المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التعاون في الإسلام - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(23)«هُدى وَنورٌ»

- ‌المقدمة

- ‌خواطر

- ‌الحكمة العربية

- ‌التعاون في الإسلام

- ‌الرحلة والتعارف في الإسلام

- ‌الشعور السياسي في الإسلام

- ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

- ‌الشورى في الإسلام

- ‌الدعوة الشاملة الخالدة

- ‌طرق الصوفية والإصلاح

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الإسلام والفلسفة

- ‌التراويح

- ‌رسائل إخوان الصَّفا

- ‌الجمعيات الإصلاحية

- ‌العرب والسياسة

- ‌لهجة بلاد الجزائر

- ‌إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

- ‌تعقيب على حديث

- ‌مناظرة البطريرك الماروني

- ‌طريق الشباب

- ‌الحكمة وأثرها في النفوس

- ‌العمل للكمال

- ‌أسباب سقوط الأندلس

- ‌الجزائر واستبداد فرنسا

- ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

- ‌من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام

- ‌تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

- ‌تأسيس جمعية الشبان المسلمين

- ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

- ‌قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

- ‌البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

- ‌كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

- ‌رثاء عمر بن الشيخ

الفصل: ‌التعاون في الإسلام

‌التعاون في الإسلام

(1)

الإسلام في مقدمة الشرائع المتضافرة على حفظ حقائق، هي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والنسل، والمال.

فمِنْ قَصْدِهِ إلى المحافظة على الدين: فرْضُه القيام بالدعوة إليه، والدفاع عن حوزته.

ومِن قصده إلى المحافظة على النفس؛ شرْعُه القصاص، وفرضه حضانة الأطفال ورعايتهم.

ومِن قصده إلى المحافظة على العرض: تقريره لعقوبة القذف بالزنا، وأمره بتأديب من يتطاول على غيره بلمز أو هجاء.

ومِن قصده إلى المحافظة على العقل: شرعه لعقوبة من يتناول المسكرات، أو يسعى في إزالة عقل شخص بالضرب ونحوه.

ومن قصده إلى المحافظة على النسل: حثُّه على النكاح، وسنُّه لعقوبة من يعتدي على شخص، فيبطل منه قوة التناسل.

ومن قصده إلى المحافظة على المال: شرعُه لعقوبة السارق وقاطع الطريق.

(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الرابع من المجلد الرابع الصادر في شهر ربيع الثاني 1352 هـ - القاهرة.

ص: 15

وقد يقع بعض هذه الحقائق في ضياع، أو يكون مشرفاً على الضياع، ويتعذر على الشخص الواحد العمل لسلامتها، فكان من مقتضى ثقل أعبائها أو كرة شُعَبها أن يمد إليه أشخاص آخرون أيديهم ليتعاون الجميع على حفظ دين، أو نفس، أو عرض، أو عقل، أو نسل، أو مال.

ومن المعلوم الماثل أمام كل من تفقَّه في الدين: أن الإسلام قد راعى عجز الأفراد عن القيام بكثير من المصالح الخاصة أو العامة، فأمر بالتعاون على وجه عام، ثم أقام كثيراً من أحكامه وآدابه على القاعدة التي ينتظم بها العمران، وتخف بها متاعب الحياة.

أما الأمر بالتعاون على وجه عام، فمن شواهده قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

يتناول التعاون على البر والتقوى: المؤازرة في كل عمل ينتج عنه الخير، سواء كان القائم به فرداً، أم جماعة، وسواء كان الخير عائداً إلى فرد، أم إلى جماعة، أم إلى أمة، ولا فرق في أصل طلب التعاون بين أن يكون الخير من مصالح الحياة الدنيا التي أذنت الشريعة بإقامتها، وأن يكون من وسائل السعادة في الأخرى.

فمن التعاون على البر والتقوى: أن يقوم الرجل للصلاة، فتناوله وضوءاً، أو تهيئ له مصلَّى.

ومن التعاون على البر والتقوى: أن ينهض القوم لإعلاء كلمتهم بنحو بناء المدارس، أو المستشفيات، أو الملاجع، أو إقامة مصانع تسد جانباً من حاجاتهم المدنية، فتبذل في إسعادهم ما تستطيع من قوة.

ويدخل في الإِثم والعدوان: كل عمل يعطل شريعة من شرائع الدين،

ص: 16

أو يعود على النفس أو العرض أو العقل أو النسل أو المال بالفساد.

