المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة الروم ‌ ‌مكية وآياتها ستون ‌ ‌مقاصد السورة: اشتملت سورة الروم - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة الروم ‌ ‌مكية وآياتها ستون ‌ ‌مقاصد السورة: اشتملت سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة الروم

‌مكية وآياتها ستون

‌مقاصد السورة:

اشتملت سورة الروم على الوعد بانتصار الروم على الفرس خلال بضع سنين من هزيمة الفرس إياهم - وقد تحقق وعد الله فإنه لا يخلف الميعاد - وبينت أن عاقبة المسيئين الهلاك والدمار، وأن الآخرة آتية لا شك فيها، وأن المؤمنين سوف يكونون فيها في روضة يُحبرون وأن المشركين لا يحميهم شركاؤهم من عذابها الأليم.

وتحدثت عن بعض آياته - تعالى - كخلق الناس من تراب، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليسكنوا إليها، وخلق السموات والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، مع أنهم ينتمون إلى أصل واحد، ومنامهم بالليل والنهار وابتغائهم من فضله، ثم دعت الناس إلى التدين بهذا الدين الحق الذي يتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ونهتهم عن أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وعابت على الناس إشراكهم بربهم إذا مستهم رحمة، مع أنهم يلجأون إليه - تعالى - إذا مسهم - الضر.

ودعت إلى إيتاء ذي الفربى حقه والمسكين وابن السبيل، ونهت عن الربا وبينت أنه لا يربو عند الله، وإنما تربو عنده الزكاة.

ثم ذكرت أن ظهور الفساد في البر والبحر إنما يكون بما كسبت أيدي الناس، وأعادت الدعوة إلى الدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ثم بينت أن الله هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، فيستبشرون بعد قنوطهم ويأسهم، وأنه بهذا المطر يحيي الأرض بعد موتها، ومن يفعل ذلك فهو قادر على إحياء الموتى،، ثم شبهت المشركين في عدم سماعهم دعوة الرسول بالموتى وبالصُّم إذا تولوا مدبرين، ثم بينت أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن المجرمين سوف يقسمون أنهم ما لبثوا في

ص: 22

الرسول وإنكار ما جاء به بعد عجزهم عن محاكاته أو معارضته، وقوله - تعالى -:

{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} : تأكيد لاستحقاقهم الإقامة في جهنم، والخلود في عذابها، أي: لقد استوجبوا الثَّوَاء في جهنم خالدين في عذابها بمجاوزتهم الحد في الكذب على الله، وتكذيب رسول الحق والصدق، فهي فسيحة الأرجاء، ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترأوا هذه الجرأة؟ وقد نزلوا منزلة العالمين بذلك لغاية وضوحه.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

المفردات:

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} : غالبوا أنفسهم وشيطانهم وأعداءهم لأجلنا.

{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} : لَنُيَسَّرَنَّ لهم طرق الوصول إلينا.

التفسير

69 -

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} :

هذه الآية تختم سورة العنكبوت فتربط آخرها بأولها، فقد ذكرت الآيات في أولها أن المؤمنين لا يستحقون جميل الجزاء لمجرد قولهم: آمنا، دون أن يتعرضوا للفتن، ويمتحنوا بالشدائد والمحن، فيجاهدوا في الله أنفسهم، ويبذلوا منها ومن أموالهم وأهليهم، ثم تجيء هذه الآية في ختامها تطمئن المؤمنين على فضل جهادهم، وثواب بلائهم في نصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ليتجلى في كتاب الله العزيز الإعجازُ المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والمعنى: والذين غالبوا وجالدوا من أجلنا، وفي سبيل نشر ديننا، وتصديق رسولنا محسنين في كل ما يفعلون ويتركون، لنهدينهم السبل الموصلة إلى مرضاتنا، ولنسهلن لهم طرق الوصول الي جنتنا، وإن الله لمع المحسنين بالنصر والعزة في الدنيا، وبالنعيم المقيم في الجنة.

ص: 23

التفسير

1 -

5 {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :

كان العالم يسيطر على معظمه أُمَّتَانِ كبيرتان - الفرس والروم - وكانت الحرب تدرر بينهما من وقت لآخر في سبيل السيطرة على الأمم الضعيفة، واستنزاف خيراتها، واستعباد أهلها.

وبعد أن شرف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرسالة غزت الفرس الروم في أدنى أرضهم إلى العرب - وهي بصرى وأَذرعات - وقال ابن عباس والسدي: الأردن وفلسطين. وقيل غير ذلك، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فقد غزوهم في جميع مستعمراتهم، في آسيا حتى ألجأوهم إلى القسطنطينية، وحاصروهم فيها مدة طويلة.

ولما بلغ الخبر أهل مكة المشركين، فرحوا وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس وثنيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم، فنزلت الآية، فقال لهم أبو بكر: لا يَقِرَّن الله عينكم،، فوالله لتظهرن الروم على فارس في بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: اجعل بيننا أجلًا أُنَاحِبُكَ - أي: أُراهنك - عليه، فناحبه على عشر قلائص (1) من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى بينه وبين أبي بن خلف، فقال صلى الله عليه وسلم البضع "ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر (2) ومادَّه في الأجل (3) فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أُبَيًّ بن خلف من جرح جرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحُد، وظهر الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تصدق به".

(1) جمع قلوص، وهي: الناقة الشابة.

(2)

قيمة الرهان.

(3)

طاوله في موعد الرهان.

ص: 24

دنياهم غير ساعة، فلا ينفعهم هذا الاعتذار، فقد لبثوا في كتاب الله إلى يوم البعث، ثم ختمت بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}

المفردات:

{الم} : تقدم الكلام على مثلها أول سورة البقرة والسور التي بعدها، فارجع إليه إن شئت.

{الرُّومُ} : قوم من الفِرِنج يستوطنون الجنوب الشرقي من أوربا، ويقول المؤرخون: أنهم عرفوا باسم جدٍّ لهم، اسمه: روم، أو: رومي، من ذرية يافث بن نوح عليه السلام.

{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} : في قرب أرضهم من العرب، أو من الفرس.

{مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} : من بعد كونهم مغلوبين.

{فِي بِضْعِ سِنِينَ} : البِضْعُ، من الثلاث إلى التسع.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ} : وهو الغالب.

ص: 25

ومن العلماء من فسر نصر الله الذي يفرح به المؤمنون بغير ما تقدم، فقد فسره بعضهم بصدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، ومنهم من فسره بتولية بعض الظالمين بعضًا وتفريق كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا، وأضعف كل منهم شوكة الآخر، تمهيدا لغلبة الإسلام، وهذه آراء جيدة، وإن كان الرأي الذي ذكرناه في المعنى هو المناسب لقوله - تعالى - {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} ولهذا رجحه المفسرون.

6 -

{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

هذه الآية مؤكدة للوعد السابق بنصر الروم في بضع سنين وفرح المؤمنين بهذا النصر. والمعنى: وعد الله بنصر الروم على الفرس وعدًا لا خلف فيه، فإن الله لا يخلف وعده، لاستحالة الكذب عليه - تعالى - ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه - سبحانه - وعدهم بذلك لعدم تصديقهم القرآن فيما أخبر به عن الله - تعالى - أو لا يعلمون قدرة الله على تحقيقه لفساد رأيهم.

7 -

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} :

هذه الآية مؤكدة لما جاء في الآية السابقة من أن أكثرهم جاهلون لا علم عندهم.

والمعنى: أن معرفتهم بالحياة الدنيا لا تتجاوز ظاهرها، حيث يعلمون منافعها ومضارها العاجلة، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يجمعون وكيف يبنون، وكيف يندمون عاجلًا بزخارفها، ويلتذون بملاذها، ويتمتعون بمشتهياتها، فهم لا يشعرون أنها مزرعة الآخرة، ووسيلة إلى نيل الرغائب الجليلة فيها، فهم:{يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} .

ص: 26

وفي نصرهم على فارس أخبار طويلة لا مجال هنا لذكرها ومناقشتها وتحقيق الحق فيها، وحسب القارئ ما ذكرنا، ومن شاء المزيد فليرجع إلى المطولات.

واستدلت الحنفية بما حدث بين أبي بكر وأبي بن خلف على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار.

والآية ما دلائل النبوة؛ فإن الهزيمة التي ألحقتها فارس بالروم ألجأتهم إلى عقر دارهم، وأفقدتهم جميع الأقاليم التي كانت لهم في آسيا، وجعلتهم من الضعف بحيث لا يظن أحد أن تقوم لهم قائمة بعد هذه الهزيمة النكراء، فإذا نزل القرآن مبشرا بنصرهم ومحددا موعد هذا النصر بأنه في بضع سنين، وتحقق هذا النصر في موعده، فإنه دليل على أنه من عند الله، وليس من عند محمَّد كما زعم أعداءُ الإسلام، فإنه لا يقدم على مثل هذا الوعد الخطير إلَاّ من هو مؤيد من العليم الخبير.

