المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العاطفة والتسامح في الإسلام - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(23)«هُدى وَنورٌ»

- ‌المقدمة

- ‌خواطر

- ‌الحكمة العربية

- ‌التعاون في الإسلام

- ‌الرحلة والتعارف في الإسلام

- ‌الشعور السياسي في الإسلام

- ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

- ‌الشورى في الإسلام

- ‌الدعوة الشاملة الخالدة

- ‌طرق الصوفية والإصلاح

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الإسلام والفلسفة

- ‌التراويح

- ‌رسائل إخوان الصَّفا

- ‌الجمعيات الإصلاحية

- ‌العرب والسياسة

- ‌لهجة بلاد الجزائر

- ‌إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

- ‌تعقيب على حديث

- ‌مناظرة البطريرك الماروني

- ‌طريق الشباب

- ‌الحكمة وأثرها في النفوس

- ‌العمل للكمال

- ‌أسباب سقوط الأندلس

- ‌الجزائر واستبداد فرنسا

- ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

- ‌من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام

- ‌تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

- ‌تأسيس جمعية الشبان المسلمين

- ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

- ‌قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

- ‌البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

- ‌كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

- ‌رثاء عمر بن الشيخ

الفصل: ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

‌العاطفة والتسامح في الإسلام

(1)

يظهر الناس في نسق الائتلاف، وينهض بعضهم لإِسعاد بعض على حسب ما يكون بينهم من الاتحاد والتماثل في مسالكهم الحيوية، وأحوالهم النفسية من آراء وآداب، بل تنعقد الألفة بين الرجلين؛ لتشابههما في بعض أحوال عارضة؛ كغربة، وقد أشار إليها الشاعر العربي بقوله:

وكلُّ غريبٍ للغريب نسَيبُ.

وكون كل منهما مضطهداً لسلطة واحدة، أو غرضاً لمتحفز ينوي القبضر على ناصيته.

تتقوى العاطفة بمقدار التماثل، وكثرة وجوهه، وتخف على قدر ضعفه،

(1) مجلة "البدر" - الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في منتصف شهر صفر سنة 1345 هـ - تونس.

وقدمت المجلة هذا البحث بقولها: "الكثير من قرائنا اطلع على كتابات الأستاذ محمد الخضر بن الحسين، سواء بمجلة "السعادة العظمى"، أو بالصحف التونسية، أو بمؤلفاته النفيسة، وكثيراً ما يتشوق غواة قلمه السيال إلى الاطلاع على قطرات من ذلك اليراع. ولإطفاء غلة الصادي سعينا في مكاتبة الأستاذ ومخاطبته في شأن أن لا يحرمنا من نفثاته.

وها هو قد لبى الطلب، فجازاه الله خيراً، وأرسل عدة مقالات ننشر منها في هذا العدد: هذه، وأخرى في غير هذا المكان. وإليكم هي بنصها الفائق، ومعناها الرائق.

ص: 39

وقلة مقوماته، فالألفة التي ينتظم به أولو العلم والأدب -مثلاً- أمتن من الألفة التي تدور بين طائفة لا جامع بينها سوى الاشتراك في نسب أو صناعة:

وقرابةُ الأدباء يقصر دونها

عند الأديب قرابةُ الأرحام

وعلى هذا المبدأ تقوم الرابطة الدينية، أو القومية، أو الوطنية، فيعطف الإنسان على من يدينون بشريعته، أو ينتمون إلى قبيلته، أو يشبون في وطنه، والمثير لهذه العاطفة: شعوره بوفاقهم له في كثير من مبادئه وتقاليده وطرزِ حياته.

وإذا كانت العاطفة الدينية تتولد من الاتحاد في كثير من الأحوال النفسية والتقاليد العملية، دخلت في جملة العواطف الفطرية؛ أعني: ما يقوم بالنفس من أسباب واقعية، دون أن يتوقف عن أمر الشارع، أو موعظة الخطيب. وينبئك بكونها من الطبائع التي ترتسم في النفس لمجرد التوافق في العقيدة أو المسلك: أنك لا ترى أمة تنتحل ديناً، أو مذهباً اعتقدت حكمته، إلا وقد اشتبكت بينها أوصال التراحم، ولو لم تتلقن من دينها أو مذهبها تعليم هذه العاطفة، والحث على تأكيدها، فمن تقلد ديناً، وادعى أن عواطفه على شيعة هذا الدين وغيرهم في درجات متساوية، فقد ادعى ما تأباه الفلسفة، ويرده الاختبار والتجربة.