فمن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تقضي للخصم بقطعة من مال خصمه، وأنت تعلم أنه يدعيها زوراً وبهتاناً.

ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تشهد حفلات ترتكب فيها محرمات، كتعاطي المسكرات، أو رقص الفتيان مع الفتيات.

ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تشتري ورقة من تلك الأوراق التي يصدرها جماعات، ويسمونها:"اليانصيب"؛ فإنها من الميسر الذي وصفه الله تعالى بأنه رجس من عمل الشيطان.

ومن التعاون على الإِثم والعدوان: أن تكون كاتب البطاقة التي يأمر

فيها الظالم بالاعتداء على نفس أو عرض أو مال.

ومما ورد في التعاون: قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فإن قصد أحد إلى مَن بينَك وبينه إخاءة ليعتدي عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، وجب عليك الانتصار للمعتدى عليه، ودفعُ المعتدي بما يكفي للخلاص من شره، وذلك معنى الانتصار له وهو مظلوم، أما الانتصار له وهو ظالم، فقد بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث بمعنى: الأخذ على يده، ومنعه من الظلم، وفي كفِّه عن الظلم الذي يذيقه عذابَ الهون في الآخرة، ويُلبسه ثوب الخزي في الأولى، انتصارٌ له أيُّ انتصار.

ومن الوجوه التي تدل على قصد الشريعة إلى التعاون: تحريم السؤال على مستطيع الكسب، وفي هذا التحريم باعث له على القيام بجانب من حاجات الأمة، وفي إخلاد القادر على الكسب إلى السؤال بليتان اجتماعيتان:

أولاهما: فوات الانتفاع بشخص يمكنه أن يكون كقطرة صالحة في دم

ص: 17

حياة الأمة، فتزداد به قوة على قوتها.

ثانيهما: بقاؤه في جسم الأمة كعضو يشرب من دمها، ويأكل من لحمها، بل كعضو يسري منه مرض البطالة إلى أشخاص لا تعرف نفوسهم العزَّة، فيكثر سواد هؤلاء الثقلاء في البلاد، قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خيز له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه"(1).

فحرام على من يستطيع كسب الرزق أن ينكث يده من العمل، ويجلس متشوفاً لما سمحت أو تسمح به نفوس المحسنين لمن قعد به العجز عن طريق الاكتساب.

فلو بدا لأولي الأمر أن يهيئوا للعاجزين عن الكسب ملاجئ، ويأخذوا على أيدي المتسولين؛ حتى يضطر صحيح البنية إلى مباشرة بعض الأعمال الحيوية، لوجدوا في الإِسلام ما يحثهم على أن يبنوا الملاجئ، ويمنعوا المتكففين من التجول في الطرق والأسواق.

وقد بث الإسلام روح التعاون في النفوس لأول ظهوره، ترى هذا في حياة المسلمين بالمدينة عقب الهجرة، فقد ورد في الصحيح: أن المهاجرين قدموا من مكة وليس بأيديهم شيء، فعرض الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم النخيل بينهم وبين المهاجرين، فقال: لا، فعرضوا عليه بعدُ أن يكفيهم المهاجرون مؤونة العمل، ويشركوهم في الثمرة، فأجاب لذلك، فقاسمهم الأنصار على ذلك، وكان الأنصار يؤثرون المهاجرين بما عندهم، وإن كانوا في حاجة إليه، وهو الإيثار الذي مدحهم الله تعالى به في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ

(1) كتاب "الموطأ".

ص: 18

عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

ومِن قصد الشارع إلى التعاون على وجه عام: أنه نظر إلى الأعمال المنطوية على مصالح، فكان منها ما تحصل مصلحته لكل شخص يقوم به، وتوجد هذه المصلحة كلما قام به قائم وهو مستوفي الشروط والأسباب والأركان، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى كل من بلغ سن التكليف؛ كالصلاة والصيام والحج والزكاة، وهذا ما يسميه الفقهاء: بالواجب على الأعيان، ومنها ما تحصل مصلحته بفعل شخص أو أشخاص، ولو قام غيرهم من بعدهم ليفعله، وجد المصلحة قد تحققت، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى الأمة على أن تقوم به طائفة منها؛ كتجهيز الموتى، وإنشاء ما يكفي حاجة البلاد من المدارس، وهذا ما يسمَّى في عرف الفقهاء: بفرض الكفاية.