والمعنى الإجمالي لهذه الآيات: الم. غلبت فارس الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب، أو إلى بلاد الفرس، أو إلى بلاد الروم الأصلية، حيث وصلت هزيمتهم إلى مشارف القسطنطينية وحوصروا فيها مدة طويلة، والروم من بعد ما غلبهم الفرس سيغلبون الفرس خلال بضع سنين، لله الأمر من قبل كونهم مغلوبين للفرس، حيث سلط الفرس عليهم فهزموهم وغلبوهم، ولله الأمر من بعد ما غلبهم الفرس، حيث أمدهم بأسباب نصره، فأصبحوا ظاهرين على الفرس فغلبوهم واستردوا الأرض منهم، فالنصر والهزيمة لكلتيهما بأمر الله وحكمته حسب قانونه الذي أجراه بين عباده:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ويومئذ تغلب الرومُ فارسَ يفرح المؤمنون بنصر الله، حيث نصر من له كتاب على من يعبدون غيره، وملأ بالأسى والحزن قلوب كفار مكة الذين كانوا من قبل شامتين، ينصر الله بفضله من يشاء نصره من عباده، على عدوه، وهو العزيز الغالب فلا يعجزه نصر من يشاء على عدوه مهما كان أمره لحكمة يراها في نصره، الرحيم باللطف بالمغلوب، وتهيئته لقبول القضاء، أو بإصلاح حاله واستعادة مكانه.

ص: 27

التفسير

8 -

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} :

بعد أن سجلت الآية السابقة عليهم قصور علمهم بالحياة الدنيا، حيث لم يتجاوزوا ظاهرها، جاءت هذه الآية لتوبخهم على عدم تفكُّرهم بعمق في مصير هذه الدنيا.

والمعنى: أَغَفَلَ هؤلا الكافرون ولم يتفكررا في أعماق أنفسهم، حتى يعلموا أن الله - تعالى - لم يخلق السموات والأرض وما بينهما إلا للحق من الثواب والعقاب للمكلفين فيها على حسب أعمالهم، أو إلَاّ بالعدل، فلا يستوى عنده دمشق ومبطل، ولا محسن ومسىء، وخلقهما وما بينهما لأجل مسمى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وإن كثيرا من الناس بلقاء جزاء ربهم في الآخرة لجاحدون؛ لأنهم لا يدركون من الحياة الدنيا إلا ظاهرها، ولا يتعمقون في التفكر فيها، فلذلك حسبوا أن الدنيا نهاية كل حي، وأن الله لا يبعث من في القبور.

9 -

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

الهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} إما أن تكون لتقرير عدم سيرهم وتوبيخهم على ذلك - إن كانوا من القاعدين الذين لم يسيروا في الأرض ويعتبروا بالهالكين - فيكون التقدير: أقعدوا ولم يسيروا في الأرض فينظروا، وكان عليهم أن يسيروا بين آثار الهالكين ليتعظوا، وإما أن تكون لنفى قعودهم وتوبيخهم على عدم انتفاعهم بسيرهم بين آثارهم - إن كانوا ممن ساروا في خرائبهم - وكأنه قيل: أقَعَدُوا ولم يسيروا في خرائب الكافرين فينظروا ويعتبروا؟ كلَّا، بل ساروا ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا.

والمعنى الإجمالي للآية: أقَعَدَ هؤلاء الكفار ولم يسيروا في أرض الهالكين السابقين ويشاهدوا كيف كانت عاقبة أولئك المشركين المنكرين للبعث قبلهم، كانوا أقدر منهم على

ص: 28

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}

المفردات:

{فِي أَنْفُسِهِمْ} : ظرف للتفكر، وليس بمفعول تعدى إليه، فإنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم، بل أمروا أن يستعملوا التفكر النفسي في خلق السموات والأرض وما بينهما ليعلموا أنها لم تخلق إلَّا بالحق، وفائدة ذكر {فِي أَنْفُسِهِمْ} مع أن التفكر لا يكون إلَاّ فيها؛ لتحقيق أمره، وزيادة تصوير حال التفكر المؤدى إلى الصواب، وهو التفكر العميق لا التفكر الظاهري.

{إِلَّا بِالْحَقّ} قال الفراءُ: معناه: إلَاّ للحق، أو إلَاّ بالعدل.

{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} : ووقت سماه الله ينتهيان عنده، وهو يوم القيامة.

{بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} : بلقاء جزائه يوم القيامة.

{السُّوأَى} : تأنيث الأسوأ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمراد بالسوأى: النار.

ص: 29

والمعنى: الله - سبحانه - شأنه أنه يبدأ الخلق وينشئه من العدم - كما تعلمون أيها الكافرون - ثم يعيده بعد فنائه، ثم إلا حسابه وجزائه ترجعون وتبعثون، فلماذا تكفرون وتنكرون؟ أليس من قدر على الإبداع والاختراع فهو قادر على الإعادة بعد الفناء؟

12 -

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} :

اختلف المفسرون في تفسير معنى الإبلاس، فمنهم من فسره باليأس، كابن عباس، وهو المراد من حديث:"أنا مبشرهم إذا أُبلسوا" أي: ذا يئسوا، ومنهم من فسره بالسكوت وانقطاع الحجة، ومنهم من فسره بالحزن الناجم عن شدة اليأس، والحق أنها معان متقاربة وليس بينها تناف.

والمعنى: ويوم يقوم الناس لرب العالمين في الساعة التي حددها للقيامة - يومئذ - ييأس المجرمون من النجاة ويتحيرون، وقد انقطعت حجتهم وصمتت ألسنتهم، ولفّهم الحزن من كل جانب.

13 -

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} :

ولم يكن لهؤلاء المجرمين من آلهتهم التي عبدوها شفعاء ينقذونهم من سوء مصيرهم، كما كانوا يزعمون في دنياهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وكانوا بشركائهم يومئذ كافرين.

والتعبير عمَّا سوف يحدث يوم القيامة - وهو مستقبل - بصيغة المضارع التي دخلت عليه (لم) في قوله: {ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} فحولته إلى المضى، وبصيغة الماضي في قوله:{وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} للإيذان بأنه واقع ولابد، فكأنه وقع فعلا وأُخْبر عنه.

ص: 30

التمتع بالحياة الدنيا، حيث كانوا أشد منهم قوة وقلبوا الأرض ظهرًا لبطن في الزراعة والبحث عن المعادن ونحوها وعمروها بفنون العمارات أو أقاموا بها أكثر مما عمرها مشركو مكة، وجاءتهم رسلهم بالمعجزات البينات التي تستوجب إيمانهم فكذبوهم، فما كان الله ليهلكهم بغير ذنب كما يفعل الظالمون، ولكنهم كانوا ظالمين لأنفسهم بفعلهم ما يقتضي إهلاكهم دون أن يكون لله أو لرسله دخل في ظلمهم.

10 -

{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} :

ثم كان عاقبة الذين عملوا السيئات وظلموا بها أنفسهم - كان عاقبتهم - العقوبةُ السوأى في الدنيا بالإهلاك وفي الآخرة بالنار؛ لأنهم داوموا على تكذيبهم بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون ولم تنجهم قوتهم، ولم تنفعهم عمارتهم.

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}

المفردات:

{يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} : يتحير الكافررن وتنقطع حجتهم، يقال: أبلس الرجل، إذا سكت وانقطعت حجته.

{وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} أي: تبرءُوا من آلهتهم التي عبدوها.

التفسير

11 -

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

بين الله في الآية السابقة أن نهاية الكافرين المسيئين لأنفسهم أن يعاقبوا العقوبة السيئة في الدنيا والآخرة، وجاء بهذه الآية لتقرير ذلك.

ص: 31

وأما الذين كفروا باللهِ ورسله، وكذبوا بآياتنا الكونية والتنزيلية، وكذبوا بالبعث والجزاء في الآخرة فأولئك في عذاب جهنم مجبورون على الحضور والإقامة فيه.

قال الآلوسي: والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين، أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر، وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلا على المؤمنين المجتنبين للمفسقات - على ما قيل - وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل من الصالحات شيئًا أصلًا، وحكمهم معلوم من آيات أخرى - انتهى بتصرف يسير.

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}

المفردات:

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ} : فتنزيها له عما لا يليق به.

{عَشِيًّا} : العشي؛ آخر النهار.

{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} : وحين تدخلون في وقت الظهر.

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : كالإنسان من التراب.

{وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} : كالسقط الميت من أُمٍّ على قيد الحياة.

{وَيُحْيِ الْأَرْضَ} : بالنبات.

{بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد يَبَسِهَا.

{وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} : أي؛ تبعثون من قبوركم.

ص: 32

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}

المفردات:

{فِي رَوْضَةٍ} : الروضة، الأرض ذات النبات والأزهار والماء، والمراد بها هنا الجنة.

{يُحْبَرُونَ} : يُسَرُّون، يقال: حَبَره يحبُره - بضم الباء - حبْرًا، وحُبرة، وحبورًا: إذا سره سرورًا يتهلل له وجهه.

{مُحْضَرُونَ} : مجبرون على الحضور.

التفسير

14 -

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} :

ويوم يقوم الناس لرب العالمين في الساعة التي عينها لبعثهم - يومئذ - يتفرق الخلق إلى مؤمنين وكافرين، ثم فصل - سبحانه - مصيرهم بعد تفرقهم فقال:

15 -

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} :

فأَما الذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات التي أمرهم بها، فهم في جنة عظيمة يسرون غاية السرور، بما ينعمون به فيها من النعيم المقيم والخير العميم، الذي أخبر الله عنه بقوله:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وأخبر عنه الرسول بقوله: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

16 -

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} :

ص: 33

وذِكْرُ قوله - تعالى - {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : بين أوقات التسبيح، للإيذان باستحقاقه - تعالى - الحمد من أهل السموات والأرض على نعمه بالإضافة إلى تسبيحه، قال العلامة أبو السعود: قدمت {وَعَشِيًّا} على {حِينَ تُظْهِرُونَ} مراعاة للفواصل، وقال الآلوسي: وتخصيص الأَوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار، كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح.

والمعنى: فَصَلَاةً، أو فتنزيهًا لله عما لا يليق به حين تدخلون في الظلام بعد النور، وحين تدخلون في الصباح والنور بعد الظلام، وله الحمد استحقاقًا وأداءً في السموات والأرض على توالي نعمه على من فيهما، وتنزيهًا له آخر النهار وحين تدخلون في الظهر.

أخرج أبو داود وغيره عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك ما فاته في ليلته، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في يومه).

19 -

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} :

درج المفسرون على تفسير هذه الآية ومثلها بنحو قولهم: يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي، ويخرج الدجاجة الحية من البيضة الميتة، ويخرج البيضة الميتة من الدجاجة الحية، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، والواقع أن النطفة ليست ميتة وكذلك البيضة، فالنطفة مليئة بالحيوانات المنوية التي لا تحصى، فإذا التقت نطفة الرجل ببويضة المرأَة في القناة الفالوبية التي توصل الرحم بمبيض المرأة، لقحتها بأقوى حيواناتها المنوية ونشأ عن هذا التلقيح الخلية الأولى للجنين، وكذا الأمر بين نطفة الديك وبيضة الدجاجة، وقد شرحنا ذلك علميًّا في تفسير قوله - تعالى -:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ .. } (1).

(1) الآية رقم (5) من سورة الحج.

ص: 34

التفسير

17، 18 - {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}:

بين الله - سبحانه - في الآيتين السابقتين حال ومآل فريقي المؤمنين الصالحين والكافرين المكذبين من الثواب والعقاب، وجاء بهذه الآية ليرشد عباده إلى ما ينجى من الثاني ويُفضي إلى الأول، من تنزيهه - تعالى - عما لا يليق بجنابه، وحمده والثناء عليه بما هو أهله من الصفات الجليلة، وقد اقترنت بالفاء من قوله:{فَسُبْحَانَ} للإيذان بترتيب ما بعدها على ما قبلها في المعنى، فكأنَّهُ قيل: إذا عرفتم حال الفريقين ومآلهما فسبحوا الله حين تمسون

إلخ، وسبحان: مصدر، ناب عن فعل الأمر، وهو محذوف وجوبًا إن كان منصوبًا بتقديره، لأنه ناب عنه فلا يجتمعان.

والمقصود من التسبيح هنا: الصلاة عند ابن عباس، فقد قال: الصلوات الخمس في القرآن. قيل له: أين؟ فقال: قال الله - تعالى -: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر {وَعَشِيًّا} العصر (1){وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر وبهذا قال الضحاك وابن جبير، والأكثرون على أن الصلاة فرضت بمكة، وهذا يوافق كون السورة كلها مكية على الصحيح.

وإطلاق التسبيح على الصلاة إما لوجوده في ركوعها وسجودها، وإما لأنها مشعرة بتنزيهه - تعالى - عن الشريك (2).

ومن العلماء من حمل التسبيح في الآية على التسبيح في الصلاة لا على الصلاة نفسها، قال علي بن سليمان: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات.

(1) ويقول صاحب مختار الصحاح نقلا عن الأزهرى: العشي: ما بين زوال الشمس وغروبها، وصلاة العشي هي الظهر والعصر، ونقول: إن شمول العشي للظهر إذا لم يذكر معه الظهر، فإن ذكر معه اختص بآخر النهار - كما هنا.

(2)

وإما لأنه مأخوذ من السبحة، والسبحة: الصلاة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"تكون له سبحة يوم القيامة".

ص: 35

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}

المفردات:

{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : من جنسكم.

{أَزْوَاجًا} : زوجات.

{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} : واختلاف لغاتكم مع أن الأصل واحد.

{مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : نومكم فيهما.

ص: 36

ولولا وجود الحياة في كل ذلك لما وجدت الأجنَّةُ في البطون ولا الفراخ في البيض وقد عُرفت كل هذه الحقائق بالمناظير المكبرة وبالتجارب، فمن لا حياة في نطفته أو في بويضة امرأته فهو عقيم، وهي عاقر، وكذا الأمر في الدجاج.

ولعل هذا التفسير المأثور عن السلف ناشيء إما عن قصور علم الأجنة عند الناس وقئئذ أو أنه على سبيل المجاز فإن هذه النطفة بالنسبة إلى الإنسان، والبيضة بالنسبة إلى الدجاجة تعتبر كالشيء الميت، فإن الفرق بينهما بعيد المدى، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ولعل التفسير الواضح القائم على الحقيقة أن يقال: يخرج الحي من الميت كالإنسان من التراب ويخرج الميت من الحي كالسقط الميت من المرأة الحية.

ومن العلماء من فسرها تفسيرًا مجازيًا بطريقة أخرى، فقال: يخرج العالم من للجاهل، ويخرج الجاهل من العالم، ويخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالمراد من الحياة والموت في الآية العلم والجهل، أو الإيمان والكفر على سبيل المجاز.

وقد شرحنا مثل هذه الآية في سورة آل عمران باستيفاء فارجع إليها إن شئت.

والمعنى الإجمالي للآية: يُخرج الله بقدرته الحي من الميت كالإنسان والحيوان من التراب مباشرة أو عن طريق الأغذية، ويخرج الميت من الحي كالسقط الميت من المرأة، والبيضة العقيم من الدجاجة، ويحيي الأرض (1) بالماء والنبات بعد يبسها وفقدان منفعتها، مثل ذلك الإخراج البديع تُخرَجُون من قبوركم للحساب والجزاء، فكيف تنكرون البعث وأنتم ترون آياته في الإحياء والإماتة، أليس في كل خَلَف بعثٌ لسلفه الميت؟.

(1) والإحياء والموت في الأرض مجازى.

ص: 37

ولكن المحققين حملوه على التمثيل لا على الحقيقة، فالمعنى المراد: أنهن في اعوجاج طباعن يشبهن الضلع الأعوج ولهذا عقبه بقوله: "وإن أَعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا" فهذا يشير إلى اعوجاج طباعهن، وأن أكثر الاعوجاج في رءوسهن حيث توجد ألسنتهن، فإن حاولت أن تجعل امرأتك مستقيمة الطباع بعيدة عن خطأ اللسان فشلت، وانتهت محاولتك في إصلاحها إلى كسرها، وهو كناية عن إصابتها بَدَنيا أو نفسيا، أو عن طلاقها، كمن يحاول إصلاح الضلع الأعوج فإنه يفشل، وتنتهي محاولته إلى كسره، وإن تركتها دون تقويم وتهذيب بقيت على اعوجاجها، كما يبقى الضلع على اعوجاجه إذا تركته، وخير الأمور الوسط، وهو الوعظ برفق، والتغاضي عما يدفع إليه الطبع غالبا، وما من رجل أو امرأة إلا له عيوب.

وخير ما تحمل عليه الآية: أن المرأة خلقت من جنس الرجل، فكانت على نظام خلقه، لا فرق بينهما إلا الذكررة والأنوثة ولهذا عقب خلقها منه بقوله:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإن خلق الزوجة من جنس زوجها - تكوينا وعقلا - يؤدى إلى سكون الزوج إليها وقيام المودة والرحمة بينه وبينها، بخلاف ما لو خلقت من جنس حيواني آخر، فإن الأمر يكون بينهما على التباين والتناقض.

