الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكمة وأثرها في النفوس
(1)
أريد بالحكمة: الكلام الذي يمنع من الجهل والسفه؛ كالمواعظ، والأمثال النافعة، وهي وليدة الذكاء والتجارب، فإِذا أقبل الذكي على ناحية من نواحي الحياة المدنية؛ كالاقتصاد، وغيره من شؤون الاجتماع، أو الخلقية؛ كالكرم، والشجاعة، ودرسها بذهن حاضر، كانت أقواله فيها أقرب إلى الصواب، وآراؤه فيها أرسخ في الحكمة، ولاسيما ذكياً يقرن النظر بالتجارب العملية، فقلما يقول الجبان كلمة تحمل على الإِقدام في مواقع الخطوب، وقلما يقول البخيل كلمة تحث على الإِنفاق في وجوه الخير.
ولا غرابة في أن تصدر الحكمة ممن لقيَ العلماء، وضربَ في العلوم بسهم، وموضعُ الغرابة أن تخرج الحكمة من أفواه أناس لم ينشؤوا في علم، ولم يُعرفوا بجودة رأي، والحكمة في نفسها فضيلة، والتمسك بها غنيمة، وصدورها من غير ذي علم أو رأي لا يبخس قيمتها، ولا ينقص شيئاً من فضلها، فلا ينبغي للرجل يسمع الكلمة من رجل غير معروف بعلم، أو سداد رأي، فيستخف بها، ويزهد في اقتنائها، قال صلى الله عليه وسلم:"الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها، فهو أحقُّ بها"، فالحديث الشريف ينبه على أن الحكمة قد
(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الرابع - الصادر في شهر شعبان 1352 هـ.
توجد في غير مظانها، وتستفاد من غير أهلها؛ كما يقولون:"رمية من غير رام".
قال ابن الأثير في كتاب "المثل السائر": "ومذ سمعت هذا الخبر النبوي، جعلت كَدِّي في تتبع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم؛ فإنه قد تصدر الأقوال البليغة، والحكم والأمثال ممن لا يعلم مقدار ما يقوله"، وأوردَ من كلام بعض العامة شواهدَ على أن الحكمة قد تستفاد من غير أهلها، ثم قال: "يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم؛ فإنه لا يعدم مما سمعه منهم حِكَمًا كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره، لأعجزه، ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي يقول فيها:
عل مثلِها من أربُعٍ وملاعبِ
انتهى منها إلى قوله:
يرى أقبح الأشياء أوبة آملٍ
…
كسته يد المأمول حلة خائب
ثم قال:
وأحسنُ من نوَرٍ يفتحه الصَّبا .....
ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا سائل يسأل عن الباب، وهو يقول:
"من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا"
فقال أبو تمام: بياضُ العطايا في سوادِ المطالب
فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل.
قد يقصد الرجل لإلقاء الحكمة في لفظ يستقل بها، وقد تجيء تبعاً
للحديث عن أشخاص، أو أشياء معينة؛ كما فعل ذلك الشاعر الذي قصد في نظمه الاعتذارَ عن قوم التزموا اللثامَ في سائر أحوالهم، حتى قال:
لماحووا إحرازَ كل فضيلة
…
غلبَ الحياءُ عليهمُ فتلثَّموا
والحكمة التي انساقت تبعاً لهذا الاعتذار، هي: أن كثرة الفضائل تستدعي غلبة الحياء.
ومن الشعراء من يقصد للهزل، ويرمي إلى غرض المزح، فتجود قريحته في أثناء ذلك بالحكمة، نظم علي بن عبد الواحد الملقب (صريع الدلاء) مقصورة في الهزل يعارض بها مقصورة ابن دريد، وما زال يخوض بها في هزل إلى أن جاء فيها بيت يقال: إنه قد حُسد عليه، وهو:
من فاته العلمُ وأخطأَه الغِنى
…
فذاك والكلب على حد سَوا
وقد يتوهم متوهم أن الشعر يغلب فيه التخييل، فلا يكون موطناً للحكمة، فأزاح عليه الصلاة والسلام مثل هذا الوهم بقوله:"إن من الشعر حكمة".
يختلف الناس في النطق بالحكمة اختلَافهم في ألوان نشأتهم، وأساليب تربيتهم، ويختلفون في الإِصغاء إلى الحكمة، أو الإِعجاب بها اختلافهَم في الارتياح للغرض المسوقة إليه، فالكريم -مثلاً- يطرب لسماع الحكم الواردة في الكرم أكثرَ مما يطرب له البخيل، والشجاع يرتاح لسماع الحكم الواردة في الشجاعة أكثرَ مما يرتاح له الجبان.
اتلُ في حضرة جواد وبخيل قول الشاعر:
ولو لم يكن في كفه غير نفسِه
…
لجاد بها فليتق اللهَ سائلُه
لا شك أنك ترى أثرَ الطرب في وجه الجواد أكثرَ مما تراه في وجه البخيل.
واتلُ على مسامع شجاع وجبان قولَ الشاعر:
أقول لها وقد طارت شَعاعاً
…
من الأبطال: ويحك لن تُراعي
فإنك لو سألتِ بقاء يوم
…
على الأجل الذي لكِ لن تُطاعي
ثم انظر كيف وقع البيتان من أنفسهما، فإنك ترى وجه الشجاع في ابتهاج، ولا تكاد ترى في وجه الجبان طلاقة، إلا أن يتكلفها تكلفاً.
وانظر في كتب التراجم، تجدِ المؤلفين ينبهونك في كثير من الأحيان للحكمة التي أخذت من نفس صاحب الترجمة مأخذَ القبول والإِعجاب، ينبهونك لهذا حين يقولون لك:"وكان كثيراً مما ينشد كذا"؛ كما قالوا في سيرة الإمام مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه-؛ إنه كان كثيراً ما ينشد:
وخيرُ أمور الدين ما كان سُنَّةً
…
وشرُّ الأمور المحدَثاتُ البدائعُ
وقالوا: كان عضد الدولة كثيراً ما ينشد قول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهزولا
وقالوا: كان الحسن بن علي الملقب: "فخر الكتاب" كثيراً ما ينشد:
يندم المرء على ما فاته
…
من لُباناتٍ إذا لم يقضِها
وتراه فرحاً مستبشراً
…
بالتي أمضى كأن لم يُمضها
إنها عندي وأحلام الكرى
…
لقريبٌ بعضُها من بعضها
وقالوا: كان الخليل بن أحمد كثيراً ما ينشد قولَ الشاعر:
وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تجدْ
…
ذخراً يكون كصالح الأعمال
ولا أريد من هذا أن الحكمة لا تلقى إلا لمن شأنه الارتياح لسماعها،
بل عليك أن تقرع بها أسماع المنحرفين عن الحق أو الفضيلة أو العمل الصالح؛ لعلهم يألفونها، ويعود انقباضهم منها ارتياحاً.
وكثيراً ما ينهض الرجل للعمل الصالح يكون في غفلة عنه، وما ينبهه له إلا بيت يحتوي حكمة.
قال عبد الملك بن جريج: كنت مع معن بن زائدة باليمن، فحضر وقتُ الحج، ولم تحضرني نية، فخطر ببالي قولُ عمر بن أبي ربيعة:
بالله قولي له في غير معتبة
…
ماذا أردت بطول المكث في اليَمَنِ
إن كنت حاولت دُنيا أونعمت بها
…
فما أخذت بترك الحج من ثمنِ
قال: فدخلت على معن، فأخبرته أني قد عزمت على الحج، فجهزني، وانصرفت.