المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(23)«هُدى وَنورٌ»

- ‌المقدمة

- ‌خواطر

- ‌الحكمة العربية

- ‌التعاون في الإسلام

- ‌الرحلة والتعارف في الإسلام

- ‌الشعور السياسي في الإسلام

- ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

- ‌الشورى في الإسلام

- ‌الدعوة الشاملة الخالدة

- ‌طرق الصوفية والإصلاح

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الإسلام والفلسفة

- ‌التراويح

- ‌رسائل إخوان الصَّفا

- ‌الجمعيات الإصلاحية

- ‌العرب والسياسة

- ‌لهجة بلاد الجزائر

- ‌إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

- ‌تعقيب على حديث

- ‌مناظرة البطريرك الماروني

- ‌طريق الشباب

- ‌الحكمة وأثرها في النفوس

- ‌العمل للكمال

- ‌أسباب سقوط الأندلس

- ‌الجزائر واستبداد فرنسا

- ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

- ‌من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام

- ‌تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

- ‌تأسيس جمعية الشبان المسلمين

- ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

- ‌قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

- ‌البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

- ‌كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

- ‌رثاء عمر بن الشيخ

الفصل: ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

(1)

الكلام إما نثر، وهو ما يلقى من غير قصد إلى تقييده بوزن، ولا يلزم بناؤه على حرف معين تنتهي به جمله، وأما منظوم، وهو الكلام الذي يصاغ في أوزان خاصة، وتُبنى قطعه على حرف خاص يختاره الناظم، ويلتزمه في آخر كل قطعة منه، وهذا هو فن الشعر.

ورأى بعض الأدباء: أن من المنظوم ما لا يختلف عن الكلام العادي إلا بهيئة الوزن، والتزام القافية، فلا يحسن أن تجعل ميزة الشعر شيئاً يعود إلى مقدار الحروف وأشكالها، والتزام حرف منها في آخر كل قطعة منه، دون أن تكون له خاصة تميزه عن غيره من جهة المعنى، فزادوا في بيانه قولهم: من شأنه أن يحبّب إلى النفوس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه إليها، وتحبيبه الأشياء أو تكريهها بوسيلة ما يشتمل عليه من حسن التخييل.

فالكلام الموزون المقفى الذي يحبّب إلى النفوس شيئاً، أو يكرهه إليها، بوسيلة الحجة التي يصوغها العقل، وتجري عليها قوانين المنطق، لا يسمى شعراً على وجه الحقيقة؛ لأنه خال من روح الشعر الذي هو حسن التخييل.

(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد التاسع من المجلد الثالث الصادر في شهر رمضان 1351 هـ - القاهرة.

ص: 141

والحق أن الشعر: ما يقصد به حمل النفوس على فعل الشيء أو اعتقاده، أو صرفها عن فعله أو عن اعتقاده، من جهة ما يشتمل عليه من حسن التخييل، أو براعة البيان، ومن هنا دخل في الفنون الجميلة، ولا جمال في المنظوم إلا أن يكون في معناه غرابة، أو في تركيب ألفاظه براعة.

فالكلام الموزون المقفى إنما يكون حفياً باسم الشعر متى بدأ فيه وجه من حسن الصنعة؛ بحيث يكون هذا الحسن زائداً على أصل المعنى الذي يقصد بالإِفادة أولاً، ولا فرق بين أن يكون أثر البراعة في التخييل، أو أثر البراعة في ترتيب المعاني، وإيرادها في ألفاظ مؤتلفة سنيّة.

ولا ننسى أن للنفس عند سماع الكلام الموزون حالاً من الارتياح غير حالها عند سماعه منثوراً، يدل لهذا الجملُ البليغة المرسلة إذا تُصرف فيها بنحو التقديم والتأخير حتى وافقت وزناً من الأوزان المألوفة، فإن ارتياح النفس لها بعد هذا التصرف يكون أوفر.