أما مبدأ خلق حواء، فقد قيل: إنه من فضلة طينة آدم، ولكن التوراة صريحة في أنها خلقت من أحد أضلاع آدم، كما جاء في سفر التكوين (الإصحاح الثاني 21 - 23) والله أعلم بصحة ذلك.

والمعنى الإجمالي للآية: ومن دلائل ربوبيته - تعالى أنه خلق لكم - أيها البشر - أزواجا من جنسكم جسدًا وعقلا، لا يفرق بينكم وبينهن سوى الذكورة والأُنوثة، ليسكن الرجل منكم بالزواج الشرعي إلى زوجه، وإن لم يكن يعرفها من قبل، وليبقى بمباشرتها الجنس البشريُّ، وليطمئن إليها بالعشرة معها، فإن الجنس يميل إلى جنسه ويألفه، بخلاف ما لو كانت من جنس آخر، وجعل بينكم مودة ورحمة، فكلاكما يحب الآخر

ص: 38

{الْبَرْقَ} : هو ما يلمع تباعًا أثناء المطر.

{خَوْفًا وَطَمَعًا} : خوفًا من الصواعق، وطمعًا في المطر.

{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : المراد من السماء هنا: السحاب، وكل ما علاك سماء.

{بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد يبسها.

{أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} : أن توجدا في الفضاء بقدرته وتدبيره.

{إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} : أي؛ تفاجئون بالخروج من قبوركم تلبية لنداء الله.

التفسير

20 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} :

ومن علامات ربوبيته وأُلوهيته - تعالى أنه خلقكم يا بني آدم من تراب ضمن خلق أَبيكم آدم منه، أو أنه خلقكم من نطف تولدت من أغذية أصلها ومادتها التراب، ثم إذا أنتم أُناس عقلاء تنتشرون عن طريق التوالد، أو الهجرة في أنحاء الأرض بعد أن بدأ خَلْقكم بآدم ثم من بعده حواء، وجعلكم تستنبطون خيراتها الظاهرة والباطنة بما وهبكم من القوى العملية والجسدية، وعلمكم من شئون الكون ما لم تكونوا تعلمون، فسبحان من خلقكم ونشركم وأقدركم على عمارة أرضه وجعل لكم من أنفسكم آيات على ربوبيته ووحدانيته.

21 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

اختلف العلماء في تفسير خلق الأزواج من أنفس البشر، وكثير منهم فسره بأنهن خُلِقْنَ من ضلع آدم تبعًا لحواء أُمهن.

وقد ورد حيث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل هذا المعنى، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضِلع، وإن أَعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا".

ص: 39

يسترده بأي جهد يبذله، ما لم تأته به عناية الله ورحمته، فتلك آيات عديدة تضمنتها آية النوم، وقد يصبح الأرق مرضا ملازما فيصاب صاحبه بالكآبة وغيرها من الأمراض النفسية أو الجسدية، ولا ينفعه إلا رحمة تأْتيه من الرحمن الرحيم من حيث لا يعلم، فلهذا ينبغي لمن يصاب بالأرق أن يكون شديد اللجوء إلى الله - تعالى - بالدعاء، ومما جاء فيه ما أخرجه الطبراني في مسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم أنم عيني وأهديء ليلي" فقلتها فذهب عني.

وينبغي لمن أصابه الأرق أيضًا أن يبعد عن نفسه التفكير فيه، حتى لا يصبح عقدة نفسية، وعليه أن يكون قوي الأمل في رجوع النوم إليه برحمة الله، وأن يكون عظيم التوكل على الله والثقة في رحمة الله، حتى لا تطول غربة النوم عنه.

والنوم كما يكون ليلًا يكون نهارا، فمن الناس من يعملون ليلًا كالحرّاس وعمال المخابز، فهؤلاء ينامون نهارا، ومنهم من يعملون نهارا، وقد ينامون ظهرا، ومنهم من يأتيه النوم في أي وقت من الليل أو النهار، تبعًا لحاجة أجسادهم ونفوسهم، فمن رحمة الله أن جعله مشاعا بين الليل والنهار لمن يحتاجون إليه، فلهذا قال - سبحانه -:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار} .

وأما آية ابتغاء الرزق فإنها تضم عدة آيات، والرزق بيد الله، وكم من طالب رزق معين يأتيه غيره، وكم من طالب له لا يجده، وكم من غافل فيأتيه رزق لم يتوقعه ولم يسع إليه.

وطلب الرزق كما يكون في النهار يكون في الليل، وبخاصة في هذا الزمان، حيث تفتح المتاجر والمصانع أبوابها ليلًا كما تفتح نهارا، والله - تعالى - يسوق الرزق لجميع عباده {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولكن الله - تعالى - ربط المسببات بأسبابها، ولهذا أمر عباده بالسعي في طلب الرزق الذي قسمه الله لهم بقوله:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}

ص: 40

ويرحمه ويدفع عنه ما يضره ويؤذيه قدر استطاعته، إن فيما ذكر في هذه الآية من عجائب تدبير الله لدلائل على ربوبيته، وعظيم فضله، وواسع رحمته - لدلائل - لقوم يتفكرون.

22 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} :

ومن دلائل ربوبيته خلق السموات والأرض وما فيهن من عجائب الإبداع وروائع الجمال، وبقائهن في الفضاء بعجيب قدرته وعظيم علمه وحكمته، ومن دلائل ربوبيته أيضًا اختلاف لغاتكم، حيث علم كل أُمة لغتها المخالفة للغة غيرها، أو ألهمها العبارات المختلفة للتعبير عن حاجاتها، وخالف بين طرائق نطقكم، فلا يكاد يوافق أحدكم غيره في أُسلوب نطقه واختيار عباراته، ومن دلائل ربوبيته أيضًا اختلاف ألوانكم من أبيض إلى أسود إلى أصفر إلى غير ذلك، أو اختلاف ألوانكم بتخطيط الأعضاء والهيئات والألوان، بحيث وقع التمايز والتعارف، حتى إن التوأمين - مع اتحاد أصلهما - لا بد من وجود اختلاف بينهما ليحصل التعارف، إن في ذلك كله لآيات عظيمة لكل عالم مفكر، على وجود إله حكيم قدير عليم.

23 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} :

دعت هذه الآية الكريمة إلى التأمل في آيات جليلة واضحة الدلالة على ربوبية الله ومزيد رحمته بعباده، وهي آية النوم وآية طلب الرزق، وما تشتملان عليه من آيات.

فأما آية النوم فإنها وسيلة إلى راحة القوى النفسية والبدنية، وإعادة النشاط إليها بعد الكلال.

والنوم هبة من هبات الرحمن الرحيم، فليس للإنسان أي كسب أو جهد فيه، وما على الإنسان إلا أن يستسلم لفراشه ويغمض عينيه وينتظر رحمة الله تأْتيه بالنوم فليسع بفضل الله إلى إحساسه وشعوره العقلي، فيغيبه في طياته، ويضفى على أجهزته البدنية والعقلية الراحة والسكينة، ولو شرد النوم عن الإنسان فإنه لا يستطيع أن

ص: 41

أو خوفا من نزول المطر للمسافر برًّا لأَنه يضره، وطمعا للمقيم لأنه ينفعه في الزراعة وغيرها، ولهذا قال عقبه:{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: وينزل الله من السحاب مطرا فيحيي به الأرض بالنبات والشجر، بعد أن كانت هامدة يابسة، فلما جاءها الماءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} إن فيما تقدم من إراءَة البرق وإنزال المطر وإنبات الزرع والشجر لآيات بينات على قدرة الله وحكمته وربوبيته، وأنه يبعث من في القبور. لآيات على ذلك لقوم يعقلون.

25 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} :

ومن علامات أُلوهيته - تعالى - أن توجد السماءُ والأرض في الفضاء بأمره وتدبيره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ثم إذا دعاكم يوم القيامة للخروج من الأرض التي دفنتم فيها، إذا أنتم تخرجون فور الدعاء، فمن قدر على البدء والاختراع فهو على الإعادة أقدر.

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

المفردات:

{قَانِتُونَ} : منقادون خاضعون.

{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} : وله الوصف الأعظم.

{الْعَزِيزُ} : الغالب.

ص: 42

{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وإن كان بعض الرزق يأتي بغتة من غير سعي، كالمواريث والهبات والصدقات المفاجئة، ولكن السنة الإلهية في الحصول على الأرزاق هي السعي إليها؛ فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.

