المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث المتواتر وحكم مما رواه الإمامان البخاري ومسلم - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌الحديث المتواتر وحكم مما رواه الإمامان البخاري ومسلم

‌الحديث المتواتر وحكم مما رواه الإمامان البخاري ومسلم

(1)

سؤال (1) - ما هي الأحاديث التي حازت درجة التواتر بالإجماع، أو ما هو أقرب إلى الإجماع؟

جواب: الحديث المتواتر: ما يرويه جمع يحيل العقل- نظراً إلى العادة- تواطؤهم على الكذب، ولا بد من تحقيق هذا الشرط في كل طبقة من ابتداء الرواية إلى من أخبروا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو حال من أحواله، وإذا كان ما يرويه كل واحد من الجمع هو ما يرويه الاخرون بعينه، سمّي: تواتراً لفظياً، وإذا اختلف ما يرويه الجماعة في اللفظ، ولكن أخبارهم تتوارد على معنى مشترك بينها، فهو التواتر المعنوي.

وقد نفى بعض أهل العلم أن يكون في السنّة حديث متواتر تواتراً لفظياً.

وقال ابن الصلاح: إنه عزيز الوجود، وذكر حديث:"من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، وقال: نراه مثالاً للتواتر اللفظي، فإنه نقله من الصحابة العدد الجم، وهو في "الصحيحين" مروي عن جماعة منهم (2).

ولم يرتض بعض الحفّاظ ما قاله ابن الصلاح، وأورد للتواتر اللفظي

(1) مجلة "نور الإِسلام" - الجزء السابع من المجلد الأول، رجب 1349 هـ.

(2)

حكى النووي في "شرح مسلم": أنه ورد عن مئتي صحابي، منهم العشرة.

ص: 152

أحاديث كثيرة:

منها: حديث: "نضر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاهاها"، وحديث:"نزل القرآن على سبعة أحرف"، وحديث الشفاعة، وحديث الحوض، وحديث رؤية الله في الآخرة.

ومما أوردوه مثالاً للتواتر المعنوي: حديث رفع اليدين في الدعاء؛ فقد روح فيه نحو مئة حديث، ولكنها في وقائع مختلفة، فكل واقعة منها لم تتواتر، إلا أن القدر المشترك فيها - وهو الرفع - متواتر بالنظر إلى مجموعة الروايات.

ولا يضر أن لا تكثر في الشريعة الأحاديث المتواترة تواتراً لفظياً؛ لأن التواتر المعنوي يكفي في الاحتجاج على ما يرجع إلى العلم والاعتقاد، وخبر الآحاد يكفي في الاستدلال على ما يرجع إلى الأحكام العملية.

* * *

سؤال (2) - هل يكفر المسلم إذا أنكر حديثاً صحيحاً أو متواتراً؟.

جواب: لا يكفر منكر حديث الآحاد، ولو كان صحيحاً، ومتى كان إنكاره للحديث الصحيح عن هوى في النفس، أو تعصب لرأي، فهو فاسق آثم. وأما الحديث المتواتر، فإن جرى الخلاف في تواتره، فلا يكون منكره خارجاً عن حوزة الدين، وهو فاسق؛ كمنكر خبر الآحاد لهوى في نفسه، أو تعصب لرأيه، وإذا وجد حديث انعقد الإجماع على تواتره، وأصبح حكمه في جملة المعروف بين خاصة المسلمين وعامتهم،

كان إنكاره كفراً، وهذا الحكم في إنكار كل ما أجمع المسلمون على إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو هيئة، وتناقلوه جيلاً بعد جيل؛

ص: 153

كعدد الصلوات الخمس وركعاتها، ومناسك الحج؛ من نحو: الطواف، والوقوف بعرفة.