ومن أمثله ما جرى فيه التخييل البارع: قول أبي زيد عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي من قصيدة ألقاها بين يدي إدريس بن يحيى أحدِ أمراء الأندلس:

ومصابيحُ الدجى قد طفئت

في بقايا من سواد الليل جونْ

وكأن الظلَّ مسك في الثرى

وكأن الطل درٌّ في الغصونْ

والندى يقطر من نرجسه

كدموع أسكبتهنَّ الجفونْ

والثريا قد هوت من أفقِها

كقضيبٍ زاهرٍ من ياسَمينْ

وانبرى جنحُ الدجى عن صبحه

كغراب طار عن بيضٍ كَنينْ

ص: 142

فلو تحدث الشاعر عن انجلاء الليل، وطلوع الصبح، وانبساط الظل، ونزول الطل، وتساقط الندى، وهويِّ الثريا من أفقها بالعبارات المجردة عن مثل هذا التخييل، لما اهتزت النفوس لها هذا الاهتزاز البالغ.

ومن أمثله الشعر الذي جاءه الجمال من حسن ترتيب معانيه، وبراعة نسجه: قول أبي العلاء المعري:

كم بودرت غادةٌ كَعوبُ

وعُمّرت أُمُّها العجوزُ

أحرزها الولدان خوفاً

والقبر حرز لها حريزُ

يجوز أن تبطئ المنايا

والخلدُ في الدهر لا يجوزُ

فمعاني هذه الأبيات يستوي في معرفتها القرويّ والبدوي، ومن الذي لا يدري أن داعي الموت كثيراً ما يبادر الفتاة، ويدع أمها وهي عجوز؟ وأن المنايا قد تبطئ عن بعض الأشخاص، فتطول أعمارهم؟ وأن الخلود في الدنيا غير مطموع فيه؟ ولكن الشاعر صاغ هذه المعاني في سلك التناسب، وأبرزها في ثوب قشيب من الألفاظ العذبة، والنسج الحكيم، فكان لها وهي في ائتلافها، وزخرف أثوابها وقعُ ما تبتهج له النفوس ابتهاجَها لمعان جديدة لم تخطر لها من قبلُ على بال.

ومن الشعر ما هو باطل، وهو الذي وصف الله تعالى أصحابه بقوله:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 224 - 227} الآية.

ومنه ما هو حق، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر حكمة"، وسنخص البحث عن تأثير الشعر في الأخلاق والاجتماع بإحدى محاضراتنا

ص: 143

الآتية -إن شاء الله تعالى-، وكل آت قريب.

* وسائل البراعة فيه:

لا يطوع الشعر البارع، إلا لمن يردد نظره على كثير من الأشعار البليغة، ويملأ منها حافظته، ثم يأخذ قريحته بالتمرين على النظم الفينة بعد الفينةَ، فهذان ركنان لتربية ملَكة الشعر وترقيتها، فإذا أتيح للشاعر -مع هذا- جودةُ هواء المنازل التي يتقلب فيها، وحسن مناظرها، ووثق بأن في قومه من يُقبل على الشعر، ويقدر مراتب الشعراء، لم يلبث أن يأتي بما يسترقُّ الأسماع، ويسحر الألباب.

وشأن من يزاول العلوم ذاتَ المباحث العميقة، والقوانين الكثيرة، أن لا يبلغ الذروة في صناعة القريض، ذلك أن الناشئ الذي يقبل على طلب العلوم إقبال من يروم الرسوخ في فهمها، والغوص على أسرارها، لا يجد من الوقت ما يصرفه في حفظ المقدار الكافي من أشعار البلغاء، وفي تمرين قريحته على النظم تمريناً يصعد بها إلى الذروة، وإذا صرف من وقته في الحفظ والتمرين ما فيه الكفاية، وجد من قريحته المعنية بالبحث عن الحقائق العلمية ما يبطئ به عن اختراع معان خيالية بديعة.

ونظر ابن خلدون في وجه قصور العلماء عن التناهي في صناعة الشعر، وأبدى أن السبب: ما يسبق إليهم من حفظ المتون العلمية، فإن عبارات هذه المتون -وإن كانت على وفق العربية- لا يراعى فيها قانون البلاغة، وامتلاء الذهن من الكلام النازل عن البلاغة، لا يخلو من أن يكون له أثر في النظم، فيقصر به عن المرتبة العالية من الفصاحة، فلو انبعثت قريحته في فضاء واسع من الخيال، واستطاعت اختراع صور غريبة، لخدشت تلك المحفوظات ملكة

ص: 144

فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه، أو في نسج جمله ما يتجافى عنه الذوق، فلا تتلقى تلك الصور بالارتياح، وان كانت في نفسها غريبة.

