الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر
(1)
عهدتُ الأدب في تونس بطيءَ السير، قصير الخطا. وما بطء سيره وقصر خطاه لبخل في قريحة الفتى التونسي، أو لضيق في متقلب خياله، أو لإِملاقه من مباني اللغة وفنون بيانها، فإن في ذلك الفتى ألمعية، وفي ذلك الوطن حضارة، وفي الجامعة الزيتونية والمدارس التي تستمد منها لغة فصحى وبلاغة، وإنما هي وسائل النشاط على الإنشاء والنظم لم يحظ منها الأديب التونسي بمثل ما حظي به الأديب الناشئ على وادي النيل، ولهدوء السياسة وطغيانها أثر في نهضة الأدب شديد، فشأن السياسة القاسية أن تقلب النباهة إلى خمول، وتعيد الفصاحة إلى ما يشبه الفهاهة، وإذا نبت في بيئتها أديب فائق، فإنما هي عبقريته الفذة تسمو به حتى يخرج عن طبائع هذه البيئة ما استطاع.
ما برحت النفس مشوقة إلى أن تعلم المدى الذي بلغته نهضة الأدب في وطن ابن رشيق، وابن خلدون، حتى طلع علي كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" صنع الكاتب البليغ السيد زين العابدين السنوسي.
أسمتُ النظر في هذا الكتاب، وما انثنيت عن مطالعته، حتى ملكني ابتهاجٌ بطريقة بحثه، وإعجاب بما تجود به قريحة ابن الخضراء، أو القيروان،
(1) مجلة "الفتح" - العدد 89 من السنة الثانية الصادر يوم الخميس 30 رمضان 1346 هـ - القاهرة.
أو الساحل، أو بلاد الجريد.
أبتهج لأن أرى في تونس أقلاماً يدق مسلكها، وتنحو فيما تكتب نحو الصراحة، وكذلك صنع مؤلف كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر"؛ فقد أخذ في الوصف والنقد مأخذاً طريفاً، ونحا فيهما نحو من لا يضرب قلمه على مداجاة، وإنك لتقرأ ما يحدّث به عن نزعة الشاعر الأدبية، فلا تحس منه إلا أنه يقصد إلى تصوير ما يراه واقعاً، وانما يترقى فن الوصف والنقد بمثل هذه الأقلام.
أُعجبت بما اتسق في الكتاب من أدب موزون؛ إذ آنست فيه معاني وسيمة، وتخييلاً بديعاً، وغيرة على حقوق البلاد، ولا أُحجم أن أقول في كثير منه: إنه وليد عبقرية نادرة.
يخبرنا هذا الكتاب بأن نهضة الأدب في تونس أخذت -بفضل نبغائها- تقاوم طبائع العسف والسيطرة الجافية، وإذا كان في يد المسيطر أن يحول بين الجماعة والتطور الذي يجرها إليها الجهل أو الأهواء، فإن التطور الذي تنساق إليه بباعث من الحق لا تقف دونه سيطرة. فخير لمن يضرب على نهضة الأدب حصاراً، أو يشد عليها وثاقاً، أن يدرأ عنها العذاب، ويدعها تمشي في مناكب الأرض، أو تصعد إلى عَنان السماء.
يخبرنا هذا الكتاب بأن الزمن ابتدأ يعيد لذلك القطر عهدَ الحصري، وابن رشيق، وما شهدنا فيه من فلسفة وخيال يرمز إلى أن تونس ستفوز باستقلالها الأدبي، ولا ترضى أن يكون لشاعر شرقي أو غربي على أبنائها من إمارة.
أما في الموازنة بين من تلا علينا هذا الكتاب شذوراً من أشعارهم، فإن يوم الموازنة بين الشعراء يوم عسير، وهذا ما يتلبث بي أن أورد من مجموعة
هذه الأشعار طائفة تمثل صفاء الذوق، وسعة الخيال، وجودة التنسيق، وحسبي في هذه الصحيفة أن أقول: إن من يلقي نظرة على كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" نظرة مجردة من كل شيء ما عدا الإِنصاف، لا يسعه إلا أن يذكر تونس في نسق البلاد التي نبت فيها الأدب نباتاً حسناً، وكيف يأبى أن يذكرها في هذا الصدد، وهو لا يستطيع أن ينشدنا لابن عشرين من نابتة الأقطار الأخرى شعراً أرقى من شعر هؤلاء الذين عرض علينا هذا الكتاب مختارات من بنات قرائحهم، وما بلغوا أو برحوا سن العشرين.
ولعل السيد زين العابدين السنوسي يكون مرتاح الضمير إذا شاركته فيما دار بينه وبين الأستاذ صالح النيفر من محاورة، ولا خير في تقريظ لا يمثل الصراحة، وإنما الخير في تمحيص بحياة الجماعة وطرق سعادتها من آراء.
