المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح مسأله الاقتداء بالمذهب المخالف - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌شرح مسأله الاقتداء بالمذهب المخالف

‌شرح مسأله الاقتداء بالمذهب المخالف

(1)

سؤال: يهمني أن تتكرموا بعرض المسألة الآتية على قلم التحرير؛ لتمحيصها وبحثها على مقتضى مذهبي الإمامين: الشافعي، والحنفي؛ لكثرة الجدل حولهما، وعدم الوقوف على حقيقتها، وهي:

هل يسوغ لشافعي أو حنفي الاقتداء بمالكي تحقق لهما أنه توضأ بماء مستعمل؟

ثم هل يصح للشافعي أو الحنفي أن يقلّد المالكي في الوضوء بالماء المذكور "المستعمل"، ويصليا على مذهبهما أم لا؟

جواب: اقتداء تابع أحد المذاهب في الصلاة بمخالف له في المذهب من المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإليك البيان:

مذهب الحنفية: الأصح في مذهب الحنفية: أن الحنفي إذا تحقق من الشافعي - مثلاً - أنه أخلّ بشيء مما يراه الحنفي شرطاً، أو ركنًا في الصلاة، لم يصح اقتداؤه به.

قال الشيخ الشرنبلاوي في "حواشيه على الدرر": "وأما الاقتداء

(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السادس من المجلد الأول جمادى الثانية 1349 هـ.

ص: 200

بالمخالف، فإن كان مراعياً للشروط والأركان عندنا، فالاقتداء به صحيح على الأصح، ويكره، وإلا، فلا يصح أصلاً"؛ فالحنفي إذا رأى من الشافعي ما يفسد الصلاة في مذهبه، لم يصح اقتداؤه به.

وذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع باطلاق، فقال:"يجوز للحنفي الاقتداء بمن يخالف مذهبنا من المجتهدين، وتقليدهم، وإن رأى فيه ما يبطل الصلاة على رأيه ومذهبه".

ونقل ابن الهمام عن شيخه سراج الدين الشهير بقارئ الهداية: أنه كان يعتقد قول الرازي، حتى أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مروياً عن المتقدمين.

وللشيخ محمد عبد العظيم بن فروخ رسالة اعتمد فيها قول الرازي، وبنى رسالته عليه؛ حيث قال:"هذا - يعني: قول الرازي - هو المنصور دراية، وإن اعتمدوا خلافه رواية" وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الورقات".

فإذا تحقق حنفي من مالكي أنه توضأ بماء مستعمل، لم يصح الاقتداء به في المشهور من مذهب الحنفية، وساغ له الاقتداء به في قول أبي بكر الرازي.

مذهب الشافعية: الأصح في مذهب الشافعية، كما في "المجموع" للإمام النووي: أن المأموم إذا تحقق ترك الإِمام لشيء هو في اعتقاد المأموم معتبر في صحة الصلاة، لم يصح اقتداؤه به، وإن لم يحقق إتيانه به، أو شكّ في ذلك، صح الاقتداء.

وذهب أبو بكر محمد بن علي القفّال - من أكابر علماء الشافعية - إلى

ص: 201

أن العبرة باعتقاد الإمام، فيصح اقتداء الشافعي بالحنفي أو المالكي إذا أتى الصلاة على الوجه الصحيح في مذهبه، وإن لم تكن صحيحة على مذهب المأموم، وتحقق المأموم ذلك، فلو مس حنفي امرأة، أو ترك الطمأنينة في الصلاة - مثلاً -، لم يصح اقتداء الشافعي به على ما هو الأصح في المذهب، وصح الاقتداء على قول أبي بكر القفال، فاقتداء الشافعي بمالكي تحقق له أنه توضأ بماء مستعمل يمنعه جمهور الشافعية، ويجيزه القفال.

مذهب المالكية: المقرر في مذهب المالكية: أن الاقتداء بالمخالف في المذهب صحيح، ولو لم تكن صلاته صحيحة على مذهبهم؛ كأن يترك الدلك، أو مسح الرأس في الوضوء، قال الشيخ خليل في "مختصره":"وجاز اقتداء بمخالف في الفروع الظنية، ولو أتى بمناف لصحة الصلاة؛ كمسح بعض رأسه".