والحقيقة: أن الطلب في فرض الكفاية يتوجه إلى من فيهم الكفاية للقيام بالعمل المطلوب، وإذا قام به بعضهم، سقط عن سائرهم، فولاية القضاء -مثلاً- يُتوجه فيها إلى من درسوا أحكام الشريعة، وكان لهم مقدرة على تطبيق الأصول على الوقائع. وإِنقاذُ الغرقى يتوجه الطلب فيها إلى من يستطيعون الإِغاثة.

ونصرة المظلوم يتوجه الطلب فيها إلى من كان قادراً على أن ينصره بإنفراده، أو بالانضمام إلى غيره. وإِنما جُعل الخطاب في فرض الكفاية موجهاً إلى الأمة؛ لأنه يجب على من لم يكن فيهم أهلية للعمل المطلوب أن يهيئوا وسائله لمن فيهم أهلية، أو يجبروهم على القيام به إذا أهملوا أو تباطؤوا. فدفعُ الشُّبه وتقويم الزيغ واجب على العارفين بأصول الدين، فإذا دخلت الضلالة في قرية لا يوجد فيها من فيهم الكفاية لتقويم الزائغين، وجب على من فيهم

ص: 19

الكفاية ببلد آخر أن ينتقلوا لإِرشاد أولئك الضالين، وإِن احتاجوا إلى نفقة أو وسيلة غيرها، وجب على القادرين على مساعدتهم بالمال، أو بتهيئة ما احتاجوا إليه من وسائل أن يعينوهم على أداء واجب الإِرشاد، فيسقط الوجوب عن الجميع. وقيادة الجيوش تجب على من جمع إلى الشجاعة العلم بالفنون الحربية، فإذا امتنع من تحققت فيه شروط القيادة من الخروج إلى مواقع القتال، لا يتركون وشأنهم بعلَّة أن الأمر بقيادة الجيش موجه إليهم وحدهم، بل على أولي الشأن إجبارهم على تولي قيادة الجيش، فإن لم يجبروهم، كانوا في العقوبة سواء، بل لولي الأمر أن يعمد إلى من فيهم الكفاية لأمر من الأمور، ويعين من بينهم شخصاً أو أشخاصاً للقيام به، فيصير بهذا التعيين فرض عين لا يسوغ لهم التأخر عنه.

ومن المطلوب على الكفاية ما هو ديني محض؛ كالصلاة على الميت، ومنه ما يرجع إلى مطالب مدنية؛ كتعاطي بعض الحرف أو الصنائع المحتاج إليها في انتظام حال الجماعة. والنوع الأول يبعث على القيام به القصد إلى امتثال أمر الله تعالى، وأما النوع الثاني، فقد يبعث عليه داعية فطرية، ذلك لأن همم الناس تختلف في توجهها إلى ما تستدعيه الحياة من الحرف والصنائع، فيوجد في أغلب البلاد الحداد والنجار والبناء والصائغ والخائط والحمال والكنَّاس، إلى غير هذا من الحرف والصنائع الضرورية، ومن المحتمل أن لا تطَّرد هذه السنَّة في بلد أو في عصر، فيزهد الناس في حرفة، أو في صناعة، فلم يدع الشارع هذه الضروريات أو الحاجيات إلى الدواعي الفطرية وحدها، بل جعل القيام بكل حرفة أو صناعة يُحتاج إليها في الحياة فرضَ كفاية، حتى يستقيم أمر الحياة، فإن لم تختلف همم الناس اختلافاً يفي بما تحتاج إليه

ص: 20

البلاد من الحرف والصنائع، وجب على أولي الشأن العملُ لسد حاجات الأمة، وإقامة الحرفة أو الصنعة المفقودة، ولو ببعث طائفة إلى خارج البلاد ليتعلموها، ويحسنوا القيام عليها.

وقد دلنا التاريخ الصحيح لعهد النبوة: أن الناس كانوا يتعاونون على مرافق الحياة، ووسائل السعادة، فقد روى الإِمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق (1) بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يَلْزم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون".

فدل الحديث على أن طائفة من المهاجرين كانوا يشتغلون بالتجارة، وطائفة من الأنصار كانوا يشتغلون بالفلاحة والزراعة، وأن أبا هريرة كان منقطعاً لطلب العلم، وعرفنا من طريق غير هذه الرواية: أن في الأمة لذلك العهد طائفة كانت تتعاطى بعض الصنائع؛ كالتجارة، والحدادة.