والمعنى الإجمالي للآية: ومن آيات ربوبيته - تعالى - وكمال تدبيره وحكمته نومُكم بالليل تارة، وبالنهار أُخرى، حسب حاجتكم إلى النوم، فحينما تحتاجون إليه أو تطلبونه يحقق الله لكم منه حاجتكم، ومن آياته طلبكم الرزق في الليل والنهار أيضًا فيأْتيكم منه ما قسمه الله لكم، إن فيما تقدم من النوم وطلب الرزق في ليل أو نهار، لآيات واضحة الدلالة على ربوبيته ووجوب الاستعانة به واللجوء إليه، إن فيما تقدم لآيات لقوم يسمعون سماع تدبر وتفكر.

والتعبير بقوله، {يَسْمَعُونَ} بدلا من: يبصرون، أو: يتفكرون، للإيذان بأن الأمر من الظهور بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة، ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا، ولا إلى إعمال الفكر بعمق لغاية وضوحه.

24 -

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

المقصود من قوله: {يُرِيكُمُ} المعنى المصدري، فكأنه قيل: ومن آياته إراءتكم البرق، وهو من باب استعمال الفعل المضارع في جزء من معناه وهو الحدث، كما قالوه في المثل المشهور: تسمع بالمُعَيْديِّ خير من أن تراه أي: سماعك به

إلخ.

وذهب أبو علي إلى أن الكلام على تقدير (أن المصدرية) والأصل، أن يريكم، فلما حذفت ارتفع الفعل وبطل عملها بالحذف، والمآل في كلا الوجهين واحد وهو المعنى المصدري، والبرق: هو الومضات الكهربية المضيئة السريعة المتلاحقة أثناء المطر الغزير.

والمعنى الإجمالي للآية: ومن آيات الربوبية والبعث أن يريكم الله البرق اللامع المنبعث من السحب الركامية خوفا من نزول الأمطار الكاسحة بسيلها أو من نزول الصواعق وطمعا في مطر ينفع ولا يضر.

ص: 43

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}

المفردات:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : ذكر لكم مثلا منتزعا من أنفسكم أيها البشر.

{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} : هل؛ حرف استفهام مراد منه النفي، أي: ليس لكم من عبيدكم شركاءُ، ولفظ {مِنْ} الأُولى ابتدائية، والثانية تبعيضية، والثالثة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري في لفظ:{هَلْ} .

{كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} : كخوفكم منها.

{نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} : نوضحها ونبينها.

التفسير

28 -

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ

} الآية:

بين الله - تعالى - في الآيات السابقة دلائل ربوبيته ووحدانيته وأن له المثل الأعلى والوصف الأسمى في جميع الصفات، لا يدانيه فيها أحد، وجاء بهذه الآية ليؤكد بها وحدانيته بطريق ضرب المثل، لما فيه من تشبيه المعقول بالمحسوس، وهو في الإفحام أقوى.

ص: 44

التفسير

26 -

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} :

ولله من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، ومَنْ عسى أن يكون بها من مخلوقات مكلفة عاقلة لا علم لنا بها، كل هؤُلاء لإرادته - تعالى - خاضعون، حيث يتصرف فيهم كما يشاء بمقتضى حكمته وتدبيره - جل وعلا -.

27 -

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

والله هو الذي يبدأ الخلق من آن لآخر، ثم يعيده بالبعث بعد الموت، والإعادة أسهل من البداية إذا نظر إليها بمقاييس الناس، وإن كانت عند الله سواءً، لأَنه يقول للشيء: كن فيكون، ولله الوصف الأَعلى العظيم في السموات والأرض، يصفه به كل من فيهما دلالة أو نطقا، ولا يدانيه في كمال أوصافه أحد، وهو العزيز الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في خلقة وتدبيره، أخرج الإِمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله: كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني - وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (1) ".

(1) انظر ابن كثير.

ص: 45

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}

المفردات:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} : اجعل وجهك مستقيما نحو الدين.

{حَنِيفًا} : مائلا عن الباطل إلى الحق، فَعِيل من الحَنَف: وهو الميل، ويطلق الحنيف على صحيح الميل للإسلام، وعلى دين إبراهيم - ذكره صاحب القاموس.

{فِطْرَتَ اللَّهِ} : خلقته.

{فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} : خلقهم عليها.

{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} : لا تبديل لدين الله.

{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} : ذلك الدين المستقيم.

التفسير

30 -

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

} الآية:

بعد أن بين الله آيات ربوبيته، وضرب مثلا لفساد الإشراك جاء بهذه الآية لإقرار ما تقدم من وجوب التوحيد، وحث كل مكلف على الإقبال على دين التوحيد الذي هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها.

والخطاب في قوله - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} لكل فرد مكلف من الأُمة المحمدية في شخص نببها محمَّد صلى الله عليه وسلم فهو إمامها، أو خطاب لكل مكلف مباشرة.

ص: 46

وحتى تعظم قيمة هذا المثل في الإِفحام عند القاريء نقول:

إن المشركين كانوا معترفين بأن أوثانهم عبيد الله - تعالى - فقد كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك".

ومعنى الآية، ذكَر اللهُ لكم مثلا لإشراككم عبيد الله معه في الأُلوهية، وهذا المثل منتزع من أنفسكم أيها البشر: هل لكم من عبيدكم الذين ملكتهم أيمانكم - هل لكم منهم - شركاءُ فيما رزقناكم من الأموال وسواها، فتكونوا أنتم وإياهم في حق ملك ما رزقناكم والتصرف فيه سواء بحيث تخافونهم أن يستبدوا بتصرف ما، كخوفكم أيها الشركاء الأحرار بعضكم من بعض.

وخلاصة هذا المثل الذي ابتدأ بالاستفهام الإنكاري: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } خلاصته أنه ليس لمماليككم حق الشركة في أموالكم، فإذا كنتم تأْبون أن يشرككم عبيدكم في أموالكم وهم مثلكم في البشرية غير مخلوقين لكم، بل لله - تعالى - فكيف تشركون باللهِ - تعالى - في المعبودية والأُلوهية التي هي من خصائصه الذاتية - كيف تشركون به مخلوقه بل مصنوع مخلوقة؟ - جل وعلا - حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ وكيف يرضي الله بذلك؟ مثل ذلك التفصيل الواضح يفصل الآيات ويبينها لقوم يستعملون عقولهم في فهم حقائق الأُمور.

29 -

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :

إضراب وإعراض عن مخاطبة المشركين لجهلهم واتباع أهوائهم، وكأنه قيل: لم يفعلوا شيئا من الآيات المفصلة قبل هذه الآية، بل اتبعوا أهواءهم الزائفة التي ظلموا بها أنفسهم حيث عبدوا غير الله بجهالة وسوء رأي، مع تمكنهم من العدم من فتحوا قلوبهم للحق، فمن يستطيع هداية من أضلهم الله عن الحق بسبب إعراضهم عنه، وما لهؤُلاء الضالين من ناصرين يخلصونهم من الضلال وتبعاته.

ص: 47

والمعنى الإجمالي للآية: فأقبل - أيها العاقل - على الإِسلام دين الحق واستقم عليه واهتم به، مائلا إليه بجد وهمة، منصرفا عن سواه من سائر الأديان، فطر الله الناس عليه وخلقهم مستعدين له، لاتُبَدِّلوا فطرة الله وخلقته، ذلك الدين المستقيم الذي لا يصح تبديله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون استقامته، ووجوب الإيمان به؛ لعدم تدبرهم وإهدارهم عقولهم.

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}

المفردات:

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} : أي؛ راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، من أناب: إذا رجع مرة بعد أُخرى.

{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} : قيل؛ هم أهل الأهواء والبدع، أو اليهود والنصارى.

{وَكَانُوا شِيَعًا} : أي؛ فرقًا، جمع شيعة، والشيعة في الأصل: الأتباع والأنصار، وكل جماعة اجتمعوا على أمر، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليًّا وأهل بيته حتى صار اسمًا لهم خاصًّا بهم، وجمع الجمع: أَشياع.

{كُلُّ حِزْبٍ} : الحزب؛ الطائفة من النَّاس، والجمع: أحزاب.

التفسير

31 -

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

بين - سبحانه - بهذه الآية أن العبادة لا تقبل من عباده إلَاّ مع الرجوع إليه عز وجل والإخلاص له، فقال:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وهو مرتبط بقوله - سبحانه -: {فِطْرَتَ اللَّهِ}

ص: 48

والوجه في قوله - تعالى - "فأَقِمْ وجهك" إما أن يراد به معناه المعروف، وإما أن يراد به الذات كلها، وسواءٌ أكان المراد به هذا أم ذاك فالآية تمثيل لوجوب الإقبال على دين الإِسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام به، ولذلك عقبه بقوله:{حَنِيفًا} أي: مائلا عن الأديان كلها متجها إليه ومقبلا عليه، أو دِينَ إبراهيم الحنيف عليه السلام يعني أن التوحيد هو دين إبراهيم الحنيف.