مذهب الحنابلة: يجيز الحنابلة الاقتداء بمخالف في الفروع كالمالكية.

قال الشيخ ابن تيمية في "فتاويه": "وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ، أفنصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك؟!.

ومعنى هذا الجواب: أنه يصح للحنبلي أن يصلي وراء المخالف في المذهب، وإن تلبس بما ينافي الصلاة في مذهب الإِمام أحمد بن حنبل؛ فإن سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس لا يريان الوضوء من خروج الدم، وقد أنكر أحمد بن حنبل على من تردد في الاقتداء بمن يرى رأيهما، وقد خرج منه الدم ولم يتوضأ.

وجه صحة الاقتداء: قد عرفت أن المالكية، والحنابلة، وأبا بكر الرازي

ص: 202

من الحنفية، وأبا بكر القفال من الشافعية يجيزون الاقتداء بالمخالف في الفروع الظنية على الإطلاق، ووجه هذا المذهب: أن الأصل صحة اقتداء المسلمين بعضهم ببعض، ومن ذهب إلى عدم الصحة، فعليه إقامة الدليل، ولم نر للقائلين بعدم الصحة إلا دليلاً هو: اعتقاد المأموم أن إمامه على خطأ، وهذا غير كاف في الاستدلال؛ لأن المأموم يعتقد مع ذلك أن عمل الإمام صحيح عند الله؛ إذ كل مجتهد مطالب بأن يعمل على مقتضى اجتهاده، ومن قلده إنما يعمل على مقتضى هذا الاجتهاد، وإذا كان عمل المجتهد، أو من يقلده صحيحاً عند الله، فما المانع من الاقتداء به؟

ثم إن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كانوا يختلفون في الفروع، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرّج من الاقتداء بمن يخالفه في اجتهاده.

* تقليد الشافعي أو الحنفي للمالكي:

يجوز لأحد أتباع الأئمة المجتهدين تقليد مذهب إمام آخر إذا لم يقصد التلاعب، وهذا ما كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه لم يرد أنهم أنكروا على العامة تقليد أحدهم في بعض المسائل، وآخر في غيرها، والمدار على أن يكون قاصد الانتقال من مذهبه على بينة من صحة الحكم في المذهب المنتقل إليه؛ كأن يتلقاه من عالم أمين، وصحة الوضوء بالماء المستعمل ثابتة في مذهب مالك، فإذا توضأ الشافعي أو الحنفي بالماء المستعمل مقلداً مذهب الإمام مالك، فصلاته صحيحة.

هذا ما يقوله المحققون من علماء الأصول، غير أن منهم من يذكر للانتقال شروطاً، وأهم هذه الشروط: أن لا يحصل بالانتقال صورة يقع الإجماع على

ص: 203

بطلانها؛ كأن يتزوج بغير صداق، ولا ولي، ولا شهود، وأن لا يكون شأنه التقاط رخص المذاهب أينما وجدها.

وهذا الحكم واضح فيما إذا لم يعمل في الحادثة بمذهب إمامه قبل الانتقال إلى مذهب غيره، أما الانتقال في حادثة سبق له العمل فيها بمذهب التزم تقليده، فقد حكى فيه ابن الحاجب، والآمدي الاتفاق على المنع، وأنكر أبو عبد الله الزركشي في كتابه "البحر المحيط" هذا الاتفاق، وذكر أن الخلاف جار في الانتقال بعد العمل أيضاً؛ أي: إن من أهل العلم من يجيز للعامي أن ينتقل في الحادثة إلى مذهب آخر، ولو سبق له العمل فيها بمذهب إمامه.