ولم يكن أهل الصُّفّة (2) إلا بمنزلة الجند المهيأ للدفاع، زيادة على ما كانوا يتلقونه من علم، فلهم من هذه الناحية قسط عظيم من التعاون المطلوب في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

يجري على شاكلة الحرف والصنائع: العلومُ والفنون، فقد قرر علماء الشريعة أن كل علم أو فن يحتاج إليه في الحياة يجب أن تقوم به طائفة الأمة، فمن التعاون على تنمية العلوم وتحقيقها: إقبالُ كل طائفة على علم يقتلونه بحثاً، ويحيطون به من كل جانب، وإنما اتسعت دوائر العلوم بمثل

(1) البيع والشراء.

(2)

موضع مظلل في مسجد المدينة يأوي إليه المساكين.

ص: 21

هذا العمل المسمَّى بالتخصص.

وقد أدرك علماء الإِسلام في القديم فائدة انفراد كل طائفة بعلم تُفْرِغ فيه جهودها، وتَصرِف فيه جانباً كبيراً من أوقاتها، فاختلفت وجهاتهم على قدر ما كان بين أيديهم من العلوم، وظهر النبوغ في هذه العلوم على اختلاف موضوعاتها، وتباعد أغراضها.

وقد يكون اختلاف الناس في إِتقان هذه العلوم من دواعي الفطرة، بأن يقبل كل إِنسان على العلم الذي يجد في نفسه الميل إلى تعاطيه، فإن وجد الرئيس همم الناس منصرفة عن بعض العلوم، اتخذ وسيلة إلى حمل طائفة منهم على مزاولته.

وأما أن الشمريعة بَنَت كثيراً من أحكامها وآدابها على قاعدة التعاون، فشواهده كثيرة، تجد هذه الشواهد في التعاون على حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والنسل.

من شواهد التعاون على حفظ الدين: أن الشريعة نظرت إلى ما ينبني على التفقه في الدين من إنارة الجاهلين، وإنذار المسرفين، وتنظيم الحياة على وجه أدعى إلى الارتياح والاطمئنان، فلم تتركه لهمم الأفراد التي قد يطرأ عليها ضعف أو انصراف عن التعلم، بل فرضت على كل فرقة من المسلمين أن يرحل منها طائفة إلى المواضع التي يمكنهم أن يتفقهوا بها في الدين، ثم يعودوا إلى قومهم، فتبقى عقائد الدين وواجباته وآدابه محفوظة بينهم.

قررت رحلة طائفة للتفقه في الدين، وفيه معنى التعاون على حفظه، وورد في الشريعة الأمر بالتعاون على حفظ الدين من وجه آخر، وهو أن رجال القبيلة أو القرية قد يغفلون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتضيع

ص: 22

أحكام الدين وآدابه، ففرضت على الأمة أن يقوم طائفة منها بالدعوة إلى الحق والإصلاح، والتحذير من الباطل والفساد، قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104].

وقد تختلف وجوه التعاون على حفظ الدين اختلافَ الأحوال والأزمان. ومما حدث في هذا العصر: أن بعض المخالفين يعملون لزلزلة أركانه، وطمس معالمه بوسيلة ما يفتحونه من مدارس ومستشفيات وملاجئ، يزعمون أنهم يخدمون بها العلم والإِنسانية، فهنالك يجدون الأطفال والمستضعفين من الرجال والنساء واقعين في حبائلهم، لا شاهد عليهم ولا رقيب، فيحدثونهم عن الإِسلام بألسنة تفتري عليه الكذب، ويلقنونهم آراء تجعلهم أشد الناس عداوة لدينهم، وازدراء لآبائهم.

فمن التعاون على الدين في هذا العصر: أن ينهض المسلمون نهضة صادقة، فيبسطوا أيديهم بالبذل في سبيل إنشاء مدارس ومستشفيات وملاجئ تغني عن تلك المباني المفتوحة لإِغواء الغافلين.

ومن التعاون على حفظ الدين: أن ينشط العلماء للإرشاد، فيطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في نصح من في قلوبهم بقية من خير، بأن لا يرسلوا أبناءهم إلى تلك المدارس التي لو غفل عنها الناس اليوم غفلتهم عنها بالأمس، لطوي بساط الدين طيّ السجل للكتاب.

ومن شواهد التعاون على حفظ النفوس: أن الشريعة قد نظرت إلى ما يحدث بين الطوائف من التنازع فالتقاتل، فأشفقت من أن تذهب نفوس بريئة، وتراق دماء كثيرة، فأمرت الباقين من المسلمين بالسعي للصلح بين الطائفتين المتقاتلتين.

