الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرؤيا ليست طريقاً للأحكام الشرعية
(1)
كثيرُ من المرائي ينشأ من انطلاق المخيلة، وسيرها في غير نظام حيث تعطل الحواس، ويفقد التنبه، ولا يبقى للإرادة سلطان على تنظيم حركة التفكير. وقد تنشأ عن تعلق النفس بالشيء في حال اليقظة، وكثرة تفكيرها فيه، وربما نشأت عن أمر تنفعل له الأعصاب؛ كأن يقرع صوت الموسيقى أذن النائم، فتضطرب أعصابه، وتجري في مخيلته صور من خواص الموسيقى، فيرى نفسه في مجتمع سرور أو عرس. وجميع هذا من قبيل أضغاث الأحلام، لا يحتفل بتأويله، ولا ينبغي الالتفات إليه.
وفي المرائي ما يكون من قبيل الإلهام، فيدل على بعض المعاني دلالة صحيحة، وقد دل على وجود هذا القسم: القرآن، والسنّة الصحيحة والتجارب التي لا تقف عند نهاية، بل دل القرآن على أن صدق الرؤيا قد يتحقق في رؤيا غير المؤمنين، ومن شواهد هذا: رؤيا عزيز مصر التي عبرها يوسف عليه السلام ووقعت على نحو ما عبرها.
ولما كان في المرائي المنامية ما هو من هذيان المخيلة، سقطت الرؤيا عن درجة الاعتبار، ولم يكن لها في مآخذ الأحكام الشرعية موضع.
(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء الثالث من المجلد الثالث، ربيع الأول 1351 هـ.
قرر أبو إسحاق الشاطبي: أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم طريق من طرق الوحي الصادق، ثم قال:"وأما أمته، فكل واحد منها غير معصوم، بل يجوز عليه الخطأ والغلط والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حلماً؛ وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقه، واعتيد ذلك فيه، واطرد، فإمكان الخطأ والوهم بأن. وما كان هذا شأنه، لم يصح أن يقطع به حكم".
وإنما كانت رؤيا الأنبياء وحياً؛ لأنهم معصومون من أن يتمثل لهم الباطل في صورة الحق، ولم يجعل الله للشيطان أو الخيال عليهم من سبيل.
هذه نظرة في أصل الرؤيا، فإن ذكر الرجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأمره بأمر يخالف ما جاء في شريعته، أو أخبره بشيء يخالف ما يعلمه في اليقظة، فليس له التمسك بهذه الرؤيا، بل يأخذ بما جاء في الشريعة الغراء، ويبني على ما يعلمه في اليقظة.
فإن قيل: إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام، فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتخيل بي"، فيكون ما يأمر به أمراً حقاً، وما يخبر به خبراً صدقاً.
قلنا: إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في النوم قد تكون لمثاله الصادق؛ كرؤيا الصحابي الذي رآه في اليقظة، فانطبع مثاله في نفسه، أو رؤيا من درس صفاته المنقولة في الكتب، فارتسمت منها في نفسه صورة مطابقة، أما رؤياه على غير هذا الوجه، فمحتمل لأن يكون من قبيل تخيل الشيطان، ثم إن رؤيا مثاله الصادق - وإن كانت حقاً - لا يصح الاستناد إليها في حكم شرعي؛ لاحتمال الخطأ والغلط في ضبط المثال في النوم.
قال الزركشي في "البحر المحيط": "والصحيح أن المنام لا يثبت حكماً
شرعياً، ولا ينفيه، وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، والشيطان لا يتمثل به، ولكن النائم ليس من أهل التحمل والرواية؛ لعدم تحفظه".
والخلاصة: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة غير مطابقة لشمائله الواردة في اللصحيح، فرؤياه هذه ليست هي الرؤيا التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها حق، فضلاً عن أن تكون مأخذ حكم شرعي. فإن كانت مطابقة لما ورد في شمائله، فهي حق، ويؤخذ بها في نحو التحذير من عمل عرف من دلائل الشريعة أنه سيئ، أو الترغيب في عمل قام الدليل في اليقظة على أنه صالح. فالعمل الذي يذكر الإنسان أنه تلقنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، يعرض على دلائل الشريعة، ويوزن بمقاييسها، ويقضى فيه بأصولها؛ ويدخل في هذا الباب: صيغ التسبيح والتهليل؛ فيؤخذ فيها بما يرويه علماء السنّة، وتسعه أدلة الشريعة المتلقاة عنه عليه الصلاة والسلام في حال اليقظة. وليس من المقبول أن يكون في بعض صيغ الأذكار المتلقاة في المنام فضل لا يوجد في الصيغ التي تلقاها الصحابة رضي الله عنهم في حال اليقظة.