المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(23)«هُدى وَنورٌ»

- ‌المقدمة

- ‌خواطر

- ‌الحكمة العربية

- ‌التعاون في الإسلام

- ‌الرحلة والتعارف في الإسلام

- ‌الشعور السياسي في الإسلام

- ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

- ‌الشورى في الإسلام

- ‌الدعوة الشاملة الخالدة

- ‌طرق الصوفية والإصلاح

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الإسلام والفلسفة

- ‌التراويح

- ‌رسائل إخوان الصَّفا

- ‌الجمعيات الإصلاحية

- ‌العرب والسياسة

- ‌لهجة بلاد الجزائر

- ‌إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

- ‌تعقيب على حديث

- ‌مناظرة البطريرك الماروني

- ‌طريق الشباب

- ‌الحكمة وأثرها في النفوس

- ‌العمل للكمال

- ‌أسباب سقوط الأندلس

- ‌الجزائر واستبداد فرنسا

- ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

- ‌من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام

- ‌تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

- ‌تأسيس جمعية الشبان المسلمين

- ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

- ‌قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

- ‌البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

- ‌كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

- ‌رثاء عمر بن الشيخ

الفصل: ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

(1)

ليس من غرض هذا المقال أن نحدثك عن حال الأزهر من حيث هو حجر وطين، وأرض فوقها سماء، وإنما نقصد إلى أن نضع نصبَ عينك صورة موجزة من حياته العلمية، ومكانته الدينية؛ لنريك أنه الحصن الذي لا يتصاع، ومطلع النور الذي لا يتقلص، ومبعث القوة التي لا تغلب، حتى تكون على ثقة من أنه الكفيل بإعلاء كلمة الإِسلام، ورفع لواء المدنية النقية من كل قذى.

في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 359 هـ شرع القائد الفاطمي أبو الحسن جوهر بن عبد الله "الصقلي" في بناء مسجد بالمدينة التي أنشأها، حيث ضرب خيام جيشه، وسماها:"المنصورة"، ثم سماها المعزّ بعدُ:"القاهرة المعزية"، وتم بناء هذا المسجد في نحو ثلاثين شهراً، ذلك المسجد هو الأزهر الشريف.

وفي صفر عام 365 هـ جلس قاضي مصر أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حيون بهذا الجامع، وأملى مختصر أبيه المؤلف في الفقه على مذهب الشيعة.

وفي سنة 378 هـ تولى الوزارة يعقوب بن كاس للخليفة نزار بن المعز،

(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد العاشر من المجلد الأول في شهر شوال سنة 1349 هـ - القاهرة.

ص: 120

وكان هذا الوزير من رجال العلم، فانتخبت الدولة خمسة وثلاثين عالماً، وعينتهم للتدريس بهذا الجامع، وأنشأت لهم منازل حول الأزهر، وكانوا يحضرون يوم الجمعة، ويدرسون بعد الصلاة: الفقه، والعقائد، وفنون الأدب.

ولما قضى صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية، وكان قاضي القضاة بدولته صدر الدين عبد الملك بن درباس شافعيَّ المذهب، أمر بأن لا تقام الجمعة في مساجد متعددة، وقصر الخطبة على جامع الحاكم؛ إذ كان أوسع جامع بالقاهرة، وبقي الأزهر عاطلاً من صلاة الجمعة إلى أن جاءت دولة الملك الظاهر بيبرس، فعُني أحد أمرائها هو عز الدين أيدمر الحلي بعمارة الأزهر، فأصلح ما اختل من مبانيه، وأعاد إليه صلاة الجمعة في 18 ربيع الأول سنة 665 هـ، وأقام لذلك حفلة حضرها رجال الدولة، وأعيان الأمة.

وما زال الأمراء والسلاطين، والكرام من ذوي اليسار يبسطون أيديهم بالإنفاق على الأزهر، ويقفون عليه الأوقاف بسخاء، وكثير منهم يعملون لترقية شأنه من حيث هو جامعة دينية علمية، حتى أصبح منذ عهد بعيد معهداً عامراً بدراسة العلوم الشرعية والعربية، ومجالس الوعظ.

وما فتئ هذا الجامع المورد الذي يؤمه طلاب العلم من كل ناحية، حتى أنشئت له شعب في القطر المصري هي: معهد الإسكندرية، ومعهد طنطا، ومعهد أسيوط، ومعهد الزقازيق، ومعهد دمياط، ومعهد دسوق.

