المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة فاطر (فَأدْلَى دَلْوَهُ): أي أَرسلها إِلى الجُبِّ ليملأها، وأما دلاها - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الروم

- ‌مكية وآياتها ستون

- ‌مقاصد السورة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة لقمان

- ‌وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات

- ‌مقاصد السورة

- ‌ سورة السجدة

- ‌فضل هذه السورة:

- ‌ما تشتمل عليه السورة:

- ‌ سورة الأحزاب

- ‌مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون

- ‌مقاصدها:

- ‌حكم المتعة:

- ‌تخيير الرسول لنسائه:

- ‌أسئلة وأجوبة

- ‌فخر زينب بتزويج الله إياها

- ‌كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

- ‌سورة سبأ

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة فاطر

- ‌رأي الكلاميين في كيفية البعث

- ‌سورة يس

- ‌وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون

- ‌أهداف السورة وأغراضها

- ‌سورة الصافات

- ‌مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌خلاصة ما جاء فيها

- ‌بيان للقراء الكرام

- ‌سورة "ص

- ‌وجه مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الزمر

- ‌مكية وآياتها خمس وسبعون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة غافر

- ‌مكية وآياتها خمس وثمانون

- ‌مقاصد السورة

- ‌سورة فصِّلت

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌سورة فاطر (فَأدْلَى دَلْوَهُ): أي أَرسلها إِلى الجُبِّ ليملأها، وأما دلاها

‌سورة فاطر

(فَأدْلَى دَلْوَهُ): أي أَرسلها إِلى الجُبِّ ليملأها، وأما دلاها فمعناهُ جذبها ليخرجها. ذكره القاموس، وحكاه القرطبي عن الأصمعي وغيره.

(وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً): وأخفوه متاعًا للتجارة، وسمى مال التجارة بضاعة، لأنه بضعة من المال العام - أي قطعة منه.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ): أي باعوه بثمن مبخوس - أي منقوص من بخسه إِذا نقصه.

(دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ): أي دراهم قليلة، ومن هذا المعنى قوله تعالى في شأن قلة أَيام الصيام (أيَّامًا مَعدُودَات). (وَكَانُوا فِيهِ مِن الزَّاهِدِين): أَي من الذين لا يرغبون فيما بأَيديهم.

التفسير

19 -

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} :

أي وبعد إلقاء يوسف في البئر وعودة إخوته إلى أَبيهم جاءَت جماعة من المسافرين إلى مصر، ونزلوا قريبًا من هذه البئر التى أُلقي فيها يوسف. فأَرسلوا الذي يرد الماء لهم عادة، ليستقي لهم من هذه البئر. فأرسل دلوه وأَنزلها فى البئر ليملأها ماءً، وأمسك بحبلها ليجذبها به، فتعلق يوسف بالحبل، فثقلت الدلو على الوارد، فأعانه على جذبها مساعدوه من الرفقة الذين جاءُوا معه ليستقوا لقومهم.

{قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} :

قال هذا الوارد الذي يستقي للجماعة السيارة مستبشرا فرحا، يا بشرى هذا غلام كأنه نادى البشرى، وقال لها أقبلي فهذا أَوانك، حيث فاز بنعمة خرجت له فجأَة من حيث لا يحتسب.

وظاهر الآية أنه قال: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قبل أن يخرج يوسف من البئر وبعد إدلاءِ الدلو، ولعلها لما ثقلت عليه حين انتزاعه إياها، خاطبه يوسف مستنجدا به لينقذه بإِخراجه من غيابة الجب، ويشبه أَن يكون هذا هو المتبادر، وإن كان يجوز أن يكون هذا القول بعد إخراجه إِياه واطلاعه على حسنه والله تعالى أَعلم.

ص: 296

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

المفردات:

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مبدعها على غير مثال سبق، من الفطر وهو الابتداء والاختراع.

