الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعور السياسي في الإسلام
(1)
بثّ الإسلام في نفوس معتنقيه ديناً قيماً، وأدباً راقياً، وسنَّ لهم قواعد؛ ليقيموا عليها أحكام مدنيتهم، ويهتدوا بها في تدبير سياستهم، وبعد أن
(1) مجلة "الفجر" -المجلد الثاني من السنة الثانية الصادر في شهري صفر وربيع الأول سنة 1340 هـ - تونس.
وقدمت المجلة البحث بقولها:
لفضيلة الأستاذ الجليل العالم النحرير المعلم الكبير الشيخ محمد الخضر بن الحسين مكانة سامية في العلم والأدب، وله قلم سيّال وقوة شاعرية، فقد جمع -أبقاه الله- لغزارة العلم المقدرةَ على الكتابة والتحرير، وصوغ القريض، وهذا لعمر الحق! مما يندر وجوده.
كل التونسيين -لاسيما أبناء الكلية الزيتونية عمّرها الله- مجمعون على الاعتراف بمزايا الأستاذ وفضائله الجمّة، وآثاره العالية، ولهم نحوه من الإجلال والتوقير ما عزَّ أن يكون لغيره.
كانت حياة الأستاذ مدة إقامته بربوع الوطن المفدى كلها خير ونفع. باشر التدريس بجامع الزيتونة متطوعاً ومدرساً، وأقرأ كتباً جمة. وانتفع عليه خلق كثير لا تكاد تخلو قرية أو حي من تلاميذه ومريديه.
وأصدر مجلة "السعادة العظمى" التي عاشت ما يناهز العامين، وكانت حافلة بالفوائد، ومباحث الإصلاح النافعة. وتولى قضاء مدينة "بنزرت، زمناً ما، فكان مثال العفة والعدالة الشرعية. ثم رأى أن لا قدرة له على تحمل هذا العبء الثقيل =
وقف ذوو البصائر منهم على كنه الروح الذي يتماسك به العمران، ولا ينهض شعب أو يملك حياة مستقلة إلا إذا ضرب فيه بأشعته، شعروا بحق القيام على تدبير شؤونهم بأنفسهم، وأخذوا ينشرون تلك المبادئ الشريفة والتعاليم المحكمة بين أمم كانت تعثو في الأرض فساداً، وتخوض في الباطل خوضاً، إلى أن كان ما أدهش العقول عن فتوحات نسخت ليل الجهالة، وجعلت آية العلم الصحيح مبصرة.
= الذي كادت تخرجه القيود الإدارية عن الصبغة الشرعية، فاستعفى، وانقطع بعد ذلك إلى التدريس والتأليف.
ومن أعماله الجليلة: قيامه بمسامرات مفيدة جداً، منها مسامرة "اللغة العربية" قد طبعت، ومنها مسامرة "الحرية في الإسلام" وقد طبعت أيضاً. كما طبعت له رسالة في "الدعوة إلى الإصلاح".
ثم ارتحل إلى البلاد المشرقية، وزار المدينة المنورة، وأقام مدة بالديار الشامية تصدى فيها لنشر العلم، وكانت له حظوة سامية، ثم رجع إلى الوطن وفي نفسه عزيمة الهجرة، فمكث مدة ما، رجع فيها إلى التدريس بالجامع الأعظم، ونشر في "جريدة الزّهرة" الغراء رحلته، وقد راعى في كتابتها ظروف الزمان والمكان، فلم يطلق لقلمه العنان. ثم سافر الأستاذ الجليل إلى الديار الشرقية، وانقطع لبث العلم والدعوة إلى الإصلاح.
ثم كانت الحرب العظمى، فأظلم الأفق بيننا وبينه.
ولما انقشعت سحبها المظلمة، ضاعت لنا أفكار أستاذنا المحبوب من ناحية الكنانة، فرأينا جرائدها ومجلاتها طافحة بنفثات يراعه، وها نحن نزف اليوم لقرائنا الكرام هذا المقال الجليل الذي يدل على مقدرة الأستاذ، وتبحره في أسرار الشريعة الحنيفية السمحاء، وفي الأمل أن نمتع قراءنا في المستقبل بِنُبذ من مباحث الأستاذ النافعة -إن شاء الله-.
كان الشعور السياسي منبثاً في نفوس الأمة قاطبة، حتى إذا نهض الرئيس الأعلى لقتال يحمي ذمارهم، أو عمل يرفع شأنهم، خفُّوا إلى دعوته، فأسلموا أنفسهم وأموالهم إلى رأيه وتدبيره.
ما هي العوامل التي أحيت ذلك الشعور، وجعلته يتألق بين جوانحهم تألقَ القمر في سماء صاحية، فأكبر هممهم، وشدّ عزائمهم، حتى تراءى لهم الجبل ذرة، واستهانوا بالموت الذي -كما قال بعض الحكماء- لا مرارة إلا في الخوف منه؟؟.
أحيا ذلك الشعور: تلقيهم للكتاب الحكيم عن تدبر وإنعام في مراميه الاجتماعية والسياسية، ومما يبعثهم على تجريد النظر لاجتلاء حقائقه، والكشف عن مقاصده: أنه القانون الأساسي الذي لا تخضع الأمة إلا لسلطانه، فكان العلماء -وهم بمنزلة نواب الأمة- يرقبون سير الهيئة الحاكمة، وما عليهم سوى أن يزنوا أعمالها بذلك الميزان السماوي، فيصفوها للناس بأنها جادة أو هازلة.
