المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة فصِّلت مكية، وآياتها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر، وتسمى سورة - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌سورة فصِّلت مكية، وآياتها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر، وتسمى سورة

‌سورة فصِّلت

مكية، وآياتها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر، وتسمى سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة الأَقوات.

مناسبتها لما قبلها: ذكر سبحانه وتعالى في سورة (غافر): {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

} الآية 82 وكان ذلك متضمنًا تهديدًا وتقريعًا لقريش، وذكر - جل شأْنه - هنا في سورة فصلت تهديدًا وتقريعًا لهم، وخصهم بالخطاب في قوله تعالى -: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ

} الآية 13 ثم بين - سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله - تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا

} إلخ الآية.

وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر كذكر قصص بعض الأنبياء، والدعوة إلى التوحيد، وبيان عاقبة المخالفين.

‌مقاصد السورة:

بدئت السورة الكريمة ببعض حروف المعجم كما في بعض سور القرآن الكريم، ولقد أشادت السورة في أكثر من موضع بسمو القرآن: ورفعة شأْنه، وما جاءَ به من تبشير وإِنذار، ثم ذكرت موقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أظهروه من تعنت معه وشدة إعراضهم عنه، واستهزائهم به، ومحاربة دعوته، ومجابهته بالزور والأَباطيل، وموقف الرسول منهم، وثقته بالله، وثباته على دعوتهم إلى التوحيد والاستقامه، ثم تمضى السورة في تذكير المشركين بآيات الله في خلق السموات والأرض، وتنذرهم بما حدث لأَقرب الأُمم إلى منازلهم وهم عاد وثمود، وما نزل بهم من عذاب، وتخوفهم بذكر بعض مشاهد يوم القيامة، يوم تشهد عليهم أعضاؤهم بما اقترفوا من سيئات، وما يكون بينهم وبين هذه الأعضاء من مجادلة ومحاجة، وما يدعو به الأتباع ربهم في هذا اليوم العظيم:

ص: 673

{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (1) ثم تتحدث عن المؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وما أُعد لهم، وتعقد الموازنة بين الخير والشر، وتبين أثر الكلمة الطيبة والأخلاق الحسنة في النفوس:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (2).

ثم تمضى السورة الكريمة تلفت الأَنظار إلى قدرة الله على البعث وإحياء الموتى، وتنذر الملحدين في آيات الله وهم لا يخفون عليه فقد وسع علمه كل شيءٍ، وتبين أن الذين كفروا بالقرآن من غير تدبر لآياته سيكون لهم العذاب الشديد والعقاب الأليم.

والسورة تذكر الرسول بأن ما يقال له من أعدائه قد قيل للرسل من قبله من أعدائهم، فصبروا وصمدوا، وبلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، وتبين أن ربك لذو مغفرة لمن يجيب، داعى الله، وذو عقاب شديد لمن تمرد ولم يلب النداء، ثم يبين الحق جل جلاله أنه لو جعل القرآن أعجمِيا، كما اقترح ذلك بعض المتعنتين والمكابرين، لقالوا معترضين منكرين: هلا نزل بلغة نفهمها ولسان نعرفه؟ ويأمر الرسول بأن يقول ردا عليهم: {هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} .

ثم تذكر السورة صورًا من طبائع الإنسان وأُسلوب سلوكه. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُودُعَاءٍ عَرِيضٍ} وتختم السورة بمثل ما بدئت به من التنويه بالقرآن الكريم، وأن الله سَيُظْهِر بحججه وآياته في الآفاق وفي أنفس الناس - سيظهر - أنه الحق الذي لا ريب فيه. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وتوضح أن ما حدث من الكافرين من إنكارهم للرسالات سببه أنهم في شك من لقاءِ ربهم. {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} .

(1) سورة فصلت، من الآية:29.

(2)

سورة فصلت، الآية:34.

ص: 674

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}

المفردات:

{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} : بُيِّنت ومُيَّزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة.

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} : مقروءًا باللسان العربى.

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : يعلمون ما فيه، لكونه بلسانهم.

{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} : انصرف واستكبر أكثرهم على الإصغاء إليه وهم كفار قريش.

{فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : سماع قبول.

{أَكِنَّةٍ} : أغطية متكاثفة، جمع كِنَان كَغِطاء وزْنًا ومعْنًى.

{وَقْرٌ} : صمم، وأصله: الثقل.

{حِجَابٌ} : ساتر مانع عن الإجابة.

التفسير

1 -

(حم).

قال السلف: في مثل هذه الحروف: الله أعلم بمراده، وقيل: اسم للسورة أو للقرآن، وقيل: حرفان مسرودان من حروف المعجم بُدِئَت بهما السورة كنهج القرآن وطريقته في

ص: 675

افتتاح بعض سوره بذلك، لبثِّ الانتباه، وللتدليل على إعجاز القرآن بأنه مؤلف من كلمات ذات حروف مما تنظمون منه كلامكم، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله، ومحمد مثلكم، وذلك دليل على أنه من عند الله ، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحروف موسعًا في أول سورتي البقرة وآل عمران فارجع إليه إن شئت.

2 -

{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} :

أَي: هذا القرآن الكريم منزل من الله الرحمن الرحيم، وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم من بين أَسمائه - تعالى - الإيذان بأن ما فيه من تشريع وخير للبشرية ومصالح دينية ودنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية.

3 -

{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

أي: القرآن كتاب ميزت آياته، لفظًا بفواصلها ومقاطعها، وأوائل السور وخواتمها، ومُيِّزتْ معنًى بما فيها من وعد ووعيد، وشرائع وعقائد، وقصص وأخلاق وعلوم. ومن أنصف عَلِمَ أنه ليسَ في الكتب كتاب اجتمع فيه من العلوم والمعارف المتنوعة مثل ما في القرآن وقال سفيان: فصلت بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أَولا أعم، ولعل ما ذكره من باب التمثيل لا الحصر وقيل:{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} في التنزيل، أَي: لم ينزل جملة واحدة، وقرىءَ (فَصَلَتْ) بفتح الفاء والصاد مخففة، أَي: فرقت بين الحق والباطل.

وقال ابن زيد: فصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين من خالفه.

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَي: مقرؤًا باللسان العربي، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم.

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَي: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه، ولو كان غير عربي لما علموه.

4 -

{بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} :

{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} صفتان لقوله: {قُرْآنًا} أَي: تارة يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أَن لهم أَجرًا حسنًا، وتارة ينذر الكافرين والمخالفين بما أعد لهم من عذاب أليم وعقاب شديد،

ص: 676

{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} أَي: انصرفوا عن تدبره وقبوله، والإصغاء إليه واتباعه، فلم ينتفعوا به {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} القرآن سماع تدبر وإمعان، وقد جُعلوا لإعراضهم عنه غير سامعين له على سبيل المجاز.

5 -

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} :

وقال الكافرون لرسول الله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أَي: قلوبنا في أغطية متكاثفة لا ينفذ إِليها شيء مما تدعوننا إليه من الإيمان باللهِ وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأَوثان {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أَي: وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تعرضه علينا. {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أَي: ومن بيننا وبينك حجاب منيع وساتر غليظ، يمنعنا من قبول ما جئتنا به، ومن التواصل بيننا وبينك، وهو الخلاف في الدين ، لأنهم يعبدون الأصنام، وهو يعبد الله عز وجل.

و (مِنْ) في قوله - تعالى -: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} للدلالة على أن الحجاب مبتدىء من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق فراغ أَصلا.

قال الآلوسي: وما حكاه الله عنهم في الجمل الثلاث: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ، وطرد أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.

وذكر أبو حيان: أنه لما كان القلب محل المعرفة، والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها شيء مما يدعو إليه الرسول {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أَي: فَاعمل على دينك، أو في إِبطال أَمرنا، إِننا عاملون على ديننا ، أو عاملون في إبطال أَمرك، والكلام على الأَول متاركة وتقنيط عن اتباعه، وعلى الثاني مبارزة بالخلاف والتحدِّى.

ص: 677

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}

المفردات:

{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} : فاسلكوا إليه الطريق المستقيم بالتوحيد.

{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : لا يؤدون الزكاة المفروضة إلى مستحقيها، وقيل: المراد بالزكاة: المعنى اللغوى، أَي: لا يفعلون ما يزكى أنفسهم ويطهرها وهو الإيمان والطاعة.

{غَيْرُ مَمْنُونٍ} : غير مقطوع ولا منقوص.

