الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بناء الشريعة على حفظ المصالح ودرء المفاسد
القوانين العادلة: التي تقوم على رعاية حفظ المصالح، ودرء المفاسد، ولا يختلف علماء الإِسلام في أن أحكام الشريعة قائمة على رعاية هذين الأصلين، وإذا كانت المصالح والمفاسد قد تخفى في بعض ما يشرّع على أنه عبادة، فإن الأحكام المشروعة لغير العبادات؛ من آداب الاجتماع، ونظم المعاملات والجنايات، لا تقصر العقول السليمة عن إدراك أسرارها، ومن الميسور تقريرها على وجه يظهر به فضل الشريعة السماوية على القوانين الوضعية.
يقرر الباحثون عن حكمة التشربع من علمائنا أن المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها.
والأفراح وأسبابها، وأن المفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها.
ويسمون اللذات والأفراح بالمصالح الحقيقية، وأسبابها المصالح المجازية، كما يسمون الآلام والغموم المفاسد الحقيقية، وأسبابها المفاسد المجازية، ويذكرون أن المصالح المحضة كالمفاسد المحضة نادرة الوجود، وأكثر الوقائع ما تجتمع فيه المصلحة والمفسدة، فما كان مصلحة محضة، فحكمه الإذن قطعًا. وما كان مفسدة محضة، فحكمه النهي بلا مراء، فأما
ما يكون مصلحة من ناحية، ومفسدة من ناحية أخرى، فالشارع الحكيم ينظر إلى الأرجح منهما، ويفصل الحكم على قدر الأرجحية، فما رجحت مصلحته على مفسدته، أذن فيه على وجه الإباحة، أو الندب، أو الوجوب. وما رجحت مفسدته على مصلحته، نهى عنه على وجه الكراهة، أو التحريم.
* التفقه في الأدلة السمعية:
ذكرنا فيما سلف أن من أحكام الشريعة ما يدل عليه آية، أو سنّة صريحة؛ كتحريم الجمع بين الأختين، والقضاء للذكر في الإرث بمثل حظ الأنثيين، والقصاص، وقطع يد السارق والسارقة، وهذا النوع من الأحكام لا يختلف أئمة الدين في أنه شريعة عامة باقية، ولا يجوز لولي الأمر إهماله، ولا أن يستبدل به غيره.
وربما دعت الضرورة إلى إرجاء إقامة الحد؛ كما أخّر الإِمام علي رضي الله عنه القصاص من قتلة عثمان مرتقبًا وقتًا يتمكن فيه منهم، وهو آمنٌ من عصبيتهم.
وفي "سنن أبي داود": أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو.
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى الناس: أن لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدَّرب قافلاً؛ لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق بالعدو.
وقد تطرأ حال عامة تجعل ولي الأمر في ريب من أن تكون واقعة أخذ المال خفية من قبيل السرقة المفروض فيها حد القطع، فيكف يده عن إجرائه. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط قطع يد السارق في عام المجاعة؛ لأن الحاجة كانت غالبة، فمن المحتمل القريب وقتئذ أن يكون الدافع إلى السرقة اضطراره إلى ما يسد رمقه، وينقذه من التهلكة.
ولا يلحق بمثل هذا الحال أن تعتل أذواق قوم، وتساورهم شهوات طائشة، فيقيموا هذه الأذواق مقام العقل، وتلك الشهوات مقام المصلحة، فينكروا ما فرض الإِسلام على الزاني أو شارب الخمر من عقوبة. وعلى حكماء الأمة أن يعالجوا هذه الأذواق حتى تسلم من مرضها، ويقوِّموا تلك الشهوات حتى تعود إلى حال اعتدالها.
يدخل الاجتهاد الأدلة السمعية على النحو الذي ذكرنا، ويدخلها من جهة الإطلاق والتقييد.
أما الإطلاق، فكما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. فأطلق الأئمة في تحريم الربا، وعدّوا قوله تعالى:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} من قبيل ما روعي فيه حال ما كانوا يفعلون وقت نزول الآية، ومن أدلة هذا الإطلاق قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، فهو صريح في حرمة الربا كثيرِه وقليله.
ومن أمثلة هذا: أن الله تعالى حرّم على الرجل نكاح ربيبته، فقال:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، وظاهر الآية: أن المحرّمة بنت الزوجة التي تكون في حجر الزوج، ولكن الأئمة تفقهوا في هذا الوصف، فلم يظهر فيه أثر للتحريم، فأوَّلوه على أنه من قبيل الأوصاف التي ترد في الكلام البليغ من جهة أنها الحال الغالبة في الموصوف، وأفتوا بتحريم الربيبة على زوج أمها، وإن لم تكن في حجره.
