المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار] - منهاج السنة النبوية - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[المنهج الثاني عند الرافضي في الأدلة من القرآن على إمامة علي رضي الله عنه]

- ‌[البرهان الأول " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثاني " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثالث " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الرابع " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الخامس " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السادس " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السابع " قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثامن " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان التاسع " فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان العاشر " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الحادي عشر " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثاني عشر " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثالث عشر " إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الرابع عشر " وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الخامس عشر " وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السادس عشر " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السابع عشر " الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثامن عشر " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان التاسع عشر " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان العشرون " وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الحادي والعشرون " سورة هل أتى " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثاني والعشرون " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثالث والعشرون " هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الرابع والعشرون " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الخامس والعشرون " فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السادس والعشرون " وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السابع والعشرون " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثامن والعشرون " لَيْسَ مِنْ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيٌّ رَأْسُهَا وَأَمِيرُهَا. . . " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان التاسع والعشرون " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثلاثون " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الحادي والثلاثون " وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثاني والثلاثون " يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثالث والثلاثون " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الرابع والثلاثون " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الخامس والثلاثون " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السادس والثلاثون " وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان السابع والثلاثون " وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الثامن والثلاثون " إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان التاسع والثلاثون " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ " والجواب عليه]

- ‌[فصل البرهان الأربعون " فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ " والجواب عليه]

- ‌[المنهج الثالث عند الرافضي في الأدلة المستندة إلى السنة على إمامة علي رضي الله عنه]

- ‌[الأول لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]

- ‌[الثاني حديث الغدير]

- ‌[الثالث قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى]

- ‌[الرابع أَنَّ النَبَّي صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ عَليًّا عَلَى الْمَدِينَةِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ]

- ‌[الخامس حديث أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي]

- ‌[السادس حديث الْمُؤَاخَاة]

- ‌[السابع حديث الراية]

- ‌[الثامن حديث الطائر]

- ‌[التاسع مَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِأَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ]

- ‌[العاشر حديث غدير خم وحديث أهل بيتي مثل سفينة نوح]

- ‌[الحادي عشر الأحاديث التي رواها الجمهور عن وحوب محبته وموالاته]

- ‌[الثاني عشر أحاديث أخرى يستدل بها على إمامة علي رضي الله عنه]

- ‌[قول الرافضي إنه يجب الأخذ بالأحاديث ويحرم العدول عنها]

- ‌[فصل لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ خَبِيرًا بِالْمَنْقُولَاتِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا وَصَوَابِهَا وَخَطَئِهَا]

- ‌[فصل الطُّرُقِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا كَذِبُ الْمَنْقُولِ]

- ‌[توجد أحاديث أخرى لم يذكرها الرافضي وهي أدل على مقصوده من التي ذكرها]

- ‌[طُرُقٌ يُمْكِنُ سُلُوكُهَا لِمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأَخْبَارِ]

- ‌[المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامة علي المستنبطة من أحواله]

- ‌[الأول أنه كَانَ أَزْهَدَ النَّاسِ والرد عليه]

- ‌[قال الرافضي الثاني أن عليا رضي الله عنه كان أعبد الناس والرد عليه]

- ‌[قال الرافضي الثالث أنه كان أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

الفصل: ‌[طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار]

[طُرُقٌ يُمْكِنُ سُلُوكُهَا لِمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأَخْبَارِ]

فَصْلٌ

وَهُنَا طُرُقٌ (1) يُمْكِنُ سُلُوكُهَا لِمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأَخْبَارِ مِنَ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَاصَّةِ - فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ - يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ فِي أَكْثَرِ مَا يُرْوَى مِنَ الْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ (2) ، وَلِهَذَا عَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ بِالْإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرِّجَالِ لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا، وَسَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ.

وَلَكِنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ هِيَ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، الْعَالِمِينَ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَلَكِنْ نَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقًا آخَرَ، فَنَقُولُ: نُقَدِّرُ أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَنَازَعَ فِيهَا لَمْ تُوجَدْ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهَا الصَّحِيحُ، وَنَتْرُكُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا فِي الطَّرَفَيْنِ، وَنَرْجِعُ إِلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاتُرِ، وَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْعُقُولِ (3) وَالْعَادَاتِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا.

فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَنْقُولَاتِ، وَالسِّيَرِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَطْلُبِ الْخِلَافَةَ لَا بِرَغْبَةٍ وَلَا بِرَهْبَةٍ، لَا بَذَلَ فِيهَا مَا يُرَغِّبُ (4) النَّاسَ بِهِ، وَلَا شَهَرَ

(1) س، ب: طَرِيقٌ

(2)

ن، م: عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ

(3)

ن، م: بِالْعُقُولِ

(4)

ن، م: مَا لَا يُرَغِّبُ، وَهُوَ خَطَأٌ

ص: 449

عَلَيْهِمْ سَيْفًا يُرْهِبُهُمْ بِهِ، وَلَا كَانَتْ لَهُ قَبِيلَةٌ وَلَا مَوَالٍ (1) تَنْصُرُهُ، وَتُقِيمُهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ (2) الْمُلُوكِ أَنَّ أَقَارِبَهُمْ وَمَوَالِيَهُمْ يُعَاوِنُونَهُمْ، وَلَا طَلَبَهَا أَيْضًا بِلِسَانِهِ، وَلَا قَالَ: بَايِعُونِي، بَلْ أَمَرَ بِمُبَايَعَةِ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ كَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَمْ يُؤْذِهِ، وَلَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْمُبَايَعَةِ، وَلَا مَنَعَهُ حَقًّا لَهُ، وَلَا حَرَّكَ عَلَيْهِمْ سَاكِنًا، وَهَذَا (3) غَايَةٌ فِي عَدَمِ إِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْمُبَايَعَةِ.

ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَايَعُوهُ وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ، وَالَّذِينَ بَايَعُوهُ هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.

وَأَمَّا عَلِيٌّ وَسَائِرُ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ (4) ، لَكِنْ تَخَلَّفَ فَإِنَّهُ (5) كَانَ يُرِيدُ الْإِمْرَةَ (6) لِنَفْسِهِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ قَاتَلَ بِهِمُ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لَمْ (7) يُقَاتِلْ

(1) م: أَمْوَالٌ

(2)

ن، س: جَرَتْ مِنْ عَادَةِ ; ب: جَرَى مِنْ عَادَةِ

(3)

س، ب: وَهَذِهِ

(4)

م: بَايَعُوا

(5)

ن، س: لَكِنَّ تَخَلُّفَهُ فَإِنَّهُ ; ب: لَكِنَّ تَخَلُّفَهُ لِأَنَّهُ. وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه

(6)

ن، س، ب: الْأَمْرَ

(7)

س، ب: وَلَمْ

ص: 450

مُسْلِمِينَ، بَلْ أَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَأَخَذَ يَزِيدُ الْإِسْلَامَ فُتُوحًا، وَشَرَعَ فِي قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَمَاتَ وَالْمُسْلِمُونَ مُحَاصِرُو دِمَشْقَ، وَخَرَجَ مِنْهَا أَزْهَدَ (1) مِمَّا دَخَلَ فِيهَا: لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَنْهُمْ (2) بِشَيْءٍ، وَلَا أَمَّرَ لَهُ قَرَابَةً.

ثُمَّ وَلِيَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَفَتَحَ الْأَمْصَارَ، وَقَهَرَ الْكُفَّارَ، وَأَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ، وَأَذَلَّ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْعُدْوَانِ، وَنَشَرَ الْإِسْلَامَ وَالدِّينَ، وَبَسَطَ الْعَدْلَ فِي الْعَالَمِينَ، وَوَضَعَ دِيوَانَ الْخَرَاجِ وَالْعَطَاءِ لِأَهْلِ الدِّينِ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْهَا أَزْهَدَ (3) مِمَّا دَخَلَ فِيهَا، لَمْ يَتَلَوَّثْ لَهُمْ بِمَالٍ، وَلَا وَلَّى أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ وِلَايَةً، فَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ.

وَأَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ بَنَى عَلَى أَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ قَبْلَهُ بِسَكِينَةٍ وَحِلْمٍ (4) ، وَهُدًى وَرَحْمَةٍ وَكَرَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةُ عُمَرَ وَلَا سِيَاسَتُهُ، وَلَا فِيهِ كَمَالُ عَدْلِهِ وَزُهْدِهِ، فَطُمِعَ فِيهِ بَعْضُ الطَّمَعِ، وَتَوَسَّعُوا فِي الدُّنْيَا، (وَأَدْخَلَ مِنْ أَقَارِبِهِ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ)(5) ، وَدَخَلَتْ (6) بِسَبَبِ أَقَارِبِهِ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ (7) أُمُورٌ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، فَتَوَلَّدَ مِنْ رَغْبَةِ (8)(بَعْضِ)(9) النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَضَعْفِ

(1) س، ب: أَزْيَدَ

(2)

م: عَلَيْهِمْ

(3)

س، ب: أَزْيَدَ

(4)

ن، م، س: وَحُكْمٍ

(5)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ فِي (م) فَقَطْ. وَفِيهَا فِي الْأَصْلِ: وَدَخَلُوا مِنْ أَقَارِبِهِ. . . إِلَخْ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ

(6)

ن، س، ب: وَدَخَلَ

(7)

م: الْمَالِ

(8)

م: رَعِيَّتِهِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

(9)

بَعْضِ: زِيَادَةٌ فِي (م)

ص: 451

خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَمِنْهُ، وَمِنْ ضَعْفِهِ هُوَ، وَمَا حَصَلَ مِنْ أَقَارِبِهِ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ - مَا أَوْجَبَ الْفِتْنَةَ حَتَّى قُتِلَ مَظْلُومًا شَهِيدًا.

وَتَوَلَّى (1) عَلِيٌّ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَالْفِتْنَةُ قَائِمَةٌ، وَهُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مُتَلَطِّخٌ (2) بِدَمِ عُثْمَانَ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ (3) الْكَاذِبُونَ عَلَيْهِ الْمُبْغِضُونَ لَهُ، كَمَا نَعْلَمُ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ (4) الْغَالُونَ فِيهِ الْمُبْغِضُونَ لِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يُعِنْ عَلَى (5) قَتْلِ عُثْمَانَ وَلَا رَضِيَ بِهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ - وَهُوَ الصَّادِقُ - أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، فَلَمْ تَصْفُ لَهُ قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَلَا أَمْكَنَهُ هُوَ قَهْرُهُمْ حَتَّى يُطِيعُوهُ، وَلَا اقْتَضَى رَأْيُهُ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، بَلِ اقْتَضَى رَأْيُهُ الْقِتَالَ، وَظَنَّ أَنَّهُ بِهِ تَحْصُلُ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَمَا زَادَ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَجَانِبُهُ إِلَّا ضَعْفًا، وَجَانِبُ مَنْ حَارَبَهُ إِلَّا قُوَّةً، وَالْأُمَّةُ إِلَّا افْتِرَاقًا، حَتَّى كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ يَطْلُبُ هُوَ (6) أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مَنْ قَاتَلَهُ، كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُطْلَبُ مِنْهُ الْكَفُّ.

وَضَعُفَتْ خِلَافَةُ (النُّبُوَّةِ)(7) ضَعْفًا أَوْجَبَ أَنْ تَصِيرَ مُلْكًا، فَأَقَامَهَا مُعَاوِيَةُ مُلْكًا بِرَحْمَةٍ وَحِلْمٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ (8) : " «تَكُونُ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ

(1) ن، م: فَتَوَلَّى

(2)

س، ب: مُلَطَّخٌ

(3)

: سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(4)

: سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(5)

م: لَمْ يُحَرِّضْ عَلَى

(6)

م: هُوَ يَطْلُبُ

(7)

ن، س، ب: وَضَعُفَتِ الْخِلَافَةُ

(8)

الْمَأْثُورِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

ص: 452

تَكُونُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ (1) ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ» " (2) .

وَلَمْ يَتَوَلَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ خَيْرًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فَهُوَ خَيْرُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ، وَسِيرَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سِيرَةِ سَائِرِ الْمُلُوكِ بَعْدَهُ، وَعَلِيٌّ آخِرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ هُمْ (3) وِلَايَتُهُمْ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ، وَكُلٌّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم يُشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ (4) أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، (5) بَلْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ (6)، لَكِنْ إِذَا جَاءَ الْقَادِحُ فَقَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: إِنَّهُمَا كَانَا ظَالِمَيْنِ مُتَعَدِّيَيْنِ (7) طَالِبَيْنِ لِلرِّئَاسَةِ مَانِعَيْنِ لِلْحُقُوقِ، (وَإِنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى الرِّئَاسَةِ)(8) ، وَإِنَّهُمَا - وَمَنْ أَعَانَهُمَا - ظَلَمُوا الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَحِقَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، وَإِنَّهُمْ مَنَعُوا أَهْلَ الْبَيْتِ مِيرَاثَهُمْ، وَإِنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى الرِّئَاسَةِ وَالْوِلَايَةِ

(1) م: مُلْكًا رَحْمَةً

(2)

ذَكَرَ الْهَيْثَمِيُّ فِي " مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ " فِي كِتَابِ الْخِلَافَةِ، بَابُ كَيْفَ بَدَأَتِ الْإِمَامَةُ وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْخِلَافَةُ وَالْمُلْكُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مُقَارِبَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَقْرَبُهَا إِلَيْهِ هُوَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ 5/189 190)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكَادَمُونَ عَلَيْهَا تَكَادُمَ الْحَمِيرِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جِهَادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رِبَاطِكُمْ عَسْقَلَانُ ". قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ " وَيَتَكَادَمُونَ: أَيْ يَعَضُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَانْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي " سِلْسِلَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ " 1/8 9 (حَدِيثٌ رَقْمُ 5)

(3)

هُمْ: لَيْسَتْ فِي (م)

(4)

مِنْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(5)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(6)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(7)

ن: مُعْتَدَيْنِ ; م: مُتَعَدَّيْنِ

(8)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م)

ص: 453

الْبَاطِلَةِ مَعَ مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ سِيرَتِهِمَا (1) - كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَوْ كَانَ حَقًّا فَهُوَ أَوْلَى بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا (2) حَتَّى غُلِبَ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُنَازِعِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ بِالْقِتَالِ لَا مَصْلَحَةُ الدِّينِ وَلَا مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا، وَلَا قُوتِلَ فِي خِلَافَتِهِ كَافِرٌ، وَلَا فَرِحَ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ عَلِيًّا لَا يَفْرَحُ بِالْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَشِيعَتُهُ لَمْ تَفْرَحْ بِهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَغْلِبْ، وَالَّذِينَ قَاتَلُوهُ لَمْ يَزَالُوا أَيْضًا فِي كَرْبٍ وَشِدَّةٍ.

وَإِذَا كُنَّا نَدْفَعُ مَنْ يَقْدَحُ فِي عَلِيٍّ مِنَ الْخَوَارِجِ، مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَلَأَنْ نَدْفَعَ مَنْ يَقْدَحُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.

وَإِنْ جَازَ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ قَاصِدًا لِلرِّئَاسَةِ (3) بِالْبَاطِلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ إِلَّا ضِدُّ ذَلِكَ، فَالظَّنُّ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَى الْوِلَايَةِ - وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُهُ - أَوْلَى وَأَحْرَى.

فَإِذَا ضُرِبَ مَثَلُ هَذَا وَهَذَا بِإِمَامَيْ مَسْجِدٍ، وَشَيْخَيْ مَكَانٍ (4)، أَوْ مُدَرِّسَيْ مَدْرَسَةٍ - كَانَتِ الْعُقُولُ كُلُّهَا تَقُولُ: إِنَّ هَذَا أَبْعَدُ عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ.

فَإِذَا كُنَّا نَظُنُّ بِعَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ وَالدِّينِ، وَغَيْرَ مُرِيدٍ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، فَظَنُّ ذَلِكَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما أَوْلَى وَأَحْرَى.

(1) م: سِيَرِهِمَا

(2)

ن، س: أَوْلَى مَنْ قَالَ عَلَيْهَا ; م: أَوْلَى بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا

(3)

ب: الرِّئَاسَةَ

(4)

س: كَانَ ; ب: خَانٍ

ص: 454

وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ بِأَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ، فَهَذَا الظَّنُّ بِعَلِيٍّ أَجْدَرُ وَأَوْلَى.

أَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ ظُهُورِ السِّيرَتَيْنِ - فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا تَوَاتَرَ مِنَ السِّيرَتَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الْمُتَوَاتِرُ مِنَ السِّيرَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ.

وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ ادَّعَوْا هَذَا لِعَلِيٍّ أَحَالُوا عَلَى مَا لَمْ يُعْرَفْ، وَقَالُوا: ثَمَّ نَصٌّ عَلَى خِلَافَتِهِ كُتِمَ، وَثَمَّ (1) عَدَاوَةٌ بَاطِنَةٌ لَمْ تَظْهَرْ، بِسَبَبِهَا مُنِعَ حَقَّهُ.

وَنَحْنُ الْآنَ مَقْصُودُنَا أَنْ نَذْكُرَ مَا عُلِمَ وَتَيَقَّنَ وَتَوَاتَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ (2) مِنْ مَنْقُولٍ يَدْفَعُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمِنْ ظُنُونِ سَوْءٍ لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ بَلْ نَعْلَمُ فَسَادَهَا، فَالْمُحْتَجُّ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ مُقَابَلَةٌ بِالْأَحَادِيثِ مِنَ الطُّرُقِ الْأُخَرِ.

وَنَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَكَيْفَ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؟ !

فَالْمَعْلُومُ الْمُتَيَقَّنُ الْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ إِرَادَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَضْلًا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ، (3) وَأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى (4) بِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاحِ (5) الْمُسْلِمِينَ مِنَ الثَّلَاثَةِ

(1) س، ب: ثَمَّ

(2)

ن، س: مَا نَذْكُرُ

(3)

: سَاقِطٌ مِنْ (س)، (ب) وَفِي (س) :. . . وَعَلِيٍّ وَحْدَهُ

(4)

ب:. . كَانَ وَحْدَهُ أَوْلَى.

(5)

س، ب: وَإِصْلَاحِ

ص: 455

بَعْدَهُ، فَضْلًا عَنْ عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ كَانَ أَكْمَلَ عَقْلًا وَدِينًا وَسِيَاسَةً مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ (1) وِلَايَتَهُ الْأُمَّةَ (2) خَيْرٌ مِنْ وِلَايَةِ عَلِيٍّ، وَأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْظَمُ مِنْ مَنْفَعَةِ عَلِيٍّ، رضي الله عنهم (أَجْمَعِينَ)(3) .

وَإِذَا كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا مُرِيدًا وَجْهَ اللَّهِ بِمَا فَعَلَ (4) ، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ، وَمَا حَصَلَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَا الْفَسَادِ - كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْلَى وَأَخْلَقَ وَأَحْرَى (5) .

فَهَذَا وَجْهٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُعَارِضَهُ إِلَّا بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ نَقْلٌ خَاصٌّ، كَالنَّقْلِ لِفَضَائِلِ عَلِيٍّ، وَلِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، أَوْ أَنَّ إِمَامَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَحِينَئِذٍ فَيُعَارَضُ هَذَا بِنَقْلِ الْخَاصَّةِ - الَّذِينَ هُمْ أَصْدَقُ وَأَكْثَرُ - لِفَضَائِلِ الصِّدِّيقِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَأَنَّ النُّصُوصَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.

فَمَا مِنْ حُجَّةٍ يَسْلُكُهَا الشِّيعِيُّ إِلَّا وَبِإِزَائِهَا لِلسُّنِّيِّ حُجَّةٌ مِنْ جِنْسِهَا أَوْلَى مِنْهَا، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ، فَمَا مِنْ حُجَّةٍ يَسْلُكُهَا كِتَابِيٌّ إِلَّا وَلِلْمُسْلِمِ فِيهَا مَا هُوَ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْهَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (سُورَةِ الْفُرْقَانِ: 33)

(1) ن، س، ب: فَإِنَّ

(2)

ن، س، ب: لِأُمَّتِهِ

(3)

أَجْمَعِينَ: زِيَادَةٌ فِي (م)

(4)

م: لِوَجْهِ اللَّهِ بِمَا يَفْعَلُ

(5)

ب: وَأُخْرَى، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

ص: 456

لَكِنَّ صَاحِبَ الْهَوَى الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي جِهَةٍ، إِذَا وُجِّهَ لَهُ الْمُخَالِفُ لِهَوَاهُ ثَقُلَ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَاتِّبَاعُهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (سُورَةُ " الْمُؤْمِنُونَ ": 71) .

وَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: دَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَصْرِفُهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا (1) حَصَلَ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَانْتَفَى الصَّارِفُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَجَبَ الْفِعْلُ.

فَعُلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعُوا فِيمَا فَعَلُوهُ الْحَقَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ (2) خَيْرُ الْأُمَمِ، وَقَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ لَهُمُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ يُقَدِّمُونَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَا عِنْدَ عَلِيٍّ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ يُؤَخِّرُونَهُ لِأَجْلِهِ، بَلْ لَوْ فَعَلُوا بِمُوجِبِ الطَّبْعِ لَقَدَّمُوا عَلِيًّا، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ لَوِ اتَّبَعَتِ الْهَوَى أَنْ تَتَّبِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَيْمٍ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ لَا سِيَّمَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنُو مَخْزُومٍ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ لِمَنَافِيٍّ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ تَيْمِيٍّ لَوِ اتَّبَعُوا الْهَوَى، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَأَمْثَالُهُ يَخْتَارُونَ تَقْدِيمَ عَلِيٍّ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ طَلَبَ مِنْ عَلِيٍّ أَنْ يَتَوَلَّى لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو قُحَافَةَ، لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَكَ تَوَلَّى، قَالَ:" أَوَرَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنُو مَخْزُومٍ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِ

(1) ن، ب، ب: وَإِذَا

(2)

ن، م، س: أَنَّهُ، وَهُوَ خَطَأٌ

ص: 457

بِأَنَّ بَنِي تَيْمٍ كَانُوا مِنْ أَضْعَفِ الْقَبَائِلِ، وَأَنَّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ كَانَتْ مِنْ تَيْنِكَ الْقَبِيلَتَيْنِ.

وَهَذَا، وَأَمْثَالُهُ مِمَّا (إِذَا)(1) تَدَبَّرَهُ الْعَاقِلُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا أَبَا بَكْرٍ إِلَّا لِتَقْدِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ خَيْرَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا يُقَدِّمُ بِالتَّقْوَى لَا بِالنَّسَبِ، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَتْقَاهُمْ.

وَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، (2) ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (3) ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ (4) مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَضْلًا عَنْ زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا خَيْرًا وَأَفْضَلَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ، وَأَنَّ (5) الْإِسْلَامَ كَانَ فِي زَمَنِهِمْ أَقْوَى وَأَظْهَرَ، فَإِنْ كَانَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ قَدْ جَحَدُوا حَقَّ الْإِمَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، وَمَنَعُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِمْ مِيرَاثَهُمْ، وَوَلَّوْا فَاسِقًا وَظَالِمًا، وَمَنَعُوا عَادِلًا عَالِمًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ شَرُّ الْأُمَمِ ; لِأَنَّ هَذَا فِعْلُ خِيَارِهَا، فَكَيْفَ بِفِعْلِ شِرَارِهَا؟ ! .

وَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم كَانَ لَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى

(1) إِذَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) . وَفِي (س)، (ب) : إِنْ

(2)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب) ، وَسَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/35

(3)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب) ، وَسَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/35

(4)

ب: فَإِنَّ

(5)

م: فَإِنَّ

ص: 458

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِصَاصٌ عَظِيمٌ، وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ اخْتِصَاصًا بِهِ، وَصُحْبَةً لَهُ، وَقُرْبًا إِلَيْهِ، وَاتِّصَالًا بِهِ، وَقَدْ صَاهَرَهُمْ كُلَّهُمْ، وَمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَذُمُّهُمْ، وَلَا يَلْعَنُهُمْ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ.

وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ مَعَ هَذَا التَّقَرُّبِ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ: إِمَّا عَدَمُ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوْ مُدَاهَنَتُهُ لَهُمْ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ أَعْظَمُ الْقَدْحِ فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قِيلَ:

فَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ

وَإِنْ كَانُوا انْحَرَفُوا بَعْدَ الِاسْتِقَامَةِ فَهَذَا خِذْلَانٌ مِنَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ فِي خَوَاصِّ أُمَّتِهِ، وَأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ قَدْ أُخْبِرَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْنَ كَانَ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ؟ وَأَيْنَ الِاحْتِيَاطُ لِلْأُمَّةِ حَتَّى لَا يُوَلَّى مِثْلُ هَذَا أَمْرَهَا، وَمَنْ وُعِدَ أَنْ يَظْهَرَ دِينُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَكَابِرُ خَوَاصِّهِ مُرْتَدِّينَ؟

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَقْدَحُ بِهِ الرَّافِضَةُ فِي الرَّسُولِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ الطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ: رَجُلُ سَوْءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سَوْءٍ، وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ.

وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ الرَّافِضَةَ دَسِيسَةُ الزَّنْدَقَةِ، وَإِنَّهُ وُضِعَ عَلَيْهَا. وَطَرِيقٌ آخَرُ أَنْ يُقَالَ: الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِعَلِيٍّ - إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ -

ص: 459

قَوِيَّةٌ (1) ، وَالصَّوَارِفُ مُنْتَفِيَةٌ، وَالْقُدْرَةُ حَاصِلَةٌ. وَمَعَ وُجُودِ الدَّاعِي، وَالْقُدْرَةِ وَانْتِفَاءِ الصَّارِفِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ (2) ابْنُ عَمِّ نَبِيِّهِمْ، وَمِنْ أَفْضَلِهِمْ نَسَبًا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ عَدَاوَةٌ: لَا عَدَاوَةُ نَسَبٍ، وَلَا إِسْلَامٍ، بِأَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: قَتَلَ أَقَارِبَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى (3) مُنْتَفٍ فِي الْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ أُقَارِبِهِمْ، وَلَهُمُ الشَّوْكَةُ، وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْ بَنِي تَيْمٍ، وَلَا عَدِيٍّ، وَلَا كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ (4) أَحَدًا، وَالْقَبَائِلُ (5) الَّتِي قَتَلَ مِنْهَا كَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، كَانَتْ تُوَالِيهِ، وَتَخْتَارُ وِلَايَتَهُ (6) ; لِأَنَّهُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى وِلَايَتِهِ (7) ، أَوْ كَانَ (8) هُوَ الْأَفْضَلَ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ يُوجِبُ انْبِعَاثَ إِرَادَتِهِمْ إِلَى وِلَايَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَارِفٌ يَمْنَعُ، وَالْأَسْبَابُ كَانَتْ مُسَاعِدَةً لِهَذَا الدَّاعِي، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَلَا صَارِفَ أَصْلًا.

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الصَّارِفَ كَانَ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ فَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهُمْ عَنْهُ، بَلْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَلَوْ قَالَتِ الْأَنْصَارُ: عَلِيٌّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ سَعْدٍ وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ - (مَا)(9) أَمْكَنَ أُولَئِكَ

(1) قَوِيَّةٌ: سَاقِطَةٌ (س) . وَفِي (ب) : مَوْجُودَةٌ.

(2)

هُوَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(3)

الْمَعْنَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(4)

سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(5)

سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(6)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(7)

سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(8)

ب: لَوْ كَانَ

(9)

مَا: فِي (ب) فَقَطْ

ص: 460

النَّفَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يُدَافِعُوهُمْ، وَقَامَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَعَ عَلِيٍّ، لَا سِيَّمَا وَكَانَ جُمْهُورُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُبْغِضُونَ عُمَرَ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَبُغْضُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لِعُمَرَ أَعْظَمُ مِنْ بُغْضِهِمْ لِعَلِيٍّ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا، بَلْ لَمْ (1) يُعْرَفْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُبْغِضُهُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ إِلَّا (2) كَمَا يُبْغِضُونَ أَمْثَالَهُ، بِخِلَافِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقِيَاسِ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْ جِهَةٍ فِيهَا عُمَرُ.

وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ كَرِهَ خِلَافَتَهُ طَائِفَةٌ، حَتَّى قَالَ طَلْحَةُ: مَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا وَلَّيْتَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا؟ فَقَالَ: أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُنِي؟ أَقُولُ: وَلَّيْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ.

فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ مَعَ عَلِيٍّ، وَأَهْلُ الْبَاطِلِ مَعَ عَلِيٍّ، فَمَنِ الَّذِي يَغْلِبُهُ إِذَا كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ؟ وَهَبْ أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا لَمْ يَغْلِبُوا، أَمَا كَانَتِ الدَّوَاعِي الْمَعْرُوفَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تُوجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِي ذَلِكَ قِيلَ وَقَالَ وَنَوْعٌ مِنَ الْجِدَالِ؟ أَوَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْكَلَامِ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي وِلَايَةِ سَعْدٍ؟ فَإِذَا كَانَتِ الْأَنْصَارُ بِشُبْهَةٍ (3) لَا أَصْلَ لَهَا طَمِعُوا أَنْ يَتَأَمَّرَ سَعْدٌ، فَمَنْ يَكُونُ فِيهِمُ الْمُحِقُّ (4) ؟

وَنَصُّ الرَّسُولِ الْجَلِيُّ كَيْفَ لَا يَكُونُ أَعْوَانُهُ أَطْمَعَ فِي الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ لَمْ يَنْبِزْ (5) مُتَكَلِّمٌ مِنْهُمْ (6) بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَدْعُ دَاعٍ إِلَى عَلِيٍّ:

(1) ن، م، س: لِمَنْ، وَهُوَ خَطَأٌ

(2)

إِلَّا: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(3)

ن: تُشْبِهُهُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

(4)

ن، م: الْحَقُّ

(5)

م: يَنْبِزْهُ، س: يُمَيِّزْ ; ب: يَنْبِسْ

(6)

مِنْهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

ص: 461

لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَحِينَئِذٍ قَامَ هُوَ وَأَعْوَانُهُ فَطَلَبُوا وَقَاتَلُوا وَلَمْ يَسْكُتُوا، حَتَّى كَادُوا يَغْلِبُوا (1) - عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ سُكُوتَهُمْ أَوَّلًا كَانَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى لَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ (2) الْأَحَقُّ فَضْلًا عَنْ نَصٍّ جَلِيٍّ، وَأَنَّهُ (3) لَمَّا بَدَا لَهُمُ اسْتِحْقَاقُهُ قَامُوا مَعَهُ، مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ.

وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْمُمَانَعَةِ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، لَوْ كَانَ لِعَلِيٍّ حَقٌّ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَدْعُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا أَرْغَبَ وَلَا أَرْهَبَ، وَلَا (4) كَانَ طَالِبًا لِلرِّئَاسَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُمْكِنُ أَحَدًا الْقَدْحُ فِي عَلِيٍّ، كَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ نَسَبَهُ كَثِيرٌ مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ إِلَى أَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: خَذَلَهُ، وَكَانَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ فِي عَسْكَرِهِ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مَنَعَتْ كَثِيرًا مِنْ مُبَايَعَتِهِ.

وَهَذِهِ الصَّوَارِفُ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَكَانَ جُنْدُهُ أَعْظَمَ، وَحَقُّهُ إِذْ ذَاكَ - لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا - أَظْهَرَ، وَمُنَازِعُوهُ أَضْعَفَ دَاعِيًا وَأَضْعَفَ قُوَّةً، وَلَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ قَوِيٌّ يَدْعُو إِلَى مَنْعِهِ (5) ، كَمَا كَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَلَا جُنْدٌ (6) يُجْمِعُ عَلَى مُقَاتَلَتِهِ (7) ، كَمَا كَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ.

(1) ن، س: يُعْلِنُوا

(2)

س، ب: بِأَنَّهُ هُوَ

(3)

س، ب: وَأَنَّهُمْ

(4)

ب: لَا

(5)

ن، س: مَنْفَعَةٍ ; م: بَيْعَةٍ (غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ)

(6)

ن، م، س: جُنْدُهُ

(7)

س: مُقَابَلَتِهِ

ص: 462

وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا مَنْ تَأَمَّلَهَا تَبَيَّنَ لَهُ انْتِفَاءُ اسْتِحْقَاقِهِ إِذْ ذَاكَ بَيَانًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ لِعَلِيٍّ، وَطَلَبَهُ (1) عَلِيٌّ لَكَانَ أَبُو بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يُجَامِلَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَامَ (2) أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ظَالِمٌ يُدَافِعُ عَلِيًّا وَهُوَ مُحِقٌّ، لَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ وَالْعَادَةُ وَالْعَقْلُ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مَعَ عَلِيٍّ الْمُحِقِّ الْمَعْصُومِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْمُعْتَدِي الظَّلُومِ، لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَالنُّفُوسُ تَنْفِرُ عَنْ مُبَايَعَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْوِلَايَةِ أَعْظَمُ مِنْ نَفْرَتِهَا عَنْ مُبَايَعَةِ أَهْلِ بَيْتِ الْمُطَاعِ (3) ، فَالدَّوَاعِي لِعَلِيٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَتْ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ، لَوْ كَانَ أَحَقَّ، وَهِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَتْ أَبْعَدَ لَوْ كَانَ ظَالِمًا.

لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضَى مَعَ أَبِي بَكْرٍ - وَهُوَ دِينُ اللَّهِ - قَوِيًّا، وَالْإِسْلَامُ فِي جِدَّتِهِ (4) وَطَرَاوَتِهِ (5) وَإِقْبَالِهِ، كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ أَلَّا (6) يَصْرِفُوا الْحَقَّ عَمَّنْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْأَحَقُّ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ (كَانَ)(7) لِبَعْضِهِمْ هَوًى مَعَ الْغَيْرِ.

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَعَهُ هَوًى إِلَّا هَوَى الدِّينِ، الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.

فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا مَنْ تَدَبَّرَهَا عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْأَحَقُّ بِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ وِلَايَتَهُ أَرْضَى لِلَّهِ (8) وَرَسُولِهِ فَبَايَعُوهُ،

(1) س، ب: وَطَالَبَهُ

(2)

ن، م: أَقَامَ

(3)

م: أَهْلِ بَيْتٍ مُطَاعٍ ; س، ب: أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُطَاعِ

(4)

م، س: حِدَّتِهِ

(5)

ب: وَطَرَاءَتِهِ

(6)

ن، س: وَأَنْ ; ب، م: أَنْ. وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ

(7)

كَانَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (س) ، (ب)

(8)

م: تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ

ص: 463

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَعْرِفُوا وَيُحَرِّفُوا، وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً وَدِينًا، وَالْأَسْبَابُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَهَذَا الْمَعْلُومُ الْيَقِينِيُّ لَا يَنْدَفِعُ بِأَخْبَارٍ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا، فَكَيْفَ إِذَا عُلِمَ كَذِبُهَا؟ وَأَلْفَاظٍ لَا تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا، فَكَيْفَ إِذَا عُلِمَ انْتِفَاءُ دَلَالَتِهَا؟ وَمَقَايِيسَ لَا نِظَامَ لَهَا، يُعَارِضُهَا مِنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ الثَّابِتِ الْإِسْنَادِ الْمَعْلُومِ الْمَدْلُولِ مَا هُوَ أَقْوَى وَأَوْلَى بِالْحَقِّ، وَأَحْرَى.

وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ (1) الْحَقَّ الْمَعْلُومَ (2) يَقِينًا بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ عِلْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ بِشُبَهٍ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، هُمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمُ الزَّيْغُ (3) ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ، كَالنَّصَارَى، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَدَعُونَ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ، وَيُعَارِضُونَهَا بِشُبَهٍ لَا تُفِيدُ إِلَّا الشَّكَّ، لَوْ تُعْرَضُ (4) لَمْ تَثْبُتْ، وَهَذَا فِي الْمَنْقُولَاتِ سَفْسَطَةٌ كَالسَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَهُوَ الْقَدْحُ فِيمَا عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ بِشُبَهٍ تُعَارِضُ ذَلِكَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ (5) الْمُسْتَقِرَّ فِي الْقُلُوبِ بِالشُّبَهِ فَقَدْ سَلَكَ مَسْلَكَ السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّ السَّفْسَطَةَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: النَّفْيُ وَالْجَحْدُ وَالتَّكْذِيبُ: إِمَّا بِالْوُجُودِ، وَإِمَّا بِالْعِلْمِ بِهِ.

وَالثَّانِي: الشَّكُّ وَالرَّيْبُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ اللَّاأَدْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، فَلَا يُثْبِتُونَ وَلَا يَنْفُونَ، لَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ نَفَوُا الْعِلْمَ، وَهُوَ نَوْعٌ

(1) يَدْفَعُونَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(2)

ن، م، س: الظَّاهِرَ. وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ب)

(3)

م: زَيْغٌ

(4)

ن، س، ب: لَوْ تَجَرَّدَتْ

(5)

ن، س، ب: النَّفْسِيَّ

ص: 464

مِنَ النَّفْيِ فَعَادَتِ السَّفْسَطَةُ إِلَى جَحْدِ الْحَقِّ (1) الْمَعْلُومِ، أَوْ جَحْدِ الْعِلْمِ بِهِ.

الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقَائِقَ تَبَعًا لِلْعَقَائِدِ، فَيَقُولُ: مَنِ اعْتَقَدَ الْعَالَمَ قَدِيمًا فَهُوَ قَدِيمٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَهُ مُحْدَثًا فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ (2) أَنَّهُ قَدِيمٌ عِنْدَهُ وَمُحْدَثٌ عِنْدَهُ (3) فَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ اعْتِقَادُهُ.

لَكِنَّ السَّفْسَطَةَ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ كَذَلِكَ (4) فِي الْخَارِجِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَدْحُ فِيمَا عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا عُلِمَ مِنْ سِيرَتِهِمْ بَعْدَهُ بِأَخْبَارٍ يَرْوِيهَا الرَّافِضَةُ يُكَذِّبُهُمْ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ (5) مِنْ أَعْظَمِ السَّفْسَطَةِ، وَمَنْ رَوَى لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ كَانَ كَاذِبًا مُبْطِلًا مُسَفْسِطًا.

وَمَعَ هَذَا فَكَذِبُ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ (6) يَرْوُونَ (7) مَا يَقْدَحُ فِي إِيمَانِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَيُوجِبُ عِصْمَةَ عَلِيٍّ، أَعْظَمُ مِنْ كَذِبِ مَنْ يَرْوِي مَا يُفَضِّلُ بِهِ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَلِيٍّ، وَسَفْسَطَتُهُمْ أَكْثَرُ، فَإِنَّ ظُهُورَ إِيمَانِ الثَّلَاثَةِ أَعْظَمُ مِنْ ظُهُورِ فَضْلِ عَلِيٍّ عَلَى مُعَاوِيَةَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَإِثْبَاتَ عِصْمَةِ عَلِيٍّ أَبْعَدُ عَنِ الْحَقِّ مِنْ إِثْبَاتِ فَضْلِ مُعَاوِيَةَ.

(1) ن، س: النَّفْيِ ; ب: نَفْيِ

(2)

م: وَإِذَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ خَطَأٌ

(3)

عِبَارَةُ " وَمُحْدَثٌ عِنْدَهُ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (م) ، وَفِي (ن)، (س) : وَمُحْدَثٌ عَنْهُ

(4)

كَذَلِكَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(5)

ن، س، ب: الْأَئِمَّةِ

(6)

م: وَالَّذِينَ

(7)

ن، م: يُرِيدُونَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

ص: 465

ثُمَّ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هِيَ مِنْ كَمَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَرِسَالَتِهِ، وَمِمَّا يُظْهِرُ أَنَّهُ رَسُولٌ حَقٌّ، لَيْسَ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ إِيثَارُ أَقَارِبِهِمْ * بِالْوِلَايَاتِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَحَبَّتُهُمْ لِأَقَارِبِهِمْ أَكْثَرُ مِنَ الْأَجَانِبِ، لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَيْلِ الْإِنْسَانِ إِلَى قَرَابَتِهِ، وَالثَّانِي: لِأَنَّ أَقَارِبَهُمْ يُرِيدُونَ إِقَامَةَ مُلْكِهِمْ مَا لَا يُرِيدُهُ الْأَجْنَبِيُّ ; لِأَنَّ فِي عِزِّ قَرِيبِ الْإِنْسَانِ عِزًّا لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ مِنَ الْمُلُوكِ اسْتَعَانَ بِمَمَالِكِهِ وَمَوَالِيهِ فَقَرَّبَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ (مُلُوكُ)(1) بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْعَبَّاسِ مُلُوكًا، كَانُوا يُرِيدُونَ أَقَارِبَهُمْ * (2) ، وَمَوَالِيَهُمْ (3) بِالْوِلَايَاتِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُقِيمُونَ بِهِ مُلْكَهُمْ.