ص: 23

ومن هذا القبيل فرض إغاثة العطشان والجائع، حتى قال الفقهاء: من لقي عطشاناً ومعه ماء، أو لقي جائعاً ومعه طعام، فمنع العطشان الماء، أو الجائع الطعام، وهو يعلم أنه لا يجوز منعه، وأنه يموت إن لم يسعده بما عنده، حقت عليه عقوبة القصاص.

دعت الشريعة إلى التعاون على حفظ النفوس، وجعلت له من الزكاة النصيب الأوفى، فكان من مصارفها الفقراء والمساكين؛ ليسدوا بها حاجاتهم، ويصونوا بها ماء وجوههم، ثم ندبت إلى وجوه أخرى من وجوه البر؛ كالصدقة، والهبة، فالقصد من الصدقة أو الهبة: مواساة من يُتصدق عليه، أو يوهب له، وإعانته على حفظ نفسه، أو نفس من يعوله -غالباً-.

وفي الناس من لا تسمح نفسه برفع يده عن الشيء المنتفع به جملة، فجعل له الشارع طريقاً إلى أن يعين غيره بمنفعة الشيء مع بقاء ذاته تحت ملكه، كالعارية، والعُمْرى (1).

ومن الوجوه الراجحة في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: أن المراد: ما يتعاوره الناس من متاع البيت؛ كالقدر والجفنة والسكين، وإذا طلب منك إعارة أمثال هذه الأدوات في حال ضرورة، كان منعها حراماً، فإن طلب منك إعارتها في حال لا تبلغ الضرورة، كان منعها خادشاً في المروءة، دليلاً على أنك تطوي نفسك على شيء من البخل بما آتاك الله من خير.

ومن شواهد التعاون على حفظ العرض: أن الشريعة قد وضعت على القذف بالزنا عقوبة محدودة، وعلى من يتناول غيره بسباب أو هجاء التعزيرَ

(1) أن تعطي شخصاً منفعة شيء مدةَ حياته أو حياتك، أو إلى أجل مسمى.

ص: 24

بما يكفي لردعه، وعهدت بإجراء ذلك الجزاء إلى الرئيس الأعلى، أو من يقوم مقامه، وفي إجراء ذلك الجزاء تعاون على حفظ الأعراض. والقاضي الذي لا يحقق النظر في قضايا السباب والهجاء، ولا يقرر لها جزاء وفاقاً، يعدّ فيمن لا يقدر حق صيانته الأعراض، ويلحق بمن يجهل أن العرض أعزّ على الرجل من ماله ونفسه.

ومن مقتضى التعاون على حفظ الأعراض: أن لا تترك مجلسك ميداناً يتسابق فيه الطغام إلى ثلب الأعراض، فإذا حرّك أحد لسانه بالقدح في عرض بريء أو بريئة، ألجمته بالحكمة. وكذلك يفعل الصالحون والمصلحون، قال صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يخذل امراً مسلماً في موضع ينتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته"(1). وقال صلى الله عليه وسلم: "من ذبّ عن عرض أخيه، رد الله النار عن وجهه يوم القيامة"(2).

ومن شواهد التعاون على حفظ العقل: أن الشريعة وضعت عقوبة على من يتناول شيئاً من المسكرات، أو يؤذي شخصاً فيزيل عقله، وعقوبةُ الأول معروفة، وعقوبةُ الثاني الديةُ كاملة، وهذه العقوبات يجريها القائمون على المصالح العامة، وإجراؤها من قبيل التعاون على حفظ العقول.

ومن مقتضى التعاون: أن تحول بين الإنسان وما يذهب بقوته العاقلة، أو يضعفها ما استطعت أن تحول، فإن كان لك سلطان، منعته بيدك الغالبة،

(1) أبو داود.

(2)

الترمذي.

ص: 25

وإن كنت مرشداً، منعته بموعظتك الحسنة. ونصحُ الطبيب في معالجة من تصاب عقولهم بشيء من الخلل داخل في قبيل هذا التعاون المطلوب.

ومن شواهد التعاون على حفظ النسل: أن الشريعة رغَّبت في النكاح، وجعلت من شروط صحته الإشهاد، فمن حضر ليشهد به، فقد أخذ بأدب التعاون على حفظ النسل، ومن الآخذين بهذا الأدب المحمود: الخاطبُ، ومن يشفع لدى الزوجة أو وليها في تخفيف نفقات العرس، أو الرضا بالميسور من المهر.