التفسير

6 -

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} :

أَي: قل - يا محمَّد - لهؤلاءِ المشركين المكذبين: ما أنا إلا بشر مثلكم، لست ملكًا ولا جنيا لا يمكن التلقى منه، والفهم عنه، ومعرفة ما يدعو إليه، ولا أَدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول السليمة، وترفضه النفوس القويمة، وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي جاءت به كل الأديان ، ودعت إليه كل رسالات السماء، ودلت عليه دلائل العقل، فاستقيموا إليه بالتوحيد وإِخلاص العبادة، ولا تتمسكوا بِعُرَى الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} بل اسلكوا في الوصول إليه الطريق القويم، واطلبوا منه المغفرة لما سلف

ص: 678

منكم من القول والعمل، كالشرك بالله عز وجل {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: وعذاب أليم وهلاك شديد للمشركين لشركهم وعدم استقامتهم وتوبتهم.

7 -

{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} :

قال ابن كثير: قال علي بن أَبي طلحة: عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أَن لا إِله إلَاّ الله، وكذا قال عكرمة، وهذا كقوله - تعالى -:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (1) وكقوله - سبحانه -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (2) والمراد بالزكاة هنا: طهارة النفس من الشرك والأخلاق الذميمة.

وقال السدى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَي: لا يؤدون الزكاة المعروفة، وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير، وإن اعترض على هذا الرأى بأَن إيجاب الزكاه كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة - كما ذكره غير واحد - وهذه الآية مكية، فقد أجيب عن ذلك بأَن إطلاق اسم الزكاة على طائفة مُخْرَجَةٍ من المال على وجه مخصوص كان شائعًا ومأمورًا به في ابتداء البعثة، قال - تعالى -:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) فأَما الزكاة المعروفة ذات النصاب والمقادير المخصوصة فإِنما بُيِّن أمرها بالمدينة. اهـ: ابن كثير بتصرف. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} الجملة حال مشعرة بأَن امتناعهم عن الزكاة وبخلهم بها، لإنكارهم للآخرة واستغراقهم في الدنيا، وإنما خُص منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة من بين أوصاف المشركين، لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته، وصدق نيته وصفاء طويته، ألا ترى إلى قوله - تعالى -:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (4).

أي: يثبتون ويدللون على ثباتها على الإيمان بإنفاق الأموال، وفي هذا حث للمسلمين على إخراج الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة.

(1) سورة الشمس، الآيتان:10.

(2)

سورة الأعلى، الآيتان: 14، 15.

(3)

سورة الأنعام - وهي مكية - من الآية: 141.

(4)

سورة البقرة، من الآية:265.

ص: 679

8 -

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} :

لما ذكر ما ينال المشركين بقوله - تعالى -: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلخ. ذكر ما ينال المؤمنين المخلصين ومعناه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاء حسن، وأجر غير مقطوع ولا منقوص، قال ابن عباس:{غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع ، مأْخوذ من: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته، وعنه أيضا وعن مقاتل:{غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير منقوص وهذان الرأَيان متقاربان في المعنى المراد. ولذ اخترناهما في تفسير قوله - تعالى - {غَيْرُ مَمْنُونٍ} .

والآية الكريمة - كما روى عن السدى - نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأَجر - في المرض والهرم - مثل الذي يكتب لهم وهم أَصحاء شبان ولا تنتقص أُجورهم، وذلك من عظم كرم الله ورحمته، نسأَله - سبحانه - أَن يتغمدنا برحمته إِنه نعم المولى ونعم النصير.

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)}

المفردات:

{فِي يَوْمَيْنِ} : من أيام الله، لا من أيامنا.

{أَنْدَادًا} : جمع نِدّ، وهو الكفء والنظير.

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} وجعل فيها جبالا ثوابت.

{وَبَارَكَ فِيهَا} : أكثر خيرها وزاده.

ص: 680

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} : قسم فيها أَرزاق أَهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقيل غير ذلك، وسيأْتى لذلك مزيد بيان في الشرح.

{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} : في أربعة أيام كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة.

التفسير

تمهيد:

بين الله - سبحانه - في الآيات السابقة أَن رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بشرًا كسائر البشر. أُوحى إِليهِ من ربه: أَن إلههم إله واحد، وأَمرهم أَن يستقيموا في عبادته ويستغفروه عما فرط منهم من المعاصي والسيئات، وهدد بالويل والثبور أولئك المشركين الضالين الذين لا يزكون أنفسهم، ولا يطهرونها بالإيمان بشريعة الله، وهم يكفرون بالآخرة وما فيها من جنة ونار وثواب وعقاب، كما بين - جل شأْنه - أَن للمؤمنين الصالحين أَجرًا دائمًا، وثوابًا عظيمًا غير مقطوع، وبعد أَن بين ذلك قال - سبحانه - في تخطئة من كفر به:

9 -

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا

}:

قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن المراد من اليوم في الآية ما تعارف عليه الناس، من أنه من الفجر إلى غروب الشمس ، أو من شروقها إلى غروبها، أو مجموع النهار والليل.

ولكن هذا الذي يتبادر إلى بعض الأَذهان غير صحيح ، فقبل خلق الأَرض لم يكن الليل والنهار موجودين، فإنهما نشآ بعد وجود الأَرض ودورانها حول محورها وحول الشمس، على أَن النهار والليل بنظامهما في أرضنا ليس موجودا في كوكب آخر، فلو أنك ذهبت إلى القمر أو إلى أَي كوكب غيره لوجدت الليل والنهار يختلفان عن نظامهما في أَرضنا هذه.

إذا عرفت هذا فاعلم أَن اليومين اللذين خلق الله فيهما ذات الأَرض وجسمها من أيام الله - تعالى - وأيامه - جل وعلا - تختلف في شئونه، فمرة يكون اليوم ألف سنة، قال - تعالى -: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ

ص: 681

سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1) وكقوله - تعالى -: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (2) ومرة يكون قداره خمسين ألف سنة، كقوله تعالى -:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (3) وقد يكون أكثر من ذلك.

وحيث كان الأَمر كذلك فالأيام التي خلق الله فيها الأَرض والسموات لا نستطيع تقدير اليوم فيها بألف سنة، أو بخمسين ألف سنة، أو بأَكثر من ذلك حسب سنة التطوير التي أرادها الله في تكوينها، وحيث أَمسك القرآن والسنة عن بيان مقدار اليوم في خلقهما، فعلينا أَن نمسك عن الحدس والتخمين فيه.

ولفظ (إنَّ) في (أَئِنَّكُمْ) لتأْكيد الإِنكار، وقدمت عليها همزة الاستفهام الإِنكارى لأَن لها الصدارة، أو الإِشعار بأَن كفرهم المؤكد من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه مع وجود هذه الآيات المقتضية لعميق الإيمان.

والمعنى: قل أَيها الرسول منكرا على المشركين أشد الإِنكار، ومشعرا بأَن كفرهم مع هذه الآيات لا يعقل، قل لهم: لماذا تكفرون بالذي خلق الأَرض في يومين، وتلحدون في ذاته وصفاته، حيث جعلتم له أندادا وشركاء عبدتموهم معه - تعالى - مع أنهم لا شأْن لهم في خلقها؟!

واعلم أَن المراد بالأرض الأرضون السبع، كما جاء في قوله - تعالى -:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (4){ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَي: ذلك العظيم الذي فعل كل ذكر هو رب العالمين، وخالق ما كان وما يكون، إنه هو الذي يَمُدُّ كل مخلوق بأسباب حياته وبقائه، ويمنحه مقومات وجوده بيسر وسهولة:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (5).

(1) سورة السجدة، الآية:5.

(2)

سورة الحج، من الآية:47.

(3)

سورة المعارج، الآية:4.

(4)

سورة الطلاق، من الآية:12.

(5)

سورة يس الآية: 82. وكان ابن عباس يرى أَن الأرضين الست الأخرى فيها مكلفون مثلنا في أرضنا هذه.