وهذا الدين الإسلامي الذي أمرنا الله بالاستقامة عليه، هو فطرة الله وخلقته التي فطر الناس وخلقهم عليها، أخرج الإِمام البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمَجِّسانه كما تُنْتَجُ البهيمة بهيمة جمعاءَ (1)، هل تجدون فيها من جدعاء (2)؟ " ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3).

وأخرج ابن مردويه بسنده عن حماد بن عمر الصفار قال: سألت قتادة عن قوله - تعالى -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فقال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فطرة الله التي فطر الناس عليها: دين الله تعالى" وبهذا التفسير فسرها السلف.

ومن العلماء من فسر الفطرة بأنها قابلية الحق والتهيؤ لإدراكه، فالناس جميعًا مفطورون ومخلوقون مستعدين لقبوله، لا يمنعهم عنه إلا المبطلون من شياطين الإنس والجن، والتفسيران متقاربان، والفطرة في كليهما: اسم هيئة من الفطر، بمعنى الخلق والاختراع.

وأما قوله - سبحانه -: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فهو خبر مراد منه النهي، أي: لا تبدلوا دين الله وخلقته التي خلق الناس عليها بالإصغاء إلى دعاة الباطل من شياطين الإنس أو الجن.

(1) أي: مجتمعة الأعضاء، سليمة من العيوب.

(2)

مقطوعة الأطراف أو بعضها.

(3)

البخاري في تفسير سورة الروم.

ص: 49

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}

المفردات:

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} : أي نالهم قليل من الضر، ويتعدى إلى ثان بالحرف.

{يُشْرِكُونَ} : أي يشركون به غيره في العبادة.

{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} : أي ليجحدوا النعمة التي أُعطيت لهم، يقال: كفر النعمة، وكفر بها: جحدها وغطاها.

{فَتَمَتَّعُوا} : أي انتفِعوا به كما شئتم، يقال: استمتعت بكذا، وتمتعت به: انتفعت.

{سُلْطَانًا} : أي؛ حجة وبرهانًا.

التفسير

33 -

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً

} الآية:

أي: وإذا مس الناس قحط وشدة وهزال ومرض وغيرُ ذلك أقبلوا على ربهم مستغيثين به راجعين إليه مقبلين عليه تاركين دعاء غيره من الأصنام وسواها، ذلك شأنهم في حال الاضطرار، ولكنهم في حال الرخاء وتوالي النعم عليهم والخلاص من تلك الشدة

ص: 50

أي: الزموا فطرة الله عائدين إليه مقبلين عليه بالتوبة النصوح التي تطهِّر قلوبكم، وتزكى نفوسكم. أو مرتبط بقوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أي: فأقيموا وجوهكم، واستمروا على الدين الذي شرعه الله لكم منيبين إليه، وإنما جمع مع أن الخطاب في:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لمفرد وهو النبي؛ لأن خطابه خطاب لأمته، وقال الفراءُ: فأقم وجهك ومن اتبعك منيبين فهو كقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (1)، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه، وأدوا الصلاة بشروطها وفي أوقاتها ولا تكونوا من المشركين، بل من الموحدين المخلصين له العبادة، لا تريدون بها سواه؛ لأنها لا تنفع إلَاّ مع الإخلاص له وحده - سبحانه -.

32 -

{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} :

أي: ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم (2)، وتفريقهم لدينهم: اختلافهم فيما يعبدونه وفق اختلاف أهوائهم.

{وَكَانُوا شِيَعًا} : أي فِرقًا، كل فرقة تشايع إمامها الذي مهَّد لها دينها ووضع أُصوله، فأَصبحوا بذلك نِحَلًا وأديانًا مختلفة، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس، وعبدة الأَوثان وسائر أهل الأديان الباطلة التي قبلنا، اختلفوا على أديان وملل باطلة.

{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} : أي كل فريق منهم بما عندهم من الدين المعوج المؤسس على الباطل مسرورون، وبه معجبون، يظنون أنهم على الحق الذي جهلوه، وكان عليهم أن يبحثوا عنه ويتبعوه، فالجملة ذكرت تقريرًا لمضمون ما قبلها من تفريق دينهم وكونهم شيعًا.

(1) هود: 112.

(2)

قوله: من الذين فرقوا دينهم بدل من المشركين بإعادة الحرف، وفائدة الإبدال: التحذير من الانتماء إلى حزب من الأحزاب ببيان أن الكل على الضلال.

ص: 51

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}

المفردات:

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : بلاء وعقوبة.

{يَقْنَطُونَ} : أي يَيئسون من رحمة الله، وقنط من باب ضرب وتعب، وهو قانط وقنوط، ويُعَدَّى بالهمزة.

{وَيَقْدِرُ} : أي ويضيق، يقال: قَدَرَ الله الرزق، يقدِره - بكسر الدال - ويَقْدُره - بضمها - ضيَّقه، والكسر أفصح، وبه قرأ السبعة.

التفسير

36 -

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ

} الآية.

أي: وإذا أَذقنا الناس نعمة من مطر رسعة وصحة وأمن ودعة ونحوها فرحوا بتلك النعمة بطرا وأشرا لا حمدًا وشكرًا لمجريها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي بلاء وضيق بشؤم معاصيهم التي اقترفوها، فاجأُوا باليأْس من رحمة الله، وهذا شأن من لم يرسخ الإيمان في قلبه، وفي نسبة الرحمة إليه - تعالى - دون السيئة تعليم للعباد ألا يضاف الشر إليه - سبحانه -.

وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة، وبيان سبب إصابة السيئة: إشارة إلى أن الأول منَّة وتفضل منه - تعالى - والثاني قسط وعدل بسبب معاصيهم التي قدموها وباءُوا بإثمها.

ص: 52

{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} : أي فاجأ فريق بالإِشراك بربهم، الذي كانوا يدعونه منيبين إليه، وذلك بنسبة خلاصهم ممَّا كانوا فيه إلى غيره من صنم أو كوكب أو غيرهما من المخلوقات.

وتخصيص الإشراك ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير:(ضر ورحمة) للإشارة إلى أَنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويَطْغَوْن لأدنى نعمة.

34 -

{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

أي: يشركون به غيره لكي يكفروا بما آتيناهم من النعم، أو اللام للأمر قصدًا إلى التهديد والوعيد، كما يقال عند الغضب: اعصني ما استطعت، وهو مناسب لقوله - سبحانه -:{فَتَمَتَّعُوا} أي: افعلوا ما شئتم فسوف يحيق بكم عاقبة تمتعكم ووباله.

والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في التهديد، ثم أنكر - سبحانه - على المشركين عبادة الأوثان بلا دليل ولا برهان فقال:

35 -

{أمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} :

في هذه الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بالإعراض عنهم وتعديد جِنَاياتهم لغيرهم، أي: بل أنزَلْنَا عَلَيْهِم حجة لها سلطان يجعلهم يتكلمون بما كانوا به مشركين.

أو يراد: بل أأنزلنا عليهم مَلَكًا ذا سلطان فهو يتكلم وينطق بإشراكهم بالله - تعالى - ويبين صحته، أو ينطق بالذى يشركون بسببه، والمراد: نفي أن يكون لهم مستمسك يُعَوَّل عليه في شركهم، إذ الاستفهام للإنكار.

ص: 53

التفسير

38 -

{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ

} الآية:

وجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشرى: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما كسبت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، فقال - تعالى -: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ

} الآية، والخطاب للنبي، والمراد هو وأُمته، على أنه المقصود به أصالة، وأُمته تبعًا، وقال الحسن: هو خطاب لكل سامع، وجوز غير واحد أن يكون الخطاب لمن بسط له الرزق.

أي: فأَعط ذا القربى حقه من الصدقة وسائر المبرات صلة للرحم. قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله عز وجل حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة، وقيل: إن الأمر بالإيتاء لذى القربى على وجه النَّدب، وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأَقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أَعتقت وليدة:"أَما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" من القرطبي بتصرف.

وأعط المسكين وابن السبيل ما يستحقانه، قال ابن عباس: أي: أطعم السائل الطواف والضيف المنقطع به الطريق، والمشهور: أنه المنقطع عن ماله.

وعُبّر عن القريب به القربى في جميع المواضع، ولم يُعَبَّر عن المسكين بذي المسكنة؛ لأن القرابة ثابتة لا تتجدد، ولا يقال: ذو في الأغلب إلَاّ في الثابت، ألَا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأْي الصائب: فلان ذو رأى، وتكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك، والمسكنة لكونها تطرأ وتزول لم يُقل فيها ذلك.

{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : أي إن الإتيان المفهوم من الأمر خير في نفسه أو خير من كل عمل آخر، للذين يقصدونه عز وجل بمعروفهم خالصًا يأْملون به النظر إلى وجهه يوم القيامة، وهو الغاية العظيمة والرجاءُ المأْمول.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : حيث حصلوا بإِنْفاق مالهم النعيم المقيم، لا الذين بخلوا بما أُوتوا ولم ينفقوا شيئًا.

