الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ، بِهَذَا تَمَيَّزُوا. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [سُورَةُ الْإِنْسَانِ: 9] .
وَأَمَّا إِنْفَاقُ الصِّدِّيقِ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِتَخْلِيصِ مَنْ آمَنَ، وَالْكُفَّارُ يُؤْذُونَهُ أَوْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ مِثْلَ اشْتِرَائِهِ بِمَالِهِ سَبْعَةً كَانُوا يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ، مِنْهُمْ بِلَالٌ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي بِلَالًا (1) .
وَإِنْفَاقُهُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفِي (2) نَصْرِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ قَاطِبَةً أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ. وَتِلْكَ النَّفَقَةُ مَا بَقِيَ يُمْكِنُ مِثْلُهَا. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (3) وَهَذَا فِي النَّفَقَةِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا، وَأَمَّا جِنْسُ إِطْعَامِ الْجَائِعِ مُطْلَقًا، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ يُمْكِنُ فِعْلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[فصل البرهان الثاني والعشرون " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " والجواب عليه]
فَصْلٌ
قَالَ الرَّافِضِيُّ (4) : " الْبُرْهَانُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 33] . مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}
(1) ذَكَرَ هَذَا الْإِسْنَادَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " 1/147.
(2)
س، ب: الْإِيمَانِ فِي. . .
(3)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/21
(4)
فِي (ك) ص 160 (م) .
[: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَآلُهُ](1){وَصَدَّقَ بِهِ} : قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْفَقِيهِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ (2) : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قَالَ: جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ عَلِيٌّ. وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ اخْتُصَّ بِهَا، فَيَكُونُ هُوَ الْإِمَامَ ".
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَوْ كَانَ (3) هَذَا النَّقْلُ صَحِيحًا عَنْهُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَنْهُ؟ ! فَإِنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ (4) الْكَذِبِ.
وَالثَّابِتُ عَنْ مُجَاهِدٍ (5) خِلَافُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ، فَجَعَلَهَا عَامَّةً. رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ [وَغَيْرُهُ] (6) عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ (7) : هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ يَجِيئُونَ [بِهِ](8) يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ فِي (ك) فَقَطْ.
(2)
ك:. . مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى. . .
(3)
س، ب: وَلَوْ كَانَ وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(4)
ن، م، س: كَثْرَةِ.
(5)
أَبُو الْحَجَّاجِ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ الْمَكِّيُّ، تَابِعِيٌّ، مُفَسِّرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وُلِدَ سَنَةَ 21 وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 104 قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي " سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ "، " الْإِمَامُ شَيْخُ الْقُرَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ. .، قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْتُ لِلْأَعْمَشَ: مَا بَالُهُمْ يَتَّقُونَ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ خِرَاشٍ: أَحَادِيثُ مُجَاهِدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ مَرَاسِيلُ "، انْظُرْ تَرْجَمَةَ مُجَاهِدٍ فِي " سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ " 4/449 - 457، طَبْعَةِ مُؤَسَّسَةِ الرِّسَالَةِ، بَيْرُوتَ 1401 1981، مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ 3/439 - 440 حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ 3/279 - 310 الْأَعْلَامِ 6/161.
(6)
وَغَيْرُهُ: زِيَادَةٌ فِي (م) .
(7)
فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ (ط. بُولَاقَ) 24/4
(8)
بِهِ: فِي (ن) وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ.
فَيَقُولُونَ (1) : هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُمُونَا قَدِ اتَّبَعْنَا (2) مَا فِيهِ. وَرَوَاهُ (3) أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَهُ، وَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: وَصَدَّقَ بِهِ. قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَصَدَّقَ بِهِ} . قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (4) -.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: مُحَمَّدٌ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ: أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ، وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَلِيٍّ. قَالَ (5) : جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَصَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ. وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ غُلَامِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ: أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ هُوَ - أَوْ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ (6) -: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ السَّائِلُ: بَلْ فِي عَلِيٍّ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ جَعْفَرٍ: اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 33] إِلَى قَوْلِهِ (7){لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 35] الْآيَةَ، فَبُهِتَ السَّائِلُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ مُطْلَقٌ لَا يَخْتَصُّ بِأَبِي بَكْرٍ وَلَا بِعَلِيٍّ،
(1) تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ: يَقُولُونَ.
