الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها
(1)
الشعر كلام يصاغ في أوزان مألوفة، على أن يستقل البيت أو الأبيات منه بإفادة المعنى الذي أراد المتكلم التعبير عنه. فإن ورد كلام في أسلوب النثر، ووُجدت قطع منه موافقة لوزن من الأوزان التي يتوخاها الشعراء في نظمهم، وهي لا تستقل بأداء المراد، وإنما تتم دلالتها عليه بأن تضم إليها شيئاً من النثر قبلها أو بعدها، فليست تلك القطع بشعر. وبملاحظة هذا القيد في تعريف الشعر، تحقق أن ليس في القرآن شعر، فإن ما يوجد من الآيات التي اتفق أن كانت موافقة لوزن من الأوزان المعروفة عند العرب، لا يخلو من أن يتوقف في إفادة المعنى على كلام ورد قبله، أو كلام يرد بعده. فالقطعة الموزونة إذا كانت متصلة بكلام غير موزون تقدمها، أو تأخر عنها اتصالَ التراكيب التي تصور كلاماً واحداً، لا تسمى شعراً.
كتب كاتب لأحد الأمراء ينذر عاملاً ويهدده بأوجز عبارة، فقال:"أما بعد: فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن، عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن، أغنت عزائمه، والسلام"، وفي هذا الخطاب كلمات إذا نطقت بها مقطوعة عما قبلها وما بعدها، وجدتها موزونة، وهي قوله:
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الأولى الصادر أول رجب 1367 هـ الموافق 10 مايو مايس 1348 م - القاهرة.
أناة فإن لم تغن عقب بعدها
…
وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمُهْ
ومثل هذا لا يسمى شعراً، ولا يسمى كاتبه شاعراً؛ لأنه مرتبط بقول قبله ليس بشعر، فإن الضمائر في قوله:"عقب"، وقوله:"عزائمه" إنما تعود على أمير المؤمنين الواقع في نثر قبله. ثم إن كلمة "أناة" مرتبطة بذلك النثر من جهة الإِعراب، إذ هي منصوبة على أنها اسم لحرف التوكيد في قوله:"فإن لأمير المؤمنين".
والشعر كسائر الكلام من مرسل وسجع، تتفاوت درجاته في فنون البيان، ويرتقي في سماء البراعة إلى أن يأخذ بالألباب، ويوجهها إلى أهداف كانت غافلة، أو صارفةَ النظر عنها. وإنما تظهر براعة الشعر في ناحيتين: ناحية نظم الألفاظ، وناحية تصوير المعاني.
ومن الشعر ما تكون براعته في نظم ألفاظه دون تصوير معانيه. ومن هنا ترى نقاد الشعر قد يقولون لك: جودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه دون ما يُصوره من المعاني، كما قال ابن الأثير في "المثل السائر" بعد أن ساق أبياتاً وصف فيها أبو نواس الخمر:"وجودة هذا الشعر في فصاحة ألفاظه، وأما معناه، فليس فيه كبير فائدة".
ويدخل في هذا القبيل أشعار محكمة النظم، ولكن صُور معانيها مشوهة؛ لاختلال في التخيل، أو سخافة في الرأي، أو خطأ في علم، أو استخفاف بدين حق، أو خرق لسياج أدب كريم.
ومن الشعر ما تكون براعته في تصوير المعاني دون صياغة الألفاظ؛ كالأبيات التي يقصد قائلها إلى معان جيدة، ويرد بعض ألفاظها في نظم غير محكم، أو على وجه لا تسيغه قوانين العربية الفصحى.
والشعر الحائز لمزيتي الإبداع في الناحيتين: اللفظية، والمعنوية، هو الذي يستحق أن يوصف بالبراعة على الإِطلاق، وهذا هو الذي يتنافس الناس في روايته، ويكثرون من ترديده على ألسنتهم، وهو الذي يتجه الأدباء إلى اختياره من أشعار الشعراء؛ كما فعل أبو العباس المبرّد، في كتاب اسمه:"الروضة"، بدأ فيه بأبي نواس، وأورد فيه طائفة لشعراء عصره، وكما صنع كل من أبي محمد عبد الله بن الفياض، وأبي الحسن علي بن محمد السماطي؛ حيث اختار كل منهما من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، وكما اختار ابن سعيد الأندلسي من ديوان كل شاعر بيتاً جعله ملك شعره، وجمع من ذلك كتاباً سماه:"ملوك الشعر".