ص: 682

10 -

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا

} الآية:

أَي: أنه - جل شأْنه - أَوجد في الأَرض جبالا ثوابت حتى لا تضطرب ولا تميد، ليمشى الناس فيها ويترددوا في أمر معاشهم، ويحصلوا أَرزاقهم، ويعمروا تلك الأَرض تحقيقًا لقوله - تعالى -:{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (1){وَبَارَكَ فِيهَا} أَي: وكَثَّر في الأرض خبرها، فأجرى فيها عذب الماء، فتنبت الزرع والأشجار، قال - تعالى -:{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (2). ويسقى الله منه أَنعامًا وأَناسىَّ كثيرا، وأَوجد فيها - سبحانه - البحار نأْكل منها لحما طريا: السمك بأَنواعه وأَشكاله وطعومه، ونستخرج منها حلية نلبسها ونتزين بها: كاللآلئ والمرجان، ونمخر عبابها بالسفن الجوارى التي تنقل الناس من بلد إلى آخر يبتغون من فضل الله رزقا حلالًا طيبا، فيتبادل الناس المنافع والخيرات {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أَي: قدر - سبحانه - أَن يوجد من الأنواع المختلفة ما يناسب كل إقليم وبلد، وخص أماكن بأنواع من النبات والثمرات والمعادن التي تدخل في الصناعات، وجعل بعضا آخر من تلد النعم في بقاع أُخرى ليكون كلٌّ في حاجة إلى غيره فتعمر الأرض، ويتعارف الناس، ولله در القائل:

الناسُ للناس من بَدْوٍ وحاضرة

بعضٌ لبعض وإن لم يَشْعُرُوا خَدَمٌ

{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قد يخطر على الذهن أنه - تعالى - جعل في الأرض رواسى وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في زمن مقداره أربعة أَيام، وهذا خطأٌ لأَنه يترتب عليه أَن الله خلق الأرض وما عليها في ستة أيام: يومين لخلق ذات الأرض وأَربعة أَيام لخلق ما عليها.

ووجه الخطأ في ذلك أن الله - تعالى - خلق السموات والأَرض وما بينهما في ستة أيام، (3) فوجب تأْويل الآية ليبقى يومان من السِّتَّة لخلق السموات، وذلك بتقدير مضاف، أَي:

(1) سورة هود من الآية: 61.

(2)

سورة النحل من الآية: 11.

(3)

قال - تعالى - في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

} الخ الآية الرابعة.

ص: 683

في تتمة أَربعة أَيام، بأن جعلها في يومين آخرين غير اليومين الأولين، فتم أَربعة أَيام، وأولها الزمخشرى تأْويلا جميلا، فجعل {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} خبرا لمبتدأ مقدر، أَي: كل ذلك من خلق الأَرض وما بعده كائن في أَربعة أَيام.

وجاء قوله - تعالى -: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} بعد ما تقدم ليفيد أَن الأيام الأربعة متساوية وكاملة لا نقص فيها، وأن هذا جواب للسائلين عن الأَيام التي خلقت فيها الأَرض، وجعلت صالحة للمعاش، وقوله:{لِلسَّائِلِين} خبر لمبتدأ تقديره: هذا الحصر في الأَيام الأربعة كائن للسائلين.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}

المفردات:

{ثُمَّ اسْتَوَى} : ثم قصد.

{فَقَضَاهُنَّ} : فخلقهن وأَتقن أَمرهن.

{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} : وخلق في كل منها ما أعد لها.

التفسير

11 -

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} :

ص: 684

أَي: ثم اقتضت حكمته أَن يخلق السماء بعد خلق الأَرض وهو - سبحانه - لا يشغله شأن عن شأن فعمد إلى خلقها وقصد تسويتها ونقلها من الدخان إلى الكثافة. وهذا الدخان هو الذي يعبر عنه العلمانيون بالغاز، وكان الله قد خلقه ليكون أساسا لخلقها.

{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَي: جيئا بعد أَن خلقتكما بما خلقت فيكما من النافع والصالح وأظهراه وأخرجاه لخلقى كى ينتفعوا به.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال الله - تعالى - للسماء: أطلعى شَمْسَك وقمرَك وكواكبك، وأجرى رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقى أنهارك وأخرجى شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين.

{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَي: امتثلنا أمرك طائعين.

وجمهور المفسرين يرى أَن أمر الله صدر للسماء والأرض بعد خلقهما، وفي قوله - تعالى -:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وجهان، أحدهما: أنه قول تكلم به الله سبحانه وتعالى والثانى: أنه تمثيل لتحتم تأْثير قدرته - تعالى - فيهما، واستحالة امتناعهما عن ذلك، لا إثبات الطوع والكره لهما.

وقيل في قوله - تعالى - حكايته عن إجابة الأَرض والسماء: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} إن الله - تعالى - خلق الكلام في الأَرض والسماء فتكلمتا كما أراد الله، وقيل: لم يحدث منهما كلام، وإنما هذا كناية عن الطاعة والإذعان والامتثال وهو الظاهر.

وقال - سبحانه -: {طَائِعِينَ} بجمع المذكر العاقل، ولم يقل: طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى باعتبار أنهما سموات وأرضون؛ لأن الله أخبر عنهما وعمن فيهما من الذكور العقلاء فغلَّب جانبهم، وقيل: لما وصفهن بالقول والإجابة، وذلك من صفات من يعقل أجراهما مجرى العقلاء في التعبير عنهما، ومثله قوله - تعالى - حكايته عن رؤيا يوسف عليه السلام لسجود الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر له {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (1) مع أَن الضمير في {رَأَيْتُهُمْ} ضمير جماعة العقلاء، وقد عاد إلى الشمس والقمر والكواكب وهي غير عاقلة.

(1) سورة يوسف من الآية: 4.

ص: 685

وقيل: معنى الأمر في قوله - تعالى -: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} هو الإيجاد، أو كونا كما أردنا وقدرنا فكانتا، وعلى هذا الرأى يكون الأمر للسموات والأرض قبل خلقهما.

12 -

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} :

أَي: خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في يومين من أَيام الله {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أَي: خلق - سبحانه - في كل منها ما اقتضت حكمته أَن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما يعرفه البشر وما لا يعرفونه، وقال قتادة والسدى: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وخلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها .. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} أَي: جمَّل السماء الأُولى القريبة منا وحسنها بكواكب تضىء وهي النيرات التي خلقها الله زينة لها، وخص كل واحد منها بضوء معين وسر مصون وطبيعة خاصة لا يعرفها ولا يعلمها إلا الله.

{وَحِفْظًا} : أَي وحفظنا السماء حفظا من أَن ينالها تلف أو يصيبها ضعف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَي: ما تقدم من خلق الأَرض وما فيها في الأيام الأربعة، وخلق السماء وما حوت وضمت في يومين هو صنع العظيم القدرة الكامل العلم.

وما أحسن هذه الخاتمة وهذا التذييل لتلك الآيات فهذه الأعمال العظيمة لا تحصل ولا تتم إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.

وللآثار التي ظاهرها التعارض اختلف في أَمر التقدم والتأخر في خلق كل من السموات وما فيها والأرض وما فيها - أيهما أسبق خلقا - فذهب بعض العلماء إلى تقدم خلق السموات وما فيها على خلق الأَرض وما فيها مستدلين بظاهر قوله - تعالى -: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (1) أَي: دحا الأَرض بعد أَن سمك السماء ورفعها وسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. وذهب فريق آخر:

(1) سورة النازعات الآيات: من 27 إلى 33.

ص: 686

إلى أَن الأَرض وما فيها خلقت قبل السماء وما فيها مستدلا بهذه الآيات التي نحن بصددها وبقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (1):

والظاهر - والله أعلم - أَن الله - جلت قدرته - خاق ذات الأَرض أولًا قبل خلق السماء، ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم أوجد الأشياء التي على الأَرض من جبال وغيرها، إذ لا يتصور حدوث العمران والحياة بصورها وأشكالها قبل خلق السموات وهذا واضح من قوله - تعالى -:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} إلخ، وهذا هو الجواب الذي أجاب به ابن عباس، فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد ابن جبير قال: "جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فقال: رأيت أَشياء تختلف علي في القرآن، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، فقال: الله - تعالى - يقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} حتى بلغ {طَائِعِينَ} فبدأ بخلق الأَرض في هذه الآية قبل خلق السماء، ثم قال - سبحانه - في الآية الأُخرى:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فبدأ - جل شأْنه - بخلق السماء قبل خلق الأَرض، فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أما خلق الأَرض في يومين، فإن الأَرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا، فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأَرض، وأما قوله - تعالى -:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فيقول: جعل فيها جبالا وجعل فيها أنهارا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا، قال الخفاجى تعليقًا على ذلك: يعنى أَن قوله - تعالى -: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه، فيكون تأَخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأَخر ذاتها، بل بمعنى تأَخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه لينتفع به أهلها .. اهـ: بتصرف يسير.

والواقع أَن السموات والأرض كانتا دخانا "وهو ما يعبر عنه العلم الحديث بالغاز" وأن الله - تعالى - خلق الأَرض والسماء من هذا الدخان بالكيفية الحكيمة التي أتقنها تدبيره وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (2).