ص: 54

37 -

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ

}:

أي: ألم ينظروا، ولم يشاهدوا أن الله يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء، ويضيقه على من يشاءُ؟ وهذا باعتبار شخصين، أو شخص واحد في زمانيْن، فلا يحق لهم أن يدعوهم الفقر إلى القنوط من رحمته - سبحانه - فهو القابض الباسط، والمراد: إنكار بطرهم عند الفرح، وقنوطهم عند الشدة.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : أي إن فيما تشاهدونه من البسط والتضييق لحجة بالغة لقوم يؤمنون بالله حق الإيمانن فيستدلون بها على القدرة والحكمة البالغة، وعلى أنه - سبحانه - يفعل ذلك بمحض مشيئته، وليس الغنى بفعل العبد وجهده، ولا الفقر بعجزه وتقاعده، ولا يعرف ذلك ويقدره حق قدره إلَاّ من آمن بأَن ذلك تقدير العزيز العليم، فكم أخفق الجادون، ونجح وتقدم المبطئون.

{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

المفردات:

{وَالْمِسْكِينَ} : هو الذي لا شيءَ له، أو له شيء لا يقوم بكفايته.

{وَابْنَ السَّبِيلِ} : المسافر المحتاج إلى نَفَقَةِ سفره.

{لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : أي يقصدونه عز وجل بمعروفهم خالصًا، أو يريدرن النظر إلى وجهه يوم القيامة وهو الغاية القصوى.

ص: 55

به وجهه - تعالى - ولكن لا إثم فيه، فما يأخذه المعطى من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس - بآثم (فهو مباح (1) وإن كان لا ثواب فيه) كما قال ابن كثير.

وقرئ: {أَتَيْتُمْ} بدون مدّ، أي: وما جئتم من عطاء ربا، أو فعلتم، وتسمية الهدية المذكورة ربا لأنها سبب للزيادة، وقيل: إن الآية نزلت في الزيادة التي حرمها الشارع. قال السدي: إن الآية نزلت في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا، وتعمل به فيهم قريش.

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : أي وما أعطيتم من صدقة تطوع تبتغون بتلك الصدقة وجهه - تعالى - خالصًا فلا تطلبوا عليها مكافأة، ولا يدفَعكم إليها رياء ولا سمعة.

{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي: هم الذين ضاعفوا ثوابهم وجزاءَهم عند الله ببركة الصدقة إلى عشر أمثالها أو أكثر، كما قال - تعالى -:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (2)، وكما في الصحيح:"وما تصدق أحد بعدْل تمرة من كسب طيب إلَاّ أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربِّي أحدكم فُلُوَّه (3) أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أُحد"، وقوله - سبحانه -:

{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} : التفات حسن من الخطاب إلى الغيبة لإفادة التعميم، فكأنه قال: من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين.

وأتى بالجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة.

40 -

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

أثبت الله - سبحانه - في هذه الآية لوازم الأُلوهية وخواصها لذاته، وهي الخلق، والرزق والإماتة والإحياء، ثم نفى هذه اللوازم عمَّا اتخذوهم شركاء له - تعالى - بقوله:

(1) قيل: كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم علي الخصوص. قال الله - تعالى -: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} اهـ: القرطبى.

(2)

من الآية رقم 245 البقرة.

(3)

الفلو: المهر الصغير. والفصيل: ولد الناقة؛ لأنه يفصل عن أمه.

ص: 56

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

المفردات:

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} : الربا؛ الفضل والزيادة، وبابه: نَصَرَ.

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} : أي صدقة تطوع؛ لأن السورة مكية، والزكاة فرضت في المدينة.

التفسير

39 -

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوعِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} :

عن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له فيه أجر وليس عليه فيه إثم. وعن ابن عباس أنه أُريد به هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه، فذلك الربا الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه، ولكن لا إثم عليه، وفي هذا المعنى نزلت الآية، وبهذا قال عكرمة.

والمعنى: وما أعطيتم من ربا - فيما تهدونه لسواكم ليزيد ويزكو في أموال الناس الذين أعطيتموهم إياه بأن يحصل لكم أكثر منه فلا يزيد عند الله، ولا تثابون عليه لأنكم لم تريدوا

ص: 57

التفسير

41 -

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

ظهر الفساد في البر والبحر بالجدب والقحط، والغلاء الشديد، وذهاب البركة، وكثرة المضار التي تلحق الناس والدواب، والنبات لانقطاع المطر أو قلته، وغير ذلك من كوارث البر والبحر، والبر والبحر هما المشهوران المعروفان في اللغة وعند الناس، وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارًا لسعتها، وعن مجاهد: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السواحل والمدن التي عند البحر. وظهور الفساد في البر والبحر بسبب شؤم ما فعله الناس من المعاصي والذنوب.

وقد ابتلاهم - سبحانه - بالفساد في البر والبحر: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أَن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لكي يرجعوا عَمَّا هم فيه من المعاصي بالتوبة والإقلاع عن الذنب، كما قال - تعالى -:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1).

والآية تشير إلى حكم عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة.

42 -

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} :

هذا القول الكريم مسوق لتأكيد تسبب المعاصي في غضب الله ونكاله، أي: قل لهم - أيها الرسول -: سِيرُوا فِي الأَرضِ لِتَنظُرُوا كَيْفَ أهلك الله الأمم السابقة، وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم، ففي ذلك عظة وعبرة لردع العصاة {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}: مسوق للدلالة على أن كثرة الشرك شؤم على غير المشركين؛ لأنه تهويل لأمر الشرك وتقبيح وأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة.

(1) الأعراف: 168.

ص: 58

{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} : أي لا يقدر أحد من شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله على فعل شيء من خواص الأُلوهية، لأَنه - جل وعلا - هو المختص بها، وقد سئلوا فلم يجيبوا عجزًا.

ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا تقبل ولا تعقل شركة ما ليس بإله لمن هو إله لتجرده من لوازم الأُلوهية التي انفردت بها الذات العلية.

ولتأكيد تنزهه عن الشركاء قال - تعالى -: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : أي تقدس وتنزه - جل وعلا - عن أن يكون له شريك أو مثيل أو ولد أو والد، وإنما هو الأَحد الفرد الصمد، وإطلاق لفظ (الشركاء) على آلهتهم الباطلة لأنهم كانوا يسمونهم الآلهة والشركاء، ويقدمون القرابين لها.

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}

المفردات:

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : الفساد؛ ضد الصلاح، والمراد به: الجدب والقحط وكثرة المضار.

{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} : أي؛ بما تحملت من الإثم، يقال: كسب الإثم، واكتسبه: تَحَمَّله.

{عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} : عاقبة كل شيء: آخره ونهايته.

ص: 59

لأحد ردّه، وذلك هو يوم القيامة، ويوم إذ يجيءُ بتفرق الناس إلى فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقيل: يتفرقون تفرُّق الأشخاص، على ما ورد في قوله - تعالى -:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} (1) ورجح هذا بأَنه المناسب، لأن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين لا يدرون ماذا يصنعون، ولا ما يصنع بهم.

44 -

{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} :

أي: كل من كفر فعليه وبال كفره بأن يصليه الله نار جهنم خالدًا فيها، لا يموت ولا يحيا، وكل من عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون ويُعدون مَنزلًا في الجنة يتخذونه مستقرًّا ومقامًا، شأْنهم في ذلك شأْن من يمهده لنفسه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما يؤذيه من نتوءٍ أو قضض (2) ونحوهما، وجمع الضمير في قوله:{فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} باعتبار معنى {مَنْ} ويروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} قال: في القبر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت في القبر وغيره.

وتقديم الجار والمجرور في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلَاّ على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه.

45 -

{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} :

متعلق بيمهدون علة له، أي: يمهدون لأنفسهم منزلًا وموئلا في الجنة، لأن الله يجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما قدموا مجازاة الفضل: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، إنه لا يحب الكافرين لكفرهم، فلذا أبعدهم عن رحمته وعاقبهم، وتفضل بحسن الجزاء على المؤمنين الصالحين.

(1) الآية رقم 4 من سورة القارعة.

(2)

القضض: ما تفتت من الحصى.

ص: 60

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}

المفردات:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} : الوجه معروف، أو هو مجاز عن الذات، وإقامته: توجيهه، والدين القيم: الدين المستقيم وهو الإِسلام.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ} : لا يرده الله عنهم، وهو يوم القيامة.

{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتفرقون. من: التصدُّع، وهو التفرق، وأصله: يتصدعون فقلبت تاؤه صادًا وأُدغمت في الصاد.