وكان في إنشاء هذه المعاهد تيسير على طلاب العلم من سكان هذه البلادة حتى لا يحتملوا كلفة المقام في القاهرة إلا حيث يتأهلون لدراسة الكتب العالية في نفس الأزهر الشريف، وفي هذه المعاهد مظاهر تجعل الشعور الديني

ص: 121

ساريا في الأمة، والأممُ صور قائمة، وأرواحهُا الشعور بأن لها ديناً حقاً، وشريعة عادلة.

* أقسام التعليم:

في الأزهر قسم ابتدائي، ومدته أربع سنوات، وثانوي، ومدته خمس سنوات، ومواد هذين القسمين تدرس في أماكن خاصة بها خارج الجامع الأزهر، وبعد هذين القسمين قسم عال، ومدته أربع سنوات، ودروسه الآن تلقى في نفس الجامع الأزهر، وبعد القسم العالي قسم التخصص، ومدته ثلاث سنوات.

أنشئ هذا القسم في 13 محرم سنة 1342 هـ - 26 أغسطس سنة 923 م؛ ليخرج رجالاً لهم مزيد اختصاص في بعض العلوم الدينية، أو العربية، وما يتصل بها، وهو ضرب من ضروب الإِصلاح التي يعمل لها الرؤساء الناصحون، وفي هذا القسم نحو خمسين مدرساً، وبه نحو 200 طالب علم ما عدا المتطوعين، وترجع العلوم التي يقصد الطلاب إلى التخصص بها إلى تسع مجموعات:

1 -

التفسير والحديث.

2 -

الكلام والمنطق.

3 -

الأصول والفقه الحنفي.

4 -

الأصول والفقه المالكي.

5 -

الأصول والفقه الشافعي.

6 -

النحو والصرف.

7 -

البلاغة.

8 -

الوعظ والإرشاد.

9 -

التاريخ والأخلاق.

وإذا كان الأزهر قد أخرج قبل إنشاء هذا القسم رجالاً لهم رسوخ في بعض العلوم أكثر من رسوخهم في غيرها، فسيكون الرسوخ بعد هذا على طريق منظم؛ بحيث لا تبقى ناحية من نواحي العلوم التي تدرس في هذه الجامعة إلا وقد قام عليها طائفة خاضوا عبابها، وتوغلوا في أحشائها، وأصبحت

ص: 122

كلمتهم القول الفصل في تقرير مسائلها، وليس ببعيد على الأذكياء المجدين من طلاب هذا القسم أن تكبر هممهم، ويخلص في سبيل العلم قصدهم، حتى نرى فيهم رجالاً يبهرون النفوس علماً، ولا تشهد منهم العيون إلا استقامة ورشداً.

* العلوم التي تدرس بالأزهر:

يدرس في الأزهر: التفسير، والقراءات، والحديث، والسيرة النبوية، وعلم الكلام، والفقه وأصوله، والنحو، والصرف، والبلاغة، والإِنشاء، وآداب اللغة، والعروض، والقوافي، والوضع، والمنطق، وعلم النفس، والتا ريخ، والأخلاق، والفلسفة، والحساب، والهندسة، والطبيعة، والكيمياء، والجغرافيا.

وربما أشار بعض الكاتبين في إصلاح الأزهر بقصر التعليم فيه على العلوم الدينية والعربية، وهو رأي لا يستقيم مع ما يقتضيه حال العصر من أن يكون العالم الديني على جانب من العلوم الكونية والاجتماعية، وبهذا يكون الأزهر كفيلاً بإخراج نشء يمثلون القاضي العادل، والمدرس النحرير، والمصلح الخطير، والمرشد الحكيم، والكاتب البارع، والمدير لبعض الشؤون العامة في حزم ونظام.

* الأروقة:

بالأزهر أروقة معدة لسكن طلاب العلم، والرواق يحتوي على غرف ومرافق، ومن هذه الأروقة ما هو خاص بالقطر المصري؛ كرواق الصعايدة، ورواق البحاروة، ورواق الشراقوة، ورواق الحنفية، ورواق الطيبرسية، ورواق السنارية، ومنها ما هو خاص ببعض الأقطار الإِسلامية من غير مصر؛ كرواق

ص: 123

الحرمين، ورواق الشوام، ورواق المغاربة، ورواق الهنود، ورواق الأتراك، ورواق الأفغان، ورواق اليمن، ورواق الأكراد، ورواق جاوة، ورواق الدكارنة البرناوية.