(2)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ فَاتَّبَعْنَا.
(3)
ن، س، ب: رَوَاهُ.
(4)
انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ (ط. الشَّعْبِ) 7/89 - 90، زَادَ الْمَسِيرِ 7/182
(5)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ 24/3
(6)
كَذَا فِي (م) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: الْمُهَاجِرِينَ.
(7)
عِبَارَةُ " إِلَى قَوْلِهِ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب) .
بَلْ كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي عُمُومِهَا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا أَحَقُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالدُّخُولِ فِيهَا، لَكِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ - وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 32 - 33] الْآيَةَ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْكَاذِبَ عَلَى اللَّهِ وَالْمُكَذِّبَ بِالصِّدْقِ، وَهَذَا ذَمٌّ عَامٌّ.
وَالرَّافِضَةُ أَعْظَمُ أَهْلِ الْبِدَعِ دُخُولًا فِي هَذَا الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ ; فَإِنَّهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ افْتِرَاءً لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَعْظَمُهُمْ تَكْذِيبًا بِالصِّدْقِ لِمَا (1) جَاءَهُمْ، وَأَبْعَدُ الطَّوَائِفِ عَنِ الْمَجِيءِ بِالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَوْلَى الطَّوَائِفِ بِهَذَا ; فَإِنَّهُمْ يَصْدُقُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ هُوًى إِلَّا مَعَ الْحَقِّ.
وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الصَّادِقَ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ وَالْمُصَدِّقَ بِهَذَا الْحَقِّ. فَهَذَا مَدْحٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ، فَلَمْ يَجْعَلْهُمَا صِنْفَيْنِ، بَلْ جَعَلَهُمَا (2) صِنْفًا وَاحِدًا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مَدْحُ النَّوْعِ الَّذِي يَجِيءُ بِالصِّدْقِ وَيُصَدِّقُ بِالصِّدْقِ، فَهُوَ مَمْدُوحٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ، عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَأْنِهِ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ بِالصِّدْقِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُصَدِّقَ بِالصِّدْقِ.
وَقَوْلُهُ: {جَاءَ بِالصِّدْقِ} اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ صِدْقٍ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَحَقَّ بِالدُّخُولِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ صَدَّقَ بِهِ أَيْ بِجِنْسِ الصِّدْقِ (3) . وَقَدْ
(1) س، ب: لِلصِّدْقِ وَلِمَا.
(2)
ن، م، س: بَلْ جَعَلَهُمْ.
(3)
ب: مَنْ يُحْسِنُ الصِّدْقَ.
يَكُونُ الصِّدْقُ الَّذِي صُدِّقَ بِهِ لَيْسَ (1) هُوَ عَيْنَ الصِّدْقِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَسْمَعُ الْحَقَّ، وَيَقُولُ الْحَقَّ وَيَقْبَلُهُ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَعْمَلُ بِهِ. أَيْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ لِغَيْرِهِ، وَقَبُولِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعَدْلِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ.
فَلَمَّا ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنِ اتَّصَفَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ: الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، إِذْ كَلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ (2) الذَّمَّ، مَدَحَ ضِدَّهُمَا الْخَالِيَ عَنْهُمَا، بِأَنْ يَكُونَ يَجِيءُ بِالصِّدْقِ لَا بِالْكَذِبِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُصَدِّقًا بِالْحَقِّ، لَا يَكُونُ مِمَّنْ يَقُولُهُ هُوَ، وَإِذَا قَالَهُ غَيْرُهُ لَمْ (3) يُصَدِّقْهُ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْدُقُ وَلَا يَكْذِبُ، لَكِنْ يَكْرَهُ: أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ حَسَدًا وَمُنَافَسَةً، فَيُكَذِّبُ غَيْرَهُ فِي صِدْقِهِ أَوْ لَا يُصَدِّقُهُ، بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ. وَفِيهِمْ مَنْ يُصَدِّقُ طَائِفَةً فِيمَا قَالَتْ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا قَالُوهُ: أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كَذِبٌ؟ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى لَا يُصَدِّقُهَا (4) فِيمَا تَقُولُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا (5) .
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ صَادِقًا فِيمَا يَنْقُلُهُ، لَكِنْ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ طَائِفَتِهِ يُعْرِضُ عَنْهُ، فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْمَدْحِ، بَلْ فِي الذَّمِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُ.