{يَمْهَدُونَ} : أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة، كما يوطيء الرجل لنفسه فراشًا ليستريح مضجعه والمهد، والمهاد: الفراش الممهد.

التفسير

43 -

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} :

أي: فاتجه بذاتك قلبًا وروحًا وجسدًا نحو الدين الكامل الاستقامة وهو الإسلام، من قبل أن يأْتي يوم لا مرد له من الله بعد أن يجيء به، وإذا لم يرده - سبحانه لم يتهيأْ

ص: 61

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}

المفردات:

{فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : أي المعجزات، والحجج البينات.

{فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} : أي فعاقبنا الذين كفروا بإهلاكهم في الدنيا. يقال: نَقَمت منه، من باب: ضرب، وانتقمت منه: عاقبته، وجَرَمَ وأجرم: اكتسب الإثم.

التفسير

47 -

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} :

هذه الآية متوسطة بين ما سبق وما لحق من أحوال الرياح وأحكامها؛ لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له، والوعيد لأعدائه، وفي ذلك تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر المطلوب بقوله - تعالى -:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حتى لا يحل بهم ما حل بأُولئك الأمم من الانتقام.

والمعنى: ولقد أرسلنا قبل مبعثك رسلًا إلى أقوامهم، كما أرسلناك إلى قومك، فجاءَ كل رسول بما يخصُّه من المعجزات والحجج البينات، كما جئت قومك ببيناتك، فآمن بعض وكذب بعض، فانتقمنا ممن كفر بالإهلاك في الدنيا بسبب إجرامهم الذي أوصلهم إلى التكذيب والكفر، وكان نصر المؤمنين حقًّا علينا بإنجائهم مع الرسل وهو حق أوجبه - سبحانه - على نفسه تكرمًا وتفضلًا، كقوله - تعالى -: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ

ص: 62

الرَّحْمَةَ} (1)، وروى من حديث أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يَذُبُّ عن عرض أخيه إلَاّ كان حقًّا على الله - تعالى - أن يَرُدَّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم.

وفي الآية مزيد تشريف وتكريم للمؤمنين، حيث جعلوا مستحقين على الله - تعالى - أن ينصرهم، وفيها إشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجلهم.

وظاهر الآية أن النصر لهم في الدنيا، وفي بعض الآيات - كما يقول الآلوسي - ما يشعر بعدم اختصاصه بها.

قال ابن عطية: وقف بعض القراء على (حَقًّا)، والمعنى: وكان الانتقام من المجرمين حقًّا، وتكون جملة:{عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} مستأْنفة لبيان ما تميز به المؤمنون، وأنه - سبحانه - لا يخلف الميعاد.

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}

(1) الآية: 12 من سورة الأنعام.

ص: 63

المفردات:

{فَتُثِيرُ سَحَابًا} : أي تنشره.

{وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} : قطعًا، جمع كِسْفَة، كَحِكَم: جمع حِكْمَة، وقريء: كِسْفا بسكون السين.

{فَتَرَى الْوَدْقَ} : أي المطر.

{يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} : من وسطه.

{لَمُبْلِسِينَ} : أي لساكتين متحيرين من شدة الحزن آيسين من النجاة.

{آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} : يراد برحمة الله: المطر.

التفسير

48 -

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ

} الآية.

مسوق لبيان ما أُجمل فيما سبق من أحوال الرياح، أي: أنه - سبحانه - يرسلها، فتنشر السحاب، وتدفعه بقوة، وينميه الله ويجعل من القليل كثيرا حتى يملأ أرجاء الأُفق، ينشره - سبحانه - وفق مشيئته هنا وهناك، سائرًا أو واقفًا، مُطْبقًا من جانب وغير مطبق من جانب آخر، أو مطبقا إطباقًا تامًّا، ويجعله تارة أخرى قطعًا متفرقة غير منبسطة، فترى المطر يخرج من وسط السحاب، في حالتي البسط والتقطُّع، فإذا أنزله الله على بلاد من يشاء من عباده وأراضيهم استبشروا فجأة بمجيء الخصب لحاجتهم إليه، وترقبهم له، وكان شأنهم قبل تنزيله ما حكاه الله بقوله:

49 -

{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} :

أي: وإن كان هؤلاء قبل أن يصيبهم المطر قَنِطِينَ مكتئبين، قد ظهر الحزن عليهم ظهورًا بالغًا لاحتباس المطر عنهم.

وكرر لفظ: {مِنْ قَبْلِ} للتأْكيد، وأفاد التكرير - كما قال ابن عطية - سرعة تقلب البَشَر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله - سبحانه -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ

ص: 64

يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان حتى يحصل التقلُّب من اليأس إلى الاستبشار فجأة {مِنْ قَبْلِ} بعده مؤكِّدًا، للدلالة على الاتصال، ودفع ذلك الاحتمال. وقال الزمخشرى: أُكِّد ليدل على بُعْد عندهم بالمطر، فيفهم منه استحكام يأْسهم.

50 -

{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

الخطاب لكل من يتأتى منه النظر، أي: فانظر نظر تفكير وتأمل إلى آثار رحمة الله المترتبة على إنزال المطر: من إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات الزروع وأنواع الثمار، وفي الأمر بالنظر إلى إحياء الله - تعالى - للأرض إحياءً بديعًا بعد موتها، التنبيه إلى عظيم قدرته - تعالى - وسعة رحمته عز وجل مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث.

يعني: أن ذلك القادر العظيم - الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي النَّاس بعد موتهم، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات؛ فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، فهو استدلال بالشاهد على الغائب، ثم ختمت الآية بقوله - سبحانه -:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقرير لمضمون ما قبله، أي: أنه بالغ القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياءُ الموتى؛ لأن نسبة قدرته عز وجل إلى جميع المقدورات سواءٌ، وهذا من المقدورات بدليل الإنشاء والبدء.

ص: 65

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}

المفردات:

{فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} : أي فرأوا الزرع الذي أصابته الريح قد اصفر وشرع في الفساد بعد خُضرة ونَضْرة.

{لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} : أي ليظلُّن مستمرين على كفرهم، وفعله من باب: فَرِحَ.

{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} : لأنهم قد أُصيبوا بالصمم، وهو ثقل السمع، والمفرد: أصم، وفعله من باب: فتح، فيقال: صَمَّ يصَم - بفتح العين فيهما - وصَمِمَ - بالكسر - نادر.

{إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} : أي إذا أعرضوا عنك مولِّين، يقال: دَبَر: وَلَّى، كأَدبر: قاموس.

{وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} : أي لا تستطيع هداية من عميت بصائرهم، والعُمْى: من أصابهم العَمَى، وهو ذهاب البصر كله، والعَمَى أيضًا: ذهاب بصر القلب والمفرد أعمى، والفعل: كرضى: قاموس.

{فَهُمْ مُسْلِمُونَ} : أي خاضعون.

ص: 66

التفسير

51 -

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} :

أي: أُقسم لئن أرسلنا ريحًا يابسة - حارة أو باردة - على الزرع الذي زرعوه، ونبت وشب، واستوى على سوقه فضربته الريح بالصفار، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضارته وشرع في الفساد، ليظلُّن (1) من بعد اصفرار الزرع يجحدون ما تقدم من النعم التي أنعم الله بها عليهم، ويصرون على كفرهم بالله.

وفي هذا ما يشير إلى ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط حيث إنهم إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمة الله، وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، أفرطوا في الاستبشار، فإذا أرسل عليهم ريحًا عظيمة فضربت زرعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله، فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله في كل حال، وأن يشكروا نعمته عليهم بالطاعة، ويحمدوه عليها، ولا يفرطوا في الاستبشار إذا أصابهم برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا احتبس عنهم المطر، أو اعتراهم ما يسوءهم، ولكنهم عكسوا الأمر، فأَبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم بكفرهم.

52 -

{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} :

تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا تحزن عليهم لإعراضهم، وعدم استجابتهم لك، فكما أنك ليس في قدرتك أن تُسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الذين فَقدوا القدرة على السمع، وهم مع ذلك مدبرون عنك؛ إذْ لو أقبلوا عليك لربما فطنوا الشيء من كلامك بما يرونه منك من رمز وإشارة، فبصممهم وإدبارهم فقدوا كل وسيلة للفهم والإدراك للانتفاع بمواعظك، فكانوا كالموتى في عدم السماع.

(1) لظلوا هنا بمعنى المستقبل تقبل لأنه في معنى جواب (إن) ولا يكون إلا مسقبلا، ولذلك كان معناه ليظلن، ويحسن وقوعه في موضع المستقبل في الكلام من معنى المجازاة، والمجازاة لا تكون إلا بالمستقبل: قاله الخليل وغيره.

ص: 67