(1) سورة البقرة من الآية: 29.

(2)

سورة الأنبياء من الآية: 30.

ص: 687

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}

المفردات:

{أَعْرَضُوا} : ولَّوا وانصرفوا.

{صَاعِقَةِ} : كتلة نارية محرقة.

التفسير

13 -

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (1):

أَي: فإن تولوا وانصرفوا عن الإيمان بوحدانية الله، وبما جئت به بعد ما تلوت وقرأت عليهم من الأَدلة والحجج الناطقة بوحدانية الله وقدرته، - إن أَعرضوا بعد ذلك - فحذرهم وخوفهم صاعقة تصعقهم وتهلكهم كصاعقة عاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وخص هؤُلاء بالذكر لأن قريشا كانت تعلم أحوالهم، وتعرف بلادهم في اليمن والحِجْر، مصداق ذلك قوله - تعالى -:{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} (2).

14 -

{إذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} :

أَي: أخذتهم الصاعقة والعذاب الشديد وقت مجىء الرسل لهم وتكذيبم إياهم، والرسل عليهم السلام لم يأْلوا جهدا ويقصروا في هدايتهم وإِرشادهم، بل بذلوا غاية الوسع

(1) أي: أنذرتكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوع المنذر به.

(2)

سورة العنكبوت من الآية: 38.

ص: 688

وأتوهم {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أَي: من كل جانب واتخذوا فيهم كل حيلة ليثنوهم عن غيهم وضلالهم، ويدلوهم على الصراط المستقيم، ويدعوهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أَي يفردوه بالعبادة والطاعة، ولا يشركوا به أحدا، ومع ذلك لم ير الرسل منهم إلا العتو والإعراض.

وعن الحسن: أَنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأُمم وعذاب الآخرة؛ لأَنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي، وما جرى فيه على الكفار، ومن جهه المستقبل وما سيجرى فيه عليهم.

{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} أَي: قال الكفار: لو أَراد ربنا إرسال الرسل لأَنزل ملائكه تدعونا إلى عبادته، لذا {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أَي: فإذا كنتم بشرا مثلنا ولستم ملائكة فإنا لا نؤمن بكم ولا بما جئتم يه، ونسى هؤُلاء الكفار أَن الله لو أنزل ملائكة لجعلهم على صورة البشر حتى يأْلفهم الناس، إذ لا يطيقون رؤية الملائكة في صورهم الحقيقية، وحينئذ يلتبس الأمر عليهم، قال - تعالى -:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (1).

وقولهم {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ) ليس إقرارا ولا اعترافًا منهم بإرسال الرسل وإنما هو من قبيل السخرية والتهكم، نظيره ما قاله فرعون في شأْن موسى عليه السلام:{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (2).

أَخرج البيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمَّد فلولا التمستم رجلًا عالما بالسحر والكهانة والشعر فَكَلَّمهُ ثم أَتانا ببيان عن أمره؟ قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علمًا، ولا يخفى عليّ إن كان كذلك. فأتاه فقال له يا محمد: أَأَنت خير أَم هاشم؟ أَأَنت خير أَم عبد المطلب؟ فلم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيم تشتم آلهتنا

(1) سورة الأنعام الآية: 9.

(2)

سورة الشعراء الآية: 27.

ص: 689

وتضلل آبائنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا أَلويتنَا لك، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغنى به أنت وعقبك من بعدك، وإِن كان بك الباءة (1) زوجناك عشر نسوة تختارهُنَّ من أَي بنات قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال صلى الله عليه وسلم بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فقرأ حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عقبة على فيه صلى الله عليه وسلم فأنشده الرحم أَن يكف عنه، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، ما أرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذلك إلا من حاجة أَصابته، انتقلوا بنا إليه، فأَتوه فقال أبو جهل: ما حسبنا إلا أَنك صبوت إلى محمَّد وأَعجبك أَمره، فإن كنت في حاجة جمعنا لك ما يغنيك عن محمد، فغضب وأَقسم بالله - تعالى - لا يكلم محمدا أَبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالًا، ولكنى أتيتيه وقص عليهم القصة: فأصابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة قرأ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حتى {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف، وقد علمتم أَن محمدا إذا قال شيئًا لم يكذب فخفت أَن ينزل بكم العذاب.

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}

(1) الرغبة في النكاح والتزوج.

ص: 690

المفردات:

{فَاسْتَكْبَرُوا} : فتعظموا وتعالوا.

{يَجْحَدُونَ} : ينكرون مع علمهم أَنه الحق: {رِيحًا صَرْصَرًا} : شديدة الحرارة من الصَّر - بفتح الصاد - بمعنى الحر، وقيل غير ذلك: وسيأْتى مزيد بيان في التفسير.

{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} : في أَيام مشئومات عليهم؛ لأَنهم عذبوا فيها.

التفسير

15 -

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .... } الآية:

شروع في تفصيل ما أَعده الله - تعالى - لكل واحدة من الطائفتين من النكال والعذاب بعد أَن أجمله - سبحانه - في قوله تعالى: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وبدأ الله - جل شأنه - بقصة عاد لأَنهم أَقدم زمانا، أَي: فأَما عاد فتعالوا على من سواهم وتعظموا في الأَرض التي لا ينبغي لأحد أَن يتعظم فيها، "فكلكم لآدم وآدم من تراب" كما أَن نعم الدنيا لا تدوم ولا تثبت على حال {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) بالإضافة إلى أَن ما لدى الناس من صحة ومال وقوة إنما هو منحة الله وعطاوُه يؤْتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فتعظُّمهم واستكبارُهم حقيق أَن يقول الله عنه:{بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقيل: تعظموا عن امتثال أَمر الله - جل شأْنه - وعن قبول ماجاءتهم به الرسل ولم يقفوا عند هذا الحد، بل دفعهم غرورهم بقوتهم وزَهْوهم بها إلى ما يوحى وينبىء بتماديهم في صلفهم {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} استنكروا بقولهم هذا، ورأوا أَن ما هم عليه من شدة جدير أَن يجعلهم يتعظمون على من سواهم.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} :

أَي: أَغفل هؤلاء ولم يعلموا أَن الله الذي خلقهم وبرأَهم من العدم هو - سبحانه - أَشد منهم قوة، إذ ليس لديهم قدرة ذاتية من أَنفسهم، وأما ما لديهم من قدرة فإِنما هو بإقدار الله لهم يمنحهم إياها أَو يمنعهم، فالله أَقدر منهم ومن كل من عداهم، وانتهى

(1) سورة آل عمران من الآية: 140.

ص: 691

الأَمر بهؤلاء أَنهم أَنكروا دلائل قدرة الله ومعجزاته في كونه، والتي أَظهرها - سبحانه - على أَيدي رسله.

16 -

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} :

أَي: سلطنا عليهم ريحا شديدة الحرارة، من الصَّر - بفتح الصاد - بمعنى الحر، وقال ابن عباس وغيره: باردة تهلك بشدة بزدها، من الصِّرِّ - بكسرها - وهو البرد الذي يَصِرُّ أَي: يجمع ظاهر الجلد ويقبضه، وقال السدى وغيره: مُصَوِّتةً، من صر يصِر إذا صوَّت.

وروى أنها كانت تحمل العير بأَثْقالها وأحمالها فترميهم بالبحر.

{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} وهي التي جاء ذكرها وبيانها في قوله - تعالى -: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} (1) أَي: في أَيام مشئومات لأنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصه، فيقال له: يوم سعد بالنسبة لمن تناله النعماء. ويقال له: يوم نحس بالنظر لمن تصيبه الضراء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما الأيام كلها لله - تعالى - خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ليجرعهم فيها غصص هذا العذاب الذي يصيبهم بالخزى والذل والندم والهلاك، فيجمع الله عليهم عذاب البدن مع آلام النفس وتحسرها وندمها، ولات ساعة مندم {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} أَي: وللعذاب الذي ينالونه ويحيق بهم في الآخرة أشد خِزْيا وذلًّا، إذ يكون على رءوس الأَشهاد، مع كونه شديد الإيلام.

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}

(1) سورة الحاقة الآيتان: 6، 7.

ص: 692

المفردات:

{فَهَدَيْنَاهُمْ} : فدللناهم وبينا لهم طريق الضلالة والرشد.

{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} : فآثروا ومالوا إلي الضلال وتركوا الطريق المستقيم.

{صَاعِقَةُ} : نار تنزل من السحاب في رعد شديد ولا تصيب شيئًا إِلا أَحرقته.