والشعر الحائز للمزيتين هو الذي يقولون في مثله: كان الأمير أو العالم الفلاني كثيراً ما ينشد قول الشاعر كذا؛ كما قالوا: كان سيف الدولة يكثر من إنشاد قول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهزولا
وكان الناصر كثيراً ما ينشد قول الشهاب التلعفري:
وتفردت بالجمال الذي خلا
…
ك مستوحشاً بغير رفيق
وكان أبو منصور قايماز كثيراً ما ينشد قول أسامة بن منقذ:
إذا أدمتْ قوارضُكم فؤادي
…
صبرت على أذاكم وانطويتُ
وجئت إليكمُ طلقَ المحيا
…
كأني ما سمعتُ وما رأيتُ
والشعر الممتاز بالإِبداع في تأليف لفظه وتصوير معناه: هو الذي يرتاح له صاحب الذوق اللطيف في أدب اللغة، ويبدو أثر هذا الارتياح في حال، أو قول يدل على شدة إعجابه به.
أنشد أبو الحسن الأبياري بين يدي الصاحب بن عباد قصيدته التي رثى بها الوزير ابن بقية: علوٌّ في الحياة وفي الممات.
ولما أنشد قوله منها:
ولم أر قبلَ جذعِك قطُّ جذعاً
…
تمكن من عناق المكرمات
قام إليه الصاحب، وعانقه، وقبَّل فاه.
ولما اطلع العلامة ابن الدقيق على قصيدة ابن خميس التي يقول في طالعها:
عجباً لها أيذوق طعم وصالها
…
من ليس يأمل أن يمر ببالها
استوى قائماً من فرط إعجابه بها.
وسمع ابن جني قول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
فقال: لو لم يقل المتنبي غير هذا البيت، لتقدم به أكثر المحَدثين.
ودخل الشاعر المدعو ابن جاخ على المعتضد بن عباد، وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول في طالعها:
قطّعتَ يا يوم النوى أكبادي
…
ونفيت عن عيني لذيذ رقادي
فلما انتهى من إنشادها، قال له المعتضد: اجلس، فقد وليتك رئاسة الشعر، ولم يأذن في الكلام لأحد من بعده.
والشعر البارع بصياغة الألفاظ وتصوير المعاني: هو الذي يقصد كبار الشعراء إلى موازنته؛ كقصيدة أبي الحسن علي الحصري:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُه
…
أقيام الساعة موعده
فقد وازنها من المتقدمين: نجم الدين أبو موسى المعروف بالقمراوي، ومن المتأخرين: أمير الشعراء شوقي بك.
ومثل قصيدة الشاعر صرّدر، التي يقول في طالعها:
أكذا يجازى ود كل قرين
…
أم هذه شيم الظباء العين
فقد وازنها ابن التعاويذي بقصيدة نظمها في وزنها وعلى قافيتها، وكذلك فعل ابن المعلم.
والشعر الحائز للمزيتين: هو الذي يرتفع به قدر الشاعر، ويأخذ به في قلوب الأدباء مهابة، ويحميه من أن يتعرض الشعراء لهجائه.
هجا الأحوص رجلاً، فجاء الرجل إلى الفرزدق يطلب إجازته بهجاء الأحوص، فقال له: أليس الأحوص هو الذي يقول:
ألا قف برسم الدار فاستنطق الرسما
…
فقد هاج أحزاني وذكرني نُعما
قال: بلى، قال: والله! لا أهجو رجلاً هذا شعره!
وأكثر ما يختلف الرواة في نسبته من الشعر: هو الشعر البارع في نظمه ومعناه، مثل الأبيات المصدرة بقول قائلها:
وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ
…
سقاه مضاعَف الغيث العميمِ
فقد نسبها بعضهم إلى المنازي من أدباء الشرق، ونسبه الآخرون إلى حميدة الأندلسية.
ومثل قول القائل:
رعى الله ليلات تقضت بقربكم
…
قصاراً وحياها الحيا فسقاها
فما قلت إيه بعدكم لمسامرٍ
…
من الناس إلا قال قلبي آها
فقد نسبت لأبي البركات المعروف بالمستوفي، ونسبت لحسام الدين الحاجري؛ حيث توجد في أثناء قصيدة من ديوانه.
وقد يتنازع الشعراء أنفسهم في الشعر البالغ في الجودة درجة قصوى، فيدّعي كلٌّ أن الشعر وليد قريحته، كما تنازع أبو طالب المعروف بابن الخيمي، وابن إسرائيل في القصيدة التي جاء فيها البيت المشهور:
يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا
…
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وحكّما ابن الفارض في ذلك، فحكم بها لابن الخيمي، بعد أن نظر في شعريهما، ووجد القصيدة إلى شعر ابن الخيمي أقرب، وأسلوبها بأسلوبه أشبه (1).
(1) ذكر في نهاية البحث كلمة (يتبع)، ولم تنشر التتمة في الأعداد التالية من المجلة. كما لم أعثر على بقية البحث في المجلات الأخرى.