ص: 204

صنع الصّور واقتناؤها (1)

سؤال: ما حكم الشرع الشريف في التصوير الفوتوغرافي، وهل الصور الفوتوغرافية تمنع دخول الملائكة في المحل الذي توجد فيه؟

وما حكم الشرع الشريف في إقامة تماثيل العظماء، هل يجوّزها، أو يحرّمها؟

سؤال: هل يحرم التصوير الشمسي (الفوتوغرافي)؟ وإذا كان، هل الحرمة مطلقة، أم هناك تفصيل؟

سؤال: هل يجوز حمل الصور والتماثيل، والنظر إليها، واقتناؤها في المكاتب والبيوت؟ وإذا كان ذلك حراماً، فما حكمة التحريم؟

وهل هناك فرق في التحريم بين التصوير الشمسي والرسم باليد (النصفي والكامل)، وصنع التماثيل (النصفية والكاملة)؟

وهل تصوير ما فيه روح وما لا روح فيه سواء، وما رأي "نور الإسلام" في إقامة تماثيل لعظماء الرجال بالميادين الفسيحة، والمنتزهات الكبيرة؟

سؤال: هل يجوز التصوير الشمسي؟

الجواب: يذكر فريق من أهل العلم حكم الصور، وما جرى فيها من

(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء العاشر من المجلد الأول، شوال 1349 هـ.

ص: 205

خلاف، غير فارقين بين صنعها واقتنائها.

ويرى فريق منهم: أن في الصور التي يحرم صنعها ما لا يحرم اقتناؤه، وطريقة هذا الفريق تدعونا إلى أن نبحث عن صنع الصور، ثم نبحث عن اتخاذها واقتنائها، والله ولي التوفيق.

* التصوير:

ورد في التصوير أحاديث صحيحة، منها: حديث: "إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون". وحديث: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"(1). ولما كان ظاهر هذين الحديثين يجعل المصور في أشد العذاب الذي هو جزاء الكافرين، وأصول الشريعة تقتضي أن عقوبة فعل المحرم لا تبلغ أشد العذاب، حمل بعض أهل العلم الحديث الأول على من يصور ما يعبد من دون الله، وحملوا الحديث الثاني على من يصور قاصداً أن يضاهي خلق الله، ومن يصنع الصور قاصداً لأن تعبد من دون الله، أو يصنعها قاصداً التشبه في فعله بخلق الله، فقد جاء بما لا يفعله إلا جاحد، فيستحق أن يكون من أشد الناس عذاباً يوم القيامة.

ومقتضى فهم الحديثين على هذا الوجه يخرج من وعيدهما من يصور ما لا يعبد، ومن يصور غير قاصد المضاهاة بخلق الله.

ووردت أحاديث في وعيد المصورين بالعذاب دون أن تجعلهم في أشد مراتبه؛ كحديث: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"(1). وحديث: "من صور صورة، كلف يوم القيامة أن

(1)"صحيح الإمام البخاري".

ص: 206

ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ" (1).

جاءت هذه الأحاديث، وهي تدل بظاهرها على حرمة التصوير بوجه عام، ولكن العلماء اختلفوا في حكم تصوير الحيوان والإنسان على حسب اختلاف أنظارهم في فهم هذه الأحاديث، والتفقه في علة النهي، واختيار طريق الجمع بين ما يظهر في بعضها من تعارض.

فذهب فريق إلى المنع من صنعها بإطلاق، وقالوا: تصوير الحيوان حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب، أو بساط، أو دينار، أو درهم، أو فلس، أو إناء، أو حائط، وسواء في هذا كله ما له ظل، وما لا ظل له.

واستثنى بعض أهل العلم من منع تصوير ما له ظل: الصور التي تصنع للعب البنات؛ لما ورد فيها من الرخصة، ذكر هذا القرطبي في "تفسيره"، ونقل الماوردي في "الأحكام السلطانية": أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الإِمام الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، وأقر سوق اللُّعب، ولم يمنع منها، وقال: قد كانت عائشة - رضي الله عثها - تلعب بالبنات بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينكره عليها (2)، ثم قال: وليس ما ذكره من اللُّعب ببعيد من الاجتهاد.

وأجاز بعض أهل العلم؛ كأصبغ بن الفرج المالكي صنعَ الصور مما لا يبقى طويلاً؛ كالعجين، ومن هذا ما يصنع في شكل الحيوان من الحلوى، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ

(1)"صحيح الإمام البخاري".

(2)

في "صحيح الإمام البخاري" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لي صواحب يلعبن معي.

ص: 207

وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]: قد استثني من هذا الباب: لعب البنات، وما يصنع من الحلوى أو العجين، ووجه نظر هؤلاء: أن صورة ما يعظم ويعبد من دون الله ليس من شأنها أن تصنع مما لا يبقى زمناً طويلاً.