وفي هذه الأروقة، وما وقف عليها من كتب وجرايات معونة للمنتسبين إليها على طلب العلم، وإذا وجد في نبهاء الطلاب بها حرص على الخير، أمكنهم أن يعقدوا فيما بينهم صلة التعارف والتعاطف التي أرشد إليها الدين بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فيعمل فوق ما يستفيدونه من علم وأدب عمل صالح هو تأكيد الرابطة بين الشعوب الإِسلامية المتفرقة.

وبهذه الأروقة صار الأزهر ملتقى أمم إسلامية متباعدة الأقطار. ومتى اشتدت عناية أولي الشأن بأمورهم، فنظروا إليهم بعطف ورعاية، وراقبوا سيرهم في التعليم، وأخذوهم بالنظم الحازمة، وجدت فيهم أوطانهم -إذا انقلبوا إليها- القدوة الصالحة، وكانوا ألسنة تلهج بفضل الأزهر، وتمجيدُ الأزهر يرجع فخره إلى سكان وادي النيل قاطبة.

فتوجيه طلاب العلم بهذه الأروقة -ولاسيما النبهاء منهم-، وحملهم في التعليم على النظم الصالحة، حق من حقوق العالم الإسلامي على الأزهر الشريف، ومفخرة يزداد بها ذكر الأزهر رفعة، وبمثله تبقى القاهرة عاصمة الشرق الأدبية، ومبعث الهداية الإسلامية.

* مشيخة الأزهر:

ما زال الأمراء ينظرون في شؤون الأزهر بأنفسهم حتى اتسعت دائرته، واقتضى حاله أن يسند النظر إلى أحد الكبار من شيوخه، وأول من عرف بولايته شيخاً للأزهر: الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي المتوفى

ص: 124

سنة 1101 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي (1) الشافعي المتوفي سنة 1106 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد النشرتي (2) المالكي المتوفى سنة 1120 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الباقي القليني (3) المالكي، وتولاها بعده الشيخ محمد شنن الجداوي المالكي المتوفى سنة 1133 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي المتوفى سنة 1137 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الله بن محمد عامر الشبراوي الشافعي المتوفى سنة 1171 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد بن سالم الحفني (4) الشافعي المتوفى سنة 1181 هـ ، وتولاها بعده الشيخ عبد الرؤوف السجيني (5) المتوفى سنة 1182 هـ، وتولاها بعده الشيخ أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (6) المتوفى سنة 1192 هـ، وتولاها بعده الشيخ أحمد العروسي (7) الشافعي المتوفى سنة 1218 هـ، وتولاها بعده الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي المتوفى سنة 1227 هـ، وتولاها بعده الشيخ محمد الشنواني (8) الشافعي المتوفى سنة 1233 هـ، وتولاها

(1) نسبة إلى بلدة (برمة) بلد بمديرية الغربية بمصر.

(2)

نسبة إلى (نشرت) بلد بمديرية الغربية بمصر.

(3)

نسبة إلى (قلين) بلد بمديرية الغربية، ولم نقف على تاريخ وفاته.

(4)

نسبة إلى (حفنا) بلدة بالشرقية، وهو صاحب "حاشية الجامع الصغير".

(5)

نسبة إلى (سجين) قرية بمديرية الغربية.

(6)

تفقه مذهب الإمام الشافعي، ثم درس بقية المذاهب، وكان يكتب في توقيعه: الشافعي الحنفي المالكي الحنبلي. ومن مؤلفاته: "شرح الجوهر المكنون".

(7)

نسبة إلى (منية عروس) بلدة بإقليم المنوفية تابع مركز أشمون.

(8)

نسبة إلى (شنوان) بلدة بإقليم المنوفية .. وهو مؤلف "حاشية مختصر ابن أبي جمرة".

