المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم تعدد الزوجات في الإسلام - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌حكم تعدد الزوجات في الإسلام

‌حكم تعدد الزوجات في الإسلام

(1)

* حكمة شرع الزواج:

في الزنا مفاسد كبيرة؛ نحو: هتك العرض، وجعلِه مضغة في الأفواه، وإلباس المرأة خزيًا يحرمها من أن تقترن بذي همة سامية وخلق شريف، ووضع النطفة في موضع تنقلب فيه إلى ولد حقير النفس، تنبذه القلوب، وتزدريه العيون، وإثارة البغضاء بين الأفراد والأسر والعشائر، إلى ما يذكر بجانب هذا من أمراض فتّاكة بالأجسام، قرر الأطباء أنها تنبعث من ارتكاب هذه الفاحشة.

فلا جرم أن يعد علم الأخلاق كفّ النفس عن هذه الموبقة فضيلة، ويسميه: عفافًا وحصانة.

وإذا شرع الله النكاح، فلأنه يساعد على خلق العفاف؛ فإن الإنسان يدرك به الوطر الذي يقصد من الزنا، وهو قضاء الشهوة، مع خلوّه من تلك المفاسد الخلقية والاجتماعية والصحية، قال صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج".

(1) محاضرة الإمام في نادي جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة، والمنشورة في المجلد الثامن والجزء العاشر من مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1355 هـ.

ص: 249

وإذا عرفت أن في الذرية الصالحة عوناً على مرافق الحياة، وتوفيراً لهناءة العيش، ولا ذرية إلا بالنكاح، رأيت كيف كان النكاح سبيلاً إلى الحياة الطيبة، والعيشة الراضية.

وإن كنت ممن يبحث في أسباب سيادة الأمم، وقوة سلطانها، عرفت أن لكثرة عدد الأمة مدخلًا في عزتها، وأخذها بوسائل الاستقلال والمنعة، وهل من سبيل إلى كثرة عدد الأمة غير الزواج؟

فالزواج وسيلة إلى أن تكون الأمة قوية الجانب، قادرة على أن تدفع عن نفسها شر الأعداء، وإذا أرانا التاريخ أو المشاهدة أن أمة قليلة العدد، قد استعبدت أمة أكثر منها عدداً، فلأن هذه الأمة قد أهملت كثرتها، ولم تعززها بقوتي العلم والسلاح.

ثم إن في الزواج عقد صلة بين أسرتك وأسرة كانت منقطعة عنك، وبهذه الصلة يصير كل من الأسرتين بمنزلة الأقارب في التعاطف والتناصر، فيكسب كل من أسرتي الرجل والمرأة قوة لا سبيل إليها غير الزواج.

وإذا لاحظت أن في النساء ضعفاً، وأن أعمالاً حيوية كثيرة لا يستطيعها إلا الرجال، رأيت المرأة في حاجة إلى أن تتصل برجل يكفيها مطالب الحياة، والاتصال الذي يحفظ عزتها وكرامتها، ويملأ قلب الرجل بمودتها، إنما هو الزواج.

* تعدد الزوجات:

قد عرفت أن في الزواج فوائد عظيمة؛ من نحو: الذرية الصالحة، وتكثير عدد الأمة، وربط الصلات بين الأسر، والقيام بشؤون من يتعسر عليهن القيام بتكاليف الحياة، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه المصالح تقتضي أن

ص: 250

يباح للرجل تعدد الزوجات بقدر ما يستطيع القيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وكان العرب لا يقفون في تعدد الزوجات عند حد معين، ودلّ التاريخ على أن الواحد منهم قد يجمع بين عشر نسوة، ولكن الإسلام راعى ما قد يأتي به تعدد الزوجات من مصالح، فأذن فيه، ثم راعى ما قد ينشأ عنه من ضرر، فوقف به عند حد الأربم من النسوة، فصار التزوج بأربم نسوة فما دونها مباحاً؛ نظراً إلى المصلحة الراجحة.

