولات ساعة مندم.