الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخذ بالدَّيْن
(1)
قد يكون للإنسان مال يتسلمه في وقت معلوم، وقد تسبق الحاجة الملحة وقت حصوله على هذا المال، ولا يجد طريقاً لسد هذه الحاجة إلّا الأخذ بالدَّيْنِ، وقد أذن الشارع الحكيم في الاستدانة لسد الحاجة، وجعل الإدانة من قبيل المعروف الذي يلقى صاحبه جزاء وشكوراً.
ف الأخذ بالدين قد يكون ضرورة من ضرورات الحياة، والإعطاء بالدين قد يكون باباً من أبواب الخير الذي يكسب به الإنسان حمداً وأجراً، ولكن هذا الضرب من المبايعة قد تلحقه مفاسد مادية، أو خلقية، أو اجتماعية، لهذا نظرت إليه شريعة الإسلام نظرة إصلاح، وأقامته على أسس محكمة، وحاطته بنظم تحفظ مصالحه، وتنقذ الناس من مفاسده.
وغرضنا من هذا الحديث: إلقاء نظرة على هذا الضرب من المبايعة، والتنبيه لما يعرض له من أضرارة لعل أمتنا الرشيدة تسير فيه على خطبة سليمة العاقبة.
للأخذ بالدين داعية صادقة هي: الحاجة التي لا تطاق، وهناك دواع أخرى ليس من الخير للإنسان أن يجاريها، ويضعف أمامها، فقد تطغى شهوات
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الخامس عشر، ذو القعدة 1361 هـ.
الرجل، وتتطلع نفسه إلى ما يضيق عنه كسبه؛ من نحو: المطاعم، أو الملابس، أو أثاث المنزل، أو غير ذلك من متاع الحياة، ويحاول الوصول إلى هذه الملاذ أو الزينة، ولا يجد طريقاً غير الاستدانة، فيسلكها غافلاً عن سوء عاقبتها، وعلاج هذا: أن يروض الإنسان نفسه على القناعة، ويحملها على الصبر عن تلك الشهوات إلى أن يسعها الرزق الذي يأتيه من كسب طيب. قال بعض الحكماء:
إذا رمت أن تستقرض المال من أخٍ
…
تعوّدت منه اليُسْرَ في زمنِ العسر
فَسَلْ نفسك الإنفاق من كيس صبرها
…
عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغني وإن أبت فكل
…
مَنوع بعدها واسع العذر
وقد يبدو للرجل أن يظهر بين قومه أو زائريه في مظهر اليسار والرفاهية، وينفق أكثر مما يتحمله كسبه اليومي أو الشهري، متخيلاً أن هذا الإنفاق يرفعه عندهم درجة، ويضع له في قلوبهم إكباراً، ومتى جرى الرجل وراء هذا المظهر المتكلف، وقع في عسرة وفاقة، وبعد أن كان في كفاف من العيش، صار إلى طبقة البائسين، ويضاهي هذا: أن يطمع الرجل في سيادة لا تدرك إلا بالمال؛ كما قال الطغرائي:
أريد بسطةَ كفٍ أستعين بها
…
على أداء حقوق للعلا قبلي
ولكنه يكون قليل المال، ويرى أن قلة ماله تعوقه أن يبلغ تلك السيادة، فيندفع في طريق الاستدانة، ويخبط بها خبط عشواء، فلا يتقدم إلى السيادة خطوة، بل لا يلبث أن يضيع ما كان لديه قبل الاستدانة من فضل.
أخذتُ الدَّيْنَ أدفع عن تلادي
…
وأخذُ الدين أهلكُ للتلاد
وقد يكون أهل منزل الرجل غافلين عن عاقبة الأخذ بالدين، وتتجه نفوسهم إلى مطالب؛ من نحو: الملابس، وأثاث البيت، يضيق عنها ما يكسبه في يومه أو شهره، ويعتذر لهم، فلا يقبلون له عذراً، فتتغلب عاطفته على حرّمه وإرادته، ويضعف أمام هذه المطالب، فيغمس يده في الدين يبتغي إرضاءهم، ولكن العاطفة الشريفة هي التي تريه أن إطلاق يده في الدين قد ينحدر به وبهم من طبقة اليسار أو الكفاف إلى ضيق في العيش، وربما أفضى ضيق العيش إلى سوء المعاشرة، وإذا ساءت المعاشرة، تباعدت القلوب، وإذا تباعدت القلوب، تباعدت الوجوه لا محالة.
وللمعاملة بالدين مضار:
منها: ما يعود على المعطي بالدين.