أجمع علماء الإسلام على أنه يباح للرجل أن يتزوج اثنتين، أو ثلًاثًا، أو أربعاً، ويحرم عليه أن يزيد على هذا العدد، فإن زاد عليه، فقد خرج من النكاح إلى سفاح، وشذّ بعض المبتدعين الذين لا يعتد بآرائهم، فأباحوا الزيادة على أربع، وارتكبوا في تأويل قوله تعالى:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وجوهًا أقرب إلى الجهل، وأشبه بالعبث، وربّ تأويل للقرآن لا يزيد على إنكار القرآن، إلا أن أصحابه يسمونه: تأويلاً.

أما التحديد بأربع نسوة، فلأن المرأة الأولى جاءت على الأصل في إباحة النكاح، ثم أذن الشارع في تزوّج ثلاث بعد ذلك، والثلاث أول مراتب الجمع، وقد اقتصر الشارع على الثلاث في مواطن كثيرة، فأجاز هجرة الأخ ثلاثة أيام، والإحداد على غير الزوج ثلاثة أيام، والخيار في البيع ثلاثة أيام. ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثاً، وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثاً، وجعل حد الضيافة ثلاثاً.

والخلاصة: أن الشارع الحكيم وزن نفس الرجل، وقاس ما تبلغه أخلاقه من كرم وعدل، فوجدها عند حد لا يكفي للقيام بحقوق الزوجات الكثيرات، فشرع حكماً راعى فيه مصلحة تعدد الزوجات، ومفسدة الإكثار منهنَّ، فجعل

ص: 251

أقصى ما يباح للرجل: أن يزيده على المرأة الواحدة ثلاث نسوة، والضرر الذي يحصل من هذا التعدد خفيف بالقياس إلى المصالح التي قد تدعو إليه.

وإذا كان للنكاح أغراض غير قضاء الشهوة، فمن الجهالة أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان شهوانياً، ويستدل على ذلك بتعدد أزواجه إلى تسع.

ولتعدد زوجاته عليه الصلاة والسلام حكم سامية، غير ما نبّهنا عليه من أغراض النكاح العامة.

منها: نقل الأحكام الشرعية، ولاسيما أحكام ما لا يطَّلع عليه الرجال، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].

ومنها: تشريف بعض الأقوام، أو زيادة تأليفهم بمصاهرته.

ومنها: الدلالة على أن باطن حاله كظاهره؛ فإن زوجات الرجل يطلعن على سريرة أمره، فمع كثرة نسائه عليه الصلاة والسلام لم يعرف له حالة في الخفاء، تخالف ما يراه الناس فيه؛ من الدعوة إلى الخير، والجد في الطاعة، والإخلاص في العبادة.

أباح الإسلام للرجل أن يجمع بين أربع نسوة فما دونهن، وشرط لهذا الجمع العدل بينهن، قال تعالى: " {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، والمعنى: أنه لا يحل للإنسان التزوج بأكثر من واحدة إلا إذا وثق من نفسه بالعدل بينهن، والعدل: التسوية بينهن في المبيت، والنفقة، ولكل واحدة من الزوجين الحق في أن لا تسكن بالمنزل الذي تقيم فيه الأخرى.

أنكر تعدد الزوجات طائفة من غير المسلمين، زعموا: أنه يخالف

ص: 252

ما تقتضيه مصلحة الأسرة، وقاموا وقعدوا في التشنيع عليه.

وأنكرته طائفة من المنتمين إلى الإسلام اتصلوا بتلك الطائفة غير المسلمة، وتلقوا منها ما تقول بتقليد، فصادف منهم أذهاناً خالية، فلابسها، وجعلها تتعامى أن تقبل ما يقوله علماء الإسلام في حكمة التشريع.

وأصر هؤلاء على إنكار تعدد الزوجات، ثم رأوا القرآن صريحاً في إباحته، فحاولوا تأويله، وذهبوا في التأويل مذهباً ينادي ببطلانه الآيات والسنّة، وعمل الصحابة والتابعين.