فالتوغل في العلوم يضايق ملَكة الشعر، وأشدُّ ما يضايقها العلومُ النظرية؛ كالمنطق، والكلام، والفلسفة، والفقه، ولاسيما ما يُعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية.

وعلوم النحو والصرف والبيان معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى درست على طريقة التوسع في مسائل الخلاف، ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات، أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية.

وقد يكون في الرجل قوة الشاعرية، فيهجرها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها.

قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعرة فإن خاطري لا يوافقني على قوله، على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلتَ قطُّ شيئاً منه؟

قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:

خضبت الشيبَ لما كان عيباً

وخضبُ الشيب أولى أن يُعابا

ولم أخضِب مخافةَ هجرِ خلٍّ

ولا عيباً خشيتُ ولا عتابا

ولكن المشيبَ بدا ذميماً

فصيرت الخضابَ له عِقابا

فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأ نظم الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.

ص: 145

* الارتياح للشعر:

ترتاح النفس لصور من المعاني يصنعها الخيال، أو تخرج في ثوب قشيب من حسن البيان، ذلك الارتياح لذة الشعر الذي هو صنع الألمعية المتلألئة، والتخيل الواسع، والذوق الصحيح. ولا أظن أن في الناس من لا يلذ الشعر البديع متى أحسّ معانيه، ووقعت في ذهنه باديةَ الوجوه كما كانت في ذهن مصوّرها، وإنما المشاهد أن الناس يتفاوتون في الارتياح للشعر على قدر تفاوتهم في صفاء الذوق، وتقدير ما في معانيه من غرابة وحسن التئام، أو تقدير ما في ألفاظه من حسن السبك وجودة التركيب.

فإذا رأيت الرجل يسمع الشعر البارع، ولا تلوح عليه أَمارة الارتياح لسماعه، فلأنه لم يحس ما فيه من إبداع، وجودةِ صنعة، وكثيراً ما يعيب الناقد صورة معنى خيالي حيث لا يحس الناحية التي فعل فيها الخيال البارع فعلته.

أورد بعض الكاتبين في الأدب قول الشاعر:

كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحاً

وليس يدخله إلا إذا انطبقا

وعابه بقوله: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس. ولو اعتاد هذا الكاتب النظر إلى الصور الخيالية من مسالكها اللطيفة، لما أتعب فكره في البحث عن الباب الذي يدخل منه الطيف المتخيل للنفس في صورة المرئي رأي العين.

يصفو الذوق، فيحس براعة الشعر، ولطفَ مسلكه، فتأخذ النفس من شدة الإِعجاب به حالة ربما عبروا عنها بالإِغماء.

أنشد عمرو بن سالم المالقي في مجلس أبي محمد عبد الوهاب أبياتاً لبعض الأندلسيين، منها:

ص: 146

ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم

فتقلدوا شهب النجوم عُقودا

فأخذ أبا محمد حالٌ من الإِعجاب بهذه الأبيات حتى تصبّب عرقاً، وقال: إني مما يقهرني، ولا أملك نفسي عنده: الشعرُ المطبوع.

وروى حماد بن إسحاق: أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف، إذا سمع شيئاً استحسنه، أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك، فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة:

ألا يا صَبا نجد متى هجت من نجدِ

لقد زادني مسراك وجداً على وجد

إلخ الأبيات، ثم ترنحّ ساعة، وقال: أنطح العمودَ برأسي من حسن هذا؟ فقلت: لا، ارفق بنفسك.

وكان سعيد بن المسيب ماراً ببعض أزقة البصرة، فسمع منشداً ينشد قصيدة لمحمد بن عبد الله النميري يقول فيها:

تضوعّ مسكاً بطن نعمان إذ مشت

به زينب في نسوةٍ خفراتِ

يخبئن أطراف البنَان من التقى

ويخرجن جنحَ الليل مُعتجرات

فضرب سعيد برجله الأرض، وقال: هذا -والله- يلذ سماعه.

