الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب والسياسة
(1)
كثر القول بين المستشرقين، ومن نقل عنهم: بأن ابن خلدون يذم العرب، ويتنقصهم، وينفي عنهم القدرة على سياسة الملك، والنهوض بأمر الرعية، وأطلقوا هذا القول إطلاقاً لم يفرقوا فيه بين حياتهم الجاهلية، وحياتهم الإِسلامية. وأذكر أني حين كنت في ألمانيا، أيام الحرب الأولى، حضرت حديثاً يدور بين مدير الاستخبارات الألمانية وسكرتيره أثناء سفرنا إلى قرية ويزندرف، سألني المدير في نهايته فقال: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟ قلت: وماذا يقرر؟ قال: "إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكماً للأمم"، قلت: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإِسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بين ذلك غاية البيان في فصل عقده في "مقدمته" ذكر فيه أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، فقال: "بعدت طباع العرب لذلك (2) كله عن سياسة الملك، وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل
(1) مجلة "لواء الإسلام "- العدد الثامن من السنة التاسعة الصادر في شهر ربيع الثاني 1357 هـ الموافق شهر نوفمبر تشرين الثاني 1955 م - القاهرة.
(2)
يشير بذلك إلى ما قدمه من بداوتهم وخشونة حياتهم، وامتناع طباعهم على الخضوع لحاكم.
الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض، واعتبر ذلك بدولتهم في الملة، لمّا شيّد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً، وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم".
فابن خلدون حكم على العرب بالبعد عن سياسة الملك عندما كانت طباعهم الجاهلية لا تلائم الملك، ولكن لما بدل الإِسلام طباعهم الخشنة بطبائع لينة، مارسوا الملك بسياسة رشيدة، ونهجوا في الحكم أقومَ نهج، وسلكوا أعدلَ سبيل، فعظم ملكهم، وقوي سلطانهم.
ويحسن أن نشير هنا إلى أن سياسة الملك هي: التصرف في الوقائع العامة على حسب مقتضى أحوال العصر الذي يعيش الناس فيه، والبراعةُ في السياسة، وملاءمتُها لهذه المقتضيات تتوقف على ذكاء وافر، وحلم واسع منضبط، وعزم صارم في إنفاذ العقوبة فيمن يستحقها.
أما الذكاء، فقد كان موفوراً لهم، ومن دلائله: لغتهم التي نزل بها القرآن على ما يستعملونه من حقيقة ومجاز، واستعارة وكناية وتعريض.
وأما الحلم والعزم، فقد لازمهم النقص فيهما زمن الجاهلية، فكانوا يقتلون القوي بالضعيف، والجماعة بالواحد، والحر بالعبد، والذكر بالأنثى، ويعتدي أحدهم أشدَّ مما اعتُدي عليه، حتى قال بعضهم:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
…
فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا
وكان رئيسهم يشعر بالحاجة إلى العصبية لكل من يقول بنصرته ظالماً أو مظلوماً، فيكفّ يده عن معاقبة المعتدين إذا كان من قبيلته خشية أن يخذله هو وأقاربه، وشأن العرب، بل الناس ألا يحكموا على أبيهم وأقاربهم بالاعتداء
على الحقوق، وشأنهم أن ينسبوا إلى عدوهم الاعتداء.
فلما جاء الإِسلام، سلك سبيلَ الرشد في ذلك كله، فنهى الله سبحانه وتعالى من اعتُدي عليه عن أن يعتدي بأكثر مما اعتُدي به عليه، فقال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وأذن للمعتدَى عليه بأن ينتقم ممن اعتدى بمثل اعتدائه، قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وحث على العدل دائماً، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
وندب الإِسلام إلى الحكم ممن صدر منه الزلل مراعاة لمكارم الأخلاق، فمن أغضى عن زلل معتد، فقد قضى حق مكارم الأخلاق، ومن اعتدى بمثل ما اعتدي به عليه، فقد قضى حق نفسه، وقد قال الخليفة المأمون: لو علم الناس ما أجده من لذة العفو ، لتقربوا إلينا بفعل الجنايات. لكن إذا علم الإِنسان أن قصد من اعتدى عليه إذلاله ومهانته، فذلك موضع العمل بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
ومعرفة موضع الانتقام من موضع الحلم يرجع إلى الذكاء المهذب، كما قال الشاعر:
يقولون رفقاً قلت للحلم موضعٌ
…
وحلمُ الفتى في غير موضعه جهلُ
ومن صفات من يتولى سياسة الناس أن يكون شجاعاً؛ حتى يكون قادراً على إنفاذ العقوبة فيمن وجبت عقوبته، فقد يكون مرتكب الكبيرة شديداً بنفسه أو بأنصاره، فلا ينفذ فيه العقوبة إلا شجاع قوي، وكانت الشجاعة من أظهر صفات العرب في الجاهلية والإِسلام، ومن الدلائل على ذلك:
الحروبُ المتواصلة بين القبائل، وعجزُ الدول الكبيرة عن الاستيلاء على بلادهم، إلا أطرافًا اقتطعت أيام المناذرة في العراق، وأيام الغساسنة في الشام.
ومن اجتمعت فيه صفات السياسي البارع؛ من ذكاء، وحلم، وشجاعة، وعزم على إنفاذ العقوبة في الجناة، لزمه أن يتخذ رجالاً أقوياء، كما قال الشاعر في معز بن باديس:
وإنَّ ابنَ باديسٍ لأكبرُ حازمٍ
…
ولكن لعمري ما لديه رجالُ
فلم يُخذل ابن باديس إلا من جهة أنه ليس له رجال يقومون بمساعدته، ومدّ يد المعونة له، وشدّ أزره.
واستطرد ابن خلدون في تحليل أخلاق الساسة، فذكر: أنه قلما تكون مَلَكة الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء، وكثيراً ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل، وأكثر ما يكون في اليقظ أن يكلف الرعية فوق طاقتهم؛ لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم، واطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بألمعيته، فيهلكوا، ولذا اشترط الشارع في الحاكم قلة الإِفراط في الذكاء.
وفي قصة زياد بن أبيه دليل على هذا، وهي: أنه لما عزله عمر عن العراق، قال: لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أم خيانة؟ فقال عمر: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكن كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس.
فيؤخذ من هذا: أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس؛ كزياد، وعمرو.
وفات ابنَ خلدون أن التاريخ الصحيح ذكر أن عمرو بن العاص فتح مصر، وبقي والياً عليها حتى توفي رضي الله عنه، فعلمنا -مما سبق-: أن الشريعة
إنما كرهت ولاية المفرط في الذكاء؛ لأنه يحمل الناس على ما يدرى في العواقب من الحقائق، فيعنف بهم، على حين أن الحال توجب حملهم على ما يقتضيه عصرهم الحاضر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"لولا أن قومك حديث عهد بكفر، لبنيتُ الكعبة على قواعد إبراهيم".
فالإِسلام أخرج العرب من بداوتهم، وأنشأ منهم أمة صالحة السياسة، مصلحة الحكم، عادلة السيرة، عرف منهم التاريخ مُثلاً عالية في الحكمة والرفق بالرعية، والعدل في الحكومة، وهم الخلفاء الراشدون، كما عرفت السياسة من المسلمين دهاة اشتهروا بأصالة الرأي، وجودة التدبير؛ كمعاوية ابن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبييه، والمغيرة بن شعبة، فذلك أثر الإِسلام في العرب، وفضل الله بالنبوة عليهم، وكان فضل الله عظيماً.