قد عرفنا أن في الزواج فوائد عظيمة متعددة، قد يوجد في الزوجة الواحدة بعضها دون بعض؛ كأن تكون الزوجة عاقراً، أو يعرض لها مرض عضال يجعلها غير مساعدة على الصيانة، وقد يفقد معها كل ما يقصد من الزواج.

فإذا كانت الزوجة بهذا الحال، فبماذا تشير هذه الطائفة على الرجل الذي يرغب في أن يكون له ولد، ويقصد أن يتحصن بالزواج حتى لا يقع في جريمة السفاح!؟.

فإما أن يشيروا عليه بطلاق هذه الزوجة، واستبدال زوجهّ أخرى بها، فيقال لهم: قد رضيتم للزوجة الأولى بحال قد يكون أشد عليها من حال بقائها مع زوجة أخرى، وأسأتم للرجل الذي يقول: إني أحب أن أبقي زوجتي، وأقوم بحقوقها، وحملتموه على فراق قرينة قضت معه أياماً أو أشهراً أو سنين في ائتلاف، وذلك عمل لا يلائم خلق الوفاء.

وإما أن يشيروا عليه بأن يبقيها، ولا يتزوج أخرى، فيقال لهم: ما ذنب هذا الرجل في حرمانه من الفوائد التي شُرع له النكاح؛ كالذرية الصالحة، ثم

ص: 253

ما ذنبه في منعه من الزواج، وهو لا يستطيع العفاف إلا من طريقه؟

فإن أنكروا أن يكون له حق في النسل، قلنا لهم: الذرية الصالحة تعين الوالد على مشاق الحياة، وتكسبه عزة ما بقي، وتحصي ذكره بعد أن يموت، علاوة على ما فيها من تكثير عدد قومه، وكثرة عدد القوم من أسباب عزتهم، ووصولهم إلى أن يسوسوا أنفسهم بآرائهم، ويذودوا عن ساحتهم بأيديهم. وإن أظهروا الاستخفاف بفضيلة العفاف، قلنا لهم: إنما جلسنا لنناقشكم على قواعد علم الخصال الشريفة، فإن بسطتم أيديكم إلى تقويضها، فما نحن بباسطي أيدينا إلّا إلى إقامتها، وتدعيم أساسها.

والظاهر أن هؤلاء الذين يعيبون الإسلام بحكم تعدد الزوجات يشيرون على الرجل السليم البنية متى عرض لزوجته مانع من الاستمتاع بها أن يبقيها، ويؤثرون اتخاذه للخدينات، وإتيان الفاحشة على أن يعقد على امرأة أخرى، فيعيش مع الزوجين في طمأنينة، ويتصل بهما في شرف وفضيلة.

والدليل على أنهم يستهينون بارتكاب فاحشة الزنا، ولا يعبؤون بما يتبعها من المفاسد: فتحهم الطريق الموصلة إلى البغاء في غير مشقة، ووضعهم النظم المساعدة على إتيانه في غير حياء ولا خشية عقوبة.

وإذا نظرت في إحصاء عدد نفوس الأمم، وجدت أن عدد نساء كل أمة يزيد على عدد رجالها، هذا ما لا يختلف فيه العارفون بشؤون الأمم، وإنما تتفاوت نسبة زيادة النساء على الرجال بحسب اختلاف البلاد، وعلى قدر ما تصاب به الأمم من ثورات داخلية، أو حروب خارجية.

فلو لم يكن في تعدد الزوجات فسحة، لبقي كثير من النساء محرومات من أزواج يقومون عليهن، ويصونون ماء وجوههن، ويساعدونهن على

ص: 254

طهارة أذيا لهن.