وأما التقييد، فكحديث النهي عن بيع الماء، فقد خصصه الإِمام مالك بآبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين غير المتملكة، فيكون صاحبها الذي حفرها أولى بها، فإذا قضى منها وطره، ورويت ماشيته، ترك الفضل للناس
من غير ثمن، واستند الإِمام في هذا التخصيص، وصرف النهي عن بيع الماء في الأرض المملوكة إلى الأصل الذي ورد به السمع، وانعقد عليه الإجماع، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه.
ومن أمثلة هذا الباب حديث: "شاهداك أو يمينه".
فظاهر الحديث: أن اليمين حق على كل مُنْكِر، ولكن الإِمام مالكًا قيَّده بحال ما إذا كان بين المتقاضيين خلطة، وإنما قيّده بقاعدة درء المفاسد، إذ أخْذُ الحديث على إطلاقه يجرئ السفهاء على أهل الفضل، فيستطيعون أن يوجهوا عليهم متى شاؤوا دعاوى، ويقفوهم للحلف إيلاماً وامتهاناً.
يقيَّد المجتهد النصوص، أو يطلقها على ما تقتضيه الأدلة السمعية، والأصول الشرعية، ولا يصرف نظره عن النص جملة إلا أن يثبت لديه أنه منسوخ، أو يعارضه ما هو أقوى سنداً أو دلالة، أو يكون الحكم مربوطاً بشيء على أنه علة مشروعيته، وتزول هذه العلة، فيتبعها الحكم، وتدخل الواقعة في نص آخر، أو تحتاج إلى حكم من المجتهد يطابقها.
ومثال هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح في جماعة، وقال في وجه تركها:"ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها". وقد زالت بوفاته عليه الصلاة والسلام الخشية من أن تفرض عليهم، ولهذا أقامها عمر بن الخطاب بعد، وقال:"نعم البدعة هذه".
وقَصْرُ الحكم على حال وجود العلة متى كان منصوصاً عليها أمر واضح لا شبهة فيه. وقد يجيء الحكم مجردًا من ذكر العلة، فيقررها المجتهد استنباطاً، ويجعل الحكم مقصوراً على حال هذه العلة المستنبطة، ومن هذا
القبيل: أن المؤلفة قلوبهم قد ذُكروا في آية مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] الآية.
فرأى بعض الأئمة أن علة جعلهم في مصارف الزكاة في بداية الإِسلام إلى تكثير أنصاره، أما حين قويت شوكته، وكثر أتباعه وحُماته، فقد زالت الحاجة إلى تأليف المخالفين، وسقطوا من مصارف الزكاة.
ومن أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام ما يحمله المجتهد على أنه صادر منه بصفة الإمامة، لا أنه حكم عام كسائر أحكام الشريعة التي يراد بها التبليغ، ومثال هذا: قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين: "من قتل قتيلاً، فله سَلَبه"؛ فإن من الأئمة من يذهب في هذا إلى أنه تصرف من جهة الإمامة، وأنه منظور فيه إلى ما اقتضته المصلحة في تلك الغزوة، فلقائد الجيوش من بعده أن لا يجعل سَلَب القتيل للقاتل حيث لم تدع إلى ذلك مصلحة. ولهذا النوع من أقواله عليه الصلاة والسلام ناحية يرجع بها إلى التشريع، وهي أنه يجوز لولي الأمر أن يجتهد، ويقول:"من قتل قتيلاً، فله سلبه" أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرده عن هذا القول أن السلب من الغنيمة، والغنيمة في أصلها ملك للمجاهدين، أو أن هذه المنحة تنقص الإخلاص، وتجعل بعض الجند يقاتل للسلب، لا لإعلاء كلمة الله.
هذه من الوجوه التي يدخل فيها الاجتهاد الصحيح عند التفقه في الأدلة السمعية، وها هنا قد تزلُّ أقدام بعض الناظرين في عجل، أو يفتضح بعض من يكيدون للشريعة من طريق التأويل؛ حيث يعمدون إلى بعض النصوص الشرعية، ويذهبون في تفسيرها مذهباً يخرجون به عن مقاصد الشريعة، أو ينقضون به أصلاً من أصولها.
وجمهور أهل العلم على أن الأحكام المقررة بطريق السمع، وليس للمجتهد أن يتعداها هي ما جاء في كتاب أو سنّة أو إجماع، وقول الصحابي فيما لا يقال بالرأي هو من قبيل المرفوع، فهو داخل في السنّة، أما قوله الذي يمكن أن يكون اجتهاداً، فليس بحجة تقطع غيره عن الاجتهاد؛ لأن الصحابي غير معصوم عن الخطأ، ولأن الصحابة كانوا يختلفون فيما بينهم من غير إنكار، وما يقع في "موطأ مالك" من ذكر قول الصحابي في مقام الاحتجاج إنما يأتي به الإِمام في معنى التأييد لاجتهاده، أو للترجيح بين الأخبار عند اختلافها.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح حديث: "عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين" من "سنن الترمذي ": "أمر بالرجوع إلى سنّة الخلفاء، وهو يكون على أمرين: الأول: التقليد لمن عجز عن النظر، والثاني: الترجيح عند اختلاف الصحابة، فيقدم فيه الخلفاء الأربعة، أو أبو بكر وعمر، وإلى هذه النزعة كان ينزع مالك، ونبّه عليه في الموطأ".