ص: 125

الشيخ محمد بن أحمد العروسي الشافعي المتوفى سنة 1245 هـ وتولاها بعده الشيخ أحمد بن علي بن عبد الله الدمهوجي (1) الشافعي المتوفى سنة 1246 هـ ، وتولاها بعده الشيخ حسن بن محمد العطار (2) الشافعي المتوفى سنة 1255 هـ ، وتولاها بعده الشيخ حسن القوششي (3) الشافعي المتوفى سنة 1254 هـ ، وتولاها بعده الشيخ أحمد بن عبد الجواد الشهير بالصائم السفطي (4) الشافعي المتوفى سنة 1263 هـ، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم البيجوري (5) الشافعي المتوفى سنة 1277 هـ، وتولاها بعده الشيخ مصطفى بن أحمد العروسي الشافعي، وعزل عنها سنة 1287 هـ، وتقلدها الشيخ محمد المهدي العباسي الحنفي، وعزل عنها في المحرم سنة 1299 هـ ، وخلفه فيها الشيخ محمد بن محمد بن حسن الأنبابي (6) الشافعي إلى شهر ذي الحجة من تلك السنة، ثم أعيد إليها الشيخ المهدي حتى استقال سنة 1304 هـ ، وأعيد إليها الشيخ الأنبابي إلى أن استقال سنة 1312 هـ ، وتقلدها بعده الشيخ حسونة (7) بن عبد الله النواوي الحنفي

(1) نسبة إلى (دمهوج) قرية بالقرب من بنها العسل.

(2)

هو صاحب "حواشي شرح الخبيصي على التهذيب"، و"حواشي شرح الجلال المحلي لجمع الجوامع".

(3)

نسبة إلى (قوسنا)، وله شرح على السلم.

(4)

نسبة إلى (سفط الوفاء) قرية بمدينة المنيا.

(5)

نسبة إلى (البيجور) قرية بمديرية المنوفية.

(6)

نسبة إلى (أمبابة) قرية بضواحي القاهرة.

(7)

مما يحفظ التاريخ لهذا الأستاذ: أن بطرس باشا غالي حين كان وزيراً للحقانية، أراد أن يدخل إلى المحكمة الشرعية عضوين من المستشارين بمحكمة الاسشاف. فغضب القاضي التركي أمام هذه الإرادة. أما الشيخ حسونة، فقد وقف في وجهها =

ص: 126

حتى استقال سنة 1317 هـ ، وتولاها بعده حضرة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي الحنفي، وتوفي بعد ولايتها بشهر فجأة، وخلفه فيها الشيخ سليم البشري المالكي حتى استقال سنة 1320 هـ، وتولاها بعده السيد علي ابن محمد الببلاوي المالكي، واستقال سنة 1323 هـ وتقلدها بعده الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، واستقال سنة 1327 هـ، فأعيد إليها الشيخ سليم البشري إلى أن توفي سنة 1335 هـ ، وتولاها بعده الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي الوراقي (1) المتوفي في 15 محرم سنة 1346 هـ، وتولاها بعده حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي في 2 ذي الحجة من تلك السنة، واستقال في 5 جمادى الأولى سنة 1348 هـ ، وتولاها بعده حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري، وهو شيخ الجامع الأزهر لهذا العهد.

* واجبات شيخ الجامع الأزهر:

ينظر شيخ الجامع الأزهر في شؤون المدرسين، وطلاب العلم، ونظم التعليم، وبما أن الجامع الأزهر أكبر معهد ديني في العالم الإسلامي، كان لرئيسه حق النظر في حالة الأمة من حيث موافقتها لروح الدين، أو بعدُها عنه، وعليه أن يوجه نصيحته إلى أي قطر إسلامي متى انحرف جماعة من المسلمين عن السبيل، أو فتنهم ذو يد طائشة عن دينهم الحنيف، وإذا كانت أحوال

= موقف من يرى مقامه العلمي فوق كل منصب، حتى قال لبطرس باشا عندما أخذ يدافع عن رأيه في شيء من الشدة:"اسكت يا بطرس، لكم دينكم ولي دين"، فدفع عن المحاكم الشرعية أمراً ربما انقلبت بعده إلى صبغة غير صبغتها.

(1)

نسبة إلى (وراق الخضر) بلدة بالجيزة.

ص: 127

الشعوب الإِسلامية قبل هذا غير معروفة لشيوخ الأزهر بتفصيل، أو كانت كلمة الأزهر لا تصل إلى من في أقصى الشرق والغرب إلا بعد أمد طويل، فإن وسائل الاطلاع على أحوال الجماعات الإِسلامية في هذا العصر متيسرة، والطرق التي تصل منها نصيحة رئاسة الأزهر إلى جماعات المسلمين على بعد أوطانهم غير متعسرة، وقد أصبحت الرسائل بتمهيد وسائل المواصلات ترد هذه الرئاسة من البلاد القاصية في أيام معدودة، ولا شك في أن انتظام المواصلات يجعل ارتباط الأزهر بالأقطار الإِسلامية في هذا العصر أشد من ارتباطه بها في العصور السالفة.