وصام أبو السائب المخزومي يوماً، فلما صلى المغرب، وقدمت له المائدة، خطر بقلبه بيتا جرير:

إن الذين غدوا بلبّك غادروا

وشلاً بعينك لايزال مَعينا

غيّضن من عبراتهن وقلن لي

ماذا لقيت من الهوى ولقينا

فاشتد ارتياحه لهما، حتى حلف أن لا يفطر في تلك الليلة إلا على هذين البيتين.

ص: 147

وكثيراً ما يكون ارتياح الأمير لبيت واحد سبباً في إغناء الشاعر، ودفع مظلمته.

نقرأ في أخبار ابن شرف: أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له، فورد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله:

لم يبق للجور في أيامهم أثر

إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ

قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً، فقال له: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقّع له بها، وعزل عنها كل وال.

وكيف ترى ابتهاج أبي عمرو بن العلاء، حين سمع قول بشار:

لم يطل ليلي ولكن لم أنمْ

ونفى عني الكرى طيفٌ أَلَمْ

روّحي عني قليلاً واعلمي

أنني يا عبدَ من لحمٍ ودمْ

إن في بُردَيَّ جسماً ناحلاً

لو توكأتِ عليه لانهدمْ

لا شك أن ابتهاجه لسماعه كان بالغاً ما يمكنه أن يبلغ، ينبئك بهذا أنه سئل عن أبرع الناس بيتاً، فقال: الذي يقول: "لم يطل ليلي"، وأنشد الأبيات الثلاثة.

* العلماء والشعراء:

في العلماء من يلذ استطلاع الحقائق إلى حد أن يستغرق أوقاته في البحث العلمي، ويرغب عن أن يصرف في صناعة الشعر أو تذوّق بلاغته ولو ساعة من شهر.

ص: 148

حكى المقري: أنه أنشد بحضرة العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، قولَ ابن الرومي:

أَفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه

وبكحلهِ الأحياءَ والبُصَراءَ

فإذا مررتَ رأيتَ من عميانِه

جمعاً على أمواته قُرّاءَ

قال: فاستعادني الأبيات، حتى عجبتُ منه، مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، ثم قال: أظننتَ أنني استحسنتُ الشعر؟ إنما تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤون على المقابر، فإني كنت أرى ذلك حديث العهد، فاستفدت التاريخ.

وفي العلماء من يأخذ الشعرُ البارع بمجامع قلبه، ويجد في نفسه قوة على نظمه، فيضرب مع الشعراء بسهم؛ ليزين علمه بهذا الفن الجميل، وسبْقُ الشعراء المتجردين للشعر وحده في هذه الحلبة لا يثني العلماء عن تعاطيه؛ نظرا إلى أنه فن من فنون الأدب الجميلة، وقد ويتخذ وسيلة إلى جلب خير، أو دفع أذى.

والتاريخ يحدثنا أن في أعلام العربية من كانوا يجيدون صناعة القريض؛ كابن دريد، الذي كانوا يصفونه بأنه أعلم الشعراء، وأشعر العلماء، ومن مختارات شعره الأبيات العينية التي يقول فيها:

ومن لم يَزَعْه لبّه وحياؤه

فليس له من شيب فَودَيه وازعُ

ومثل الإمام النحوي أبي الحسين علي بن أحمد بن حمدون، ومن جيد شعره:

تناءت ديار قد ألفتُ وجيرةٌ

فهل لي إلى عهد الوصال إيابُ

ص: 149

وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى

ودون مرادي أبحرٌ وهضابُ

مضى زمني والشيبُ حل بمفرقي

وأبعدُ شيء أن يُردَّ شبابُ

ويحدثنا أن في رجال الفقه من يجيد التخيل، ويحسن صياغة الكلام المنظوم؛ كالقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي، الذي قال فيه أبو العلاء المعري:

والمالكي ابن نصر زار في سفر

بلادنا فحمدنا النأي والسفرا

إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً

وينشر الملكَ الضِّلِّيل إن شعرا

ومن نظم هذا القاضي:

متى تصل العِطاشُ إلى ارتواء

إذا استقت البحار من الرَّكايا

ومن يثني الأصاغرَ عن مراد

وقد جلس الأكابرُ في الزوايا

وإنَّ ترفُّعَ الوُضَعاء يوماً

على الرفعاء من إحدى البلايا

إذا استوت الأصاغر والأعالي

فقد طابت منادمة المنايا

ويحدثنا بأن في علماء الحديث من يجيد صنع الشعرة مثل: الحافظ سليمان بن موسى الكلاعي؛ فإن له من الشعر ما يشبه أن يكون عربياً مطبوعاً، ومما قال:

أحنُّ إلى نجد ومن حلّ في نجدِ

وماذا الذي يغني حنيني أو يُجدي؟

وقد أوطنوها وادعين وخلَّفوا

محبهم رهنَ الصبابة والوجدِ

وضاقت عليّ الأرض حتى كأنّها

وشاح بخصر أو سِوارٌ على زَنْدِ

ونجد للقاضي عياض -وهو من علماء الحديث والفقه- شعراً ذاهباً

ص: 150

في التخيل إلى حد بعيد، ومما قال:

انظر إلى الزرع وخاماتُه

تحكي وقد ماست أمام الرياحْ

كتيبةً خضراءَ مهزومةً

شقائقُ النعمان فيها جراحْ

ويحدثنا أن في علماء المنطق والرياضيات من يصنع صوراً خيالية، ويبرزها في ألفاظ عذبة رقيقة؛ مثل: أبي بكر بن الصاغ الأندلسي، ومن نظمه البديع قوله:

ضربوا الخيام على أقاحي

روضةٍ خطر النسيم بها ففاح عبيرا

وتركت قلبي سار بين حمولهم

دامي الكلوم يسوق تلك العيرا

لا والذي جعل الغصون معاطفاً

لهمُ وصاغ من الأقاح ثغورا

ما مر بي ريح الصَّبا من بعدهم

إلا شهقت له فعاد سعيرا

يبرع بعض العلماء في الشعر، ولكن فحول الشعراء من غير العلماء يكون جيدُ أشعارهم أكثر، ونفَسهم في الشعر أطول، وقرائحهم إلى المعاني الغريبة أسرع.

* التجديد في الشعر:

يجري على ألسنة المحاضرين، وأقلام الكتاب حديثُ التجديد في الشعر، ولسنا ممن يتجافى عن رأي التجديدة إذ التجديد سنة من سنن الشعراء النابغين، ولاسيما شعراء ينشؤون أو ينزلون في بلاد عامرة بمظاهر المدنية، وإنما نريد بحث ما يُعنى بكلمة التجديد، حتى نصل إلى ما فيه إصلاح الشعر، ونتحامى هدم ناحية من نواحي اللغة الفصحى.

للشعر مقاييسُ، وقوافٍ، ومعانٍ، وألفاظٌ، وأساليب، وفنون.

ص: 151

أما المقاييس، فقد نظم العرب في ستة عشر مقياساً، وهي المدونة في كتب العروض، ومازال الشعراء يصوغون أشعارهم على هذه المقاييس إلى عهد الدولة العباسية، وفي ذلك العهد حدثت موازينُ خارجة عن الموازين السالفة، ووجدت؛ كما تجد الأزجال في هذا العهد، من يعجب بها، ويلذ سماعها.

ومن الموشحات الأندلسية ما يختلف فيه أشطار القصيدة بالطول والقصر اختلافاً بيّناً؛ كقول أبي الحسن بن سهل:

كحل الدجى يجري

من مقلة الفجر

على الصباح

ومعصم النهر

في حلل خضر

من البطاح

ومن هذا القبيل موشحة ابن الوكيل، التي دخل بها على أعجاز قصيدة ابن زيدون:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

ومما يقول في الموشحة:

يا جيرة بانت

عن مغرم صَبِّ

لعهده خانت

من غير ما ذنبِ

ما هكذا كانت

عوائدُ العربِ

لا تحسبوا البُعدا

يغير العهدا

إذ طالما غيّر النأي المحبينا

وإذا كان الأدباء في العصور الماضية لم يقصروا شعرهم على المقاييس المعروفة، فأحدثوا مقاييس جديدة، فلا نكره لأديب أن يصوغ الشعر في مقياس محدَث متى وثق من موافقته لأذواق الناس، وارتياحهم لحركاته وسكناته.