فاجتماع زوجين أو ثلاث أو أربع في عصمة رجل يعرف حقوقهنّ، ويقدر على كفاية حاجتهنّ، ويطيع الله في العدل بينهنّ، خير لأولئك الزوجات وللمجتمع من أن يقصر على واحدة، ويبقى من سواها عرضة لبذل ماء الوجه، أو الانحطاط إلى ما يدنس العرض.

ثم إن من مقاصد النكاح النسل، وفي تعدد الزوجات كثرة الولد التي ينمو بها عدد الأمة، ونماء عدد الأمة قوة تدرك بها عزتها، وتصل بها إلى أن تدبر أمرها بنفسها، ومن الحزم أن يعمل القوم لتكثير عددهم، ويحتاطوا لما يعرض للأقوام من الحروب الطاحنة، والأمراض العامة الفاتكة.

فتعدد الزوجات يتبعه النسل في الغالب، فإذا كان في الزوجة عقم، أو أصيبت بمرض يعوقها عن الحمل، أو بلغت سناً ينقطع به استعدادها للولادة، وجد الرجل من الزوجة الأخرى منبتاً خصباً.

يقول هؤلاء: إن في تعدد الزوجات ضرراً على المرأة، وإخلالاً بهناءة عيشها؛ حيث يسيئها أن تشاركها في زوجها قرينة أخرى، وهذا الاستياء مقتضى الغيرة التي تشب في قلب المرأة على قدر تعلّقها بزوجها.

فنقول: مُسَلَّم أن المرأة تحب بطبعها أن تنفرد بالزوج، وتكره أن يشاركها فيه امرأة أخرى، فإذا تزوج الرجل بثانية، فقد أتى بما تكرهه زوجه طبعاً، ويبقى معنا أن نعمد إلى هذه الكراهة المحفوفة بحسن معاشرة الرجل، وعدم إجحافه بحق من حقوقها، ونضعها في كفة، ثم نأتي إلى المصالح التي قد تدعو إلى تعدد الزوجات، ونضعها في الكفة الأخرى، فلا شك أننا متى أجرينا هذه الموازنة، ونحن مجردون من كل عاطفة وتقليد، رأينا رأي العين

ص: 255

أن كفة المصالح التي تستدعي إباحة تعدد الزوجات راجحة، وكفة كراهة المرأة لأن يشاركها في الزوج امرأة أخرى خفيفة طائشة، والتشريع الحكيم يقوم على رعاية المصالح الراجحة، ويقطع النظر عما يخالطها ويحدث عقبها من ضرر خفيف.

هذا ما نقرره عند النظر في حال الزوج الأولى، أما من تجيء بعدها، فقد عرفت أن للرجل زوجاً غيرها، ورضيت بالمشاركة، فلا وجه للنظر في حال كراهتها.

والخلاصة: أنه ليس في تعدد الزوجات ضرر يصح أن يعتد به الشارع الحكيم، أما الزوج الأولى، فإن استياعبها من المشاركة في الزوج يسقط عند النظر في المصالح التي تستدعي فتح باب التعدد على شرط العدل والمعاشرة بالمعروف. وأما الزوج الثانية، فقد عرفتْ أن للرجل زوجًا غيرها، ورغبت في الزواج به من تلقاء نفسها.

على أن الإسلام لم يسد على المرأة باب الاقتران بزوج تنفرد بالعيش معه متى شاءت ذلك، فلو أخذت على الرجل عند عقد نكاحها أنه إن تزوج عليها، فأمرُها، أو أمرُ الداخلة عليها يزيدها، كان هذا الشرط نافذاً، ولها إنْ تزوج بعدها، أن تطلّق نفسها، أو تطلَّق الزوج الثانية؛ عملاً بهذا الشرط.

ويقول هؤلاء: إن تعدد الزوجات يعود على ذرية الرجل بضرر، وهو ما يكون بين الإخوة الذين لا تلدهم أم واحدة من التجافي والشقاق، فيكون الرجل قد سعى في أن يكون بين أولاده تقاطع، وفي نظام أسرته اختلال.