وَكَذَلِكَ مُلُوكُ الطَّوَائِفِ كَبَنِي بُوَيْهٍ، وَبَنِي سَلْجَقَ، وَسَائِرِ الْمُلُوكِ بِالشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهَكَذَا مُلُوكُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُوجَدُ فِي مُلُوكِ الْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَمَا يُوجَدُ فِي آلِ جَنْكِشْخَانَ بِأَنَّ الْمُلُوكَ تَبْقَى فِي أَقَارِبِ الْمَلِكِ، وَيَقُولُونَ: هَذَا مِنَ الْعِظَمِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْعِظَمِ، أَيْ: مِنْ أَقَارِبِ الْمَلِكِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَوْلِيَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَبَنِي عَمِّهِ: عَلِيٍّ، وَعَقِيلٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،

(1) مُلُوكُ: زِيَادَةٌ فِي (م)

(2)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(3)

س، ب: وَالْمُوَالَاةُ

ص: 466

وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَغَيْرِهِمْ، وَدُونَ سَائِرِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ الَّذِينَ كَانُوا أَجَلَّ قُرَيْشٍ قَدْرًا، وَأَقْرَبَ نَسَبًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَلِكًا حَيْثُ لَمْ يُقَدِّمْ فِي خِلَافَتِهِ أَحَدًا لَا بِقُرْبِ نَسَبٍ مِنْهُ وَلَا بِشَرَفِ بَيْتِهِ، بَلْ إِنَّمَا قَدَّمَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.

وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأُمَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ، لَا يُرِيدُونَ مَا يُرِيدُهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُرِيدُونَ أَيْضًا مَا أُبِيحَ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِنَّ (1) اللَّهَ خَيَّرَ مُحَمَّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا (2) فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا.

وَتَوْلِيَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَدَّمَ (3) أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لَكَانَتْ شُبْهَةً لِمَنْ يَظُنُّ * أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا، كَمَا أَنَّهُ لَوْ وَرَّثَ مَالًا لِوَرَثَتِهِ لَكَانَتْ شُبْهَةً لِمَنْ يَظُنُّ * (4) أَنَّهُ جَمَعَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ، فَلَمَّا (5) لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا خَلَّفَ لَهُمْ مَالًا، كَانَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُلُوكِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ،

(1) م: وَأَنَّ

(2)

ن، م، س: عَبْدًا نَبِيًّا. وَفِي هَامِشِ (س) مَا يَلِي: " لَعَلَّهُ: مَلِكًا رَسُولًا أَوْ: مَلِكًا نَبِيًّا، لَكِنْ فِي الْأَصْلِ: عَبْدًا نَبِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَاتِبُهُ يُوسُف حُسَيْن "

(3)

س، ب: أَقَامَ

(4)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(5)

ن: فَكَمَا

ص: 467

كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «إِنِّي وَاللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ (1) أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» "(2) .

وَقَالَ: " «إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا أَوْ نَبِيًّا مَلِكًا، فَقُلْتُ: بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» "(3) .

وَإِذَا كَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ مُلُوكِ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَنَزَاهَتِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ، وَلَوْ تَوَلَّى بَعْدَهُ عَلِيٌّ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ، وَالْإِلْطَافَاتُ (4) الْعَظِيمَةُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ كَانَ أَظْهَرَ وَأَكْثَرَ (5) مِمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَكَانَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ أَبْعَدَ عَنِ الْكُفْرِ مِنَ

(1) م: وَإِنَّمَا أُقَاسِمُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

(2)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/206

(3)

الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 12/142 143 (رَقْمُ 7160) وَنَصُّهُ. . . عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: " بَلْ عَبْدًا رَسُولًا ". قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر رحمه الله فِي تَعْلِيقِهِ: " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ "، وَذَكَرَهُ الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ " الزَّوَائِدِ (9: 18/19) وَقَالَ: " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُ الْأَوَّلِينَ رِجَالُ الصَّحِيحِ ". وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي زُرْعَةَ: " وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "، مِمَّا يُظَنُّ مَعَهُ أَنَّهُ شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ حَكَى ظَنَّهُ الرَّاجِحَ الْقَرِيبَ إِلَى الْيَقِينِ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي مِثْلِ هَذَا كَافِيَةٌ، فَإِعْرَاضُ الْهَيْثَمِيِّ عَنْ ذِكْرِ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ بِالْجَزْمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَأَبِي يَعْلَى أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا ". وَانْظُرْ مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ 9/18 \ 20

(4)

م: الْمَصْلَحَةُ وَلَا الطَّاعَاتُ. .

(5)

س، ب: أَكْثَرَ وَأَظْهَرَ

ص: 468

الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ، مَعَ مَا حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الضَّعْفِ الْعَظِيمِ، وَمَا حَصَلَ مِنَ الِارْتِدَادِ لِأَكْثَرِ الْبَوَادِي، وَضَعْفِ قُلُوبِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَشَكَّ كَثِيرُهُمْ (1) فِي جِهَادِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمْ.

ثُمَّ عُمَرُ تَوَلَّى قِتَالَ أُمَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ يَقْهَرُونَهُمْ، وَهُمَا فَارِسُ وَالرُّومُ، فَقَهَرَهُمْ، وَفَتَحَ بِلَادَهُمْ، وَتَمَّمَ عُثْمَانُ مَا تَمَّمَ مِنْ فَتْحِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ثُمَّ فُتِحَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ مَا فُتِحَ بِالْمَشْرِقِ (2) وَالْمَغْرِبِ، كَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَالْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا فُتِحَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ.

فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِثْلُ عَلِيٍّ أَوْ عُثْمَانَ، لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَا، فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَفْعَلْ مَا فَعَلَا مَعَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلِيٌّ كَانَ أَعْجَزَ مِنْ عُثْمَانَ، وَكَانَ أَعْوَانُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَعْوَانِهِمَا، وَعَدُوُّهُ أَقَلَّ وَأَقْرَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ عَدُوِّهِمَا، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقْهَرْ عَدُوَّهُ، فَكَيْفَ كَانَ يُمْكِنُهُ قَهْرُ الْمُرْتَدِّينَ، وَقَهْرُ فَارِسَ وَالرُّومَ مَعَ قِلَّةِ الْأَعْوَانِ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ.

وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَتَمَامَ نِعْمَةِ اللَّهِ بِهِمَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ (3) ، وَأَنَّ (4) مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ (5) اللَّهِ تَوْلِيَةَ

(1) س، ب: كَثِيرٌ

(2)

ن، س: بِمَا فَتَحَ الْمَشْرِقَ ; ب: بِمَا فُتِحَ فِي الْمَشْرِقِ ; م: بِمَا فُتِحَ بِالْمَشْرِقِ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ

(3)

بَعْدَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)

(4)

م: وَأَنَّهُ

(5)

ن، م: نِعْمَةِ

ص: 469

أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَوْ تَوَلَّى غَيْرُهُمَا كَانَ لَمْ يَفْعَلْ مَا فَعَلَا، إِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ.

فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: لِمَ لَمْ يَغْلِبْ عَلِيٌّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ ذَلِكَ: إِمَّا عَدَمُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَإِمَّا عَدَمُ كَمَالِ الْإِرَادَةِ، وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْإِرَادَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ، وَمِنْ تَمَامِ الْقُدْرَةِ طَاعَةُ الْأَتْبَاعِ لَهُ، وَمِنْ تَمَامِ الْإِرَادَةِ إِرَادَةُ (1) مَا هُوَ الْأَصْلَحُ الْأَنْفَعُ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَتْ قُدْرَتُهُمَا أَكْمَلَ وَإِرَادَتُهُمَا أَفْضَلَ، فَبِهَذَا نَصَرَ اللَّهُ بِهِمَا الْإِسْلَامَ، وَأَذَلَّ بِهِمَا الْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه لَمْ يُؤْتَ مِنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مَا أُوتِيَا.

وَاللَّهُ تَعَالَى كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، فَضَّلَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ عَلَى بَعْضٍ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْتَ مَا أُوتِيَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي خِلَافَتِهِ مَا فَعَلَا، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ (2) عَنْ ذَلِكَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْجَزَ وَأَعْجَزَ، فَإِنَّهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قُدِّرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَقُولُ الْمُتَشَيِّعُ: إِنَّ أَتْبَاعَهُ لَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ.

