الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا عدوى ولا طيرة
(1)
حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، وحمزة: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا عدوى ولا طيرة".
أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فترى الحديث الواحد ينبّه لأبواب يدخل فيها على الناس فساد كبير، فيعمد إلى هذه الأبواب، وشمدها سدًا محكمًا، حتى انتظمت الشريعة الغرّاء طرق الإصلاح بأكملها. ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا عدوى ولا طِيَرَة".
ونحن نبحث في هذه المحاضرة عن حقيقة العدوى والطيرة، وأثرهما في المجتمع، فنقول:
العدوى: أن يجاوز المرض صاحبه إلى من يقرب منه، وهذا معروف في بعض الأمراض؛ كالجرب، والجذام، إذن فما معنى نفي العدوى في هذا الحديث؟
ونحن نورد أحاديث تنبئ بأن المرض قد ينتقل من شخص إلى آخر،
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الثالث عشر، محرم 1960 هـ.
ونضع كل حديث موضعه؛ حتى يتضح أن لا إشكال في هذه الأحاديث، وأن الشريعة لا تجيء على خلاف الحقائق العلمية في حال:
جاء في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد"، والأمر بالفرار من المجذوم لا وجهة له - فيما يظهر - إلا اجتناب العدوى.
وفي الصحيح أيضاً: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لا يورد مُمرِض على مُصِح"؛ أي: لا يورد ذو إبل مريضة على ذي إبل صحيحة. والمعنى: أن لا تورد إبل مريضة على إبل صحيحة. وعلة النهي عن إيراد المريضة على الصحيحة: خوف العدوى.
وجاء في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الوياء: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض، فلا تخرجوا منها".
وهذا الحديث ظاهر في أن علة النهي عن الإقدام على أرض الوباء هو الحذر من العدوى.
أما النهي عن الخروج من بلد الوياء فراراً منه، فمحمول على الكراهة، فلو خرج إنسان من البلد التي ضرب فيها الطاعون قاصداً الفرار من الإصابة به، لأتى شيئاً مكروهاً.
وعلة النهي عن الفرار من الطاعون هي فيما يظهر: أن الإذن في الخروج قد يفتح الباب لأن يخرج الأصحاء، ويترك المرضى به، فلا يجد هؤلاء المرضى من يتعهدهم، ويقوم على أمرهم؛ من نحو: طعام وسقاء وعلاج، وليس من المقبول أن يقول قائل: إن هؤلاء المرضى قد أصيبوا، ووقعوا بمقربة من الموت، فإهمالهم أخفّ شراً من بقاء الأصحاء بموطن فيه المرض
المفضي في غالب أحواله إلى الموت.
فيرد هذا: بأن هلاك المرضى بخروج الأصحاء محقق، وإصابة الأصحاء وهلاكهم مظنون، ودرء الضرر المحقق مقدم على درء الضرر المحتمل الوقوع.
والإلقاء بالتهلكة الذي نهى عنه الشارع بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، هو: أن يرمي الإنسان بنفسه في مواقع الهلاك دون أن يدفع بهذا الإلقاء شراً، أو يجلب به خيراً، أما إذا قصد الإنسان إلى دفع شرّ أمرَ الشارع بدفعه، أو جلبِ خير استحبَّ الشارع جلبه، وألقى بنفسه في هذا السبيل، وهو يعلم أنه سيقع في مهلك، فنهي الآية لا يتناوله، بل يعده الشارع من أولي العزم الذين يحظون بالكرامة عنده، ويرتفع ذكرهم بين ذوي الأخلاق السامية.
وإذا أتينا البحث من ناحية الأخلاق، قلنا: إن خروج الأصحاء من موطن الطاعون لا لداعٍ غير الخوف من الموت، ينبئ أن نفوسهم خالية من العطف على من أصيبوا بالطاعون، حيث طابت نفوسهم أن يدَعوهم وهم يقاومون الآلام والجوع والظمأ حتى يموتوا في تلك الحالة المحزنة.
ثم إن الحديث إنما نهى عن الخروج من بلد الطاعون متى كان القصد الفرار من الموت، أما إذا خرج الشخص من بلد الطاعون بقصد آخر من نحو التجارة أو التداوي، فذلك ما لا حرج فيه، ولا يتناوله النهي الوارد في الحديث؛ لأن الحديث يقول:"وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه".