فنقول في دفع هذا: إن الإسلام قد يشرع حكماً لا تتحقق حكمته في الخارج إلا بمراعاة أحكام أخرى ترتبط به ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالإسلام

ص: 256

شرع تعدد الزوجات، وشرع مع ذلك العدل بينهنّ، وشرع التسوية بين الأولاد، ونهى الأب عن أن يؤثر أحدهم بشيء يختص به دون سائر إخوته، وأمره بتربية الأولاد تربية صحيحة، فإذا جرى الزوج بين الأزواج وأولادهن على طريقة العدل، وعني بتربية الأولاد على اختلاف أمهاتهم التربية الصالحة، فمن البعيد أن ينشؤوا على تجافٍ يصل إلى شقاق، ولا يضر أن يكون عطف الفتى على أخيه من أمه أكثر من عطفه على أخيه الذي لم تلده أمه.

* إرشاد الطائفة المنتمية إلى الإسلام:

سرى إلى رهط من المسلمين روح من تلك الطائفة غير المسلمة، فصاروا ينظرون إلى حكم تعدد الزوجات بالعين التي تنظر بها تلك الطائفة المخالفة، وبدلاً من أن يعطي هؤلاء المسلمون الحكم حقه من النظر، ويقفوا وقفة الباحث عن حكمته، ويذهبوا بالفكر فيما يدعو إليه، وما يتصل به من مقتضيات، طووا عقيدتهم على إنكاره، وسارعوا إلى تلمس وجه يجعل القرآن مانعاً من تعدد الزوجات، فقالوا:

ورد في القرآن إباحة التزوج بأربع. ولكنها علقت على أمر أخبر القرآن نفسه بأنه غير مستطاع، وهو العدل، إذ قال:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. وما علقت إباحته على غير المستطاع، لا يعد مباحاً، بل يبقى في قبيل المحظورات.

ومعنى ما يقول هؤلاء: أن القرآن أراد المنع من تعدد الزوجات في كل حال، ولكنه لم يواجه به الناس في صراحة، ولم يخرجه في صيغة النهي الصريح، بل جعل الناس يفهمونه من تعليق الإباحة على ما لا يستطاع.

والحق أن القرآن الكريم أباح تعدد الزوجات، وقيد هذه الإباحة بشرط

ص: 257

العدل، والذي يدفع هذه الشبهة التي يلهج بها هؤلاء الرهط، ويصرفك عن أن تحدث نفسك بمحاكاتهم، هو: أن القرآن الحكيم يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فأَذِنَ في تعدد المنكوحات، وأتى بالإذن في صيغة الأمر، ثم فصَّل في المأذون في نكاحهن، فجعلهم اثنتين وثلاثًا وأربعًا، وانتهى عند حد الأربع، فيؤخذ من الآية بمقتضى الأسلوب العربي: أنه يباح لكل أحد أن يتزوج ما زاد على واحدة، من اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، ويبقى على ما زاد على الأربع في حكم المحظور، ويؤخذ من قصر الرجل على الواحدة عند خوفه من عدم العدل: أن الإذن في تزوج اثنتين أو ثلاث أو أربع مقيد بالعدل بينهن، والمراد من العدل: التسوية بينهن فيما يستطيعه؛ من نحو: النفقة، والمبيت، أما العدل الذي جعل متعذرًا في قوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، فهو التسوية بين النساء في كل شيء، حتى الحب والإقبال والمؤانسة، فإن التسوية على هذا الوجه خارجة عن الاستطاعة، فقد تكون إحداهن أبرع جمالاً، وأعذب منطقاً، فتكون أعلق بالقلب، فينجذب إلى جانبها، فيقبل عليها، أو يؤانسها أكثر مما يفعل مع الأخرى، يقع منه ذلك وهو لا يقصد إلى اشارها بهذا الإقبال أو المؤانسة، وإنما هو أمر لا اختيار له فيه، وهو شدة حبها الناشئة عن نحو براعة جمالها، وعذوبة منطقها.