{الْهُونِ} : الهوان المخزى المذل المهين.

التفسير

بعد أَن فصل عذاب عاد قوم هود أتى ببيان عذاب بعض الذين شاركوهم في العصيان وتكذيب الرسل، وهم ثمود قوم صالح فقال:

17 -

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ

} الآية:

أَي: وأَما ثمود فقد أوضحنا لهم على لسان رسولهم طريق الرشاد ودعوناهم إليه، وأَظهرنا لهم الآيات الكونية، وأَزلنا عن طريقهم كل ما يمنعهم من التبصر والإدراك، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَي: فآثروا واختاروا الضلالة على الهداية بمحض إرادتهم دون إكراه منه - سبحانه - على فعل ما يفعلون، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فأَخذتهم واستأْصلتهم داهية العذاب الذي يضيف إلى إيلامه الخزى والذل والمهانة لهم، وقد عاقبهم الله بهذا العذاب جزاء ما اقترفوه من عقر الناقة التي أُمروا بتركها تأْكل في أَرض الله ونهوا عن أَن يمسوها بسوءٍ، فضلا عما اكتسبوه من قبيح الذنب وفاحش الاعتقاد.

18 -

{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :

أَي: أنقذنا الذين آمنوا بربهم وبما جاء به رسولهم صالح عليه السلام، واتقوا الله فأطاعوه، وابتعدوا عن المعاصي فلم يقترفوها، نَجَّاهم وميزهم عن الكفار، فلم يُنِزل بهم ما أَنزله بهؤلاء الذين أَجرموا من عذاب وعقاب، بل جعلهم ربهم في نجوة ومكانة رفيعة لا ينالهم فيها هوان.

ص: 693

وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد له بأَن الله سيفعل بمؤمنى قومه وكافريهم ما فعله بهؤلاء، فينجى مؤمنيهم ويهلك كافريهم إن ظلوا على كفرهم.

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}

المفردات:

{يُوزَعُونَ} : يحبس أَولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وقيل: يساقون ويدفعون إلى جهنم.

التفسير

19 -

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ

} الآية:

هذا شروع في بيان عقوبة عاد وثمود في الدار الآخرة بعد أَن بين - سبحانه - عقوبتهم في الدنيا، أَي: واذكر يا - محمَّد - يوم يجمع الله من القبور أَعداءَه الذين جحدوا به، وأشركوا معه سواه، وكذبوا رسله، وآذوهم واضطهدوا من آمن بهم، ونالوهم بأَلوان العذاب، اذكر لقومك أيها الرسول - يوم يجمع الله أعداءَه هؤلاء للجزاء.

{فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَي: يحبس ويمنع أَولهم عن السير والمشى، فيبقى في مكانه لا يغادره حتى يأْتي آخرهم، فيجتمعوا في صعيد واحد، ليدخلوا جهنم مجتمعين، أو معناه: أنه - سبحانه - يسوقهم ويدفعهم إلى النار في إذلال وإهانة لهم بعد حسابهم.

ص: 694

والقائمون بذلك هم الملائكة بأمر الله كما يظهر من قوله - تعالى -: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (1).

20 -

{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أَي: حتى إذا ما قربوا منها في ساحة الحساب وسئلوا عن آثامهم وذنوبهم فأنكروا حصول ذلك منهم، عندئذ تشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بالذي كانوا يعملونه ويحدثونه من الجرائم والآثام في الدنيا، والمراد من الجلود هنا هو ظاهر البشرة ، ولفظ (مَا) في قوله - تعالى -:{إِذَا مَا جَاءُوهَا} لتوكيد مجيئهم (2) وأنه لا بد أَن تحصل تلك بشهادة من الأَسماع والأبصار والجلود عليهم.

21 -

{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا .... } الآية:

وسأَلوا جلودهم سؤال إنكار وتقريع وتوبيخ: ما حملكم على أَن تشهدوا علينا؟ وعنكم كنا نناضل {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

أَي قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ لا ينطق ولا يتكلم - أنطقنا - لنشهد عليكم بالحق، فهو قادر على ذلك، فقد خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفه، وإليه ترجعون، فهذه الشهادة حق الله.

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فَضحِك، فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحكُ؟ "فقلنا -: اللهُ ورسولُه أَعلمُ، قال: من مخاطبة العبد ربَّهُ، يقول: ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقولُ: بلى، قال فيقولُ: فإنى لا أُجيزُ على نفْسِى إلا شاهدًا مِنِّى، قال يقولُ: كفى بنفسِك اليومَ شهيدا، وبالكرامِ الكاتبِين شُهودا، قال: فيختْم على فِيهِ فَيُقال لأَركانه: انطِقى، فتنطق بأَعمالِه، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بُعْدًا لكُنَّ وسُحْقًا؛ فَعنْكُنَّ كُنتُ أُناضِل".

(1) سورة الصافات الآيتان: 22 ، 23.

(2)

فليست بنافية.

ص: 695

واختلف في كيفية الشهادة من الجوارح والجلود على ثلاثة أَقوال، أحدها: أَن الله يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه.

الثاني: أَن الله - تعالى - يخلق في تلك الأَعضاء الأَصوات والحروف الدالة على تلك المعانى كما خلق الكلام في الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام.

الثالث: أن يظهر الله - تعالى - في الأَعضاء أَحوالا تدل على صدور تلك الأَعمال من ذلك الإِنسان، وتلك الأَمارات تسمى شهودا.

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}

المفردات:

{تَسْتَتِرُونَ} : تستخفون.

{أَرْدَاكُمْ} : أَهلككم.

{مَثْوًى} : إِقامة دائمة.

{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} : وإِن يسأَلوا الرضا من الله - تعالى -، أو: وإن يعتذروا.

{فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} : فما هم من المجابين إلى ما يسأَلون.

ص: 696

التفسير

22 -

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} :

أَي: ما كان استتارهم واستخفاؤهم عندما كانوا يقارفون الموبقات والأَعمال القبيحة خوفا من أَن يشهد عليهم سمعهم وأَبصارهم وجلودهم، وذلك لأَنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، ولكن كان هذا التستر والاختفاءُ لأجل أَنهم كانوا يظنون أَن الله لا يعلم كثيرا من الأَعمال التي يقدمون عليها في خفية واستتار.

وعن ابن مسعود - رضى الله عنه - قال: كنت مستترا بأَستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عليَّ: ثقفيان وقرشى، فقال أَحدهم: أَترون الله يسمع ما تقولون، فقال الرجلان: إِذا سمعنا أَصواتنا سمع وإِلَّا لم يسمع، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أَخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

23 -

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

هذا نص صريح في أَن من ظن بالله - تعالى - أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه - سبحانه - فإنه يكون من الهالكين الخاسرين {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (1).

قيل: والظن - قسمان: ظن حسن باللهِ - تعالى - وظن فاسد، وأَما الظن الحسن فهو أَن يظن به - سبحانه - الرحمة والفضل، قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل:

"أَنا عندَ ظنِّ عبدى بِي" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسنُ الظنَّ بالله" والظن الفاسد: هو أَن يظن بِاللهِ أَنه يَعْزُبُ ويغيب عن علمه بعض هذه الأَحوال، وقال قتادة: الظن نوعان: ظنٌّ مُنْجٍ، وظن مُرْدٍ. فالمنجى قوله:

(1) سورة الزمر من الآية: 15.

ص: 697

{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (1)، وأما الظن المردى فهو قوله - تعالى -:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} .

24 -

{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ

} الآية:

أَي: فإن يمسكوا عن الاستغاثة فرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك، وتكون النار لهم محل ثواء وإقامة دائمة لا انفكاك لهم منها، فلا يجدى صبرهم.

{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وإن يطلبوا الرضا من الله فما هم من المجابين إليه.

وقال الضحاك: المراد وإن يعتذروا فما هم من المعذورين.

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}

المفردات:

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أَي: وأَتَحْنَاهم لهم، وجئناهم بهم، يقال: قيض الله له رزقا، أَي: جاءه به وأَتاحه له كما كان يطلب، والقرناء: الأَصحاب، مِنْ قرن الشيءَ بالشيء: وصله به وأَصحبه إياه، وهو من بابيْ: نصر، وضرب.

{فَزَيَّنُوا لَهُمْ} : فحسنوا لهم.

{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : من أُمور الدنيا.

{وَمَا خَلْفَهُمْ} : من أُمور الآخرة، حيث حسنوا لهم التكذيب بها.

{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} : وجب عليهم الوعيد بالعذاب.