ومنها: ما يعود على الآخذ به.
أما المعطي بالدين، فقد يدفعه الجشع إلى تسليم ماله إلى الدائن غير باحث عن حاله من طهارة الذمة، أو المقدرة على قضاء الدين عند أجله، فتكون عاقبة ماله التلف والخسران.
ومن الناس من يحاول أكل أموال الناس بالباطل من طريق الاستدانة، ويتخذ جشع التاجر وسيلة إلى هذا الاختلاس، فيسوم السلعة بثمن فوق ثمنها كما صنع طريف بن منظور مع التاجر يحيى بن جابرة إذ فخم له في الربح حتى بلغ ما أحب، وقال:
أيطمع يحيى في الوفاء وقد عدا
…
على مالنا في البيع عدوة فاجر
فلا يحسب الكوفيّ أن عقولنا
…
هفت عن حساب مثبت في الدفاتر
ولكنني أغرقت في الربح وانثنى
…
وليس له علم بصفقة خاسر
تدعو مكارم الأخلاق التاجرَ إلى أن يتسامح مع ذي الحاجة، ويعامله بالدين، ومن الحزم أن لا يعامل بالدين إلا من يثق بذمته أو ماله، ويأمن أن تكون عاقبته ضياع المال، أو حدوث عداوة أو خصام.
رغب الشارع في إسعاف ذوي الحاجات، ومعاملتهم بالدين، وعدّ هذه المعاملة من قبيل البر، وأرشد - مع هذا - أصحابَ الأموال أن يأخذوا بالحزم، ويقيموا المعاملة على شهادة، أو رهن؛ فإن الشهادة أو الرهان تقطع أسباب العداوة التي قد تنشأ عن الإنكار، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]، وقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
وأما الضرر العائد على الآخذ بالدين، فأوله: أن المستدين يضع في عنقه منَّة تجعل للدائن عليه فضلاً، وإن في المنن لثقلاً على النفوس التي تطمح إلى العزَّة في كل حال، قال بعض الحكماء:"الصبر على العسرة، أحبُّ إلي من احتمال المنن"، وقال حكيم آخر:
ما الذلّ إلا تحملُ المننِ
…
فكن عزيزاً إن شئت أو فَهُنِ
ولا ينسى الآخذ بالدين أن صروف الزمان قد تأتي بما لم يخطر بالبال، فقد يطرأ على المال الذي اعتمد عليه في قضاء الدين ما يقتضي تأخيره عن وقته المعلوم، فلا يحضر عند استحقاق الدين، فيقع في وعد كاذب، وذلك ما يحترس منه أهل الفضل ما استطاعوا الاحتراس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة ويقول:"اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! فقال: "إن الرجل إذا غرم، حدّث فكذب، ووعد فأخلف".
وقد يطرأ على المال الذي اعتمد عليه في قضاء الدين ما يذهب به جملة، فتضيق عن هذا المدين المسالك، ويجره الدائن إلى مجلس القضاء، وهنالك تخيِّم الذلّة على وجهه في النهار، وتتوارد الهموم على قلبه بالليل. قال عياض بن عبد الله:"الدَّين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يُذلّ عبداً، جعلها طوقاً في عنقه".
أتكسب خمساً وتنفق ستاً
…
ضللت لعمري سبيل الأديب
هو الدَّيْن إن جئته فترقَّبْ
…
نهار الذليل وليلَ الكئيب
وطعمُ الهوان وإن لم أذقه
…
أمرُّ من الموت قبل المشيب
ولا ينسى الآخذ بالدين أنه إذا لم يجد مالاً يقضي به الدين عند استحقاقه، فقد ينشأ بينه وبين الدائن مجافاة أو عداوة، فيكون الدين سبباً لذهاب ألفة تفوت بذهابها فوائد، أو لحدوث عداوة تجر وراءها مصائب، وكرامُ الناس يحرصون على أن لا يحدث بينهم وبين من يعرفون جفاء أو عداوة.
وليذكر من يريد الأخذ بالدين: أن من التجار من لا يبيع البضاعة بالدين إلا بربح زائد على الربح المعتاد في بيعها نقداً، فيكون دفع المدين لهذا الربح الزائد، وهو يستطيع تأخير الشراء إلى وقت اليسر، منافياً لقواعد الاقتصاد.
وليذكر من يريد الأخذ بالدين: أن الدين قد يحل أجله، ولا يستطيع قضاءه، فيباع عليه بعض ما يملك، أو كل ما يملك بثمن بخس، ولولا الدين، لأمكنه بيع عقاره أو عروضه بثمن لا غبن فيه.
