المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحكمة العربية (1) الحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه، وقد - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(23)«هُدى وَنورٌ»

- ‌المقدمة

- ‌خواطر

- ‌الحكمة العربية

- ‌التعاون في الإسلام

- ‌الرحلة والتعارف في الإسلام

- ‌الشعور السياسي في الإسلام

- ‌العاطفة والتسامح في الإسلام

- ‌الشورى في الإسلام

- ‌الدعوة الشاملة الخالدة

- ‌طرق الصوفية والإصلاح

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الإسلام والفلسفة

- ‌التراويح

- ‌رسائل إخوان الصَّفا

- ‌الجمعيات الإصلاحية

- ‌العرب والسياسة

- ‌لهجة بلاد الجزائر

- ‌إلى كل مسلم يحب العمل في سبيل الله

- ‌تعقيب على حديث

- ‌مناظرة البطريرك الماروني

- ‌طريق الشباب

- ‌الحكمة وأثرها في النفوس

- ‌العمل للكمال

- ‌أسباب سقوط الأندلس

- ‌الجزائر واستبداد فرنسا

- ‌مكانة الأزهر وأثره في حفظ الدين ورقي الشرق

- ‌من لم ير مصر، لم ير عزّ الإسلام

- ‌تكريم جمعية الهداية الإسلامية لرجل من عظماء الإسلام

- ‌تأسيس جمعية الشبان المسلمين

- ‌الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه

- ‌قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

- ‌البراعة في الشعر مظاهرها - مهيئاتها - آثارها

- ‌كتّاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر

- ‌رثاء عمر بن الشيخ

الفصل: ‌ ‌الحكمة العربية (1) الحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه، وقد

‌الحكمة العربية

(1)

الحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه، وقد يراد بها الكلام النافع الذي يمنع من الجهل والسفه، وهي بهذا المعنى فن من فنون الكلام المنظوم أو المنثور، وذلك ما نريد الحديث عنه في هذا المقال.

وهذا النوع من الحكمة ثمرة التجارب والتفكير على الوجه الصحيح، فنصيب الأمة من الحكمة على قدر نصيبها من جودة التفكير، والشعور بما تشترك فيه الحوادث من الأسباب والآثار.

ومن الذي ينكر ما للأمة العربية من صفاء الذهن، وتوقد الذكاء؟ فلا بد أن يكون حظها من الحكمة عظيماً.

نطق العرب في جاهليتهم بحكم تدل على تجارب صادقة، وألمعية مهذبة، وأسوق لك مثلاً على هذا قول النابغة الذيباني:

ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلُمُّه

على شَعَث أيُّ الرجال المهذّبُ؟

فهذه الحكمة لا تصدر إلا من ألمعيّ خالط طبقات الناس زمناً طويلاً، ونقدهم طبقة بعد طبقة، فاستخلص من طول صحبتهم أنه لا يوجد من بينهم

(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد السادس من المجلد الرابع الصادر في جمادى الثانية سنة 1352 هـ - القاهرة.

ص: 11

الصاحب الذي يصفو لصاحبه في كل حال. والإِنسان محتاج إلى الإِخوان احتياجَه إلى الماء والهواء، فليس له إلا أن يتمسك بصحبة من وثق بمودتهم، ويغضي عن هفواتهم التي لم يقع فيها لفساد ضمير، أو نكث عهد مودة.

كان للعرب براعة في صوغ الحكمة، حتى طلع عليهم القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فامتلأت أسماعهم بالحكمة البالغة.

أما القرآن، فقوله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقوله تعالى:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].

وأما الأحاديث النبوية، فكقوله صلى الله عليه وسلم:"اليد العليا خير من اليد السفلى"، وقوله:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وقوله:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

أفاض القرآن والحديث النبوي أمثال هذه الحكم الرائعة، وفتحا للحكمة طرقاً كانت مقفلة، فالإِسلام ساعد الخطباء والشعراء والوعاظ على أن يسيروا في هذا الفن من الكلام بخطا واسعة، ويقطعوا فيه أشواطاً بعيدة، فأصبح الناس يسمعون من الحكم أبلغ مما كانوا يسمعون، ويجمعون منها أكثر ما كانوا يجمعون.