{خَلَتْ} : مضت.

(1) سورة الحاقة الآية: 20.

ص: 698

التفسير

25 -

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} :

بعد أَن بينت الآيات السابقة سوء مصير الكافرين في الآخرة، جاءَت هذه الآية لتبين السبب فيما وصلوا إليه.

والله - تعالى - جعل للناس في الدنيا قرناء من الجن والإنس يصحبونهم في حياتهم، وهؤُلاء القرناءُ قد يكونون مؤمنين صالحين فيحضونهم على الخير، وقد يكونون غير ذلك فيحملونهم على الشر.

وقد رزق الله الإنسان عقلا يميز به بين الخبيث والطيب، وأَعانه على هذا التمييز بشرع أَنزله إليه على لسان نبى من الأنبياء، فمن واجبه أَن يستعمل عقله في حاضره ومستقبله، وأن يميز بين الخبيث والطيب، والنافع والضار، فإِذا زيَّن له قرينه الخير قبله، وإذا زين له قرينه الشر رفضه.

ومن الناس من فسدت طباعهم لسوء تربيتهم، فاختاروا قرناءَهم من الإنس على منهجهم من السوء والشر، فزينوا لهم الباطل والشر، وترك الحق والخير، فأَطاعوهم فكانوا من الخاسرين.

وقد جاءَت هذه الآية الكريمة للتوعية من القرناء والأَصحاب، فلا يقبلون منهم سوى الدعاء إلى الخير، ويرفضون منهم غيره حتى لا يكونوا من الخاسرين، في جملة من حقت عليهم كلمة العذاب، وهي قوله - تعالى - لإِبليس:{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (1).

والمعنى الإجمالي للآية: وأَتحنا للكافرين وأَصحبناهم بقرناءِ السوء من الجن والإِنس لسوء نشأَتهم، فزينوا لهم ما بين أيديهم من الحياة الدنيا، وما فيها من حلال وحرام

(1) سورة ص، من الآية: 84، والآية:85.

ص: 699

وزينوا لم ما خلفهم من إهمال شئون الآخرة، حيث دعوهم إلى التكذيب بها - كما قال مجاهد - ووجب عليهم الوعيد بعذاب الكافرين، في جملة أمم كافرة قد مضت من قبلهم، إنهم كانوا خاسرين، حيث اشتروا العذاب الدائم، وباعوا النعيم المقيم.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}

المفردات:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : مشركو مكة.

{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} : لا تأْخذوا بهذا القرآن، وافعلوا الباطل فيه، مِنْ لَغَا: قال باطلا، وبابه: عَدَا وصَدِيَ - أَي: عَطِش. (يَجْحَدُونَ) يكفرون وينكرون.

التفسير

26 -

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} :

بعد أَن تحدثت الآية السابقة عن مصير مَن زين له قرينه الدنيا وترك الآخرة، جاءَت هذه الآية وما بعدها للحديث عن حال مشركى مكة ومآلهم، وقد أَشارت الآية إلى أَن القرآن كان عدوهم اللدود، لأَنه شديد التأْثير على النفوس؛ فلهذا تواصوا

ص: 700

باللغو فيه ليحولوا بينه وبين أَسماع الناس، خشية أَن يحملهم على الإيمان بما فيه من الآيات البينات، والعظات المؤَثرات، والأُسلوب الفريد.

والمعنى: وقال الذين كفروا من أَهل مكة: لا تسمعوا لهذا القرآن وافعلوا الباطل فيه من الصفير والتصفيق والتخليط في المنطق حتى يصير لغوا، ولا يستفيد به أَحد، وقال الضحاك: أَكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول: اهـ.

{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} محمدا على قراءته، فلا يظهر ما يقوله، ولا يستميل القلوب.

قال ابن عباس: قال أَبو جهل: إِذا قرأَ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدرى ما يقول: اهـ. كذلك كانوا يفعلون، ولكن الله أَتم دينه ومكَّن لنبيه، وبدل المؤْمنين من بعد خوفهم أَمنا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1).

27 -

{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)} :

وعيد لأولئك الكافرين اللاغين في القرآن ومن حملوهم على اللغو.

والمعنى: فوالله لنذيقن الذين كفروا وَلَغوْا في القرآن وحرضوا عليه عذابا شديدا في الدنيا بنصرك عليهم، ولنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي أَسوأَ الأَعمال.

أَما الأعمال الحسنة: من إغاثة الملهوف وصله الرحم وقِرَى الأَضياف ونحوها، فلا يجزون عليها في الآخرة، لأَنهم أَحبطوها بالكفر، لقوله - تعالى -:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (2).

28 -

{ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} :

أَي: ما ذكر من الجزاء الأُخروى السيء، جزاءٌ أَعده الله لأَعدائه، هو النار لهم فيها دار الخلد، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون، جزاءً بما كانوا بآياتنا يكفرون.

(1) سورة يوسف، من الآية:21.

(2)

سورة الفرقان، من الآية:23.

ص: 701

29 -

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} :

وقال الكافرون وهم في النار: يا ربنا أَرنا الَّلذين أَضلانا وحملانا على الكفر والمعاصي من جنسى الجن والإنس، ندسهما بأَقدامنا انتقاما منهما، ليكونا من الأسفلين ذُلًّا ومهانة، وفي الدرك الأسفل من النار مكانا ومُقَامًا.

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}

المفردات:

{قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} : أقروا بربوبيته وحده.

{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} : عملوا الصالحات.

{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} : عند الموت، وقيل غير ذلك، وسيأتى بيانه.

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَي: نحن الذين توليناكم فيها.

{وَفِي الْآخِرَةِ} : ونحن الذين نواليكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة.

{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} : ولكم فيها ما تطلبون - مأْخوذ من الدعاء بمعنى الطلب.

ص: 702

التفسير

30 -

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} :

هذه الآية شروع في بيان حسن أَحوال المؤْمنين في الدنيا والآخرة، بعد بيان سوء أحوال الكافرين فيهما.

والمعنى: إن الذين اعترفوا بربوبية الله رحمه فقالوا: ربنا الله ليس لنا إله سواه، ثم استقاموا على هذا الاعتراف، فلم يروغوا رَوغَان الثعالب، وأَتبعوا هذا الاعتراف بالعمل الصالح، فلازموا الطاعات، وتجنبوا السيئات، حتى لا تزل أقدامهم عن طريق مربوبيتهم وعبوديتهم لربهم - إن هؤلاء الصالحين - تتنزل عليهم الملائكة وهم لا يرونهم، يلهمونهم الخير، وينفرونهم من الشر: ويمدونهم فيما يعن لهم من أُمور الدنيا والآخرة بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، في مقابل ما يفعله قرناء السوء مع الكفرة من إغوائهم ودفعهم للمعاصى.

وهؤلاء الملائكة يصحبونهم في حياتهم وعند مماتهم وبعثهم، قائلين لهم: لا تخافوا من مكروه يقع بكم، ولا تحزنوا على شيء فاتكم، أَو لا تخافوا ردَّ حسناتكم فهي مقبولة، ولا تحزنوا على ذنوبكم فهي مغفورة.

والمقصود إخبارهم بأَن الله كتب لهم الأمن من كل غم بسبب صلاحهم ، ولا يقتصرون على ذلك، بل يقولون لهم: أَبشروا بالجنة التي كنتم توعدونها على ألسنة المرسلين ولعل هذه البشارة عند الموت أو البعث من القبور، ولا مانع من أَن يكون إلهاما في الحياة الدنيا، وفقا لقوله - تعالى -:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (1).

روى الإِمام أَحمد بسنده، عن سفيان بن عبد الله الثقفى قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأَمر أَعتصم به، قال:"قل ربي الله ثم استقِمْ" قلت يا رسول الله: ما أَكْثَر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال: "هذا" أَي: عليك لسانَك.

(1) سورة طه، الآية:112.

ص: 703

31 -

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} :

هذه الآية من تتمة بشارتهم في الدنيا، يقولون لهم: نحن أَعوانكم في أموركم في الحياة الدنيا، نلهمكم الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، وأولياؤكم في الآخرة نمدكم بالشفاعة، ونتلقاكم بالكرامة، يقولون لهم ذلك في مقابل ما بين الكفرة وقرنائهم، من الإغواء في الدنيا والجدل والخصام في الآخرة - وقد مر بيانه - ويقولون لهم أيضًا: لكم في الآخرة ما تشتهى أَنفسكم من أنواع المتع والملذات ولكم ما تطلبون وتتمنون من الأُمور الروحانية وسواها.