وقد يأخذ الإنسان بالدين ممن يتعاطى الربا، حتى إذا حلّ أجلُ الدين، وعجز عن أدائه، مدّ له في الأجل على أن يضيف إلى الدين زيادة المرابين،
وكثيراً ما يزداد المدين بمضاعفة الربا عسراً على عسر، وإن كان يملك عقاراً أو عروضاً، خرج من ملكه بالثمن البخس، وكم من أسرة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفر عميدها بأنعم الله، وتعاطى الأخذ بالدين، فجر نفسه وأسرته إلى أزمة، ثم إلى فقر! وتلك عقبى الساقط مع شهواته أينما سقطت.
يا غامساً يده في الدَّيْنِ إنك قدَّ
…
غمستها في صديد خلته عسلا
والدَيْنُ للمال سم ناقع فإذا
…
ما اندسّ في ثروةٍ أولى بها عجلا
والحق: أن لأموال الناس حرمة، فلا يسوغ لأحد أن يأخذها على وجه الدين إلا أن تدفعه إلى ذلك حاجة قاهرة، ويأنس من نفسه القدرة على أداء الدين عند استحقاقه، فالذي يقول:
له ألفٌ عليَّ ونصفُ ألفٍ
…
ونصفُ الألفِ في صكِّ قديمٍ
دراهم ما انتفعت بها ولكن
…
وصلت بها شيوخ بني تميم
لا يعد في المحسنين صنعاً إلا حيث يكون واثقاً من قدرته على قضاء هذا الدين عند حلول أجله، والذي يقول:
يعاتبني في الدِّيْنِ قومي وإنما
…
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
هو أهل لأن يعاتب، إلا حيث يستدين وهو على ثقة من أنه سيؤدي هذه الديون لأربابها عند اقتضائها، وإذا كانت الاستدانة من الأمور التي لا يليق بالإنسان ارتكابها إلا في حالة عسرة لا يجد منها مخرجًا، فمن المستهجن أن يكون المدين قادراً على أداء الدين، ولا يبادر إلى أدائه، وذلك هو المُطْل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظلم، فقال:"مُطْل الغني ظلم".
وفي المماطلة مفاسد شتى؛ إذ هي مظهر من مظاهر إخلاف الوعد، وشاهد على أن هذا المدين لا يحيى الذلة التي يوقعه فيها الدين، ومن آثارها السيئة: أنها تحرم الرجل أن يعامله الناس بالدين عند الحاجة.
وقف أعرابي على باب قوم يسألهم، فحلفوا له ما عندهم شيء، فقال: استقرضوا لنا شيئاً، فقالوا: ما يقرضنا أحد شيئاً، فقال: ذلك لأنكم تأخذون ولا تقضون.
المدين الذي لم يرسخ قدمه في الفضل يماطل بالدين، وفي وسعه أن يؤديه، والمدين الذي أخذ حظه من الفضل كاملاً يذكر أن الدائن قد وثق بذمته، وأسعفه عند الحاجة، فيبادر إلى قضاء الدين ما استطاع، وقد تدعوه سماحة نفسه أن يقضي الدين بأحسن مما أخذ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن خياركم أحسنكم قضاء".
ذلك شيء من أدب المدين.
ومن أدب الدائن: أن يقول عند طلب الدين قولاً ليناً، ولا يهدم معروفه بالغليظ من القول، وإذا وجد المدينَ مَعسراً، مد له في الأجل ما استطاع، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وإن وجد الدائن في نفسه فضلَ سماحة وغنى، فتنازل للمدين المعسر عن الدين، أو جانب منه، فذلك ما سماه الله خيراً، فقال:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
وإذا كان من سماحة نفس الدائن أن يأخذ عند اقتضاء الدين طريقة الرفق، ولا يهدم معروفه بالغليظ من القول، فإن سماحة نفس المدين أن يرعى الجميل الذي أسداه إليه الدائن، ويقابل بعض كلماته النابية بشيء
من سعة الصدر.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ديناً له، وأغلظ في القول، فهمّ بعض الحاضرين من الصحابة بإيذائه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام:"دَعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً".
ولطهارة الضمير، وحسن النية عند تعاطي الدين أثر في تيسير أدائه، وقد أنبأ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم صلوات الله عليه -، فقال:"من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله"؛ وتأدية الله الدين: أن يوفق الدائن سليمَ القلب، وييسر له أسباب الرزق، ذلك أنه اتّقى الله بقلبه، وطهّره من قصد كل أموال الناس بغير حق، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].