وقيد آخرون منع الصور المجسمة بتمام الأعضاء الظاهرة، أما إذا كانت الصورة ناقصة عضواً لو قطع من الحيوان، فقد معه الحياة؛ كالرأس، والبطن، فصنعها غير محرم عند هؤلاء، ووجه هذا القيد: أن الحديث يقول في وعيد المصورين: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، ومقتضاه: أن تكون الصورة تامة الأعضاء التي لا حياة لها بدونها، ولا ينقصها إلا نفخ الروح الذي يكون به الإِحياء.

ورأى بعض الفقهاء - فيما حكاه أبو محمد الجويني - جواز نسج الصور في الثوب، وأفتى آخرون لإباحة التصوير على الأرض ونحوها، وقال الخطابي: الذي يصور أشكال الحيوان (أي: يصنع صورتها دون أن يكون لها ظل) أرجو ألا يكون داخلاً في هذا الوعيد. ومما يصح أن يكون مستنداً لهؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، قال:"إلا رقماً في ثوب"، وهذا استثناء - وإن ورد في سياق النهي عن اتخاذ الصور - فهو يؤذن بأن رقم الصور في الثوب غير داخل فيما حرم من التصوير.

وذهب بعض الناس في الشذوذ إلى مكان بعيد، فأجازوا تصوير ما له ظل بإطلاق، حكى هذا القول بعض المفسرين عند قوله تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13].

قال ابن عطية: وذلك خطأ، ولا أعلم من أئمة العلم من يجوزه، ولا حجة لهم في هذه الآية على جواز تصوير ما له ظل، ولو سلمنا أن هذه

ص: 208

التماثيل التي كانت تعمل لسليمان عليه السلام من قبيل الصور ذات الأجسام التامة الأعضاء، فإن الآية حديث عما يعمله الجن لسليمان عليه السلام، وشَرْعُ من قبلنا ليس شرعاً لنا عند كثير من أهل العلم حتى يقوم الدليل على مشروعيته.

ومن يذهب إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، يضع لذلك شرطاً هو: أن لا يرد في الكتاب أو السنّة ما يخالفه، وقد ورد في السنّة الصحيحة أحاديث صريحة في تحريم الصور، وليس وراء الصور ذوات الأجسام ما يصح أن يكون مناط التحريم في هذه الأحاديث.

ويبقى النظر بعد هذا في أخذ الصور بالآلة المصورة (الفوتوغرافية) هل يجري في حكمه على ما برقم في الثوب، أو يرسم على الأرض أو الورق من أشكال الحيوان، فيكون من مواضع الخلاف السابق، حراماً عند قوم، جائزاً أو مكروهاً عند آخرين، أو أن لأخذ الصورة بالآلة المصورة نظراً آخر يستدعي من الحكم غير ما يستدعيه التصوير باليد مباشرة، فيكون جائزاً، ولو عند من يقول بحرمة التصوير أشكال الحيوان؟.

من الواضح أن المصوِّر بنحو الرقم أو النقش، والمصور بالآلة المصورة يفترقان في وسيلة حصول الصورة. فالأول يمسك القلم أو الريشة بيده، ويأخذ في صنع الصورة جزءاً فجزءاً حتى يستوفي أجزاءها، ويخرجها في شكل ذي روح، فهو صانع الصورة بيده، وهذا ما يمكن أن يقترن بعلة مضاهاة الخالق؛ أعني: العلة الواردة في الحديث.

أما حصول الصورة باستعمال الآلة المصورة، فطريقه: أن صاحب الآلة يضع ورق التصوير في مزيج من أملاح الفضة، و (يودور) الفضة، ومادة

ص: 209

أخرى لزجة، بمقدار مناسب، ثم يعرض رق التصوير (الفلم) للضوء، فتنطبع فيه صورة ما يراد أخذ صورته بوسيلة دخول الضوء من عدسة الآلة، ووقوعه على الرق (الفيلم)، ويعالج بعد هذا بمحلول (هيبوسلفات السودة)، فتظهر الصورة بعد أن كانت خافية، وبعد ظهورها تعاد بحمض خاص لتصير ثابتة، غير أن أجزاء الجسم المستنيرة تظهر في الصورة سوداء، وأجزاؤها القاتمة تظهر بيضاء، وهذه هي الصورة المسماة عندهم بالصورة السالبة؛ والذي يصنعه المصور بعد هذا حتى تخرج الصورة موافقة لما في الواقع، هو أن يلصق الصورة السالبة بورقة من الورق الحساس، ويعرضها للضوء، فتنطبع الصورة في الورقة عائداً كل لون منها إلى أصله من بياض أو سواد، وتلك هي المسماة عندهم: الصورة الموجبة.

