الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقيب على حديث
(1)
نشر في الجزء الثامن من هذه المجلة مقال بقلم حضرة صاحب السعادة الأستاذ علي زكي العرابي باشا موضوعه: "الشريعة الإسلامية والقانون المصري " أثنى فيه سعادته على فقهاء الإسلام، وقال:"إنهم سبقوا الأوروبيين في الإحاطة بجميع المسائل الفقهية أصولاً وفروعاً بما لا نجد زيادة عليه اليوم من الفقه الأوروبي"، ووصف شروحهم بالدقة في الفكر، والسعة في البحث.
وهذه شهادة من سعادته بأن في الفقه الإسلامي ثروة طائلة من القوانين تفي بمقتضيات الحياة الاجتماعية، وتنتظم بها شؤون المدنية على أقوم سبيل.
وتعرض سعادته في عبارة مجملة للمقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون المصري، وقال:"فإذا نظرنا إلى القسم المدني، وقارناه بالمعاملات في الشريعة الإسلامية، واستثنينا من القانون المدني مادة واحدة، هي الخاصة بالربا، خرجنا من هذه المقارنة بأن كلا القسمين يطابق الآخر مطابقة تكاد تكون تامة".
كيفما يكون حال الفرق بين الشريعة والقانون المصري من القلة أو الكثرة، فإنه لا يمس الشريعة بشيء، ما دامت الشريعة هي السابقة على القانون
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد التاسع من السنة الأولى الصادر في الأول من جمادى الأولى سنة 1367 هـ والموافق 12 مارس آذار 1948 م.
الفرنسي المأخوذ منه القانون المصري، وقد نبه سعادته لهذا، فقال:"إن فقهاء المسلمين قد سبقوا الباحثين في القوانين الأوروبية إلى بحث المسائل القانونية، وأدلوا برأيهم فيها".
وتعرض سعادته للحدود والتعازير، وقال:"إن القرآن الكريم قد نص على جرائم خاصة، ووضع لها حدوداً توقع على مرتكبيها، وترك ما عدا ذلك من الجرائم للحاكم يقرر عقوبتها حسبما يشاء، مع مراعاة الزمان والمكان والبيئة، وهذا هو الذي يسمى: التعزير".
ثم قال: "ومن أجل ذلك نستطيع القول بأن قانون العقوبات الحالي هو كله من قبيل التعزير المباح شرعاً".
حقٌّ أن الشريعة الإسلامية وكلت أمر التعازير إلى اجتهاد الحاكم. ونزيد على هذا: أن التعزير على الجرائم لا يعد تنفيذًا لحكم شرعي إلا أن يتولاه الحاكم على اعتبار أن الشارع أذن فيه، وأنه ينفذه احتفاظاً بالمصلحة التي راعاها الشارع في تشريعه، أما إذا تولاه بصفته منفذاً لقانون وضعي، فقد انقطعت الصلة بينه وبين الشريعة، وفاته ما يترتب على تنفيذ أحكامها من تلقي أوامر الخالق تعالى بحسن الطاعة، ثم إن الأمة لا تطمئن إلى أن تساس بالقوانين الوضعية، وإن قيل لها: إن هذه القوانين تطابق الشريعة مطابقة تامة. وكأن سعادته على ذكر من هذا المعنى الذي هو روح التشريع الإسلامي، فأشار في آخر مقاله على المتخصصين في الشريعة الإسلامية أن يجروا في مؤلفاتهم على الأساليب التي يأخذ بها العلماء المؤلفون اليوم في علم الحقوق من الأوروبيين، ورأى أن أجدر الناس بالقيام بهذه المهمة العظيمة "الذين درسوا القوانين الأوروبية، وكانوا مع ذلك متعمقين في دراسة الشريعة الإسلامية".
ربما كان الجمع بين دراسة القوانين الأوروبية والتعمق في الشريعة الإسلامية نادراً لا يكاد يتحقق في أفراد يصح أن تناط بهم هذه المهمة، وأيسر من هذا أن يجتمع أساتذة ممن رسخوا في فهم الشريعة الإسلامية، وأساتذة درسوا القوانين الأوروبية دراسة وافية، ويجلسون وهم مؤمنون بمصدر الشريعة، وموقنون بحكمتها، فليس من شك في أنهم سيؤدون كما قال الباشا في آخر مقاله:"للشريعة السمحة، وللملايين الذين يعملون بأحكامها أجلَّ خدمة تبقى على تعاقب الأجيال".
وذكر سعادته: "أن الجرائم ذات الحدود في القرآن الكريم لم يتركها القانون المصري، بل لا يزال يعتبر كثرها جرائم، ووضع لها عقوبات جديدة رادعة".
أشار سعادته إلى أن القانون المصري لم يعتبر بعض الجرائم ذات الحدود في القرآن الكريم جرائم، فقد قال:"لا يزال يعتبر أكثرها جرائم". وهذا فرق بين الشريعة والقانون المصري لا يُستهان به. ثم إن ما يعتبره القانون المصري جرائم قد وضع له عقوبات غير ما نص عليه القرآن، وأمر بتنفيذه في غير هوادة. وإذا اختلف القرآن والقانون المصري في بعض ما يرتكب من الأفعال: القرآنُ يعده جريمة، والقانونُ يعده شيئاً لا حرج فيه، واختلفا في عقوبات ما يتفقان على أنه جريمة، فالأمة المسلمة معذورة كلَّ العذر إذا طالبت بأن تكون سياستها القضائية والتنفيذية والاجتماعية قائمة على أساس التشريع الإسلامي دون ما سواه.