المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوب العمل بالحديث الشريف - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌وجوب العمل بالحديث الشريف

‌وجوب العمل بالحديث الشريف

(1)

كبر على الطائفة التي تظهر الإِسلام، وتخفي الإلحاد، أن يعلنوا إنكار القرآن الكريم، وهو الثابت بالتواتر ثبوتًا لا تحوم حوله شبهة، فذهبوا في تأويله مذهبًا يوافق أهواءهم، ويقضي ماَربهم، ولو خذلتهم قوانين اللغة، وتبرأت منهم أساليب بلاغتها، ثم قصدوا إلى هدم الشريعة من ناحية أخرى، هي: ناحية سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكروا وجوب العمل بالحديث، ولفّقوا لإِنكارهم شبهاً هي أحقر من لا شيء.

قال أبو نصر بن سلام: ليس شيء أثقل على الإلحاد، ولا أبغض إليها من سماع الحديث، وروايته وإسناده.

ونحن نقصد في هذه المحاضرة على تفنيد ما يقوله أولئك المخادعون، ونقيم الحجّة على أن إنكار العمل بالأحاديث النبوية الصحيحة إنما نشأ عن زيغ في العقيدة، فنقول: الحديث الوارد في تقرير حكم شرعي يأتي على ثلاثة أوجه:

أولاً: ما يكون موافقاً للقرآن من كل وجهة، فيكون توارد القرآن والحديث على الحكم الواحد من قبيل تظافر الأدلة، وهذا الوجه من التأكيد

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الثالث عشر، ذو القعدة 1359.

ص: 142

يدل على شدة عناية الشارع بذلك الحكم.

ثانياً: ما يكون بياناً لما جاء مجملاً في القرآن، فيتعين الأخذ بهذا البيان متى ورد في الصحيح؛ إذ لا بيان بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ومثال هذا: الأحاديث المفصلة لأحكام الصلاة أو الزكاة أو الصيام.

ثالثاً: ما يوجب حكماً لم يفهم إيجابه من القرآن؛ كحديث رجم الزاني المحصن، أو يحرم حكماً لم يفهم من القرآن تحريمًا؛ كحديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في عصمة، وحديث:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".

وهذا النوع من الأحاديث هو الذي نريد بحثه في هذه المحاضرة لوجه خاص.

الحديث الشريف إن قرر حكماً سكت عنه القرآن، وجب الأخذ به لأنّ؛ السنّة أصل مستقل بالتشريع، وإن كانت رتبتها دون رتبة القرآن.

ولنا على هذا أدلة من القرآن والسنّة، وعمل الخلفاء الراشدين، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

أما القرآن، فقد قال الله تعالى فيه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذه الآية بأخذ كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر، والبعد عن كل ما نهى عنه، سواء أكان أمره أو نهيه بياناً لمجمل القرآن، أم تقريراً لحكم سكت القرآن عنه.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والأمر بإطاعته بعد الأمر بإطاعة الله يشمل ما أمر به أو

ص: 143

نهى عنه من أشياء لا يفهم الأمر بها أو النهي عنها من القرآن الكريم.

وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

توعدّت الآية من يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم، فيتناول هذا الوعيد كل من خالف أمره عليه الصلاة والسلام، ولا فرق بين أن يكون أمره موافقاً للقرآن، أو مقررًا لحكم لم يدل عليه القرآن، فقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء: 59]. والظاهر من تفسير الآية: أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حال حياته، وإلى سنّته بعد مماته.

وأما السنّة، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم من حديث في "صحيح الإمام البخاري" رضي الله عنه: "فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم".

وأما عمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فقد جرى على الاستدلال بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لم يخالف فيه أحد منهم، فمحاورة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في قتال مانعي الزكاة، إنما كانت تدور على التفقه في قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها". فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أموالهم وأنفسهم معصومة؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ينظر إلى قوله:"إلا بحقها"، فيقول: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.

وقد عمل الصحابة برواية أبي بكر لحديث: "نحن معاشر الأنبياء

ص: 144

لا نورث"، وروايته لحديث: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون"، وعملوا برواية عبد الرحمن بن عوف بحديث: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس".

أما قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فالمراد منه: أن القرآن أرشد إلى أحكام كل الوقائع، إما بتفصيل منه مباشرة، وإما بالتنبيه لما يؤخذ منه حكم الواقعة بتفصيل، كما نبّه على أن من مصادر التشريع: سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وقد روى ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله": أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود، فقالت له: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت بين اللوحين، فلم أجد الذي تقول، فقال لها: -أي: عبد الله بن مسعود-: أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟

قالت: بلى، قال: فهو ذاك.

وروى ابن عبد البر أيضاً: أن عبد الرحمن بن يزيد رأى محرماً عليه ثياب، فنهاه، فقال المحرم: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، فقرأ عليه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الأحاديث الواردة في أحكام يبدو لنا أن القرآن سكت عنها، إنما هي مبينة لما دل عليه القرآن، غير أن دلالة القرآن على الحكم قد تقصر دونها أفهامنا، ولا يدركها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورووا عن بعض السلف آثاراً ظاهرة في هذا الوجه الذي اختاروه، كما رووا عن سعيد بن جبيرة أنه قال: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على

ص: 145

وجهه، إلا وجدت مصداقه في كتاب الله (1).

وقالت طائفة: إن السنّة لا تستقل بتشريع الأحكام، وإنما يقبل منها ما كان موافقاً للقرآن، ويسوق هؤلاء حديثاً هو:"ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، فأنا قلته، وإن خالف، فلم أقله".

وهذا الحديث موضوع، قال عبد الرحمن بن المهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله

" وكذلك قال يحيى بن معين: إن هذا الحديث موضوع، وضعه الزنادقة.

وقد عارض هذا الحديث قوم، فقالوا: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله، فخالفه؛ لأنّا وجدنا في كتاب الله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وإذا وجد حديث غير ثابت، يتشبث به من يتهالكون على هدم أركان التشريع الإسلامي، فان الأدلة من القرآن والسنّة قد تدفقت تدفق السيل الجرّار على أن ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب الوقوف عنده، والعمل به على النحو الذي يهدي إليه العلم بمقاصد الشريعة، والإِلمام بوجوه دلالات الألفاظ العربية وأساليب بلاغتها.

وقد وجدنا فيما روي من الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الطائفة التي تزعم أن التشريع مقصور على القرآن الكريم.

وروى الحافظ ابن عبد البر في هذا المعنى أحاديث وصلت أسانيدها بثلاثة من الصحابة: المقدام بن معد يكرب، وجابر بن عبد الله، وأبي رافع.

(1) أخرجه ابن أبي حاتم.

ص: 146

وحديث المقدام بن معد يكرب: "يوشك رجل منكم متكئاً على أريكته يحدّث بحديث عني، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال، استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرّمناه، ألا وإن الذي حرّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلُ الذي حرّم الله"(1).

وإذا أقمنا هذا الحديث أمام ذلك الحديث الموضوع، ورجعنا إلى الحجج الدالة دلالة قاطعة على أن السنّة أصل يستقل بالتشريع، عرفت أن منكر العمل بالحديث النبوي إنما هو خارج من دائرة الدين، أو ضالّ عن سبيله بجهالة.

(1) انظر: "جامع بيان فضل العلم وأهله" لابن عبد البر.

ص: 147