الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية
(1)
في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، وتجدد إحساس الإِنسان للصور المودَعة في هذه القوة، تسمى: تصوراً، أو تخيلاً.
ولتجددِ إحساس الصور المسمّى: تخيلاً، أو تصوراً أسباب، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس: المماثلة، ويليه: التضاد، ثم: الوحدة المكانية، ثم: الوحدة الزمانية.
والتماثل: أن يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة، فمن رأى الماء الصافي، تذكر المرآة الصقيلة، ومن رأى القمر، تذكر طلق المحيا، ومن رأى النرجس، تذكر العيون، ومن جلس إلى كاذب، تذكر مسيلمة الكذاب، ومن سمع أن معتوهاً ادعى أنه نبي، أو أن باطنياً حرَّف آيات الذكر الحكيم عن مواضعها، تذكر زعيم طائفة القاديانية، أو زعيم طائفة البهائية.
وانظر إلى أبي الإِصبع، كيف يخطر في باله ريقَ المرأة وثغرَها، فيذكر ما بين العذيب وبارق، ويخطر في باله قدها، ومدامعها تجري لفراقها، فيذكر مجر الرماح، ومجرى الخيل، أخبر بذلك في قوله:
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد السادس من المجلد الثامن الصادر في شهر المحرم سنة 1355 هـ القاهرة.
إذا الوهمُ أبدى لي لماها وثغرها
…
تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدّها ومدامعي
…
مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
والتضاد: أن يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل؛ كالسرور والحزن، والضحك والبكاء، والشجاعة والجبن، والإِخلاص والرياء. فإذا خطر في البال أمر، تبعه ضده، فمن حضر في ذهنه الشتاء، تذكر الصيف، ومن وقع في خاطره التقوى، انتقل إلى معنى الفسوق، ومن هذا الباب ترى شخصاً، فتذكر خصمه المبين، وترى آخر في بلاء، فتذكر العافية، ولهذا عدّ علماء البلاغة التضاد من علاقات المجاز.
والوحدة المكانيه: أن تحس الشيئين في مكان، وإن اختلف زمن الإحساس؛ كأن ترى شخصاً في مكان صباحاً، وترى شخصاً آخر في المكان نفسه مساء، فمن كثرت مشاهدته لشخصين في مكان، ثم رأى أحدهما، حضرت في ذهنه صورة الآخر.
ويتصل بهذا أن يجري ذى الواقعة، فينتقل ذهنك إلى مكانها، أو تشاهد المكان، فيحضر في ذهنك صورة الواقعة.
ومما يجري على هذا قول ابن الرومي:
وحبّب أوطانَ الرجال إليهم
…
مآربُ قضَّاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
…
عهود الصِّبا فيها فحنوا لذلكا
والوحدة الزمانية: أن تحس الشيئين في زمن واحدة، فإذا وقع بصر الإِنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بعدُ، تذكر الآخر، بل إذا حدّث عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورة في قوته
الحافظة، ثم رأى أحدهما، أو جرى ذكره في المجلس، حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر. ويدخل في هذا الباب تذكرُ الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند ذكر أسبابها؛ كتذكر النار عند ذكر الحرارة أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عدّ علماء البلاغة من علاقات المجاز: السببية، والمسببية.
ومما ينبهك على أن اقتران الشيئين في الزمان يجعل حضور أحدهما داعياً إلى حضور صورة الآخر: قول الخنساء:
يذكرني طلوعُ الشمس صخراً
…
وأذكره بكل مغيب شمس
فإنها تذكره عند طلوع الشمس؛ لأنها كانت تراه وقت الطلوع في مظهر الشجاعة والتهيؤ للغزو، وتذكره عند مغيب الشمس؛ لأن وقت المغيب وقت توارد الضيوف عليه، وإطعامِه الطعام في الغالب.
وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط، ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة آخر، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصور المتماثلة أو المتضادة أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد. فإذا شاهدت مصادفة ثلجاً على شجر حوله رمل، وفي منتهى الرمل بحر، فقد يخطر ببالك الثلج في وقت آخر، فتنتقل منه إلى الشجر، ومن الشجر إلى الرمل، ومن الرمل إلى البحر. ولو كنت شاهدت في البحر سفينة، لكنت تنتقل من الرمل إلى البحر، ومن البحر إلى السفينة.
ولو شاهدت الثلج مركوماً في الشارع، والشارع محاط بمبانٍ ذات
نوافذ مفتحة، لكان لك عندما يذكر الثلج سلسلة أفكار، حلقاتها: الثلج، والشارع، والجدران، والنوافذ المفتحة. ولو اتفق لك أن كنت شاهدت في زمن آخر نوافذ يشرف منها وجوه بيض، لانتقلت من النوافذ إلى الوجوه البيض، ومن الوجوه البيض إلى الوجوه السود بوسيلة التضاد، ثم إلى البلاد التي تكثر فيها الوجوه السود، فتصل هذه السلسلة في التخيل بالسلسلة الأولى.
فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة، وما يقع الانتقال منها إليه، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقهما في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات، فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.
ومثال هذا: أن يجري في حضرة المولع بالخمر، والقائمِ على أدوات الطعام، ذكرُ الكأس، فينتقل المولع بالخمر من الكأس إلى الخمر، ويذهب منتقلاً فيما يتبع الخمرَ من لهو وفسوق، أما القائم على أدوات الطعام، فإنه ينتقل من الكأس إلى الملعقة، إلى الشوكة، إلى الطبق، إلى المنديل، حتى يصنع سلسلة من هذه الأدوات وما يتصل بها غيرَ السلسلة التي صنعتها مخيلة المولع بشرب الخمر.
وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء، فأفكار البدو لا يطول تسلسلها؛ لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور؛ بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلته مسارح بعيدة المدى.
فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل أيضاً من جهة قوة الانتباه لما بين
الأشياء من المناسبات.
فالناشئ في مدينة كبيرة يفوق في التخيل الناشئ في بداوة، أو ما يشبه البداوة، وما ذاك إلا لكثرة ما يجده في حافظته من الصور المساعدة له على تأليف المعاني الجيدة.
وإذا وجدت رجلين يعيشان في بيئة واحدة منذ النشأة، ورأيت في أحدهما براعة في نحو الشعر والصناعة قد فاق بها صاحبه، فإن وجه فضله عليه من جهة قوة الانتباه لما بين صور الأشياء من المناسبات.
وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تحس أحدهما، ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر ما في ذلك الأمر الذي أحسته من معنى يجلب اهتماماً شديداً من حزن أو سرور.
وانظر إلى الشاعر حين أراد التنبيه على أن ذكر حبيبه لا يفارقه قط، كيف أخبر أنه يذكره في أشد حال من شأن الإِنسان أن يذهل فيه عن كل غائب، فقال:
ولقد ذكرتُك والرماح نواهِلٌ
…
مني وسيف الهند يقطر من دمي
ثم إن المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض، ومن غير أن تكون تحت رعاية العقل، فتسمى: مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها صادراً عن إرادة، ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقة، فتسمى: مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة، فتسمى: مخيلة إبداعية.
فالمخيلة الآلية: هي التي تسير دون قصد إلى جهة خاصة أو غرض معين؛ كأن يحصل للانسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى
إلى آخر، ويجول في جملة من صور الأشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام، ولا قصد إلى استنتاج.
ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة؛ حيث يزول الانتباه، ولا يبقى للاررادة سلطان، فتجري المخيلة طلقة من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبة، أو لذيذة، أو مؤلمة.
ومن المرائي ما هو إلهام إلهي؛ كما ثبت في نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.
والمخيلة العلمية: هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها على قانون المنطق إدراك حقيقة كانت خافية.
ويقول المتحدثون عن العالم "نيوتن": إن مخيلته العلمية قد انتقلت به من مشاهدة تفاحة سقطت على الأرض، وانساقت به إلى النظر في قانون الجاذبية.
والمخيلة الإبداعية: يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة، إما محسوسة كما يفعل الصانع الماهر، أو معنوية كما يفعل الشاعر المجيد، فالصانع يفسح المجال لمخيلته، فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء، ويساعده ذوقه على أن ينتفي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة.
وكذلك الشاعر يبعث مخيلته فيما عنده من صور الأشياء، ومازال على صورة بعد أخرى حتى يجتمع عنده ما يمكنه أن يركب منه صورة معنى لا عهد للأذهان به من قبل.
أما أثر التخيل في التربية، فإنك إذا لقنت الناشئ الأخلاق الحميدة،
والأعمال الصالحة، وذكرت له ما يترتب عليها من خير وسعادة، وجدته لا يذكر تلك الأخلاق والأعمال إلا وقد حضر في ذهنه ما يقع عقبها من الخير والسعادة، فينهض لها بقوة، وهذا شأنه حين تذكر له السيرة القبيحة، وتبين له ما يتصل بها من عواقب تعود عليه بالضرر والتهلكة، فإنه لا يخطر بباله شيء من الخلق الرذيل أو العمل القبيح إلا وقد حضر في ذهنه ما يعقبه من ضرر، فيدعوه ذلك إلى الكف عنه.
ولا ريب أن من لم يلقن فوائد الآداب الفاضلة والأعمال الصالحة، ويكون خالي الذهن مما يترتب على الأعمال المكروهة من فساد، تجده يذكر الفعلة القبيحة، فلا ينتقل ذهنه إلى شيء يردعه عنها، فيأتيها إجابة لداعي الشهوة.
ومتى كان تعليم الأخلاق وتقويم السيرة من جهة الدين، رأيت الناشئ يذكر جلال الله في كل وقت يهم فيه بامر نهى عنه ذو الجلال، وفي ذلك عصمة أي عصمة.