وإذا هممتُ أن أسوق إليك أمثلة من حكم العرب في الإسلام، تكاثرت علي تكاثُرَ الظباء على زياد، فلم أدر ما آخذ منها وما أَذَر، فانظر إلى ما شئت من الدواوين التي تحوي خطب البلغاء، ورسائل الأدباء، وقصائد الشعراء، ومحاورات العلماء، ففيها ثمرات قرائحهم الخصيبة، ونظراتهم الصادقة.

ص: 12

ولأبي الطيب المتنبي في هذا الميدان جولات سبق بها أقرانه من الشعراء، وللصاحب بن عباد صحائفُ جمع فيها ما يحسن التمثل به من شعر المتنبي؛ كقوله:

ومن ينفقِ الساعاتِ في جمع مالِه

مخافةَ فقر فالذي فعل الفقرُ

وقدمها هدية لمخدومه فخر الدولة، الذي كان يتمثل كثيراً بأبيات من نظم هذا الشاعر الحكيم.

وأورد ابن أبي حجة في "شرح بديعته" ما ملأ به صحائف كثيرة من حكم أبي الطيب المتنبي، وربما أورد بعد البيت أو قبله ما يدل على إعجابه به، كما تعرض لقصيدته التي يقول فيها:

وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ

وإن كثرت في عين من لا يجرِّب

وقال منها وأجاد إلى الغاية:

وأظلمُ أهل الظلم من بات حاسداً

لمن بات في نعمائه يتقلب

وكما أشار إلى قصيدته: "واحرّ قلباه ممن قلبه شَبِم"، وقال: ومنها، وليس لمثله مثيل:

إذا ترحلتَ عن قوم وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالراحلون هُم

وفي لامية الطغرائي أبيات كثيرة تشتمل على حكم غزيرة، فجرت على ألسنة الأدباء والكتاب مجرى الأمثال السائرة؛ كقوله:

وعادةُ السيف أن يزهى بجوهره

وليس يعمل إلا في يدي بطل

الحِكَم لذيذة، وأحسنها وقعاً ما صدر على البداهة؛ فإنه أدل على عبقرية الرجل، وكثرة انتفاعه بتجاربه.

ص: 13

لام عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أباه على إرجائه تنفيذ بعض ما يراه حقاً، فقال عمر بن عبد العزيز:"أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة".

وامتدح شاعر الإمام محمد بن مسلم الزهري، فأعطاه جائزة، فقيل له: أتجيز كلام الشياطين؟ فقال: "من ابتغاء الخير اتقاء الشر".

وأشد ما يغبط الشاعر شاعراً آخر، في البيت العامر بالحكمة.

أنشد محمد بن كناسة إسحاق بن إبراهيم البيتين:

فيّ انقباضٌ وحشمة فإذا

صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

وقلت ما قلت غير محتشم

فقال إسحاق: وددت -والله- لو أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك، فقال ابن كناسة: قد وفر الله عليك مالك، والله! ما سمعهما أحد، ولا قلتهما إلا الساعة، فقال إسحاق: فكيف لي بعلم نفسي أنهما ليسا لي؟ وإسحاق إنما غبط ابن كناسة في البيتين؛ لما اشتملا عليه من الحكمة، وهي وضع كل من الحشمة والاسترسال على السجية في مقامه اللائق به.

والخلاصة: أن في آداب اللغة العربية حكماً غزيرة في ألفاظ عذبة وجيزة، فنودُّ من القائمين على تعليم النشء وتربيتهم تلقينها لهم بطريقة واسعة، حتى لا يحتاجوا إلى الاستشهاد بأقوال الغربيين، وفي كلام حكمائنا وبلغائنا ما يغني عنه.

ص: 14