المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اجتهاد ابن القاسم - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌اجتهاد ابن القاسم

‌اجتهاد ابن القاسم

(1)

سؤال: نجد في كتب الفقه مسائل يجتمع فيها قول الإِمام مالك، وقول ابن القاسم تلميذِه، فيقولون: قول مالك ضعيف، وقول ابن القاسم هو المعتمد.

فهل قول ابن القاسم هذا معدود من أقوال الإِمام، أم لا؟ فإذا كان قوله استنبطه من أقوال إمامه، فكيف يصح العزو إليه، ويجعل مقابلاً لقول الإِمام، ورداً عليه؟ وإذا كان من عند نفسه، فكيف يسوغ لنا أن نترك قول إمام المذهب، وتتبع قول تلميذه؟ وكيف نجترئ ونقول: قول الإمام ضعيف، وقول تلميذه هو المعتمد، ومن اعتمد هذا، وضعف ذاك؟

الجواب: يقسم علماء الشريعة المجتهد إلى: مجتهد مطلق، وهو الذي يرجج في تقرير الحكم إلى الكتاب والسنّة، وما يرجع إليهما من الأقيسة "الصحيحة" والقواعد القاطعة، ومجتهد مذهب، وهو الذي يجري على طريقة إمامه في الاستدلال، فيراعط قواعده، وما يراه شرطاً لصحة الاستنباط. وقد جرى خلاف في ابن القاسم هل هو مجتهد مطلق، أو مقيد بطريقة الإِمام مالك في الاستدلال؟

(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء العاشر من المجلد الثاني، شوال 1350 هـ.

ص: 157

قال المقري: "شهدت مجلس أبي تاشفين صاحب تلمسان، فذكر فيه أبو زيد بن الإِمام: أن ابن القاسم مقلّد لمالك، ونازعه أبو موسى بن عمران، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج بمخالفته لمالك في كثير من المسائل، وذكر منها نظائر".

وكذلك استدلّ ابن عبد السلام على أن ابن القاسم مجتهد مطلق بمخالفته للإمام في كثير من الأحكام، وخالفه ابن عرفة، ونفى عنه الاجتهاد المطلق، وقال: إن بضاعة ابن القاسم في الحديث مُزجاة.

والظاهر من سيرة ابن القاسم في الفتوى: أنه يجري في اجتهاده على قواعد مذهب الإمام مالك؛ فإنه كان يقول للمستفتي: سمعت مالكاً يقول كذا، أو بلغني عنه كذا، ومسألتك مثلها، وهذه طريقة مجتهد المذهب.

ولا يخرجه عن مرتبة الاجتهاد في المذهب أنه يخالف الإمام مالكاً في بعض المسائل؛ كما قال فيما كان من شأن الرجل والمرأة من متاع البيت: إنه يقسم بينهما عند التنازع بعد أيمانهما؛ لاشتراكهما في وضع اليد عليه، ومذهب مالك: أنه للرجل حتى تقيم المرأة البينة؛ لأن البيت بيته.

وكما قال فيمن لم يوص به الأب إلى أحد، ولم يقدم عليه الحاكم من ينظر في أمره: إنه ينظر في حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيداً، جازت أفعاله، وإن كان سفيهاً، لم يجز منها شيء، ومذهب مالك: أن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة، رشيداً كان أو سفيهاً.

وكما قال فيمن قال لعبده: أنت حر، وعليك مئة دينار: هو حر، ولا يتبع بشيء. ومذهب مالك: أن العبد حر، وتبقى المئة في ذمته.

فأمثال هذه المخالفة محمولة على أنه رأى ما أفتى به الإمام غير جار

ص: 158

على قواعده، فأفتى بما يراه المطابق لقواعد مذهب الإمام، ومقتضى هذا: أنه يرى الإمام غير مصيب في استنباط هذا الحكم الخاص، وليس في هذا غضاضة على الإمام مالك؛ فإنه لا يدعي لنفسه العصمة، ولا أن أهل العلم من أصحابه يعتقدون فيه أنه لا يخطئ في حال، وقد نقل عنه أنه قال:"إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيى، فما وافق الكتاب والسنّة، فخذوا به، وما لم يوافق، فاتركوه"، وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد غفل عن قوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، فأراد تحديد المهور حتى ذكرته بها امرأة، فرجع عن رأيه، فمن المحتمل أن يقع الإِمام مالك أو غيره من الأئمة في خطأ الاجتهاد، ولأصحابه من بعده أن ينقدوا فتواه، حتى إذا وجدوها غير مطابقة لقواعده، ردوها إلى أصلها، وصح من هذا الوجه نسبة الحكم الذي يقرره بعض أصحابه إلى مذهبه.

وقد رجع الإمام نفسه في مسائل، فأفتى فيها بغير ما أفتى به أولاً، وهذه المسائل معروفة في كتب الفقه، وربما اعتمد أصحابه القول الذي رجع عنه، حيث يظهر لهم أنه أوضح دليلاً، وأقوم قيلاً.

ومن يرى أن الاجتهاد المطلق يتجزأ، على معنى: أن في الفقهاء من يبلغ رتبة الاجتهاد في باب دون باب، وأن له أن يأخذ باجتهاده في الباب الذي استطاع فيه الاجتهاد، قد يحمل مخالفة ابن القاسم للإمام مالك على أنها من قبيل الاجتهاد في أبواب بلغ فيها رتبة الاجتهاد بإطلاق، ثم إن الفقهاء الذين جاؤوا بعد ابن القاسم، ولم يقصروا على درجة الترجيح، قد يرون في قول ابن القاسم رجحانًا، فيأخذون به، ويعدون قول الإمام تجاهه ضعيفاً.

والخلاف الذي جرى في اجتهاد ابن القاسم قد جرى في الإمام أشهب،

ص: 159

فذهب بعضهم إلى أنه مجتهد مطلق، واستدل على هذا بمخالفته للإمام مالك في كثير من المسائل، ويروى: أنه سئل عن مسألة من باب العتق، فافتى فيها بما يخالف مذهب الإِمام مالك، ولما ذكر له قول الإمام، قال:"وإن قاله مالك، فلسنا له بمماليك" والظاهر أن أشهب كابن القاسم، يجتهد في بعض المسائل على مقتضى أصول مالك، وإذا خالف الإمام، أو نفى أن يكون مملوكًا له، فلأنه يرى أن الأصول قد تقضي بغير ما أفتى به الإمام، وتمنعه من أن يتبعه في كل ما يفتي به متابعةَ العبد لمالكه، وقد رأينا كثيراً من المالكية؛ كأبي بكر بن العربي، وعبد الحميد الصائغ قد يأخذون بغير مذهب مالك في المسائل التي يظهر لهم أن أدلة غيره فيها أرجح من أدلته وأقوى.

ص: 160