{أُولِي أَجْنِحَةٍ} : أصحابا أجنحة، وهو جمع جناح وهو اليد، وسيأتي في التفسير بيان ذلك.

{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، حسب مراتبهم.

{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي: يزيد بحكمته في بعض مخلوقاته ما يشاء من الزيادات علي بعض آخر، وإن اتفقوا في الجنس والنوع.

{فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} : فلا أحد يستطيع إمساكها ومنعها.

{وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} : وما يمنعه الله ويحبسه فلا أحد يستطيع إطلاقه من بعد إمساك الله له.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَي: الغالب.

ص: 297

التفسير

1 -

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

الفطر في اللغة أصلًا: بمعنى الشق، كأنه - تعالى - شق العدم فأخرج منه السموات والأرض ثم شاع إطلاقه على الابتداء والاختراع.

أخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإِيمان وغيرهما عن ابن عباس قال: (كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها - يعني ابتدأتها -) والمقصود من فطر السموات والأرض أنه - تعالى - أبدعهما من غير مثال سبق.

والملائكة: أجسام نورانية، خلقهم الله لطاعته:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} والأجنحة في اللغة بمعنى: الأيدي، وهي لكل كائن بحسبه، فاليد في الإنسان معروفة الشكل، وفي الطيور لها ريش مصفوف عليها يعينها على الطيران، وأمّا في الملائكة فإنها تتناسب مع نورانيتهم، والله - تعالى - هو الذي يعلم وصفها وشكلها والمقصود من قوله - تعالى -:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أن الملائكة لا يتساوون في عدد الأجنحة، فطائفة بجناحين لكل منهم، وأخرى بثلاثة أجنحة، وثالثة بأربعة أجنحة، ولعل ما في الآية من باب ضرب المثل، وأن من الملائكة مَنْ له أكثرُ من أربعة أجنحة (1)، وهل المقصود من {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أن نصف هذه الأجنحة في الجانب الأيمن من الملائكة، والنصف الثاني في الجانب الأيسر منهم حسب درجاتهم، أم أن العدد مكرر في الجانبين؛ لأن الأجنحة الثلاثة لا تنقسم. كل ذلك من باب الغيب الذي يترك علمه إلى الله وحده.

والمقصود من (الخلق) في قوله - تعالى -: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} إما الملائكة، على معنى أنه - تعالى - يزيد أي عددهم أو في عدد أجنحتهم ما يشاء، وإما جميع الخلق، أي: أنه - تعالى - صاحب الإرادة والمشيئة في جميع خلقه، فيزيد فيهم صنفا وعددًا وجمالًا وحسنًا، وعقلًا وعلمًا وغير ذلك مما يناسب كل صنف حسب حكمته جل وعلا.

(1) فقد جاء في السنة ما يشير إلى ذلك.

ص: 298

ومعنى الآية: كل الثناء بالجميل على الله مبدع السموات والأرض بما فيهما أو فوقهما، جاعل الملائكة رسلًا وسفراء بين الله وبين أنبيائه، ليبلغوهم ما أوحاه إليهم، ورسلًا بينه وبين الصالحين من عباده، لإلهامهم ما فيه الخير لهم ولغيرهم، وبينه وبين خلقه ليوصلوا إليهم آثار نعمته أو نقمته، وقد جعلهم ذوى أجنحة مختلفة، اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، يزيد في خلق الملائكة ما يشاءُ عددًا وأجنحة وشكلًا وصورة، أو يزيد في جميع خلقه ما يشاء نوعًا وعددًا وقوة وعقلًا وعلمًا وحسنًا وغير ذلك من الكمالات أو ما يقابلها، مما يناسب كل صنف حسب حكمته - جل وعلا - لا يمنعه مانع من تنفيذ مشيئته إن الله على كل شيء قدير.

2 -

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

المراد بفتح الرحمة: إطلاقها؛ ولذا قوبل بالإمساك، وفي اختيار لفظ الفتح إشارة إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالًا، وتنكيرها لتعميمها في كل فروعها.