فَيُقَالُ: إِذَا (3) كَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ (4) لَمْ يُطِيعُوهُ، فَكَيْفَ يُطِيعُهُ مَنْ لَمْ يُبَايِعْهُ (5) ؟ وَإِذَا قِيلَ: لَوْ بَايَعُوهُ (6) بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفَعَلَ بِهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

(1) إِرَادَةُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(2)

بَعْدَ كَلِمَةِ " وَحِينَئِذٍ " يُوجَدُ بَيَاضٌ فِي (س) ، (ب) بِمِقْدَارِ كَلِمَتَيْنِ، وَكُتِبَ فِي هَامِشِ (س) مَا يَلِي:" وَكَذَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَعَلَّهُ لَفْظُهُ " فَهُوَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يُوسُف حُسَيْن " وَكَتَبَ مُحَقِّقُ (ب) فِي تَعْلِيقِهِ: " بَيَاضٌ بِالْأَصْلِ بِمِقْدَارِ كَلِمَتَيْنِ ". وَفِي (ن) كُتِبَتْ كَلِمَةُ " فَكَانَ " وَلَكِنْ عَلَيْهَا شَطْبٌ. وَلَا يُوجَدُ بَيَاضٌ فِي (م)

(3)

س، ب: إِنْ

(4)

م: تَابَعُوهُ

(5)

م: يُتَابِعْهُ

(6)

م: تَابَعُوهُ

ص: 470

فَيُقَالُ: قَدْ بَايَعَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ بَايَعَ (1) أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَهُمَا (2) ، وَعَدُوُّهُ أَضْعَفُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ عَدُوِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَمْ يَفْعَلْ مَا يُشْبِهُ فِعْلَهُمَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَفْضَلَ مِنْهُ.

وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ أَتْبَاعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما أَعْظَمُ إِيمَانًا وَتَقْوًى، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ.

قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أَتْبَاعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا مُرْتَدِّينَ أَوْ فَاسِقِينَ، وَإِذَا كَانَ نَصْرُهُمْ وَتَأْيِيدُهُمْ لِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ بَايَعُوهُمَا (3) أَفْضَلُ مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا (4) عَلِيًّا.

وَإِذَا (5) كَانَ الْمُقِرُّونَ بِإِمَامَتِهِمَا أَفْضَلَ مِنَ الْمُقِرِّينَ بِإِمَامَةِ عَلِيٍّ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا لَمْ يَنْتَصِرْ ; لِأَنَّ أَتْبَاعَهُ كَانُوا يُبْغِضُونَهُ وَيَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ.

قِيلَ: هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الشِّيعَةِ: (إِنَّ)(6) الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا وَأَقَرُّوا بِإِمَامَتِهِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَقَرَّ بِإِمَامَتِهِمَا، فَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ الشِّيعَةُ الَّذِينَ بَايَعُوا (عَلِيًّا)(7) عُصَاةً لِلْإِمَامِ الْمَعْصُومِ كَانُوا مِنْ أَشَرِّ (8)

(1) م: تَابَعَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ تَابَعَهُ. وَفِي (ب) : بَايَعَهُ أَكْثَرُ مَنْ بَايَعَ.

(2)

ن: أَوْ نَحْوَهُمْ س، ب: وَنَحْوَهُمْ

(3)

م: تَابَعُوهُمَا

(4)

م: تَابَعُوا. وَسَأَكْتَفِي بِالْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي سَيَتَكَرَّرُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

(5)

وَإِذَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (م)

(6)

إِنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)

(7)

عَلِيًّا: زِيَادَةٌ فِي (م)

(8)

ن، شَرِّ

ص: 471

النَّاسِ، فَلَا يَكُونُ فِي الشِّيعَةِ طَائِفَةٌ مَحْمُودَةٌ أَصْلًا، وَلَا طَائِفَةٌ يَنْتَصِرُ بِهَا عَلَى الْعَدُوِّ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ مَعَ الشِّيعَةِ قَادِرًا عَلَى قَهْرِ الْكُفَّارِ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ (1) كَمَالِ حَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَتْبَاعِهِمَا، فَالنَّقْصُ (2) الَّذِي حَصَلَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ (3) مِنْ إِضَافَةِ ذَلِكَ إِمَّا إِلَى الْإِمَامِ، وَإِمَّا إِلَى أَتْبَاعِهِ، وَإِمَّا إِلَى الْمَجْمُوعِ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَتْبَاعُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ مِنَ الْإِمَامِ ظَهَرَ فَضْلُهُمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ كَانَ الْمُقِرُّونَ بِإِمَامَتِهِمَا (4) أَفْضَلَ مِنَ الْمُقَرِّينَ بِإِمَامَتِهِ، فَتَكُونُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَفْضَلَ مِنَ الشِّيعَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمَا أَفْضَلَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مَا امْتَازَ بِهِ الْأَفْضَلُ أَفْضَلُ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْمَفْضُولُ.

وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ هُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا وَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَإِنَّ أُولَئِكَ فِيهِمْ مَنْ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ * (5) .

(1) ن: مَعَ

(2)

س، ب: وَالنَّقْصُ ; وَفِي (م) كُتِبَتِ الْكَلِمَةُ بِنُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ فَوْقَ الصَّادِ

(3)

فِي (س) يُوجَدُ بَيَاضٌ بِمِقْدَارِ كَلِمَةٍ، وَكُتِبَ فِي الْهَامِشِ مَا يَلِي:" لَعَلَّ هُنَا سَقَطَ لَفْظُ: فَلَا بُدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يُوسُف حُسَيْن " وَيُوجَدُ الْبَيَاضُ فِي (ب) وَكَتَبَ الْمُحَقِّقُ: " بَيَاضٌ بِالْأَصْلِ بِمِقْدَارِ كَلِمَةٍ "

(4)

ن، م: بِأَمْثَالِهِمَا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ

(5)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م)

ص: 472

وَعَامَّةُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ عَاشُوا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا تُوُفِّيَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ فِي حَيَاتِهِ قَلِيلٌ مِنْهُمْ.

وَالَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا كَانَ فِيهِمْ مِنَ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ بَعْضُ مَنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ * وَعُثْمَانَ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَايِعْهُ، وَلَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ * (1) ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَاتَلَهُ، كَالَّذِينَ كَانُوا مَعَ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَمُعَاوِيَةَ مِنَ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ.

وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ بَايَعُوا الثَّلَاثَةَ وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا وَقَاتَلُوا مَعَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلَ ; لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ الثَّلَاثَةِ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِمَامَةِ دُونَ غَيْرِهِ - كَمَا تَقُولُهُ الرَّافِضَةُ - أَوْ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَقَّ بِهَا - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الشِّيعَةِ - لَكَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ قَدْ عَدَلُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ (2) اللَّهُ بِهِ، وَرَسُولُهُ بِهِ (3) إِلَى مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، بَلْ مَا (4) نُهُوا عَنْهُ، وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا، وَقَاتَلُوا مَعَهُ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ تَرَكَهُ، وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، فَلَزِمَ لَوْ كَانَ قَوْلُ الشِّيعَةِ حَقًّا أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُ عَلِيٍّ

(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م)

(2)

ن، م: أَمَرَ

(3)

بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (س) ، (ب)

(4)

مَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (س)(ب)

ص: 473

أَفْضَلَ، وَإِذَا (1) كَانُوا هُمْ أَفْضَلَ وَإِمَامُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الثَّلَاثَةِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ (2) أَفْضَلَ مِمَّا فَعَلَهُ الثَّلَاثَةُ.

وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ الَّذِي تَوَاتَرَتْ بِهِ (3) الْأَخْبَارُ، وَعَلِمَتْهُ الْبَوَادِي وَالْحُضَّارِ، فَإِنَّهُ فِي عَهْدِ الثَّلَاثَةِ جَرَى مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّهِ، وَانْتِشَارِهِ، وَنُمُوِّهِ (4) ، وَانْتِصَارِهِ، وَعِزِّهِ، وَقَمْعِ الْمُرْتَدِّينَ، وَقَهْرِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ (5) بُعْدَهُمْ مِثْلُهُ.

وَعَلِيٌّ رضي الله عنه فَضَّلَهُ اللَّهُ وَشَرَّفَهُ بِسَوَابِقِهِ الْحَمِيدَةِ، وَفَضَائِلِهِ الْعَدِيدَةِ، لَا بِمَا جَرَى فِي * زَمَنِ خِلَافَتِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَإِنَّهُمْ فُضِّلُوا مَعَ السَّوَابِقِ الْحَمِيدَةِ وَالْفَضَائِلِ الْعَدِيدَةِ بِمَا جَرَى فِي * (6) خِلَافَتِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْفَاقِ كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْكُورَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْمَبْرُورَةِ.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلَ سِيرَةً وَأَشْرَفَ سَرِيرَةً مِنْ (عُثْمَانَ) وَعَلِيٍّ (7) رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فَلِهَذَا كَانَا أَبْعَدَ عَنِ الْمَلَامِ، وَأَوْلَى بِالثَّنَاءِ الْعَامِّ حَتَّى لَمْ يَقَعْ (8) فِي زَمَنِهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْخَوَارِجِ فِي زَمَنِهِمَا لَا قَوْلٌ مَأْثُورٌ، وَلَا سَيْفٌ مَشْهُورٌ، بَلْ كَانَ كُلُّ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ مَسْلُولَةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ فِي إِقْبَالٍ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ فِي إِدْبَارٍ.