فهذه الوسيلة لأخذ الصورة لم تكن معروفة لعهد الوحي في تصوير ما ليس له ظل، فمن يذهب إلى إباحة رقم الصور في الثوب يجيز التصوير بهذه الآلة من غير تردد؛ إذ لا تزيد على الرقم في الثوب، والنقش على الورق بشيء يقتضي منعها.

ومن منع من تصوير ما ليس له ظل، قد يرى أن المنع مقصور على التصوير بالطريقة المعروفة لعهد الوحي؛ لأن التصوير إيجاد الصورة، وهذا المعنى ظاهر فيمن صنع أجزاء الصور بيده، أما الصورة الحادثة بالآلة المصورة، فمرجعها إلى ما أوجده الخالق تعالى في تلك المواد من خواص، ثم دخول الضوء من العدسة، وانطباع الصورة على الرق (الفيلم)، أو الزجاجة، ثم انطباعها على الورق الحساس، فليس من البعيد أن يكون لهذا الفرق أثر في أن يكون الجواز في التصوير الشمسي أظهر منه في رقم

ص: 210

أشكال الحيوان باليد مباشرة، وهذا ما أفتى به حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية سابقاً.

* علة تحريم التصوير:

بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس ينصبون تماثيل يسمونها: آلهة، ويعبدونها من دون الله؛ بزعم أنها تقربهم إلى الله زلفى، فجاء الإسلام منكراً لصنيعهم أشد الإنكار، ومعبراً عن سفه عقولهم بأبلغ بيان.

ومن المناهج التي تسلكها الشريعة الحكيمة لظهور الرشد على الغي: أن تجيء إلى ما شأنه أن يكون وسيلة إلى ضلالة، ولا منفعة فيه البتة، أو تكون منفعته أقل من إثم ما يتوسل به إليه من ضلال، فتمنع من إتيانه، وهذه الطريقة تقتضي النهي عن التصوير الذي هو أحد الوسائل إلى عبادة غير الواحد الخلاق، وقد قرر بعض العلماء للمنع من التصوير هذه العلة، وهي كونه ذريعة للغلو في تعظيم غير الله.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والذي أوجب النهي عن التصوير في شرعنا- والله أعلم-: ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة، وحمى الباب".

وإذا قيل: إن علة المنع من التصوير - فيما يظهر في الأحاديث - هي التشبه بخلق الله، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، فقد نبه على أن علة عذابهم الأشد: تشبههم بخلق الله إلى صنعهم شيئاً يتشبهون فيه بالخالق، ودل على هذا الوجه أيضاً حديث:"ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فقوله:"أحيوا ما خلقتم" مشعر بأن علة الإنكار هي التشبه بالخالق.

ص: 211

إذا قيل هذا، قلنا: هذه العلة المشار إليها في الحديث لا تمنع من أن يكون للمنع من التصوير علتان: إحداهما تجعله مفسدة في نفسه، وهي التشبه بمبدع الخليقة، والأخرى كونه وسيلة إلى ما فيه أكبر مفسدة؛ أعني: الغلو في تعظيم غير الله.

قال القاضي أبو بكر بن العربي - بعد أن ذكر علة سد الذريعة إلى عبادة الأصنام-: فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة، عذبه الله بها حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، وفي رواية:"يتشبهون بخلق الله"، فعلل بغير ما زعمتم، قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبه بخلق الله، وفيها زيادة على هذا: عبادتها من دون الله، ذنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنّك بعبادتها؟!.