فلسلطان المغرب -الذي راسله صلاح الدين الأيوبي طالباً منه المدد بالأساطيل لحماية ثغور الشام- عاطفة دينية، ولكنها كانت من الضعف بحيث أخمدها، وأطفأ بارقتها: أن ذلك المجاهد العظيم خاطبه بأمير المسلمين بدل أمير المؤمنين الذي هو لقب الخلفاء، فرد البعثة الصلاحية إلى مرسلها خائبة، ولم يبال بالسهام التي ترشقه بها أقلام المؤرخين، والحيرة في الجواب

ص: 40

عندما تُنصب لأمثال الموازين.

حذر الإسلام أن تتضاءل العاطفة الدينية، فيضيع كثير من حقائق الشريعة وعزة أهلها، فجاء بما يربيها ويحييها في النفوس حياة زاكية؛ كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقوله عليه الصلاة والسلام:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، ثم كره أن تطغى كما طغت في نفوس أمم أخرى، فتحملها على التحيز إلى من يوافقها في الدين، فتؤثره بحقوق غيره، وتشد أزره وإن كان مبطلًا، فجاء بما يهذب حواشيها، ويسكبها في قالب عمراني يتمكن معه الشعب المسلم من معاشرة غير المسلمين، فيعيشون على صعيد واحد، ولواء السلام والعدالة الصادقة يخفق على رؤوسهم كما قال الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وكقوله تعالى في حق الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فقد أرشدت الآيتان وما يشاكلهما إلى صحة معاشرة غير المسلمين، وإقامة معاملتهم على قواعد البر والعدالة، ولكنها أذنت للمسلم إذا ابتغوا الخروج به عن سيرة الشرع المحكمة، وآدابه اللامعة، أن يقبض يده عن وفاقهم، ويلوي بعنقه عن طاعتهم، وإن كانوا بمنزلة والديه اللذين هما أشد الناس به صلة، وأحقهم بامتلاك زمامه.

فالعاطفة الإسلامية لا تصادم غيرها من سائر العواطف الصحيحة، فيستقيم للنفس الواحدة أن تحمل عاطفة تحنو بها على من يسايرونها في طريق سعادتها الباقية، وأخرى تشفق بها على من نشؤوا معها في منبت، أو قاسموها القيام

ص: 41

بمرافق الحياة الدنيا.

فالمسلمون أصفى البشر ضمائراً، وأفسحهم صدوراً في مرافقة من تجمعهم به رابطة الإنسانية، فقد كانوا يوم لا يرهبون سلطة أجنبية، ولا يرون في العالم دولة تسير على منهج عدل، أو تقيم سياستها على دعامة حرية ومساواة، يعترفون بمزية غير المسلم، ويشركونه في إدارة شؤونهم، ويبذلون وسعهم في الدفاع عنه، ولو أفضى إلى إراقة دمائهم، وينطقون في رثائه بأبلغ القصائد، كما فعل الشريف الرضي، وهو من آل بيت النبوة عند موت أبي إسحاق الصابي، وقال: رثيته لفضله.

لئن كان في القوم الذين يقال فيهم: إنهم حماة الإنسانية، ورافعو لواء الحرية مَن يفرق في سياسته بين الشعوب التي تناضل عن حقوقها، وتشن غارة الاحتجاج على من يريد أن يستبد في أمرها، وبين الشعوب الجاهلة الصامتة، فيخفف وطأته على الأولى، ويشد خناق الاستعباد على الثانية، فقد كان المسلمون من قبل أن تبزغ شمس الصحافة في الكرة الأرضية، وحيث لا مسيطر يقوم على رؤوسهم، ولا رقيب يحصي عليهم أعمالهم، يحترمون ذمام إخوانهم في الوطن، ويبسطون إليهم بوسائل المودة؛ إجابة لداعي الإنسانية، وامتثالاً لأوامر شريعتهم السمحة.

فلو قال قائل: إن الإسلام أول من أرى البشر كيف تتحد الأمم المتباينة في مللها، المختلفة في شرائعها، وتستقيم لهم الإقامة في وطن واحد، يتمتع كل منها بحقوقه المدنية، وشعائره الدينية، لوجد في التاريخ ما يناصره، ويذهب بالريبة من قلب مخالفه.

ص: 42