الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأسيس جمعية الشبان المسلمين
(1)
سادتي الكرام!
أحييكم، فأحيي أصالة الرأي، وأشكركم، فأشكر حرية الضمير، وإن اجتماعكم هذا لفاتحة حيياة نبيلة، وعنوان مستقبل مجيد.
فتية من أبناء وادي النيل عزَّ عليهم أن يكون الشرق متقطع الأوصال، بطيء السير إلى الأمام، وهو حريّ بأن يكون صبيح المنظر، سليم العاقبة، فقاموا يبسطون أيديهم لإحكام صلة التعارف والتآزر، ويسابقون إلى تأليف جمعية تنحو نحو الإنسانية الصادقة، وتسير على ما يرضي الضمائر العامرة بالإخلاص.
وإن أمة يكون نشؤها على بصيرة من حاضرها، واحتراس مما يدنّس مستقبلها، لأمة خليقة بأن تبلغ السماء، وخليقة بأن تبغي فوق السماء مظهراً.
أما وجه الحاجة إلى تأليف هذه الجمعية، فأعظمُ من أن أصفه في هذا المقام بتفصيل.
(1) مجلة "الفتح" - العدد 73 من السنة الثانية الصادر في السابع من جمادى الثانية سنة 1346 هـ الموافق الأول من ديسمبر كانون الأول 1927 م - القاهرة.
وهي الكلمة التي ألقاها الإمام في حفلة تأسيس جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
ولعل شبابنا النجباء يشعرون بأن انتظامهم في جمعية يديرونها بأيديهم، ويسلكون بها محجةً ليلُها كنهارها، أطهرُ لقلوبهم، وأرفع لذكرهم، وأسرع بهم إلى امتطاء العزة القعساء.
إن موقع مصر الجغرافي، وتبريزها العلمي يجعلانها أهلاً لأن تكون عاصمة الشرق الأدبية، وهذا ما يستدعي أن تقوم بها جمعية تنتظم الشبان على اختلاف أوطانهم؛ حتى تسري روح الأدب الخالص في سائر الشعوب يميناً ويساراً، وإن هذا العمل لمما يزيد الأمة المصرية فخراً على فخرها، ويضيف إليها عظمة على عظمتها.
حدث تباعد بين طائفتين: طائفة تنفر من الجديد، وأخرى لا تحترم القديم، وقد بصر بهذا التباعد بعض من يضعون أقلامهم في غير نصيحة، فانهالوا يوسعونه طولاً وعرضاً.
وشأن هذه الجمعية أن تعمل لحثّ البطيء تارة، ولرد الجامح عن السبيل تارة أخرى، وبهذا يتيسر لها أن تضع مكان التباعد ائتلافاً، ومتى فتحت نادياً يؤمه الناشئون على اختلاف طرز تعليمهم، خلصت أفكارهم، وتقاربت آراؤهم، وتقاربُ الأفكار والآراء وسيلة ائتلاف القلوب، واتحاد العواطف، والأمة التي تأتلف قلوبها، وتتحد عواطفها، لا يبقى بينها وبين الحياة الآمنة المطمئنة إلا قاب قوسين أو أدنى.
كانت النهضة الاجتماعية في مصر بريئة من أن تحمل في أي ناحية من نواحيها لوناً جافياً، فأقبلت الشعوب الشرقية تحفها بالإجلال، وتلقي إليها بمقاليد الزعامة من صميم أفئدتها، ولا أكتمكم حديثاً هو: أننا أصبحنا نسمع في حسيس هذه النهضة المباركة نغمة غير طيبة، ولا أرى شبابنا المخلصين
إلا أن يعيدوا على النهضة المصرية أدبها الجميل؛ فإن مصر قلب الشرق، وإذا صلح القلب، صلح الجسد كله.
في الناس من لم يقدر للغة العربية بيانها الراع، وأساليبها البديعة، وفي الناس من لا يعنيه أن تكون هذه اللغة رابطة شعوب هم في أشد الحاجة إلى أن يتعارفوا، وقد قام هذا وذاك يناديان الأدباء إلى أن يزيغوا عن اللغة الفصحى، ويلوثون ألسنتهم وأقلامهم باللغة العامية المرذولة. ومن اللائق بجمعية الشبان المسلمين أن تحتفظ بهذه اللغة المهذبة، وتقيم لآدابها سوقاً نافقة.
تلذ طائفة منا تقليد الأمم الغالبة من غير قيد ولا شرط، والحكمة تنادينا إلى أن نسايرها في العلوم والفنون جنباً لجنب، ونذهب معهم في إعداد وسائل القوة والغلبة أينما ذهبوا، أما ما سوى ذلك، فينبغي أن تكون لنا أذواق تميز الرديء من الجيد، وعقول لا يلتبس عليها النافع مما لا خير فيه. ولعل هذه الجمعية تنظر في هذا الشأن برويّة، فتقتبس من تلك الأمم ما زكا، وتحمي أوطاننا مما فيه بأس، ولاسيما تقاليد أصبح عقلاء تلك الأمم أنفسهم يمقتونها.
سيضرب ذكر هذه الجمعية في نواحي الشرق والغرب، وستلاقيها نوادي العلم والأدب بابتهاج واحتفاء. فكونوا عند أمل هذه النوادي، وأروها على ضفاف وادي النيل فتياناً تتلألأ قلوبهم هداية، ولا يرضون من العلم إلا باللباب.
وستجد هذه الجمعية من حولها ألسنة لامزة، وكذلك المشروعات الإصلاحية لا تمر إلا على جسر من اللمز، فاصرفوا عن اللمز أسماعكم، وقولوا كما قال أكرم الخليقة - صلوات الله عليه -:"اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون".
قد يقول من لا يحسن أن يقول: إن في اسم هذه الجمعية رائحة الرابطة
الدينية، ونحن نريد رابطة شرقية، أو قومية، أو وطنية، فخذوا بيده إلى جمعيات غير إسلامية قد فُصّلت على مقدار الصلة الدينية، وعلّموه أن ليس على تلك الروابط من بأس؛ فإن في الإسلام تسامحاً وحرية يسعان كل اتحاد يستدعيه التعاون على المصالح المشتركة بين أولي ملل مختلفة.
ولعلكم تنظرون إلى جمعيات أخرى في أُبّهة وفخامة، فيعز عليكم أن تخرج جمعيتكم هذه في مظهر غير عظيم، فاضربوا بهذا الخاطر ثبجَ البحر، فإن المشروع الذي ينشأ صغيراً، ثم ينمو من حين إلى آخر، يكون أثبتَ أساساً، وأحكم بناءً، وأبلغ شاهداً على حزم الناهضين بأعبائه.
ولا تنسوا بعد هذا أن من ورائكم أمة رشيدة ستشتري راحة ضمائرها وسعادة مستقبل أبنائها بما تبذله في مؤازرة مشروعكم الجليل. والله المستعان على أن تكون هذه الجمعية فسيحة المدى، سامية المظاهر، خالدة الأثر، وما ذلك النجاح ممن يدّرعون الحزم والحكمة ببعيد.