ص: 152

وأما القافية، فقد التزمها العرب على النحو المعروف في أشعارهم، حتى اخترع الأدباء الموشحات، فأخذت القافية هيئة غير هيئتها الأولى، كما رأيتها في المثُل التي أوردناها آنفاً.

وفي التزام القافية على الوجه الذي اختاره العرب سابقاً، أو على نحو ما أحدثه الأدباء من بعد، دلالةٌ على البراعة، ومحافظة على وجه من الوجوه التي يمتاز بها المنظوم على المنثور.

وأما المعاني، فللشاعر أن يذهب فيها كل مذهب، وله أن يأخذ في التشبيه والاستعارات كل ما أخذ، فيرسل خياله فيما احتوته الحافظة من المعاني القديمة والحديثة، والطبيعية والصناعية، ويؤلف منها ما شاء من الصور الخيالية، مراعياً أذواق الطوائف التي يريد إثارةَ عواطفها نحو الشيء، أو صرفَها عنه.

وما زال فحول الشعراء في كل عصر يبتكرون المعاني، وينتزعون من مظاهر المدنية المتجددة صوراً يبرعون في صنعها، فلشعراء العصر العباسي بالشرق، أو شعراء الأندلس بالغرب، معانٍ وتخيلات لم يطرقها الشعراء في الجاهلية، أو في صدر الإِسلام، أو عهد الدولة الأموية. وقع هذا التجديد من فحول شعرائنا، وكانوا على شعور من الحاجة إليه، ونبه أدباؤنا على هذا الشعور فيما كتبوا قديماً.

قال ابن سعيد يفاخر أهل القيروان بشعراء الأندلس: "وهل منكم شاعر رأى الناسَ قد ضجُّوا من سماع تشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً، وكَليلُه في الأفكار حديداً، فأغرب أحسنَ إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبلَ إعراب؟ ".

ص: 153

وإذا لم تَجُد قرائحُ شعراء عصر أو بلد بمعان جديدة، ورأيناهم لا يزيدون عن أن يرددوا معاني أسلافهم، فلضعف ملكاتهم الشعرية، وقصورها عن أن تُخرج للناس ثمراً جديداً.

وأما الألفاظ، فحقها أن يراعى فيها ما ثبت عن العرب، وما تقتضيه قوانين الصرف، وما تضعه المجامع العلمية على حسب ما تدعو إليه حاجة التعبير عن المعاني المحدثة.

والألفاظ الجديرة بأن يصاغ منها الشعر هي الألفاظ التي لا يخفى المراد منها على أكثر من يقصد استمالة عواطفهم إلى الشيء، أو صرفها عنه، ولا يكفي لجواز استعمال اللفظ في القصيدة خلوُّه من تنافر الحروف، وموافقته للوضع العربي، ووجوده في كتب اللغة القريبة التناول؛ إذ ليس كل لفظ يتحقق فيه شرط الفصاحة يصلح للشعر، بل وراء الفصاحة شيء آخر هو: مراعاة حال قراء الشعر، فيصاغ لهم في ألفاظ تطرق أسماعهم، فتحضر معانيها في أذهانهم، فلو هُجرت ألفاظ في عصر من العصور، أو قل استعمالها؛ بحيث لا يصل السامع إلى معانيها إلا بعد الرجوع إلى كتاب من كتب اللغة، وشاعت ألفاظ ترادفها؛ بحيث تكون أسرعَ بالمعنى إلى ذهن المخاطب، كان من حق الشاعر اختيار الألفاظ التي يكون بها المعنى أقربَ إلى الذهن، ولاسيما ألفاظ تساوي الألفاظ المهجورة، أو النادرة الاستعمال؛ في خفة النطق، وحسن تأليف حروفها.

فطبيعة الشعر تستدعي التجديد في الألفاظ على النحو الذي وصفنا، فالشاعر المجيد لا يجمد على الألفاظ التي استعملها الشعراء في عصور ماضية، ثم قل دورانها في كلام البلغاء من بعد.