فالشعور السياسي نور يسطع في الشعوب على قدر ما ينتشر بينها من معرفة حقوقها، والطرقِ الكافلة لحفظ مصالحها، ولقد كنّا نتلقى عن تجربة أن السلطة القابضة على زمام شعب، يسوء أن يتنبه لحياته الشريفة، وينهض للمطالبة بحقوقه العالية، تصرف دهاءها إلى منابع التعليم، فتسد مسالكه، فإن لم تستطع، ضيقت مجاريه، أو خلطته بعناصر تفتك بالإحساسات السامية، وتقلب النفوس التي فطرها الله على الحرية إلى طاعة عمياء.
أحيا ذلك الشعور: أن الله قيض لهم رؤساء ما كانوا ليعدُّوا أنفسهم سوى أنهم أفراد من الشعب يقومون بتدبير جانب من مصالحه، فطرحوا
التعاظم جانباً، وجلسوا لذوي الحاجات على بساط المساواة، وكذلك قلوب الرعية إنما تنجذب إلى رجال الدولة، وتلتف حولهم بعاطفة خالصة، على قدر ما يبعدون عن مظاهر الأبهة، ويخففون من شعار العظمة.
أرسل سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل إليه حتى جلس معه على سريره، فوثب عليه أتباع رستم، وأنزلوه، فقال المغيرة بصوت جهير:"إنا -معشر العرب- لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. اليوم علمتُ أنكم مغلوبون، وإن مُلْكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول".
أراد المغيرة أن يبثّ في الجنود الفارسية النفرة من قائدها، حتى ترتخي عزائمهم عن نجدته، فما كان إلا أن أيقظهم لِما خص به ذلك القائد نفسه من الميزة والاعتلاء بغير حق، وأومأ إلى أن الإسلام قرر قاعدة المساواة على وجهها الصحيح، فلا فضل لرئيس على أدنى السوقة إلا بتقوى الله. وقد نجح دهاؤه ونفذت فيهم مقالته، حتى صاحت طائفة منهم قائلة:"صدق -والله- العربي فيما قال".
ومن مثل هذه القصة، نفقه أن سقوط تلك الممالك تحت رايتهم لم يكن نتيجة البسالة والسيف وحدهما، بل كان الأثر الأعظم للدهاء في السياسة.
أحيا ذلك الشعور: أن رأوا باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه، ولم يجدوا دون مناقشة أولي الأمر حاجباً، فكان اطمئنانهم في سيرهم، ووثوقهم بسلامة مستقبلهم، مما يذكرهم بالسكينة، ويعظهم بأن يكونوا كالكنانة بين يدي أميرهم العادل، يرمي بعيدانها الصلبة في وجه من يشاء.
ومن ألقى نظرة في التاريخ الإسلامي، عرف أن الرجال الذين أسسوا ملكاً لا سلف لهم به؛ كعبد الرحمن الداخل، أو جددوا نظامه بعد أن تقطعت أوصاله، كعبد الرحمن الناصر، إنما استقام الأمر بما كانوا ينحرونه في سياستهم من العدل في القضية، وتلقي الدعوى إلى الإصلاح بأذن صاغية وصدر رحب.
ماذا يخيل إليك من حال الأمة لعهد المنصور بن أبي عامر حين تقرأ في تاريخ دولته: أن أحد العامة رفع إليه الشكوى بأحد رجال حاشيته، فالتفت إليه، وكان ممن انتظم بهم عقد مجلسه، وقال له: انزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره.
وإن الذي يتحلى بمزية إنصاف الضعيف من القوي، وتتمتع رعيته بمثل هذا العدل، لجدير بأن يبلغ من العز الشامخ والتأييد الراسخ؛ حيث جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم، واستقل بالأمر، وغزا ستاً وخمسين غزوة، دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش.
ذاق المسلمون طعم سياسةٍ أعدلَ من القسطاس المستقيم، وعرفوا أن الدولة التي لا تقوم على قواعد المساواة والشورى، وحرية التصريح بالرأي، ليست هي الدولة التي أذنت لهم شريعتهم بأن يُلقوا إليها أمرهم عن طاعة وإخلاص.
والحركات التي قلبت الدول رأساً على عقب؛ كنهضة أبي المسلم الخراساني في الشرق، والمهدي بن تومرت في الغرب، إنما نجحت، وكان
لها ذلك الأثر الخطير؛ لأنها تقوم بجانب دولة نامت عينها عن الحقوق الموكولة إلى رعايتها، وهامت بها الأهواء في أودية السرف والتفنن في الملاذ، حتى سئم الناس تكاليفها، ومالؤوا الثائرين على إبادتها، ولكن الفتن التي ترفع رأسها في مثل إمارة عمر بن عبد العزيز. أو صلاح الدين الأيوبي، أو عبد المؤمن بن علي لا تلبث أن تتضاءل وتنطفئ كما تنطفئ الذبالة إذا نفذ الزيت من السراج، وما ذاك إلا أن العدل متماسك العرا، وجمال الشرع يلوح في محيا الدولة، فلا تجد نار الفتنة من القلوب النافرة ما يذهب بلهبها يميناً ويساراً.
فالإحساس السياسي الذي يربيه الإسلام في نفوس من يتقلدونه، إنما يرمي بأشعته إلى مبادئ مقدسة، وغايات شريفة، فإذا ربطوا قلوبهم باحترام أمير أو وزير أو زعيم، وبسطوا أيديهم إلى مؤازرته، فلأنه يرعى مبادئهم، ويولي وجهه شطر غاياتهم.