وأذكر -على وجه المثل-: أن مسلمي الصين -وهم عشرات من الملايين- لا تعرف لهم صلة بالأزهر، وقد بلغهم صوته في هذا العهد، فقاموا يسعون إلى تأكيد الرابطة بينهم ويينه؛ لينالوا ما نالته الشعوب الأخرى من علم وهداية. وجاء في رسالة لهم إلى رئاسة الأزهر: أنهم عقدوا العزم على إرسال طائفة منهم إلى الأزهر؛ ليتفقهوا في الدين، ويقوموا بالدعوة والإِرشاد في بلادهم إذا رجعوا إليها، وتلقت الرئاسة هذه الرسالة بارتياح.

* المدرسون:

في سنة 1293 هـ كان عدد المدرسين 361، وفي هذا العهد سنة 1349 هـ يبلغون زهاء 713 مدرساً: مدرسو العلوم الدينية والعربية 505، ومدرسو العلوم الحديثة والخط والإملاء 208، وكثير من مدرسي العلوم الحديثة أزهريون تخرجوا من الأزهر بعد أن صارت تدرس فيه هذه العلوم.

والمدرسون في الأزهر أحرار في نقدهم وآرائهم، فللمدرس أن ينقد آراء أهل العلم من قبله ما شاء، فإن وجده أهلُ العلم على حجة، تقبلوا رأيه

ص: 128

بقبول حسن، وإن وجدوه في خطأ، نبهوا على وجه خطئه بالتي هي أصوب، وإذا أبدى بعض المدرسين أو الكاتبين رأياً حاول به هدم أساس من أسس الشريعة، أو نقضَ أصل من أصول الدين، فلقي بعد تفنيد رأيه بالحجة شيئاً من الإِنكار، فذلك لأنه نادى على نفسه بقلة العلم، أو مرض القلب، وليس من مصلحة طلاب العلم أن يجلسوا إلى من يبادرهم بآراء في أصول الدين يخرج بها عما أجمع عليه أئمة الإِسلام جيلاً بعد جيل، فلا يرمي التدريسَ في الأزهر بعدم الحرية في النقد إلا من فاته أن يعرف حال المحققين من علمائه، أو من أراد من كلمة الحرية معنى غيرَ المعنى الذي يعقله العالمون.

* طلاب العلم به:

يقص علينا التاريخ أن طلاب العلم بالأزهر كانوا في سنة 818 هـ سبع مئة وخمسين شخصاً، وكانوا في سنة 1293 هـ عشرة آلاف، وسبع مئة وثمانين طالبأ، أما عددهم اليوم، فيقدر بنحو 9461: في الأقسام الابتدائية 5106، وفي الثانوية 2182، وفي القسم العالي 1033، وفي القسم الموقت 490، هذا عددُ الطلاب المصريين، ويضاف إليهم نحو 650 من المنتسبين إلى أقطار إسلامية مختلفة.

وبهذا العدد الكبير من الطلاب المصريين الذين يردون الأزهر في أول السنة، ويعودون إلى بلادهم في آخرها، بقي احترام الدين وطاعة أوامره في نفوس الأمة المصرية راسخاً، ولولا هذه الروح التي يبعثها الأزهر في كل ناحية، لوجدت دعاية الفسوق عن الدين الحنيف المجال واسعاً.

ولا أحرص من طلاب العلم بالأزهر على فهم مقاصد المؤلفين، فلا تجدهم يقنعون بفهم مسائل العلم في نفسها حتى ينقدوا عبارة الكاتب،

ص: 129

ويعرضوها على قواعد الوضع والنحو؛ ليعرفوا وجه دلالتها، ويميزوا حقيقتها عن مجازها، ويتبينوا ما فيها من حذف أو تقديم أو تأخير، والنجباء منهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يتجاوزونه إلى المناقشة فيما يدخل في موضوع العلم، ومن أجل هذه الطريقة ترى النابغة المكب على العلم في الأزهريين أقدرَ على حل المشكلات، وأسرعَ إلى تطبيق كلام المؤلف على ما يراد منه.

يكتب بعض من يتلقى عادات الغربيين بتقليد، ويزين فيما يكتب قبول الفتيات للتعلم بالأزهر الشريف، يكتبون ولا يخجلون أن يقولوا في الاستدلال على هذا الرأي:"إن إيجاد البنت مع الولد في التعليم يساعده على تلمس الكمال والأدب، ويثير فيه حب النجاح والتفوق".