وانظر إلى قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، تجده صريحاً في العفو عن هذا الميل الخفيف الذي يتعذر على الرجل اجتنابه، فلو كان المراد من العدل الذي ذكره في هذه الآية: العدل الذي جعله شرطاً للتعدد، لكان المناسب في النظم أن يأمر بالاقتصار

ص: 258

على واحدة، أو ينهى عن تعدد الزوجات، ولم يقل:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]؛ فإن النهي عن الميل كل الميل ظاهر في جواز الجمع بين امرأة وأخرى، مع عدم الميل عن إحداهما ميلاً يجعلها كالمعلقة، أي: لا هي زوجة تعاشر بالمعروف، ولا هي مطلقة يمكنها أن تبتغي زوجاً آخر يسكن إليها، وتعيش معه في راحة.

ومن تفقه في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"، وجدهما ظاهرين في حرمة الجمع بين الأختين، وبين العمة وابنة أخيها، وبين الخالة وابنة أختها، وأدرك أن مناط التحريم: شدة القرابة، لا مجرد الجمع بين امرأتين.

وإذا رجعنا إلى الأحاديث الصريحة، وجدنا فيها ما يدل على إباحة تعدد الزوجات:

منها: ما ورد في "سنن الترمذي" من قوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم وتحته عشر نسوة: "خذ منهن أربعاً، وفارق سائرهن".

ومنها: حديث فاطمة بنت أسماء: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرة، فهل علي جناح إن تشبعتُ من زوجي غيرَ الذي يعطيني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"(1)؛ فقد قالت المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في ضرّة، ولم ينكر أن تكون لها ضرة.

ومنها: أن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل على السيدة

(1)"صحيح الإمام البخاري".

ص: 259

فاطمة- رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم: " وإني لست أحرّم حلالاً، ولا أحلّ حراماً، ولكن والله! لا تجتمع بنت رسول الله، وينت عدو الله في مكان واحد أبداً"(1)، فقوله صلى الله عليه وسلم:" وإني لست أحرم حلالاً" دليل على أن تعدد الزوجات مباح، وإنما كره لابنته أن تجتمع مع بنت أيى جهل في عصمة واحدة.

ومنها: أن أبا قلابة روى عن أنس: أنه قال: "من السنَّة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب، أقام عندها سبعًا، وقسَم، وإذا تزوج الثيب على البكر، أقام عندها ثلاثاً، ثم قسَم". قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2). فقوله: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب

إلخ" صريح في إباحة تعدد الزوجات، وأن من العدل القسم بينهن في المبيت.

أما عمل الصحابة والتابعين، فإن تزوُّج الواحد منهم بما فوق الواحدة أمر لا ينكره إلا من بلغ به العناد أن ينكر أنهم كانوا يصلون الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاثاً.

في "صحيح البخاري": أن الحسن بن الحسين بن علي جمع بين ابنتي عم في ليلة واحدة.

وفيه: أن عبد الله بن جعفر جمع بين ابنة علي وامرأة علي، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وكرهه الحسن مرة، ثم قال: لا بأس به.

وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتحته أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة والدة أم كلثوم التي مات أبو بكر وهي حامل بها.

(1)"صحيح الإمام البخاري".

(2)

"صحيح الإمام البخاري".

ص: 260

وكان مصعب بن الزبير قد جمع بين السيدة سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة.

وهذه أمثلة معدودة سقناها على وجه التنبيه والتذكير، وإلا، فالأمر من قبيل ما يعرفه المسلمون بالضرصرة، وحكم ينص عليه القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة، ويجري عليه عمل الصحابة والتابعين، لا ينبغي لمسلم أن ينكره، أو يترك نفسه تتردد في حكمته، ولا يجوز لذي قوة أن يمنع من تعدد الزوجات بإصدار قانون عام، فإن فعل، فهو حاكم بغير ما أنزل الله، ومن لا يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

ص: 261