وقيل المراد بما تدعون: ما تقولون إنه لكم فهو لكم بحكم ربكم.

32 -

{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} :

المشهور أَن النُّزُلَ ما يُهَيَّأُ للنزيل - أَي: الضيف - ليأْكله حين نزوله، والمعنى: أَن هذا النعيم جعله الله ثوابا لهم من غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بعباده حيث يعطى الجزيل في مقابل العمل القليل.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُوحَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}

ص: 704

المفردات:

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} : في الجزاء، و (لَا): الثانية تأْكيد للأُولى.

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : ادفع السيئة بالخصلة التي هي أَحسن في دفعها.

{وَلِيٌّ حَمِيمٌ} : صديق مشفق.

{وَمَا يُلَقَّاهَا} : وما يتخلق بها.

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} : وإمَّا يأْتينك منه وسوسة بالشر.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : فلا تطعه معتمدا على الله.

التفسير

33 -

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :

ولا يوجد أحسن قولًا ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته، وعمل عملا صالحًا وقال: إننى من المسلمين، ليكون قوله مطابقًا لفعله، حتى يكون قدوة لغيره، وقد نهانا الله - تعالى - عن المخالفة بين القول والعمل فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1).

وكان زيد بن علي رضي الله عنهما يفسر الدعاء إلى الله باللسان وباليد. فكان يدعو إلى الإِسلام ويجاهد، قال الآلوسي: ولعل هذا - والله تعالى أَعلم - هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أُمية، وكان زيد هذا عالمًا بكتاب الله - تعالى - وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه، وهو في حبس هشام بن عبد الملك ، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر، ويقال: إنه كان إذا تناظر مع أَخيه محمد الباقر، اجتمع الناس بالمحابر، يكتبون ما يصدر عنهما من العلم - رحمهما الله تعالى، ورضى عنهما -: اهـ.

(1) سورة الصف، الآيتان:3.

ص: 705

34 -

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} :

استئناف لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأَعمال الجارية بين العبد وربه عز وجل.

وفي الآية ترغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أَذية المشركين، ومقابلة إساءَتهم بالإحسان.

ومعنى الآية: ولا تستوى الخصلة الحسنة والخصلة السيئة في الآثار والأَحكام، فإذا أَساءَ إليك مسىء فلا تقابله بمثل ما صنع، بل قابله بما هو خير وأفضل من سواه من أَساليب المعروف، فالفحش تقابله بالحلم والصبر، أَو تقول له: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإِن كنت كاذبًا غفر الله لك، والغلظة تقابلها بالمداراة، والإيذاء تقابله بالإحسان، إلى غير ذلك من المتقابلات، فإن فعلت ذلك صار عدوك المُشاقُّ مثل الصديق المشفق، بل قد تزول العداوة وتحل محلها الصداقة، وفي ذلك يقول الشاعر:

إن العداوة تستحيل مودَّة

بتدارك الهفوات بالحسنات

والآية - على ما قيل - نزلت في أَبي سفيان بن حرب، كان عدوًّا مبينًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليا مصافيا - ذكره الآلوسي - وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عفا عنه، وقال:"من دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمن".

ومن الناس من لا تصلح معه الملاينة إذ يحسبها ضعفًا ويتمادى في سيئاته، فمثل هذا تستعمل معه المخاشنة بعد فشل استعمال الملاينة، وذلك في حدود الضوابط الشرعية.

35 -

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} :

وما يُؤتى خَصْلةَ دفع السيئة بالحسنة إلا الذين شأْنهم الصبر والحلم، وما يؤتاها إلا ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس - كما روى عن ابن عباس - أو ذو حظ عظيم من الثواب - كما قال قتادة -.

36 -

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

ص: 706

النزغُ: النخس بطرف قضيب أو نحوه بقوة، استعير لوسوسة الشيطان الباعثة على الشر، ولفظ "ما" في "إِما" صلة للتأكيد، والأصل: وإِن ينزغنك فزيدت (ما) وأُدغمت في النون.

والمعنى: وإمَّا يصرفنك الشيطان عن دفع السيئة بالحسنة، حاملًا لك على مقابلة السيئة بمثلها أو بأكثر منها، فاستعذ بالله من شره ولا تطعه، إنه - تعالى - سميع لاستعاذتك، عليم بحسن نيتك فيعصمك ويعينك على صبرك.

وقيل إن المعنى: سميع لقول من آذاك، عليم بفعله، فينتقم منه مغنيا إياك عن هذا الانتقام.

{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

المفردات:

{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} : المراد بهم الملائكة.

{بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} المقصود بهما: الدوام، فإن الملائكة ليس عندهم ليل ونهار.

{لَا يَسْأَمُونَ} : لا يملُّون.

{خَاشِعَةً} : يابسة متطامنة، مستعار من الخشوع، بمعنى التذلل، وقال القرطبى: الأَرض الخاشعة الغبراء التي تنبت.

ص: 707

{اهْتَزَّتْ} : تحركت بالنبات.

{وَرَبَتْ} : انتفخت.

التفسير

37 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} :

ومن دلائل وجود الله - تعالى - وقدرته، ووحدانيته وحكمته، وكمال صفاته، أنك ترى الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وتعاقبهما بانتظام من غير فتور، وتداخل بعضهما في بعض، فيزيد النهار وينقص الليل، أو يزيد الليل وينقص النهار، ويترتب على ذلك وجود الفصول الأربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، ومعرفة عدد السنين والحساب.

ومن دلائله - تعالى - الشمس بنورها وأشعتها الساخنة الساطعة، والقمر بضوئه وأَشعته الخافتة وتنقلهما في مداراتهما ومنازلهما بانتظام، فينشأُ عن تنقل الشمس فيها الفصول الأَربعة وحساباتها الفلكية، وينشأُ عن تنقل القمر فيها زيادة ضوئه ونقصانه، ومعرفة مبدأ شهره ونهايته، كما أَن لكليهما أثرا بالغًا في نمو الزرع وحياة الحيوان، ومعرفة أَوقات العبادات والمعاملات.

ولما كانت الشمس والقمر أَظهر الكواكب بالنسبة لأَهل الأَرض، وكان بعض الناس يسجدون لهما تقرُّبا إلى الله بعبادتهما، أو إيمانًا بأُلوهيتهما - لما كان الأمر كذلك - نهى الله عباده عن السجود لهما، لأَن الله - تعالى - خالقهما، وهما من دلائل وجوده وكمال صفاته، فقال - سبحانه -:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

فالله لا يحتاج إلى وسيط في عبادته، وهذا الوسيط يبعدهم عن الله ولا يقربهم منه، وينسيهم الله، فينسبون له النفع والضر، والخير والشر، فمن كان يعبد الله فلا يشرك معه أحدًا في عبادته، فهو أَقرب إليه من حبل الوريد، ولا يغفر أَن يشرك به.

ص: 708

ويلاحظ أَن في المجرات ملايين الشموس والأَقمار وسائر الكواكب، وفيها أَكبر من شمسنا وقمرنا وأَرضنا، ولكن الله خاطب عباده بما تقع علية عيونهم وبما يعبدونه.

والضمير في "خلقهن" يرجع إلى الليل والنهار والشمس والقمر، وتأْنيث الضمير الراجع عليها مع أَن غالبها مذكر، باعتبار أَنها آيات، ولأَن كل جمع يصح تأْنيث ضميره، قال الناظم:

لا أُبالى بجمعهم

كل جمع مؤنث

وهذه الآية موضع سجدة بلا خلاف، واختلفوا في موضع السجود منها، فقال مالك: موضعه {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لأَنه متصل بالأَمر، وقال ابن وهب والشافعى: موضعه {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} في الآية التالية ، لأَنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال، وبه قال أَبو حنيفة.

واختلف النقل عن الصحابة على هذا النحو، قال ابن العربى: والأَمر قريب: انتهى بتصرف يسير من القرطبي.

38 -

{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} :

فإن تَعَاظَمَ الكفار عن أَن يسجدوا لله وحده، فلا تعبأْ بهم، فإن الملائكة الذين هم في حضرة القدس الإلهى يسبحون له دائمًا، وهم لا يملون التسبيح.

39 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

الخطاب هنا لكل عاقل.