يقول السيد زين العابدين السنوسي في الحديث عن الأستاذ صالح النيفر: "ولا يتصور صاحبنا إصلاحاً اجتماعياً، ولا حركة سياسية، ولا نهضة ولا حرية، ولا علماً إلا على طريق الدين والزعامة الدينية"، ثم قال: "وقد راجعناه في الأمر، فلم نر له من تقهقر ولا رجوع، فإذا قلت له كلمة في الفروق بين التيارات التاريخية، وإذا ألفته لحوادث العصر في طول البلاد، ومن خط الاستواء إلى القطبين، وإذا عددت له زعماء العالم اليوم، وليس فيهم من يمت إلى التعاليم الدينية بسبب، سد أذنيه عنه، وأعلمك أن الوسط التونسي وسط مسلم، لا يحيا بدون دين، ولا يقاد إلا بزعامته!.
أنا لا أذهب في فهم رأي الأستاذ صالح النيفر إلى أنه ينفي عن أمة لا تدين بالإِسلام أن تكون ذات مدنية وقوة وسلطان، أو أنه ينفي عن رجل
لا يدين بالإِسلام أن يقود أمة غير مسلمة، ويتقدم بها في هذه الحياة إلى غاية، أو يصل بها إلى أن تكون مستقلة، أو مستعمرة، وإنما يريد -فيما يُفهم- أن الإِسلام رسم للاجتماع والسياسة خططاً، ومن يؤمن بحكمة هذه الخطط يرى أن ما لا يجري عليها من الأعمال لا يستحق أن يسمى إصلاحاً، أو سياسة رشيدة، ومقتضى هذا: أن الزعيم الذي يتبع غير سبيل المؤمنين ليس بالزعيم الذي تمنحه الأمة المسلمة ثقتها، وتضع في يده زمام نهضتها، إلا أن تكون قد نسيت حكمة الله البالغة.
والتاريخ القديم والحديث يصدق أن ليس من أحد ينال الزعامة على شعب يبتغي الإِسلام ديناً إلا أن يعتقدوا به الإِخلاص للإسلام، وقد شهدنا رجالاً وقفوا موقف الزعامة بين أمم إسلامية، وكانوا يحملون في صدورهم جهالة على الإِسلام، فلم ينشبوا أن بدت هذه الجهالة على أفواههم، وظهر لها لون في سيرتهم، فما كان من المسلمين بحق إلا أن ضربوا بزعامتهم إلى وراء.
ونحن لا نتحدث عن زعامة يتمتع الرجل بها أياماً، أو زعامة يلقب بها الرجل على ألسنة طائفة من الناس، وإنما نريد زعامة يرضى عنها أولو الأحلام من الأمة، ويسير بها صاحبها في حزم وأمانة وثبات، وهذه الزعامة لا تستقيم إلا على رعاية ما ينصح به الإِسلام.
فمن يتحدث عن حال أمة إسلامية، وقال: لا يصلح اجتماعها، أو لا تنتظم سياستها، أو لا تنجح زعامة عليها إلا أن تكون من ناحية الدين، إنما يريد هذا المعنى الذي اهتدى له طائفة عظيمة من طلاب العلم بالمدارس العالية، فأنشؤوا (لمجمعية الشبان المسلمين) واطمأنت له قلوب طائفة عظيمة
من طلاب العلم بالمعاهد الدينية، فأنشؤوا "جمعية الهداية الإِسلامية". وبصر به قبل هؤلاء قوم آخرون، فأنشؤوا "جمعية مكارم الأخلاق الإِسلامية".
والذي يقول: لا تقوم زعامة في شعب إسلامي إلا على الدين، إنما يقصد إلى أن يأخذ في شرط الزعيم احترام مبادئ الشرع الحنيف، وسواء بعد هذا أكانت نشأته في نحو الأزهر وجامع الزيتونة، أم كانت في إحدى جامعات لندن وباريس.
فالمذهب الذي يجعل لإِصلاح الاجتماع والسياسة والزعامة صلة بالدين، هو مذهب كل من وقف على روح الإِسلام، ودرس أحوال الشعوب، ونظر إلى هؤلاء الزعماء كيف يحيون، وكيف يموتون وهذا المذهب -وإن ذهل عنه بعض شبابنا اليوم- فسيدرون أنه أقوم الطرق لإِحراز قوة تبلغ بها الأمة حيث تشاء، وبالأحرى حين يدخل أولو العلم في ملاحم الحياة الاجتماعية والسياسية أفواجاً، ويعبرون عن مقاصد الإِسلام بلسان الناصح الحكيم.
والأمل لا يزال راسياً على أن السيد زين العابدين السنوسي سيحقق النظر في صلة الإِسلام بالاجتماع والسياسة والزعامة، حتى تجد منه أمته المسلمة مصلحاً حازماً، كما وجد منه الأدب كاتباً ناقداً مجيداً.
والذي يعنينا بعد هذا أن يقدر الشعب التونسي صناعة الأدب، ويدرك فضل الشاعر والناقد، ولا يستهين بمثل هذا التأليف الذي صاغته براعة الماجد السيد زين العابدين السنوسي، فإنه عمل قيم نبيل، وأكبر عامل لإِعلاء شأن الأدب أن يقدر الشعب شعراءه وكتّابه، وأن يكون بالمبدعين من هؤلاء وهؤلاء حَفِيّاً.