(1) لَيْسَ سَاقِطَةٌ مِنْ (س)(ب) .
(2)
بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب) .
(3)
م: لَا.
(4)
س، ب: لَا تُصَدِّقُهَا.
(5)
س، ب: بَلْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقَهَا وَإِمَّا أَنْ تُعْرِضَ عَنْهَا.
وَاللَّهُ قَدْ ذَمَّ الْكَاذِبَ وَالْمُكَذِّبَ بِالْحَقِّ ; لِقَوْلِهِ فِي غَيْرِ آيَةٍ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 68] وَقَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 21] .
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَجِيءُ بِالصِّدْقِ فَلَا يَكْذِبُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ صَادِقٌ فِي نَفْسِهِ مُصَدِّقٌ لِغَيْرِهِ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: (وَالَّذِي) صِنْفًا مِنَ الْأَصْنَافِ لَا يُقْصَدُ (1) بِهِ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، أَعَادَ الضَّمِيرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 33] .
وَأَنْتَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى عِلْمٍ وَدِينٍ لَا يَكْذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ (2) ، بَلْ لَا يَقُولُونَ إِلَّا الصِّدْقَ، لَكِنْ لَا يَقْبَلُونَ مَا يُخْبِرُ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ الصِّدْقِ، بَلْ يَحْمِلُهُمُ الْهَوَى وَالْجَهْلُ عَلَى تَكْذِيبِ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا إِمَّا تَكْذِيبِ نَظِيرِهِ وَإِمَّا تَكْذِيبِ (3) مَنْ لَيْسَ مِنْ طَائِفَتِهِ.
وَنَفْسُ تَكْذِيبِ الصَّادِقِ هُوَ مِنَ الْكَذِبِ، وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالْكَاذِبِ (4) عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 32] فَكِلَاهُمَا كَاذِبٌ: [هَذَا كَاذِبٌ](5) فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَهَذَا كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْمُخْبِرِ عَنِ اللَّهِ.
(1) س، ب: لَا يُصَدِّقُ بِهِ، وَهُوَ خَطَأٌ.
(2)
ب: فِيمَا يَقُولُونَ.
(3)
م: إِمَّا بِكَذِبِ نَظِيرِهِ، وَإِمَّا بِكَذِبِ.
(4)
م: بِالْكَذِبِ.
(5)
عِبَارَةُ " وَهَذَا كَاذِبٌ " فِي (ب) فَقَطْ.
وَالنَّصَارَى يَكْثُرُ فِيهِمُ الْمُفْتَرُونَ لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَالْيَهُودُ يَكْثُرُ فِيهِمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْمُكَذِّبَ بِالصِّدْقِ نَوْعًا ثَانِيًا ; لِأَنَّهُ أَوَّلًا لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ، بَلْ ذَكَرَ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ. وَأَنْتَ إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا، وَعَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالصِّدْقِ مَذْمُومٌ، وَأَنَّ (1) الْمَدْحَ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ كَانَ آتِيًا بِالصِّدْقِ مُصَدِّقًا لِلصِّدْقِ، عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا مِمَّا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ.
إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّرِّ - أَوْ أَكْثَرَهُ - يَقَعُ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ (2) ، فَتَجِدُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَوِ الرَّجُلَيْنِ (3) مِنَ النَّاسِ، لَا يَكْذِبُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ، لَكِنْ لَا يَقْبَلُ مَا تَأْتِي بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَرُبَّمَا (4) جَمَعَ بَيْنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالصِّدْقِ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي عَامَّةِ الطَّوَائِفِ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ أَدْخَلَ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّافِضَةِ ; فَإِنَّمَا أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ (5) وَعَلَى ذَوِي الْقُرْبَى. وَكَذَلِكَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ تَكْذِيبًا بِالصِّدْقِ، فَيُكَذِّبُونَ بِالصِّدْقِ الثَّابِتِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مَا فِيهَا مِنْ مَدْحٍ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى الصَّحَابَةِ الَّذِينَ افْتَرَتْ عَلَيْهِمُ الرَّافِضَةُ وَظَلَمَتْهُمْ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ،
(1) م: فَإِنَّ.
(2)
م: مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَذَيْنِ.
(3)
س، ب: وَالرَّجُلَيْنِ.
(4)
م: وَرُبَّمَا.
(5)
م: وَعَلَى أَصْحَابِهِ.