فيؤخذ من لفظ الحديث وروح التشريع؛ أن خروج الأصحاء بحيث
لا يبقى مع المرضى من يقوم بضرورات حياتهم، حرام، وأن خروج فرد أو جماعة لم يتعين عليهم القيام بشؤون المرضى، مكروه، متى قصدوا الفرار من الموت، فإذا قصدوا غرضاً آخر ذا فائدة، كان الخروج مباحاً.
فأنتم ترون أن بين أيدينا أحاديث ثابتة بأن دعوى العدوى صحيحة، إذاً فما معنى العدوى في قوله صلى الله عليه وسلم:"عدوى"؟.
جواب هذا: أن العرب في الجاهلية كانوا يعتقدون أن بعض الأمراض؛ كالجرب والجذام تسري بطبيعتها من المصاب بها إلى من يقرب منه، دون أن يضيفوا المرض إلى مشيئة الله تعالى، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم العدوى بهذا المعنى؛ لأن اعتقادهم أن سريان مثل الجذام والجرب أمر طبيعي، دون أن يكون لمشيئة الله تعالى تأثير في ذلك، يخل بعقيدة التوحيد التي جاء الإسلام لبنائها.
فلا يراد من الحديث: نفي أن تكون هناك أمراض قد جعل الله قرب الشخص من صاحبها سبباً لانتقالها إليه، بل المراد: نفي العدوى بالمعنى الذي يتصوره الجاهليون، وهو أن الانتقال من طبيعة المرض على أنه لا بد منه.
وقد جاء في بعض روايات حديث: "عدوى": أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فمن أعدى الأول؟ ".
وهذا الجواب منه عليه الصلاة والسلام في غاية الإبداع؛ فإن حال الأعرابي حال من ينفي أن يكون للجرب سبب غير العدوى؛ إذ لو كان يعتقد أن الجرب قد ينشأ عن أمر آخر غير العدوى، لما أورد قصة الجمل
الأجرب، يخالط الإبل "الصحيحة" فإن إيرادها إنما يناسب حصر الإصابة بالجرب في العدوى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن أعدى الأول؟ " تنبيه على أن الجرب قد وجد في حال لا يمكن فيها ادعاء أنه قد نشأ من العدوى، وهاهنا يرجع الأعرابي إلى النظر في سبب هذا الجرب، فإذا عرف أن هناك سبباً للجرب غير العدوى، صار من الجائز أن يكون هذا السبب هو سبب الجرب الذي أصاب الإبل بعد اختلاطها بالجمل الأجرب، فإذا قيل له: إن السبب الحقيقي في الإصابة بالجرب هي مشيئة الله تعالى، ولكنه قد يربط الإصابة بقرب الصحيح من المرض، وقد يربطها بسبب آخر، سهل انقياده إلى هذه العقيدة، وترك عقيدة أن العدوى تؤثر بطبيعتها.
وإذا رأينا كثيراً ممن اتصلوا بذوي الأمراض المعدية، قد أصيبوا بهذه الأمراض، فقد نرى آخرين اقتربوا من أصحاب تلك الأمراض، فلم يصابوا بشيءمنها.
وملخص الجواب: أن الحديث ورد في سياق الرد على ما كان لدى الجاهلية من اعتقاد أن العدوى أمر طبيعي، دون أن يضيفوها إلى مشيئة الخالق، والحديث لا ينفي أن الله تعالى قد يشاء، فيجعل مخالطة الصحيح للمصاب بشيء من الأمراض؛ كالجذام والجرب، سبباً لحدوث ذلك المرض في الصحيح.
وقوله في بهاِّ: "ولا طيرة" نفي للتشاؤم؛ فإن الطيرة: التشاؤم بالشيء، وأصلها: أن العرب كانوا في الجاهلية يعتمدون في الإقدام على بعض الأعمال؛ كالسفر والزواج، على الطير، فإن مرّ الطير باليمين، تيمّن، وإن مرّ باليسار، تشاءم به، ثم أطلقت الطيرة على التشاؤم، ولو بغير الطيور.
والحديث ينفي على وجه العموم ما كان شائعاً في الجاهلية من التشاؤم بأمور لا دخل لها في نجاح الأعمال، ولا خيبتها؛ كالعطاس، ونعيق الغراب.