* * *

سؤال (3) - هل يمكن القول: إن كل ما في "الصحيحين"- البخاري ومسلم- من الأحاديث الشريفة على وجه القطع واليقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

جواب: ذهب ابن الصلاح إلى أن ما رواه الشيخان: البخاري ومسلم، بإسناد متصل، أو رواه أحدهما كذلك، مقطوعُ بصحته؛ لاتفاق الأمة على تلقيهما بالقبول، والأمة لا تتفق على خطأ، وأما ما يروى فيهما معلقاً، وهو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، فلا يبلغ مرتبة القطع عنده؛ كما استثني من المقطوع بصحته ما تكلم فيه من أحاديثهما، وهي مئتان وعشرون حديثاً، وقد أفرد الحافظ العراقي هذه الأحاديث بكتاب تصدى فيه للجواب عنها، وتعرض الحافظ ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" لما طعن فيه من أحاديث "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، ودفع ما وجه إليها من مأخذ بتفصيل.

ونازع الإِمام النووي ابن الصلاح في دعوى أن ما رواه الشيخان إلا ما استثني مقطوع بصحته، وقال: إن المحققين والأكثرين يذهبون إلى أن صحة ما روياه مظنونة، إلا أن يكون متواتراً، وأما تلقي الأمة لهما بالقبول، فلأن ما روياه يفيد ظنًا، والظن كاف في تقرير الأحكام العملية، وقوله تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، محمول على ما يرجع إلى أصول الدين؛ لأنه يقصد منها العلم واليقين، أما الأحكام العملية، فإنما تراد للعمل، فيكفي فيها الاستناد إلى ما يفيد الظن. على أن الشارع إذا جعل ظن الحكم

ص: 154

علامة على تقديره، كان الحكم عند وجود الظن معلوماً قطعاً، وكان العامل على هذا الحكم ممتثلاً للأمر بلا شبهة.

ومزية "الصحيحين" على هذا المذهب في أن ما روي فيهما صحيح لا يحتاج إلى النظر والبحث؛ بخلاف ما يروى في غيرهما من كتب الحديث، فإنما يعتمد في الاستدلال بعد النظر في سنده ومعرفة رتبته.

والحق أن في الأحاديث التي لا تبلغ مبلغ التواتر ما يأخذ حكم المتواتر في إفادة العلم، وهو ما يكون رواته من الصدق والضبط في مرتبة يطمئن بها السامع إلى روايتهم اطمئنانًا لا يخالجه تردد، فالعلم يحصل من كثرة رواة الخبر تارة، ويحصل من تحقق أمانتهم وضبطهم تارة أخرى، وجمهور ما في البخاري ومسلم من هذا القبيل، وهذا ما يسميه بعض الحفاظ: متواتراً خاصًا؛ نظراً إلى أن أهل الحديث قد يحصل لهم العلم برواية رجلين عرفا بالاستقامة والضبط ما يحصل لغيرهم من رواية جمع كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويعتبر في هذا يقول الإمام مالك رضي الله عنه:"إذا سمعت الخبر من نافع، لا أبالي أن لا أسمعه من غيره"، ونحن نعلم أن من أئمة الحديث من يأخذون في الرواية بما هو الأحوط، فلا يكتفون بصدق الراوي وتقواه وورعه حتى يعرف بالضبط لما يحفظ، والإتقان لما يروي، قال الإمام مالك: أدركت بالمدينة أقواماً لو استُسقي بهم القطر، لسُقوا، قد سمعوا الحديث كثيراً، وما حدَّثتُ عن واحد منهم شيئاً؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم الزهد، وهذا الشأن -يعني الحديث- يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وإتقان، وعلم وفهم، فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة، فلا ينتفع به، ولا هو حجّة.

ونلخص القول: أن ما رواه الشيخان متصل الإسناد من طريقين فأكثر،

ص: 155

وتلقاه نقّاد الحديث بالقبول، يفيد العلم بصحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كخبر الآحاد الذي تحتف به قرائن الصدق، فلا تبقي لمتلقيه شيئاً من التردد في صحته.

ص: 156