واعتماد الإِمام مالك على عمل أهل المدينة فيما لا مجال للرأي فيه، أو فيما كان طريقه النقل المستفيض؛ كالصاع، والمد، والأذان، والإقامة يرجع إلى الاحتجاج بالسنّة، فإن العادة تقتضي أن يكون عملهم هذا من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو تغير عما كان عليه زمن الوحي، لعلموه، وإذا قدّم عمل أهل المدينة الذي هو في معنى السنّة على خبر الآحاد، فإنما قدّم على خبر الآحاد سنّة يراها أمتن سنداً وأقوى.
وأنكر بعض أصحابه أن يكون قد وقع منه تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة": "ومن
لا تحصيل له من أصحابنا يظن أن مالكاً يقمّ عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، ولم يفعل ذلك قط، ولا ترك مالك قط حديثاً لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم".
لا يدخل الاجتهاد في النصوص المحكمة إلا بنحو الإطلاق أو التقييد على مقتضى الأصول الصادقة، وهذا واضح بنفسه فيما إذا كان النص قرآنًا أو سنّة متواترة، أما خبر الآحاد، فإن لم يره المجتهد معارضًا لأصل آخر، وجب العمل به عند أئمة الدين بلا مراء؛ كما أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"سنوا بهم سنّة أهل الكتاب"(1).
أما إذا ورد خبر الآحاد فيما يظهر معارضاً لقاعدة، أو قياس صحيح، فهذا موضع نظر أهل العلم واختلاف آرائهم، فمنهم من يقدّم الحديث على الأقيسة والقواعد، يظهر هذا من قول الإِمام الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي الحائط، وقوله: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح الإسناد به، فهو المنتهى، وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر.
ونجد آثاراً كثيرة عن الصحابة تدل على أنهم كانوا يتركون القياس لخبر الواحد؛ كما ترك عمر بن الخطاب القياس في الجنين؛ لخبر حمل بن مالك في إيجاب غُرة عبدٍ أو أمة، وقال: لولا هذا، لقضينا فيه برأينا (2)، وروي أنه ترك القياس في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها حين روى له
(1) في "صحيح البخاري".
(2)
رواه أبو داود.
حديث: "في كل أصبع عشر من الإبل".
ويقول بعض المتمسكين بالحديث في كل حال: إنه لا يوجد حديث ثابت على خلاف القياس الصحيح، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأصناف بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك الصنف بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لتلك النظائر، لكن الوصف الذي اختص به الصنف قد يظهر لبعض الناس، ويخفى على بعض، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، لا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وقد جاء هؤلاء إلى كل ما جاعت به السنة من أحكام؛ كالمساقاة، والمزارعة، وبيع العرايا (1)، وبسطوا في بيان الفرق بينها وبين أفراد القياس الذي ادعى أنها جاءت على خلافه.
والواقع أن الذين يسمون مثل المساقاة والسلم والمصرّاة (2) خارجة عن القياس يعترفون بأنه انضم إلى هذه الأبواب ما جعلها تخالف سائر أفراد القاعدة التي يبدو لأول النظر أنها من مشمولاتها.
وهذا عز الدين بن عبد السلام يقول في قواعد المصالح: "أمر الله تعالى لإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر، إما لمشقة ملابستها، وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر،
(1) أن يهب الرجل لآخر النخلة، ثم يتأذى بدخوله لها، فيخرص ثمرها، ويشتريه منها بتمر.
(2)
المصراة: هي التي صُرِّي لبنها؛ أي: حبس، وجمع، فلم يحلب أياماً، وقد جاء في الحديث الشريف: أن مشتريها متى احتلبها يكون بخير النظرين: إما أن يمسكها، أو يردها وصاع تمر.
إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها".
ومن أهل العلم من يقدّم القاعدة والقياس الذي تكون مقدماته قاطعة على خبر الواحد، وقد تردد أصحاب الإمام مالك في مذهبه: فروى عنه أصحابه العراقيون تقديم القياس على الخبر، وروى عنه المدنيون والمغارية تقديم الخبر على القياس، والتحقيق: أن للإمام في كل حديث يتعارض مع القياس نظراً خاصًا، فيقدم - مثلاً - الحديث الذي تعضده قاعدة أخرى؛ كحديث العرايا: عارضته قاعدة الربا، وعضدته قاعدة المعروف.