ومتى ظهر في الناس قلة الإِقبال على الزواج، وجب على حكماء الأمة والقائمين على مصالحها أن يتعاونوا في البحث عن علل قلة الزواج، ويتخذوا الوسائل إلى علاج هذه العلل حتى تعود الأمة إلى الفطرة السليمة، وتسير في طهر، وينمو عددها نماء يكفل حياتها، ويكسبها قوة على القيام بنفسها.

ومن شواهد التعاون على حفظ المال؛ بحمايته من التلف، أو العمل على نمائه: أن الشارع قرر الإِيصاء، وهو أن يعهد الأب لمن يعرف فيه الأمانة وجودة الرأي بالنظر في شؤون ابنه من بعده، ومن مقتضيات الإِيصاء: حفظ مال الطفل، والتصرف فيه على ما تقتضيه المصلحة، فقيام الوصي على أمر الطفل بحزم ونصح معونةٌ على حفظ ماله وإصلاح حاله.

ومن هذا الباب: تقرير الشارع لباب القِراض، وهو إعطاء مال لمن يَتَّجر به على أن له جزءاً من ربحه، فصاحب المال يعين العامل على كسب جزء من المال كانت يده فارغة منه، والعامل يعين صاحب المال على تنمية ماله، ولولا إعانة هذا العامل، لبقي المال عند حَدّ، وقد يُنقصه الإِنفاق حتى يذهب به جملة.

ص: 26

ومن هذا القبيل: فتح الشارع لباب عقد الشركات في الأموال، وهي خلط شخص ماله بمال آخر على أن يتصرف كل منهما في المالين في حضرة شريكه وغيبته، أو في حال حضرته فقط.

وفي هذا النوع من التعاون فائدة عظمى لا توجد عند عمل كل واحد في ماله منفرداً، فإنّ ضَمَّ القليل إلى القليل يُصيره كثيراً، وهذه الكثرة تجعل الشركاء قادرين على جلب بضائع مرتفعة القيم، أو مختلفة الأجناس والأصناف، ولولا الشركة، لضاق باعُ كل منهم أن يصل إلى تلك البضائع ذات القيم المرتفعة، أو ذات الأجناس والأصناف المختلفة، فتقل الأرباح، ولا يجد أهل البلد على تفاوت طبقاتهم كلَّ ما يقوم بحاجاتهم، ويوافق رغباتهم، ونجاحُ الشركات قائم على تحقق الأمانة، والسير على نُظم علم الاقتصاد الصحيح، فمن الملائم لروح التعاون في الإسلام: تأليف شركات تحتفظ بعهد الأمانة، وتسير على نظم يراعى فيها قواعد الاقتصاد المعقولة، وتسعها أصول الشريعة الغراء.

والتعاون بالنظر إلى ما تقع به المعونة إما أن يكون تعاوناً بالنفس؛ كأن تدفع بيدك أو سلاحك صائلاً على نفس أو مال، وإما أن يكون تعاوناً بالمال؛ كالقرض والهبة والصدقة، وضرب الدية في قتل الخطأ على العاقلة، وإما أن يكون تعاوناً بالرأي؛ كأن تشير على الرجل بما يخرجه من حيرة، أو ينقذه من عطب، وإما أن يكون تعاوناً بالجاه؛ كأن تشفع لذي حاجة عند من يملك قضاءها، قال صلى الله عليه وسلم:"اشفعوا تؤجَروا"(1)، وقال عليه السلام: "واللهُ

(1) النسائي.

ص: 27

في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (1).

وتتفاوت همم الناس في مصارف الجاه، وأصغرهم همة من يستخدمه في منافعه الخاصة، ولا يوجهه إلى قضاء المصالح العامة. وقد دلنا التاريخ على كثير من زعماء الإسلام وعلمائه يدوسون منافعهم الخاصة بأقدامهم، وإذا وجدوا موضعاً لنفوذ الكلمة، لم يذكروا إلا مصلحة عامة، أو مصالح أشخاص يبتغون من السعي لها رضا الله في الدنيا والآخرة.

وخلاصة المقال: أن الإسلام أقام التعاون على أساس محكم، ومدّ له في كل ناحية من نواحي الحياة بسبب، فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، بلغت بهم المكانة المحفوفة بالعزة، المشار إليها بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

(1) مسلم.

ص: 28