وهذا النظر يقتضي أن النهي عن التصوير قائم على هاتين العلتين، ولو كانت العلة سد الذريعة وحده، لكان لأنظار الفقهاء في حال انقطاع الناس عن اتخاذ الصور آلهة مجال، ولكن على المضاهاة بخلق الله تجعل المنع باقياً؛ حيث لم تقيد المضاهاة في الحديث بالقصد إليها، وقد عرفت أن العلماء الذين يذهبون إلى إباحة صنع بعض الصور؛ مثل: ما ليس له ظل، أو كان مجسماً غير تام الأعضاء، أو ما دعت إليه مصلحة التدريب على إدارة المنزل، يستندون فيما أفتوا به إلى أحاديث تجعل النهي مقصورًا على غير ما أفتوا لإباحته.

* هل يجوز التصوير لمصالح تقتضيه؟:

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التصوير؛ صَرفاً للناس عن حال التشبه بالخالق، وأذن بلعب البنات لمصلحة التمرين على إدارة المنزل، فدل على أن مصلحة هذا

ص: 212

التمرين ترجح على مفسدة التصوير، فهل للفقهاء إذا عرفوا في تصوير شيء من الأشياء مصلحة جلية، أن يفتوا بإباحته على قدر ما تدعو إليه الحاجة؟

لم نجد في كتب الفقه ما يشعر بصحة هذا التصرف إلا كلمة قالها الماوردي في "الأحكام السلطانية" عند الحديث عن لعب البنات، ونصه:"وأما اللعب، فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأرواح، ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره".

وإذا أراد الماوردي من شواهد الأحوال: الأحوال التي نص فيها الشارع على منع التصوير، أو إباحته، لم يبق بأيدينا نص من الفقهاء في إباحة التصوير عند ما يكون له - فيما يظهر - فائدة.

ومن المواضع التي ينتفع فيها بالتصوير لهذا العهد: أن يوجد قتيل في خلاء، ولا يعرف من أي قبيل هو، فتؤخذ صورته لتعرض في الصحف؛ لعل أهله يطلعون عليها، ويترتب على درايتهم بقتله نحو: الإرث، وتنفيذ الوصايا، وفي حضور أهله معونة على تحقيق البحث في الجناية.

ويشبه هذا: أن يوجد صبي ضائعاً، فتؤخذ صورته لتعرض في الصحف، حتى إذا رآها وليّه، جاء فتسلمه، ومن هذا القبيل: وضع صورة من مَرَدَ على الجنايات في الصحف، أو في المجتمعات العامة؛ ليحذره الناس، فيسلموا من أذيته، ويضاهي هذا: رسم أشكال الحيوان في كتب علم الحيوان؛ إذ يتوقف عليه الرسوخ في ذلك العلم.

ص: 213

فهذه الأحوال ونحوها - مما يظهر فيه وجه الانتفاع بالتصوير - يصح أن يؤخذ فيها بمذهب من يحيى تصوير ما ليس له ظل، مرفوعاً كان أو ممتهناً، ناقص بعض الأعضاء أو تامها.

* اتخاذ الصور:

الصور على نوعين:

1 -

ما ليس له ظل؛ كالمرقوم في ثوب، أو المرسوم في ورق.

2 -

وما له ظل، وهو ما كان ذا جسم قائم بنفسه.

أما ما ليس له ظل، ففيه أربعة مذاهب:

أحدها: المنع من اتخاذه بإطلاق؛ وقوفاً مع ظاهر الأحاديث الواردة في الوعيد أو النهي غير مصحوبة بقيد.

ثانيها: منع ما تكون فيه الصورة متصلة الهيئة، تامة الشكل، وإباحةُ اتخاذ ما كان غير تام الشكل، وما تفرقت أجزاؤه بعد أن كانت ملتئمة، وهذا ما اختاره القاضي أبو بكر بن العربي، ورجحه ابن عبد البر، وهذا المذهب نشأ بالجمع بين حديثين في ظاهرهما تعارض، وهما: حديث هتك النبي صلى الله عليه وسلم للستر الذي كان فيه تماثيل، وجعل عائشة رضي الله عنها منه وسادتين؛ وحديث قيامه عليه الصلاة والسلام بباب الحجرة؛ إذ رأى نُمرقة فيها تصاوير حتى قال منكراً ذلك:"ما هذه النمرقة؟ "، فقالت له عائشة: لتجلس عليها وتوسدها، فلم يقر ذلك، بل قال:"إن أصحاب هذه الصورة يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فالحديث الأول يدل على أن الصورة المنسوجة في نحو الوسادة جائزة، والحديث الثاني يدل على أنها ممنوعة، ومتى قلنا: إن الصورة في الحديث الأول - عندما جعل الستر وسادة -