وفي مثل هذا التشاؤم فساد كبير؛ إذ يمنع الشخص من الإقدام على عمل قد يكون فيه خير كثير، والإِقدام على الأعمال يرجع فيه إلى الرأي السديد، وما يستكشف في تلك الأعمال من جلب مصلحة، أو درء مفسدة، فإن اشتبه الأمر، وخفي على الإنسان عاقبته من خير أو شر، فقد جعل الشارع الحكيم مكان التشاؤم أو التفاؤل: الاستخارة المعروفة في كتب السنّة.
ومن الأسف أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم، ويبقى متفشيًا في الشعوب الإِسلامية، وقد أحدث الناس أنواعًا من التشاؤم لم تكن معروفة في الجاهلية، فأعرف في تونس أن الناس يتشاءمون بمناولة من يعزّ عليهم فراقه الصابون، أو آلة حادة؛ كالسكين، والمقص.
ويدخل في التشاؤم الممقوت: ما أحدثه الناس من الاستخارات غير الشرعية؛ كالاستخارة بالسبحة، والاستخارة المنامية، والاستخارة بالقرآن المجيد.
ويدخل في التشاؤم: الأخذ بأقوال الكهان والدجالين، فيمتنع من الشيء بمجرد قولهم له: إنه شر، أو لا خير فيه، فإن تعلّق الإنسان بشيء من ذلك، فقد خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ولا طيرة".
ولا يجوز التشاؤم بيوم من الأيام، سئل مالك عن الحجامة يوم السبت، ويوم الأربعاء، فقال: لا بأس بذلك، وليس يوم إلا وقد احتجمت فيه، ولا أكره شيئاً من هذا: حجامة، ولا اطلاء، ولا نكاحاً، ولا سفراً في شيء من الأيام.
فإن قال قائل: حديث: "ولا طيرة" يعارضه ما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في المرأة والدار والفرس"، وإذا كان في هذه الثلاث شؤم، صح أن تكون موضع التشاؤم، فمن تشاءم بشيء منها لم يكن عليه حرج في هذا التشاؤم.
وجواب هذا: أن شؤم الشيء في أن يكون فيه وجه من الشر؛ بحيث لو اتصل به شخص، ناله من أجل اتصاله به سوء، وللمرأة وجه من الشر هو سوء خلقها، وللدار وجه من الشر هو ضيقها، أو سوء جارها، وللفرس وجه من الشر هو شموسها، أو بطء سيرها، أو اتخاذها للمباهاة، وعدم استعمالها عندما يحتاج إليها ساعة الدفاع في سبيل الله، فمن المحتمل القريب تفسير الشؤم في الحديث على نحو هذه الوجوه، وقد رويت أحاديث يستأنس بها لهذا التأثير، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"(1).
وفي رواية الحاكم: "ثلاثة من شقاء المرأة: تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفاً، فإن ضربتها، أتعبتك، وإن تركتها، لم تلحق أصحابك، والدار ضيقة قليلة المرافق".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار، والمرأة، والدابة"، وفيه:"سوء الدار: ضيق ساحتها، وخبث جيرانها، وسوء الدابة: منعها ظهرها، وسوء طبعها، وسوء المرأة: عقم رحمها، وسوء خلقها"(2).
(1) أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم.
(2)
رواه الطبراني من حديث أسماء رضي الله عنها.
أما تفسير الشؤم في المرأة على ما يفهمه العامة من التشاؤم بكعبها، فقد أنكره تقي الدين السبكي، وقال: هو شيء لم يقل به أحد من العلماء، ومن قال: إنها سبب فيما يحصل من الشر، فهو جاهل.
وملخص القول: أن حديث: "ولا طيرة" هو الموافق لما جاءت به الشريعة من أن معرفة حسن عاقبة العمل أو سوئها، إنما يعتمد فيها على الشرع، وفهم ذوي الأنظار السديدة، بل هو الموافق للعقل؛ إذ ليس لنا أن نعتقد تأثير شيء في شيء، إلا أن تدل عليه المشاهدة، أو يظهر له وجه من العقل، أو ينص عليه الشارع، وليس للشؤم بالمعنى الذي يعتقده العامة صلة تجعله من قبيل المعقولات، أو المشاهدات، أو الشرعيات.