والحقيقة أن في خصال الشرف ما يسمى: صيانة وعفافاً، واختلاط الفتيان بالفتيات مما لا يبقي للصيانة والعفاف عيناً ولا أثراً، ومن نازع في هذه الحقيقة، فإنما ينكر الشمس وهي طالعة في سماء صاحية، وخير لمن يرائي في الناس، فيزعم أن اختلاط الفتيان بالفتيات لا يأتي بشر، أن يرفع صوته بطرح العفاف من حساب الشرف والفضيلة، حتى إذا أقنع الناس بأن العفاف شيء لا يقيم له علم الأخلاق وزناً، بلغ مأربه، ولم تجد دعوته إلى الجمع بين الفتيان والفتيات في معاهد التعليم عقبة.

* الأزهر أساس النهضة الشرقية:

إذا كان الأزهر قد تجرد للبحث العلمي حيناً من الدهر، وغفل عن الأمراض التي تصيب المسلمين في دينهم ومدنيتهم، فقد تنبه اليوم من غفلته، وادكر ماضيه، وأحسن رفعة مكانته، ووثق بأن في مستطاعه مداواة هذه الأمراض، والنهوض بالشرق إلى ذروة السعادة، فهو سائر في سبيله واضعاً

ص: 130

يده في يد كل مجاهد أمين.

في الأزهر علم وأدب، وفيه الإرشاد إلى أصول العزة والمنعة؛ كتأكيد رابطة الإِخاء، وتربية الغيرة على الحقوق والمصالح؛ لأنه يدرس فيه القرآن، ولم يغادر القرآن كبيرة ولا صغيرة من نواحي السعادة والعظمة إلا دل عليها بأبلغ بيان.

كيف يكون حال من يتفقه فى مثل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، أفلا يشب على التخوف من أن يستولي على قومه من يجحد دينهم، ولا يحترمون شريعتهم؟ ومن مقتضى هذا التخوف البحث عن طريق النجاة من أولئك الذين شأنهم اضطهاد الأمم المستضعفة، والبحث عن طرق النجاة يذهب بالفكر مذاهبَ بعيدة المدى، والفكر الذي يسوقه الإِخلاص، وترافقه الحكمة، يبلغ بتأييد الله غايته، وإن بعد ما بينه وبينها، ووقفت العقبات دونها.

وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، أفلا يزدري كل عزة ينالها من أشياع الباطل، واثقاً بأن عزة الله فوق كل عزة؟ ومقتضى هذا أن لا يبيعهم عيناً يبصرون بها، أو أذناً يسمعون بها، أو يداً يبطشون بها، بل يأبى له أدبه المتين أن يلقي إليهم السلم، وهو يستطيع أن يكف بأسهم، أو يخفف في الأقل من طغيانهم.

وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، أفلا يشب على خصلة الإِقدام والتفاني في مواقف الدفاع عن الحق، حتى إذا لقي نصباً، أو مسه أذى، تذكر أن خصمه يلاقي مثل ما يلاقيه هو من العناء والألم،

ص: 131

واستمر في جهاده عالماً أن أولى الفريقين بالصبر والثبات مَن حَسُن في الله ظنه، ورجح بالتوكل عليه وزنُه؟.

وكيف يكون حال من يتفقه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، أفلا يصب نظراته الصائبة في أحوال أمته باحثاً عن علل وهنها وخمولها؛ ليعمل على تغيير ما بها من الأحوال التي أخلدت بها إلى الاستكانة، وقعدت بها عن مغالبة خصومها راضية بحياة لا أمن فيها ولا كرامة؟.

والكتاب الكريم والحديث النبوي عامران بأمثال هذه الحكم التي لم تخالط نفوساً زاكية إلا فزعت لأن ترسمها في حياة الأفراد والجماعات خططاً، فحق على أولي الشأن أن ينظروا إلى النشء الأزهريين نظرهم إلى رجال خُلقوا لأن يجاهدوا في سبيل الإِصلاح بما استطاعوا من حكمة وقوة، فالأزهر جاهد، وسيجاهد في ظهور الحق على الباطل، وإعلاء الفضيلة على الرذيلة، وإنما ينهض نهضته الطاهرة المطمئنة إذا سار تحت إشراف الهداية الدينية، وكان ولاة أموره ممن يرجون لله وقاراً.

ص: 132