ص: 214

لم تبق تامة الشكل، بل تفرقت أجزاؤها، فكانت جائزة، والصورة في الحديث الثاني كانت تامة الهيئة، فأنكرها عليه الصلاة والسلام، زالت شبهة التعارض بين الحديثين.

ثالثها: منع ما يكون معلقاً أو مرفوعاً، وإباحة ما يكون مفروشاً أو ممتهناً بالاستعمال؛ كالصور المرقومة في وسائد، أو زرابي، وهذا هو الذي رواه المزني عن الإمام الشافعي، ورجّحه النووي، وقال: هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، والفرق بين المعلق والمفروش: أن ما يوطأ ممتهن ومبتذل، والمرفوع يشبه ما نصب من الأصنام، والصور الممتهنة يرجح الإمام النووي جواز استعمالها، ويجزم مع هذا بحرمة صنعها.

رابعها: الجواز بإطلاق، وهو ما نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد أحدِ فقهاء المدينة السبعة، ولفظه:"عن أبي عوني، قال: دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس (1) والعنقاء".

وهذا المذهب يستند إلى حديث بُسر بن سعيد عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة".

قال بسر: ثم اشتكى زيد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقماً في ثوب"؟

وفي كتاب "الموطأ": "أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود دخل

(1) كلب الماء.

ص: 215

على أبي طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فدعا أبو طلحة إنسانًا، فنزع نمطًا من تحته: فقال سهل بن حنيف: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمتَ، فقال سهل: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا رقماً ثوب"؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي.

وعلى هذا المذهب جرى المتأخرون من فقهاء المالكية، غير أنهم عبروا بالكراهة، وخلاف الأولى. قال الشيخ خليل في كتاب "التوضيح": التمثال إن كان لغير حيوان، جاز، وإن كان لحيوان، ويقيم (أي: يبقى طويلاً)، فهو حرام بإجماع، وكذا إن لم يقم؛ خلافاً لأصبغ، وما ليس له ظل إن كان غير ممتهن، فهو مكروه، وإن كان ممتهنًا، فتركه أولى.

ومن أهل العلم من يرى أن النهي عن اتخاذ الصور قد جاء في أول الإِسلام عاماً؛ ليقطع الوسيلة إلى عبادة الأصنام، وبعد أن تقرر هذا الحكم، وعرف الناس شدة مقت الشارع للتغالي في تعظيم غير الله إلى حد العبادة، أذن في اتخاذ ما كان رقمًا في ثوب، فيكون حديث: "إلا رقمًا في ثوب، مرخصاً في بعض ما حرم في أول الأمر من التصاوير.

وأما ما له ظل قائم، وكان تام الأعضاء، مصنوعاً مما يبقى زمناً طويلاً، ولم تدع إليه مصلحة التدريب على تدبير المنزل، فيحرم اتخاذه بلا خلاف، والرأي الشاذ الذي حكاه بعض المفسرين في جواز صنعه، ومقتضاه: جواز اقتنائه، لا يستند إلى أصل معقول، أو وجه يتلقاه النظر بالقبول.

فإن كان ناقص بعض الأعضاء الظاهرة؛ كالرأس أو البطن، فذلك ما يفتي المتأخرون من فقهاء المالكية بإباحته، وإن كان مصنوعاً مما لا يبقى زمناً طويلاً، فهو ما يقول أصبع بجواز اتخاذه، وإن دعت إليه حاجة التدريب

ص: 216

على إدارة شؤون المنزل، فهو جائز عند بعض الفقهاء، مستنداً إلى ما قدمناه لك من حديث عائشة رضي الله عنها في اتخاذها صور بنات تلعب بهن على مرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إنكار.

وبهذا التفصيل يعلم حكم إقامة تماثيل للعظماء.

ص: 217