ومعنى الآية: ما يطلق الله للناس أي نوع من أنواع رحمته، كالعقل والعلم والحكمة والرزق والأمن والصحة وهدوء السر، فلا أحد يقدر على إمساكه ومنعه عمن كتبه الله له، وأى شيءٍ يمسكه الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساك الله له، وهو القوي الغالب فلا يمتنع له مراد، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.

أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول:

"سمع الله لمن حمد، ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

وأخرج الإمام أحمد بسنده عن ورَّادٍ مولى المغيرة بن شُعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة ابن شعبة: اكتب إليَّ مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني المغيرة فكتبت إليه أني سمعت

ص: 299

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة "لَا الله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وسمعته "ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وعن وأد البنات وعقوق الأمهات، ومنع وهات"(1).

وبعد أن بين الله - سبحانه - أنه الموجد للملك والملكوت، والمتصرف فيهما على الإطلاق، أمر الناس بشكر نعمته فقال:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوحِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}

المفردات:

{اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : تذكروها وأدوا حقها.

(1) متفق عليه من رواية المغيرة بن شعبة أخرجه البخاري في "كتاب الأدب" باب: عقوق الوالدين 8 ص 4 ط / الشعب.

ومسلم في "كتاب الأقضية" باب: النهي عن كثرة السؤال

إلخ ج 3 ص 341 رقم 12 ط/الحلبي مع تقديم وتأخير.

ص: 300

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : فكيف تصرفون عن عبادة الله - تعالى - وحده.

{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} : ولا يخدعنكم بالله الشيطان الخداع.

التفسير

3 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :

يرى الإِمام ابن عباس أن المراد من الناس في الآية أهل مكة؛ لأن السورة مكية، وقد مرَّ في الآية السابقة الحديث عن كفارها، وسيأتي تكذيبهم للرسول في الآية التالية.

ويرى غيره أن المراد عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، فكلهم مأمورون بتذكر نعمة الله وشكره عليها، وأهل مكة داخلون فيهم.

ونعمة الله بالنسبة لأهل مكة أنه - تعالى - أسكنهم حرمًا آمنًا، والناس يتخطفون من حولهم، وأنه يسوق الأرزاق إليهم وهم يسكنون في واد غير ذي زرع، وهم - بعد ذلك - يشتركون مع سائر الناس في نعم الله عليهم.

والمعنى: يأيها الناس تذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم في خلقكم في أحسن الصور، ومنحكم نعمة العقل والكلام والقوة والإرادة، ومكنكم بذلك من استنباط منافع الأرض ظاهرها وباطنها، ومن الدفاع عن أنفسكم، والسعي على أرزاقكم، وأنزل الماء من السماء لترووا به أرضكم، فتخرج الزرع النضير والثمر الوفير، ومنه تشربون وتسقون ماشيتكم هل من خالق سوى الله يرزقكم من السماء والأرض ما به قوام حياتكم، وسبب وجودكم، وبقائكم، لا إله إلَّا هو الخلاق الرزاق، فكيف تُصْرفون عن توحيده والإيمان بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.

4 -

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :

وإن يكذبك مشركو مكة - أيها الرسول - فلا تحزن، فقد كُذِّبت رسل كثيرة قبلك من أُممهم - والبلوى إذا عمت هانت - وإلى الله وحده ترجع أمور الخلائق جميعا يوم الدين

ص: 301

فيحاسب كل امرىء على عمله ويجزيه عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

5 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} :

المراد بوعد الله: البعث والجزاء، وقد أُشير إليهما في الآية السابقة بقوله - تعالى -:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .

والمعنى: يأيها الناس إن وعد الله عباده بالبعث بعد الموت وحسابهم وجزائهم على أعمالهم وعدٌ حق لا يتخلف، فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بزخارفها، فتركنوا إليها وتعملوا لها وتتركوا العمل للآخرة، فإن الدنيا فانية وأنتم تاركوها وراجعون إلينا بعد حين، ولا يخدعنكم بالله الشيطان الخداع الغشاش، فيقول لكم: تمتعوا بدنياكم من حلال ومن حرام كما تحبون فإن الله غفور رحيم - لا يخدعنكم بقوله هذا - فكما أنه غفور رحيم فهو عزيز ذو انتقام، فكيف لا يغضب ممن غفل عن مرضاته، وأصر على عصيانه، وهو مغمور بنعمه، ويعلم أن بطشه شديد، فهل من العقل أن يتعاطى المرءُ السم القاتل، ويعتقد أنه لا يموت به، ولقد أكد الله تحذيره من الشيطان فقال:

6 -

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوحِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} :

إن الشيطان لكم عدو - أيها الناس - منذ بداية خلقكم، فقد أخرج أباكم آدم من الجنة، وتوعد بإضلال ذريته، فاتخذوه لكم عدوا واحذروا إغراءه وإضلاله في عقائدكم وشرائعكم، فما يدعو المتحزبين معه والمشايعين له إلا إلى ملاذ الدنيا وشهواتها الآثمة، ليورطهم فيها، ويجعلهم من أصحاب جهنم وبئس المصير.

ص: 302

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}

المفردات:

{زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} : حسنت له نفسه وشيطانه عمله السىء.

{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} : فلا تهلك نفسك تحسُّرًا عليهم.

{فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي: تظهره وتنشره.

{فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: أرسلناه إلى أرض بلد لا زرع فيه.

{كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي: مثل إحياء الأرض بالنبات نشور الموتى وبعثهم من قبورهم.

التفسير

7 -

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} :

حذر الله عباده في الآية السابقة من خداع الشيطان حتى لا يكونوا باتباعه من أصحاب السعير، وعقَّبها بهذه الآية؛ لبيان مصير من يتبعه ومن يعرض عنه.

ص: 303

ومعنى الآية: الذين كفروا بسيرهم وراء الشيطان وقبولهم تغريره وخداعه لهم عذاب شديد لا يُقَادَر قَدرُهُ، والذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات التي عرفوها من الكتاب والسنة لهم مغفرة لما عسى أن يحدث منهم من الذنوب {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) ولهم مع ذلك أجر كبير، لإيثارهم طاعة الله على طاعة الشيطان.

8 -

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} :

لما بين الله في الآية السابقة مصير الكافرين الذين غرهم بالله الغرور، ومصير المؤمنين الذين أعرضوا عنه وأخلصوا لربهم، جاءت هذه الآية لتأكيد تفاوت الفريقين في الجزاء تبعًا لتفاوتهم في العمل، ولكي تخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم أثر ابتعاد قومه عن دعوة الحق.

والمعنى: أهما متساويان في العمل حتى يتساويا في الجزاء؟ فمن زين له الشيطان عمله السىء فاعتقده حسنًا وانهمك أي الكفر والمعاصي، كمن استقبحه واجتنبه واختار الإِيمان والعمل الصالح؟ كلا لا يستويان، ليست مسئولا يا محمد عن ضلال هؤلاء الضالين، فإن الله يترك من يشاءُ في ضلاله الذي أراده لنفسه ويعاقبه عليه، ويُعين من يشاءُ على الهدى الذي اختاره لنفسه ويثيب عليه، لإعراضه عن الإصغاء إلى تزيين الشيطان، فلا تهلك نفسك تلهفًا على إيمانهم وحزنًا على كفرهم، إن الله عليم بما يصنعون فيجازيهم على كفرهم.

9 -

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} :

هذه الآية تشير إلى برهان كوني على استحقاق الله - تعالى - للعبادة وحده، كما تشير إلى خطأ الكفار بعبادتهم أوثانهم الله لا شأن لها في أرزاقهم، وكفرهم بالبعث والنشور مع قيام الدليل عليه بإحياء البلد الميت.

(1) سورة هود، من الآية:114.

ص: 304