ومعنى الآية: ومن دلائل قدرة الله - تعالى - على إحياء الموتى أَنك ترى الأَرض هامدة يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزل الله الماء عليها تحركت بالنبات حين يبدو من بذوره، وارتفعت به بعد خروجه حيث يزداد طولا وعرضًا، ويصير أَشجارا وزروعا تسر الناظرين، وتطعم الآكلين، وتفكه المتفكهين، بعد أَن كانت ميتة هامدة، إِن الذي أَحياها على هذا النحو العجيب لمحيى الموتى، وباعث من في القبور؛ كما أَحياها بعد أَن كانت ميتة، إنه على كل شيء قدير، فآمنوا بالبعث والنشور للإنسان، فما ترونه في النبات والأَشجار بعث ونشور لهما.

ص: 709

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ وَذُوعِقَابٍ أَلِيمٍ (43)}

المفردات:

{يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} : يميلون عن الحق فيها، والإلحاد: الميل والعدول، والمراد بالآيات هنا القرآن.

{كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} : كفروا بالقرآن، فإن فيه ذكر ما يحتاج إليه من الأَحكام، ويطلق الذكر على الشرف أيضًا، والقرآن شرف للعرب ، حيث جاءَت المعجزة المحمدية من لغتهم، وحيث بدأَ به عموم الرسالة من بينهم.

{كِتَابٌ عَزِيزٌ} : ليس له نظير، أو: منيع لا تتأنى معارضته، وأصل العز: حالة مانعة للإنسان عن أَن يُغلب، أو غالب للكتب حيث نسخ ما قبله، وقال ابن عباس: كريم على الله تعالى.

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} : المراد: أنه لا يأْتيه الباطل من جميع جهاته.

{حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الحكيم: من يضع الشيء في موضعه، والحميد: المحمود، وخبر إن الذين كفروا هو جملة {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} أَي: لا يأْتيه الباطل منهم - أَي: من الذين كفروا. قاله أَبو حيان، أَو هو مقدر، وتقديره خاسرون، والخبر يحذف إذا دل عليه المقام، وقدره

ص: 710

عمرو بن عبيد بقوله: كفروا به، بعد قوله لما جاءَهم، أَي: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءَهم كفروا به في حال أنه كتاب عزيز

إلخ.

التفسير

40 -

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

إن الذين يميلون عن الحق في شأْن آياتنا، فيكذبون القرآن، ويصفرون ويصفقون عند قراءة النبي صلى الله عليه وسلم له، ويصفونه بالكذب وبالسحر وبالشعر وبأَساطير الأولين إِن هؤُلاء الملحدين - لا يخفون علينا، فنحن نعلمهم ونعم إلحادهم، وسوف نجازيهم بالنار على هذا الإلحاد.

{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّار} جزاء له على إلحاده خَيْرٌ {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا} منها يوم القيامة، جزاء له على إيمانه، ولا يقتصر أَمرهم على ذلك، بل يدخلون الجنة خالدين فيها أبدا.

ثم هدد الله الملحدين فقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخفون عليه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1).

41، 42 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}:

إن الذين كفروا بالقرآن حين جاءَهم من غير مُهلة يفكرون فيها في أَمره - إن هؤلاء - كفروا به وإِنه لكتاب عزيز منيع لا تتأَتى معارضته، ولا يأْتية الباطل من جميع جهاته لغة، وعقيدة، وتشريعًا، وقصصًا، وانسجامًا، وترتيلا، فهو في هذه قمة لا ترام ولا تنال، منزَّل من إله {حَكِيمٍ} يأتي بالمعجزات التي لا يمكن معارضتها تأييدًا لرسله، ويضع الشيء في موضعه {حَمِيدٍ} محمود على ما أسدى من مختلف أنواع النعم، التي منها تنزيل هذا الكتاب - محمود على ذلك - بلسان القال أو بلسان الحال، من كل مخلوق نالته نعمه - سبحانه -، وإذا كان القرآن بهذه المثابة، فكيف يكفر به الكافرون ويجحده الجاحدون؟

43 -

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ وَذُوعِقَابٍ أَلِيمٍ} : (2)

(1) سورة الشعراء، من الآية:227.

(2)

{إن ربك لذو مغفرة} تعليل لما فهم من السياق من الأَمر بالصبر، وقيل: هي مقول القول الثاني، مقصود لفظها لتكون نائب فاعل لقيل.

ص: 711

في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية كفار مكة، من طعنهم في القرآن ووصفه صلى الله عليه وسلم بالسحر، والشعر، والكذب، والجنون.

والمعنى: ما يقال لك - أَيها الرسول - من الكفار، إلا مثل ما قيل للرسل قبلك من أَقوامهم كما قال - تعالى -:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (1).

فاصبر على مقالاتهم كما صبر الرسل من قبلك على مقالات قومهم، فلا عليك من تكذيبهم، {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأوليائه، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم، فينصر أولياءَه وينتقم من أَعدائهم.

ويصح أَن يكون المعنى: إن ربك لذو مغفرة لمن آمن من قومك، وذو عقاب أليم لمن بقى منهم على كفره.

ويصح أَن يكون المعنى: ما يقال لك من الله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، وهو:

{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} فتلك المقاله لله لمواساتك ومواساة المرسلين قبلك، فاصبر كما صبروا فسينصرك الله كما نصرهم، ويعاقب أعداءَك كما عاقب أَعداءَهم.

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}

(1) سورة الذاريات، الآية:52.

ص: 712

المفردات:

{أَعْجَمِيًّا} : بلغة العجم.

{لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} : هلَاّ بينت بلسان نفقهه.

{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} : أَيصح أَن يأْتينا كتاب أَعجمى والمخاطب به عربي؟ والعرب يقولون عمن يخالف لغتهم: أعجمى (1).

{فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} : صمم فلا يسمعونه.

{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} : فلا يبصرون هداه.

{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} : هؤلاء كأَنما ينادون من مكان بعيد فلا يسمعون لبعده، فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب.

{لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} : لفى شك يقتضي الاضطراب والقلق.

التفسير

44 -

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ

} الآية:

لما ذكر الله - تعالى - القرآن وبلاغته وفصاحته، وأنه لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ومع هذا لم يؤمن به المشركون - لمَّا ذكر ذلك - نبه بهذه الآية على أَن كفرهم به كفر عناد.

ومعنى الآية: ولو جعلنا القرآن بلغة غير لغة العرب، فنزلناه على بعض الأَعجمين بلغته، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، ولقالوا: لولا بينت آياته بلغتنا حتى نفهمه أيصح أَن يكون قرآننا أو رسولنا أعجميا، والمرسل إليه عربى؟ فلهذا أَنزله الله بلغتهم العربية ليفهموه ويعقلوه ويتدبروا آياته.

وعقب ذلك ببيان أَن الناس بالنسبة للقرآن قسمان: مؤمنون يهتدون به، وكافرون

(1) وقال القرطبى: والعجمى الذي ليس من العرب - فصيحًا كان أو غير فصيح - والأعجمى: الذي لا يفصح أو من المعجم.

ص: 713

يعرضون عنه، وذلك في قوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} :

ومعناه: قل - أيها الرسول - لهؤلاه المعاندين: القرآن للذين آمنوا به هدى وشفاء من الشك والعلل، لصفاء قلوبهم، ونقاء عقولهم، وبعد نظرهم، وهو للذين كفروا بعيد عن قلوبهم، فهم لذلك لا يسمعونه، كأنهم صم لا يسمعونه، فلهذا تواصوا بعدم سماعه واللغو فيه، كما قال - تعالى - في هذه السورة:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .

وهم بعيدون عن النظر فيه ، كأَنهم عمى لا يبصرون، كأَن من يدعوهم إلى الحق يناديهم من مكان بعيد، لا يصل منه صوته إليهم، لصممهم المصنوع، ولا يرونه لتعاميهم عن رؤيته.

45 -

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} :

في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن حزنه لاختلاف قريش على القرآن ما بين مكذب ومصدق له.

والمعنى: وبالله لقد آتينا موسي كتاب التوراة، فاختلف فيه قومه ما بين مكذب، ومصدق، فلا تحزن على اختلاف قومك على القرآن، فتلك عادة قديمة في الأمم، ولولا كلمة سبقت من ربك في حق أُمتك، وهي العدة بتأْخير عذاب المكذبين منهم إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة - لولا ذلك - لاستأْصلهم بالعذاب كما استأَصل المكذبين قبلهم وإن كفار قومك لفي شك من القرآن موقع في القلق والاضطراب.

46 -

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} :

من عمل صالحًا بالإيمان بالكتب السماوية والعمل بموجبها فلنفسه نفعه لا لغيره، ومن أَساءَ بالكفر والعصيان فعلى نفسه ضره لا على غيره، وما ربك بظلام للعبيد، فلا يعذب أَحدًا بغير ذنب.

ص: 714