وإذا لم يكتف الشاعر في خدمة اللغو بحفظ مذاهب بلاغتها، وفنون

ص: 154

بيانها، وأراد أن يكون له نصيب في إحياء ما هجرته الألسنة من كلماتها العذبة السائغة، ففي استطاعته أن يأتي إلى الكلمة التي تخفى معانيها على أكثر القراء، ويوردها حيث لا يفوتهم فهم المراد من البيت، والارتياح لما فيه من حسن التخييل.

فلو أصبحت كلمة "امتشق" -مثلاً- غيرَ جارية في استعمال الشعراء في عصر، لما كان على شاعر أراد إِحياءها من حرج في استعمالها حيث ينبه مساقُ الكلام على المراد منها، كما استعملها العزازي، في قوله:

والبدر نحو الغروب أسرع

كهارب ناله فرَقْ

والبرق بين السحاب يلمع

كصارم حين يُمتشقْ

ومن ذا يسمع هذا البيت، ولا يفهم أن القصد: تشبيه حال البرق عند لمعانه بحال السيف عند تجريده من قرابه؟

وأما الأساليب، فيراعى فيها قوانين النحو والبيان المسلَّمة، فلا نقبل من الشاعر أن يقدم خبر "إن" مثلاً عليها، فيقول:"كاتب إن زيداً" بدعوى التجديد في الأسلوب، ولا يحسن منه أن يتكئ على علة التجديد، ويسقط حرف العطف في نحو "لا ورحمك الله"، أو يدع الكلمات والجمل التي توضع في أثناء الكلام، فتكسو البيت لطفاً، وتدفع عنه أوهاماً يفقد بها المعنى قوته، أو ينقلب بها إلى غير مراد، إلى ما يشاكل هذه التصرفات التي تخرج بالشعر العربي عن حدود البلاغة وحسن البيان.

وللشاعر أن يتخذ من الأساليب بعد رعاية قوانين النحو والبيان ما يشاء، وقد اختلفت أساليب الشعراء في دائرة قانون اللغة الصحيح اختلافاً واضحاً، حتى إن الألمعيّ الدارس لأشعار الفحول من الشعراء في عصور متعددة، يكاد

ص: 155

يعرف من أسلوب القصيدة الشاعر الذي قالها، أو العصر الذي قيلت فيه.

وأما فنون الشعر -أعني: الأغراض العامة التي يتوجه إليها الشاعر بالنظم؛ نحو: تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، والحماسة، والفخر، والمديح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والاستعطاف، والاعتذار-، فقد نظم فيها العرب كثيراً، وسلكوا فيها طرقاً بديعة.

ومن الشعراء من يبرع في فن أو فنون، كما يبرع عمر بن أبي ربيعة في فن الغزل، والمتنبي في إرسال الحكمة.

ومن العصور ما يشيع فيه بعض فنون الشعر أكثر مما سواه؛ كالعصر الذي يحمى فيه وطيس الحروب؛ فإنه يغلب فيه الحماسة والفخر، والعصر الذي يشيع فيه الفسوق يغلب فيه النسيب ووصف الخمور.

وإذا غلب فن من الفنون، وجد رواجاً حتى عند من لا ناقة له في ذلك الفن ولا جمل، فتسمع الحماسة -مثلاً- في شعر الجبان الذي "إذا رأى غيرَ شيء ظنه رجلاً"، وتسمع الغزل ممن لم يحمل قلبه صبابة، ووصفَ الخمر ممن لا يعرف للخمر رائحة.

أما عصرنا هذا، ففيه إباحية وإلحاد، فلا عجب أن نرى من الشعر الرفيع ما تنبذه مجالس أهل الفضل، ولا عجب أن نرى من الشعر المارقِ من الدين ما يلقي بالمستضعفين في تهلكة، وإننا اليوم في حركة علمية اجتماعية، تنادي كل طائفة منا لأن تسعفها بما لديها من قوة، ولكثير من شعرائنا في تقوية هذه الحركة مواقف محمودة، وأملنا أن يكون الفن الذي يُعرف به الشعر في هذا العصر فنَّ استنهاض الهمم، والصعود به إلى ذروة العزة والمجد، فن تقويم الأخلاق، وإصلاح الحياتين: العلمية والمدنية.

ص: 156