فقد أريناك أيها القارئ النبيه كيف كان علماء الإِسلام يرعون عند التفقه في الكتاب والسنّة قاعدة: حفظ المصالح ودرء المفاسد، وأن ما جاء به القرآن والسنة من الأحكام المفصلة كفيل بحفظ مصالح الوقائع، أو درء مفاسدها، وفي استطاعة الراسخين في العلم أن يبينوا ما حفظته من المصالح، أو درأته من المفاسد بياناً كافياً.
وإذا كان من لازم الأحكام العادلة حفظ المصالح أو درء المفاسد، فليس من شرط كل حكم أن يتغير باختلاف العصور أو المواطن؛ فإن الواقعة قد تشتمل بطبيعتها على مصلحة، أوعلى مفسدة لا يختلف حالها باختلاف العصور والمواطن، فيكون لها حكم واحد لا يتغير إلا أن يتغير حال الواقعة نفسها. ومن الذي يعقل أن يكون القصاص - مثلاً - زاجراً عن القتل، مقللاً لوقائعه في عصر أو موطن دون آخر؟
والحقيقة أن حكم الواقعة إنما يتجدد عندما تتغير طبيعة الواقعة، وأن الحكم المشروع للواقعة بحق قد يبقى حكمها العادل، ولو مضت عليه أحقاب، حتى يعرض لها من الأحوال ما يستدعي تفصيل حكم غير ما شرع لها أولا؛
ومن تيسر له أن يدرس ما فصلته الشريعة من أحكام محكمة - وهي فيما يرى أقل مما شرعته في ضمن أصول وقواعد- عزّ أن يجد فيها حكماً يتعلق بواقعة يختلف حالها باختلاف الزمان والمكان، وإذا وجد العالم الراسخ في فهم مقاصد الشريعة واقعة علّق عليها الشارع حكماً، ثم تغير حالها إلى حال تقتضي تغير الحكم اقتضاء ظاهراً، كان له أن يرجع بها إلى أصول الشريعة القاطعة، ويقتبس لها من هذه الأصول حكماً يطابقها، ومثال هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن منع النساء من الخروج إلى المساجد، فإذا نظر المجتهد إلى علة النهي عن منعهن، وجدها المحافظة على مصلحة المرأة من سعيها إلى المسجد، وحضورها صلاة الجماعة، وانتفاعها بما تسمع من قرآن أو خطبة، ولم يكن في خروجها لعهده عليه الصلاة والسلام مفسدة تستدعي المنع، فإذا جاء عهد يكثر فيه تعرض السفلة من الرجال للنساء، وحدثت وقائع تدل على أن سلطان الدين أصبح ضعيف الأثر في نفوس هؤلاء وهؤلاء، فقد أخذت واقعة خروج المرأة إلى المسجد حالاً غير الحال التي كانت عليه في زمن النبوة، وانضم إلى مصلحة خروجها مفسدة، فللمجتهد أن ينظر في هذه المفسدة، ويقيسها بالمصلحة؛ ليعلم أيهما أرجح وزناً، ثم يرجع بالواقعة إلى أصول الشريعة، ويستنبط لها حكماً يراعي فيه حالتها الطارئة.
وربما نظر الفقيه في مثل هذه نظرة مستعجل، فيخطئ المرمى، وهذا ما جرى لمروان بن الحكم حين قدّم خطبة العيد على الصلاة؛ نظراً إلى أن الناس كانوا في عهد النبوة والخلافة الرشيدة يجلسون بعد صلاة العيد لسماع الخطبة، فلم يكن في تقديم الصلاة على الخطبة من بأس، ولكنهم
صاروا بعد ذلك العهد يكتفون بالصلاة، ويدعون سماع الخطبة، كما قال مروان معتذرًا لأبي سعيد الخدري:"إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة". وقد خالفه الصحابة والأئمة من بعدهم في ترك هذه السنّة؛ لأنهم رأوا أن هذا تصرف في أمر من قبيل العبادات التي يجب أن تقام كما وردت عن الشارع، على أن مفسدة خروج الناس قبل سماع الخطبة يمكن درؤها بوعظهم وإرشادهم إلى البقاء بالمسجد حتى انتهائها، وقد حضرت صلاة العيد في السنة الماضية بأحد المساجد الكبيرة في القاهرة، فوقف الإِمام قبل الصلاة، وذكر الحاضرين بعدم الخروج قبل انقضاء الخطبة، فامتثلوا.
فالتفقه في الكتاب والسنّة على النحو الذي يحفظ الحقوق، ويسير بالأمة في أهدى سبل المدنية إنما يستطيعه من امتلاً بعلوم القرآن والحديث، وخاض في حكمة التشريع، وعرف مقاصد الشارع، وقدر المصالح والمفاسد بميزانها الصحيح.