(1) م: فَإِذَا

(2)

س، ب: مِنَ الْخَيْرَاتِ

(3)

ن: لَوْ تَوَاتَرَتِ

(4)

: وَبِكْرِهِ

(5)

ن: يَجُزْ

(6)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م)

(7)

وَعَلِيٍّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)

(8)

م: يُسْمَعْ

ص: 474

ثُمَّ إِنَّ الرَّافِضَةَ - أَوْ أَكْثَرَهُمْ - لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ، وَضَلَالِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ، وَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ خَيْرٌ مِنَ الْمُرْتَدِّ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ افْتِرَاءً عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ، وَجُنْدِ اللَّهِ الْغَالِبِينَ.

وَمِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى فَسَادِهِ أَنْ يُقَالَ: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ، وَالْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْأَخْبَارِ، أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هِجْرَتَيْنِ: هِجْرَةً إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهِجْرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ إِذْ ذَاكَ قَلِيلًا، وَالْكُفَّارُ مُسْتَوْلُونَ عَلَى عَامَّةِ الْأَرْضِ، وَكَانُوا يُؤْذَوْنَ بِمَكَّةَ، وَيَلْقَوْنَ مِنْ أَقَارِبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَذَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ صَابِرُونَ عَلَى الْأَذَى، مُتَجَرِّعُونَ لِمَرَارَةِ الْبَلْوَى، وَفَارَقُوا الْأَوْطَانَ، وَهَجَرُوا الْخِلَّانَ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سُورَةِ الْحَشْرِ: 8) .

وَهَذَا كُلُّهُ فَعَلُوهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَيْهِ مُكْرِهٌ، * وَلَا أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِسْلَامِ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُكْرَهُ * (1) بِهِ أَحَدٌ عَلَى الْإِسْلَامِ (2) ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ - هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ - مَنْهِيِّينَ عَنِ الْقِتَالِ، مَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالصَّبْرِ فَلَمْ يُسْلِمْ

(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (س) ، (ب)

(2)

ن، س، ب: بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْإِسْلَامِ: وَالْمُثْبَتُ مِنْ (م)

ص: 475

أَحَدٌ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا هَاجَرَ أَحَدٌ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ نَافَقَ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ لَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ، وَدَخَلَ فِيهِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَ (لَمَّا) صَارَ (1) لِلْمُسْلِمِينَ دَارٌ يَمْتَنِعُونَ بِهَا وَيُقَاتِلُونَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ دَخَلَ خَوْفًا وَتَقِيَّةً، وَكَانُوا مُنَافِقِينَ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (سُورَةِ التَّوْبَةِ: 101) .

وَلِهَذَا إِنَّمَا ذُكِرَ النِّفَاقُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فَلَا ذِكْرَ فِيهَا لِلْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ، وَالَّذِينَ هَاجَرُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ، بَلْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحِبِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ، وَأَهْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ رَمْيَهُمْ - أَوْ رَمْيَ أَكْثَرِهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ - بِالنِّفَاقِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الرَّافِضَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْبُهْتَانِ الَّذِي هُوَ نَعْتُ الرَّافِضَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ النِّفَاقَ كَثِيرٌ ظَاهِرٌ فِي الرَّافِضَةِ إِخْوَانِ الْيَهُودِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الطَّوَائِفِ أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ نِفَاقًا مِنْهُمْ حَتَّى يُوجَدَ فِيهِمُ النُّصَيْرِيَّةُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ نِفَاقًا، وَزَنْدَقَةً، وَعَدَاوَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (2) .

(1) ن، م، س: وَصَارَ

(2)

ن، س، ب: وَرَسُولِهِ

ص: 476

وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِمُ الرِّدَّةُ مِنْ أَعْظَمِ (1) الْأَقْوَالِ بُهْتَانًا، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ إِنَّمَا يَرْتَدُّ لِشُبْهَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ أَقْوَى، فَمَنْ كَانَ إِيمَانُهُمْ مِثْلَ الْجِبَالِ فِي حَالِ ضَعْفِ الْإِسْلَامِ كَيْفَ يَكُونُ إِيمَانُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتِهِ وَانْتِشَارِ أَعْلَامِهِ؟ !

وَأَمَّا الشَّهْوَةُ: فَسَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ رِيَاسَةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ فَمَنْ (2) خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْعِزِّ حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ طَوْعًا غَيْرَ إِكْرَاهٍ كَيْفَ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ طَلَبًا لِلشَّرَفِ وَالْمَالِ؟ !

ثُمَّ هُمْ فِي حَالِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْمُعَادَاةِ، وَقِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْمُعَادَاةِ لَمْ يَكُونُوا مُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ مُوَالِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُعَادِينَ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَحِينَ قَوِيَ الْمُقْتَضِي لِلْمُوَالَاةِ، وَضَعُفَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُعَادَاةِ، يَفْعَلُونَ نَقِيضَ هَذَا؟ ! هَلْ يَظُنُّ هَذَا إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ضَلَالًا؟

وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا حَصَلَ مَعَهُ كَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ، وَجَبَ وُجُودُهُ، وَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْمُقْتَضِي لِإِرَادَةِ مُعَادَاةِ الرَّسُولِ أَقْوَى؛ لِكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، وَقِلَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَعَدَمِ ظُهُورِ دِينِهِ (3) وَكَانَتْ قُدْرَةُ مَنْ يُعَادِيهِ (4) بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ حِينَئِذٍ (5) أَقْوَى حَتَّى كَانَ يُعَادِيهِ آحَادُ النَّاسِ،

(1) ن، م: أَظْهَرِ

(2)

ن، م، س: مِمَّنْ. وَالتَّصْوِيبُ مِنْ (ب)

(3)

ن، م، س: وَعَدَمِ ظُهُورِ دِينِهِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ. وَالْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ جَاءَتْ فِي هَذِهِ النُّسَخِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الصَّحِيحِ، وَأَثْبَتَهَا مُحَقِّقُ (ب) فِي مَكَانِهَا الصَّحِيحِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ

(4)

م: وَكَانَتْ قُدْرَةُ مُعَادِيهِ

(5)

ن: مَنْ يُعَادِيهِ حِينَئِذٍ ; م: مُعَادِيهِ حِينَئِذٍ

ص: 477

وَيُبَاشِرُونَ أَذَاهُ بِالْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ، وَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ، كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْمُعَادَاةِ أَضْعَفَ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهَا أَضْعَفَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمُعَادَاةَ أَوَّلًا، ثُمَّ عَادَاهُ ثَانِيًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِتَغَيُّرِ (1) إِرَادَتِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُعَادَاةِ كَانَتْ أَوَّلًا أَقْوَى، وَالْمُوجِبُ لِإِرَادَةِ الْمُعَادَاةِ كَانَ أَوَّلًا أَوْلَى، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ إِرَادَتِهِمْ، وَلَا قُدْرَتِهِمْ، فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَجَدَّدْ (عِنْدَهُمْ)(2) مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ عَنْ دِينِهِمُ الْبَتَّةَ، وَالَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ مَوْتِهِ إِنَّمَا كَانُوا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالسَّيْفِ كَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ نَجْدٍ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا طَوْعًا فَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - أَحَدٌ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا بَعْدَ فَتْحِهَا هَمَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالرِّدَّةِ، ثُمَّ ثَبَّتَهُمُ اللَّهُ بِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو.

وَأَهْلُ الطَّائِفِ لَمَّا حَاصَرَهُمْ (3) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ رَأَوْا ظُهُورَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا مَغْلُوبِينَ فَهَمُّوا بِالرِّدَّةِ فَثَبَّتَهُمُ (4) اللَّهُ بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ.

فَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّمَا أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ، وَالْأَنْصَارُ، وَهُمْ قَاتَلُوا النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَرْتَدَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ، بَلْ ضَعُفَ غَالِبُهُمْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلَّتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ عَلَى دِينِهِ حَتَّى ثَبَّتَهُمُ اللَّهُ، وَقَوَّاهُمْ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ،

(1) م: لِتَعَيُّنِ: وَهُوَ تَحْرِيفٌ

(2)

عِنْدَهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)

(3)

م، س، ب: حَصَرَهُمْ

(4)

م: وَثَّبَهُمْ

ص: 478