المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أسباب وضع الحديث - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌أسباب وضع الحديث

‌أسباب وضع الحديث

(1)

إذا كان في الكذب على عامة الناس قبح شديد، وفساد كبير، فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد قبحًا، وكبر فساداً؛ فإنه ينقص من حكمة الدين، أو يقلب بعض حقائقه، وشر القول ما يفسد على الناس أمر دينهم، ولدرء هذا الفساد على ساحة الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم:"من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، وقد بلغ هذا الحديث من حيث معناه مبلغ التواتر، حتى قال السيوطي: روى هذا الحديث أكثر من مئة من الصحابة رضي الله عنهم.

وقد اختلف العلماء في حكم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الجمهور إلى أنه معصية كبرى، وذهب بعضهم - كأبي محمد الجويني والد إمام الحرمين- إلى أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر كفراً يخرجه عن الملّة. والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

ومع شدة هذا الوعيد قد دخل الوضع في الأحاديث لأغراض شتى.

وضع الزنادقة أحاديث تناقض المحسوس، أو تصادم القواعد العلمية الصحيحة؛ ليدخلوا الريبة في نفوس ضعفاء الأحلام؛ كحديث:"الباذنجان شفاء من كل داء" فقد ذكر مُلاّ علي قاري: أنه من وضع الزنادقة، ومن

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد السادس، رجب 1352 هـ.

ص: 148

هؤلاء الزنادقة: محمد بن سعيد الشامي، ومن موضوعاته: أنه جاء إلى حديث: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" وزاد فيه: "إلا أن يشاء الله".

وقد يضع بعضهم أحاديث؛ ليأخذ بها الناس إلى نحلته أو ملته؛ كحديث: "لو أحسن أحدكم ظنّه بحجر، لنفعه"، فقد قال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار، وقال ملّا علي قاري: إنه من وضع المشركين عباد الأوثان.

وقد يخترع بعض أصحاب الأهواء أحاديث يؤيدون بها مذاهبهم؛ كما قال بعض من كان على مذهب الخوارج، ثم تاب:"إن هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم؛ فإنا كنا إذا هوينا أمراً، صيّرناه حديثاً".

ومن أسباب وضع الحديث: قصد التقرب من بعض الرؤساء، مثلما صنع غياث بن إبراهيم حين رأى المهديّ معجبًا بالحَمام، فروى له حديث:"لا سبقَ إلا في خف، أو حافر، أو نصل"، وزاد فيه:"أو جناح"، فأدرك المهدي كذبه، وأمر بذبح الحمام.

ودخل الإِمام ابن شهاب الزهريّ على الوليد بن عبد الملك، فسأله عن حديث:"إن الله إذا استرعى عبدًا الخلافة، كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات"، فقال له: هذا كذب، ثم تلا ابن شهاب قوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، فقال الوليد:"إن الناس ليغروننا عن ديننا".

ومن أسباب الوضع: الغلو في الحب والتشيّع؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل الإمام علي - كرم الله وجهه - أو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وغيرهما،

ص: 149

ومن هذا القبيل: الأحاديث الواردة في فضل بعض البلاد؛ كفاس، ومصر، وعسقلان.

وربما كان الباعث على الوضع: داعية بغض أو حسد؛ كما وضع سعد بن طريف حديث: "معلمو صبيانكم شراركم" حين رأى ابنه يبكي، وقال له: ضربني المعلم.

ومن الدواعي إلى الوضع: ترويج ما يتعاطاه الواضع للحديث من بعض المصنوعات؛ كحديث "أتيت بهريسة فأكلتها، فزادت في قوتي

إلخ"، فقد وضعه محمد بن الحجّاج اللخمي، وكان صاحب هريسة، وغالب طرق الحديث يدور عليه، ثم سرقه منه كذابون آخرون.

وقد يضع الحديث بعض الأغبياء؛ للحث على خير، أو الكف عن شر؛ بزعم أن هذا النوع من الوضع لا يدخل في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم المتوعَّد عليه بتبوء المقعد في النار؛ كما وضع أبو عصمة المروزي أحاديث في فضائل سور من القرآن، وقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وليس قصد هؤلاء لحمل الناس على عمل الخير بمنجيهم من وعيد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد بذل علماء الحديث عنايتهم في نقد الأحاديث، وتمييز صحيحها من ضعيفها، وضعيفها من موضوعها، ففتحوا باب الجرح في الرواية"ولم يخشوا أن يكون ذلك من باب الغيبة، أو الطعن في الأعراض.

قيل ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذي تركت حديثهم خصماء لك عند الله تعالى؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمائي، أحبُّ إليّ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خصمي، يقول: لم لم تَذُبَّ الكذب عن حديثي.

ص: 150

وقيل لشعبة: هذا الذي تتكلم في الناس، أليس هو غيبة؟ فقال: يا أحمق! هذا دين، وتركه محاباة.

وقال محمد بن بندار الجرجاني لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليّ أن أقول: فلان ضعيف، وفلان كذاب، فقال أحمد: إذا سكتَّ أنت، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟.

والخلاصة: أن علماء الحديث قد نقدوا الأحاديث، ووضعوا كل حديث في مرتبته، وبينوا الرواة الضعفاء الوضّاعين، فما من حديث يعرض لك إلا كان في ميسورك أن ترجع فيه إلى كتبهم، فتعرف هل هو صحيح، أو ضعيف، أو موضوع.

ص: 151